الشافعية الفقه - الحج - الايمان والنذور - الصيد ج 10
3ـ أما إذا كان الحيوان مما لا مثيل له، فيجب إخراج القيمة.عندئذ والتصدق بها على الفقراء ويرجع في تحديد القيمة إلى قرار عدلين من ذوي الخبرة .
4ـ يستثنى من ذلك كله الحمام ونحوه مما يهدر، ففي الواحد شاة من ضأن
أو معز نقل ذلك عن الصحابة رضوان الله عليهم، والصحيح أن مستندهم في ذلك هو التوقيف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك هو أصل الفدية في الصيد.ثم إن كان الحيوان مثلياً تخير الصائد في جزاء الإتلاف بين أن يذبح مثله من النعم، كما ذكرنا ويتصدق به على فقراء الحرم خاصة، وبين أن يقوم ذلك المثل بالدراهم ويتصدق بما يسويها طعاماً عليهم وبين أن يصوم عن كل مد يوماً. دليل ذلك قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً } المائدة 95.
أو معز نقل ذلك عن الصحابة رضوان الله عليهم، والصحيح أن مستندهم في ذلك هو التوقيف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك هو أصل الفدية في الصيد.ثم إن كان الحيوان مثلياً تخير الصائد في جزاء الإتلاف بين أن يذبح مثله من النعم، كما ذكرنا ويتصدق به على فقراء الحرم خاصة، وبين أن يقوم ذلك المثل بالدراهم ويتصدق بما يسويها طعاماً عليهم وبين أن يصوم عن كل مد يوماً. دليل ذلك قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً } المائدة 95.
أما غير المثلي، فيتصدق بالقيمة التي يقررها العدلان الخبيران، أو يصوم عن كل مد من ذلك يوماً. يتبين لك مما ذكرنا: أن فدية ترك الواجب فدية مرتبة : الذبح أولاً ، فإن عجز فالتصدق ، فإن عجز فالصيام ، وأن فدية ارتكاب محرم فدية محيرة . إن شاء ذبح ، أو أطعم ، أو صام . وذلك طبقاً للتفصيل الذي ذكرناه والله أعلم.
هذا ولابد من بيان أن الأضحية سنة للحاج كغيره. وأن وقتها من بعد الرمي إلى آخر أيام التشريق.
الدماء الواجبة في الحج وما يقوم مقامها:
الدماء الواجبة في الحج على هذا خمسة أقسام:
(2/102)
القسم الأول: الدم المرتب المقدر: وهذا يجب عند ترك واجب من واجبات الحج التي مر ذكرها. فإذا ترك واجباً مما ذكر وجب عليه أولاً ذبح شاة مجزئة في الأضحية، أو سُبُع بقرة أو سُبُع بدنة. فإن لم يجد شيئاً من ذلك وجب عليه أن يصوم بدلها عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. ويدخل في هذا القسم دم التمتع ودم الفوات للوقوف، بعد التحلل لعمرة.
القسم الثاني: مخير مقدر: وهذا يجب عند فعل محظور كحلق شعر وقلم ظفر وما شابه ذلك، فيجب على من فعل ذلك ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام أو ثلاثة آصع من طعام بر أو شعير يدفعها إلى ستة من مساكين الحرم، لكل مسكين نصف صاع. ويكفي في وجوب هذه الفدية إزالة ثلاث شعرات، أو قلم ثلاثة أظافر.
القسم الثالث : مخير معدل: وهذا ما يجب عند قطع نبت أو بقتل صيد، فمن فعل ذلك وجب في حقه إن كان للصيد مثل أو شبه صوري أن يذبح المثل في الحرم، أو يشتري لأهل الحرم حباً بقدر قيمته يوزعه عليهم، أو يصوم عن كل مد يوماً.
وإن لم يكن لذلك مثل فهو مخير بين الإطعام والصيام. إلا الحمام فيجب في الحمامة شاة .
القسم الرابع: مرتب معدل: وهو الدم الواجب بالإحصار ، فمن منع من الحج بعد إحرامه وجب عليه أولاً أن يذبح شاة حيث أحصر، فإن لم يستطع فليطعم بقدر ثمن الدم يوزعه على الفقراء، فإن عجز عن الإطعام صام عن كل مد يوماً .
القسم الخامس: مرتب معدل أيضاً: وهذا يجب على المجامع خاصة، فمن جامع قبل الإحلال وجب أن يذبح بعيراً، فإن عجز وجب عليه أن يذبح بقرة، فإن عجز وجب عيه أن يذبح سبع شياه، فإن عجز عن ذلك أطعم بقيمة البعير أهل الحرم، فإن عجز عن الإطعام، صام عن كل مد يوماً.
(2/103)
هذا ولا يجزئ الذبح والإطعام إلا في الحرم، وأما الصيام فيصوم حيث شاء، هذا والمراد بالترتيب في هذه الدماء أنه لا يجوز أن ينتقل إلى الثاني إلا عند عجزه عن الأول، وهو ضد التخيير فهو مفوض إليه أن يفعل ما يختاره. و معني التقدير أن الشرع قد قدر البدل المعدول إليه سواء أكان ترتيباً أم تخبيراً، ويقابله التعديل ومعناه أنه أمر فيه بالتقويم والعدول إلى الغير بحسب القيمة، ولقد جمع الشيخ العمريطي شرف الدين يحي في منظومته “نظم الغاية والتقريب“ الكلام عن تلك الدماء فقال:
وسائر الدماء في الإحرام ... ... ... ... محصورة في خمسة أقسام
فالأول المرتب المقدر ... ... ... ... بترك أمر واجب ويجبر
بذبح شاةٍ أولاً وصاما ... ... ... ... للعجز عنه عشرة أيام
ثلاثة في الحج في محله ... ... ... ... وسبعة إذا أتى لأهله
ثاني الدما مخيري مقدر ... ... ... ... بنحو حلق من أمور تخطرُ
فالشاة أو ثلاثة أيام ... ... ... ... يصومها أو آصع طعام
لستةٍ هم من مساكين الحرم ... ... ... ... لكل شخص نصف صاع منه تم
ثالثها مخير معدل ... ... ... ... يقطع نبت أو بصيد يقتل
فإن يكن للصيد مثل في النعم ... ... ... ... فليذبح المثل ابتداء في الحرم
أو يشتري لأهل ذلك الحرم ... ... ... ... حبا بقدر ما له من القيم
أو يعدل الأمداد منه صوما ... ... ... ... ... يصومه عن كل مد يوما
وخيروا في الصوم والإطعام في ... ... ... ... إتلاف صيد حيث مثله تفي
رابعها مرتب معدل ... ... ... ... فواجب بالحصر حيث يحصل
دم فإن لم يستطع فليطعم ... ... ... ... قوتا يرى بقدر قيمة الدم
وصام عند العجز عن إطعام ... ... ... ... ... ما يعدل الأمداد من أيام
خامسها يختص بالمجامع ... ... ... ... مرتب معدل كالرابع
لكن هنا البعير قبل معتبر ... ... ... ... وبعده للعجز رأس من بقر
وعند عجز عن سبع من غنم ... ... ... ... ... ثم الطعام يشترى عند العدم
(2/104)
بقيمة البعير حيثما وجد ... ... ... ... وعدله من الصيام إن فقد
ولم يجب كون الصيام في الحرم ... ... ... ... والهدي والإطعام فيه ملتزم
حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
هذا وقد أحببنا أن نضع لك في ختام بحث الحج حديث جابر - رضي الله عنه - في حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنقف بذاكرتك بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام وهم يؤدون هذه الفريضة عبر الزمان الطويل.
روى مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج ، ثم أُذِّن في الناس في العاشرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج ، فقدم المدينة بشر كثير ، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويعمل مثل عمله . فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحُليفة ، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف أصنع ؟ قال : اغتسلي ، استثفري(1) بثوبٍ وأحرمي ، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ثم ركب القصواء(2) ، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماشٍ وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا ، وعليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله ، وما عمل به من شيء عملنا به ، فأهل(3) بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك .
__________
(1) استثفري من الاستفثار وهو أن تشد المرأة في وسطها شيئا ، وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها ومن وراءها لمنع سيلان الدم
(2) القصواء : اسم ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(3) أهل : من الإهلال وهو رفع الصوت بالتلبية .
(2/105)
وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم شيئاً منه، ولزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلبيته. قال جابر لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم، فقرأ :
{ وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فجعل المقام بينه وبين البيت ، فكان يقرأ في الركعتين :
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ثم رجع إلى الركن فاستلمه ،ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ } أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره ، وقال : “ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده “ ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا ، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي ، سعى حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا ، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال : “ لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، وجعلها عمرة . فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل ، وليجعلها عمرة “ فقام سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال : يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد ، فشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابعة واحدة في الأخرى وقال : “ دخلت العمرة في الحج، مرتين، لا بل لابد أبد “ وقدم علي من اليمن ببدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت ، فأنكر ذلك عليها ، فقالت : إن أبي أمرني بهذا . قال : فكان علي يقول بالعراق : ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(2/106)
متحرشا(1) على فاطمة للذي صنعت مستفتياً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرت عنه ، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها ، فقال : “ صدقت صدقت ، ماذا قلت حين فرضت الحج ؟ “ قال : قلت : “ اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - “ : قال “ فإن معي الهدي فلا تحل “ .
قال فكان جماعة الهدي الذي قام به علي من اليمن، والذي أتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة. قال فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه هَدْي ، فلما كان يوم التروية (2) توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلع الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة. فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام (3) كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرحلت له (4) ، فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال :
__________
(1) التحريش : الإغراء ، والمراد هنا أن يذكر له ما يقتضي عتابها ولومها .
(2) يوم التروية : هو اليوم الثامن من ذي الحجة .
(3) كانت قريش في الجاهلية تقف في المشعر الحرام ، وهو جبل بالمزدلفة يقال له قزح ، وقيل : أن المشعر الحرام كل المزدلفة ، و كان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة ويقفون بعرفات ، فظنت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقف في المشعر الحرام على عاداتهم ولا يتجاوزه ، ولكن رسول الله تجاوزه إلى عرفات تنفيذا لأمر الله تعالى ، في قوله :( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) أي سائر العرب غير قريش ، وإنما كانت قريش تقف بالمزدلفة لأنها من الحرم ويقولون نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه .
(4) رحلت : وضع عليها الرحل .
(2/107)
“ إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دماءنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع (1)، وأول ربا أضع ربا عمي العباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله ، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله ، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت ، وأديت ونصحت ، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى الناس ينكتها (2) إلى الناس ، اللهم أشهد ، اللهم أشهد ثلاث مرات ، ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة (3) بين يديه ، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص، و لم وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شنق (4) للقصواء الزمام،
__________
(1) أي باطل ومردود .
(2) ينكتها : يقلب أصبعه ويرددها إلى الناس مشيراً إليهم .
(3) حبل المشاة : أي مجتمعهم .
(4) شنق : ضم وضيق .
(2/108)
حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله (1) ويقول بيده اليمنى (2) أيها الناس السكينة السكينة، كلما أتى حبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذن واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره .وهلله ووحده ، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً (3)، فلما دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرت به ظعن
__________
(1) المورك : الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه أمام واسطة الرجل إذا مل من الركوب .
(2) يقول بيده : أي يشير بها قائلا أيها الناس ألزموا السكينة ، وهي الرفق والطمأنينة .
(3) وسيما : جميلاً .
(2/109)
يجرين (1) ، فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على وجه الفضل ، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر ، فحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده من الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر ، حتى أتى بطن محسر. فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاه منها ، مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بيده (2) ، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر (3) ، وأشركه في هديه ، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها . ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت (4) ، فصلى بمكة الظهر .
فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال : انزعوا (5) بني عبدالمطلب فلولا أن يغلبكم الناس (6) على سقايتكم لنزعت ، فناولوه دلواً فشرب منه .
زيارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبره الشريف
أهمية ذلك ودليله:
أما مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد دل على استحباب زيارته قوله - صلى الله عليه وسلم -: “ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى “ .
__________
(1) الظعن : جمع ظعينة ، وهي البعير الذي عليه امرأة ، ثم سميت به المرأة مجازاً لملابستها البعير .
(2) فنحر ثلاثاً ستين بيده : فيه دليل على استحباب تكثير الهدي، وكان هدي النبي مائة بدنة .
(3) ما غبر : ما بقي .
(4) أفاض إلى البيت أي طاف بالبيت طواف الإفاضة ثم صلى الظهر .
(5) انزعوا : استقيموا بالدلاء وانزعها بالرشاء ( الحبال ) .
(6) فلولا أن يغلبكم الناس: لولا خوفي أن يعتقد الناس أن ذلك من مناسك الحج فيزدحموا عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء.
(2/110)
وأما قبره - صلى الله عليه وسلم - فقد دل على استحباب زيارته وعظم الأجر المنوط بها، إجماع الصحابة كلهم والتابعين من بعدهم على زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - كما يدل على ذلك ما ثبت من استحباب زيارة القبور عامة بقوله - صلى الله عليه وسلم - “ كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها “ وبفعله إذ كان يزور البقيع بين حين وأخر . ولا ريب أن الاستحباب يتضاعف إذا كان القبر قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . كما يدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ ، عندما أرسله إلى اليمن : “ يا معاذ ، عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا ، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري “ رواه أحمد بسند صحيح . ومعلوم أن ( لعلك ) هنا بمعنى الطلب والرجاء .
آداب زيارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
فإذا أدركت مدى أهمية زيارة مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقبره الشريف، فلتعلم أن على الحاج إذا فرغ من نسك حجه وعمرته، كان عليه حين يتجه إلى مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينال شرف زيارته وزيارة مسجده التزام الآداب التالية:
أولاً: يستحب أن يعقد العزم ـ لدى اتجاهه إلى المدينة المنورة ـ على زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - وزيارة مسجده، حتى يكتب له أجرهما معاً. وأن يكثر في طريقه من الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ثانياً: يستحب أن يغتسل قبيل دخوله المدينة إن تيسر له ذلك، وإلا فليغتسل قبل دخوله المسجد، ويلبس أنظف ثيابه.
(2/111)
ثالثاً: إذا وصل إلى باب مسجده - صلى الله عليه وسلم - فليقدم رجله اليمنى في الدخول قائلاً: “ أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، بسم الله، والحمد لله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم. اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك “ قال الإمام النووي : هذا الذكر والدعاء مستحب في كل مسجد، وقد وردت فيه أحاديث في الصحيح وغيره، ثم يدخل فيتجه إلى الروضة الكريمة، وهي ما بين المنبر والبيت، فيصلى تحية المسجد يجنب المنبر. إذ يظن أن يكون موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
رابعاً: إذا صلى التحية في الروضة، فليأت إلى القبر الكريم، فيستدبر القبلة ويستقبل جدار القبر، ويبعد عن رأس القبر نحو أربعة أذرع. ويقف ناظراً إلى أسفل ما يستقبله من جدار القبر، وقد أفرغ قلبه من علائق الدنيا واستحضر جلالة موقفه ومنزلة من هو في حضرته. ثم يسلم بصوت خفيض قائلاً:
السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا خيرة الله، السلام عليك يا خيرة رب العالمين، جزاك الله يا رسول الله عنا أفضل ما جزى نبياً وسولاً عن أمته. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنك عبده ورسوله من خلقه، وأشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده.
ثم ينحرف قليلاً نحو اليمين حيث قبر أبي بكر - رضي الله عنه - فيقول: السلام عليك يا أبا بكر الصديق، ثم ينحرف إلى اليمين أيضا حيث قبر عمر بن الخطاب فيقول: السلام عليك يا عمر بن الخطاب.
ثم يعود إلى مكانه الأول، ويتجه إلى القبلة فيدعوا لنفسه وللمؤمنين بما يشاء، فإنها ساعة تُرجى فيها الاستجابة إن شاء الله.
(2/112)
خامساً: لا يجوز الطواف بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال الإمام النووي، ويكره أن يلصق نفسه بجدار القبر، كما يكره التمسح به وتقبيله، كما هو شأن من الجهال، بل الأدب أن يبتعد عن القبر كما يبتعد عنه - صلى الله عليه وسلم - في حضرته أثناء حياته.
سادساً: ينبغي له مدة إقامته في المدينة المنورة أن يصلي الصلوات كلها في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يخرج كل يوم إلى زيارة البقيع، وأن يزور قبور شهداء أحد، كما يستحب استحباباً مؤكداً أن يأتي مسجد قباء، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يأتي مسجد قباء في كل يوم سبت ورد ذلك في الصحيحين وغيرهما.
حكم من أحصر
أو فاته الوقوف بعرفة
المحصر من منعه مانع دون الوصول إلى مكة والقيام بأعمال الحج فإذا أحرم شخص بالحج أو العمرة، ثم منعه عدو من الوصول إلى مكة أو حبس وسد عليه منافذ الطريق تحلل في مكانه .
والتحلل أن يذبح شاة في مكانه الذي أحصر فيه مع نية التحلل، ثم يحلق رأسه أو يقصر من شعره.
قال الله سبحانه وتعالى :
{ َإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } .
وهذه الآية نزلت بالحديبية حين صد المشركون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن البيت، وكان معتمراً، فنحر ثم حلق، وقال لأصحابه: ( قوموا فانحروا ثم احلقوا).
فإذا فقد الدم فلم يقدر على الذبح قومت الشاة وأخرج طعاماً بقيمتها، فإن عجز عن الطعام صام عن كل مد يوماً .
ويتحلل هذا في الحال ولا ينتظر إلى انتهاء الصيام .
(2/113)
ومن الموانع التي تحول دون إتمام الحج أو العمرة عدم إذن الزوج، فإذا أحرمت المرأة بالحج أو العمرة من غير إذن الزوج، سواء أكان نسكها فرضاً أو نفلاَ، فللزوج تحليلها، فإذا طلب منها ذلك. وجب عليها الإحلال إذا كان زوجها حلالاً، لأن في استمرارها تفويتاً لحق الزوج، ويكون إحلالها كإحلال المحصر الآنف الذكر. وعلى هؤلاء الحج فيما بعد:
ومن فاته الوقوف بعرفة بعذر أو بغير عذر تحلل بطواف وسعي وحلق ويجب عليه دم، ويجب عليه أيضا القضاء فوراً في العام المقابل.
فلقد روى مالك في الموطأ بإسناد صحيح: أن هبَّار بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه، فقال: يا أمير المؤمنين أخطأنا العدد وكنا نظن أن هذا اليوم يوم عرفة. فقال له عمر - رضي الله عنه -: أذهب إلى مكة فطف بالبيت أنت ومن معك، واسعوا بين الصفا والمروة، وانحروا هديكم إن كان معكم، ثم احلقوا أو قصروا، ثم ارجعوا فإذا كان عام قابل فحجوا واهدوا، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع .
ملاحظة: للحاج أو المعتمر أن يشترط أنه إذا مرض أو وقع به نحو ذلك فقد حل، فإذا وقع به ما اشترط جاز له أن يتحلل.
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: “ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة بنت الزبير، فقال لها :أردت الحج ؟ فقالت: والله ما أجدني إلا وجعة، فقال: حجي واشترطي، وقولي اللهم محلي حيث حبستني“.
والإحلال في هذه الحال يكون بالنية والحلق، ولا دم عليه إلا إذا كان قد شرط التحلل بالهدي.
من مات ولم يحج
إذا وجب على الإنسان الحج أو العمرة، ولكنه تراخى عن أدائها فلم يؤدهما حتى مات، مات عاصياً، ووجب تكليف من يحج عنه أو يعتمر، وتدفع النفقة من رأس مال المتوفى، وتعد هذه من الديون، فلا تقسم التركة إلا بعد أداء الديون.
(2/114)
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما “ أن امرأة من جهينة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج أفأحج عنها ؟ قال: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية ؟ قالت نعم، قال: اقضوا دين الله، فالله أحق بالوفاء” فشبه الحج بالدين الذي لا يسقط بالموت.
أحكام منثورة
يلزم المرأة أجرة المحرم إن كان لا يخرج معها إلا بأجرة، وكانت قادرة على دفعها، فإن لم تكن قادرة على ذلك خرجت عن حدود الاستطاعة فلا يجب عليها الحج.
القائد للأعمى كالمحرم للمرأة، فإن لم يجد قائداً إلا بأجرة وجب عليه دفعها.
العاجز عن الحج بنفسه ـ وهو المعضوب ـ يجب عليه استئجار من يحج عنه بأجرة المثل، فإن لم يجد من يحج عنه إلا بأكثر من أجرة المثل لم يلزمه.
إذا بذل ولده مالاً أو أجنبي ليدفعه أجرة لمن يحج عنه لم يلزمه قبوله.
لو تبرع هؤلاء أن يحجوا عنه بأنفسهم وجب عليه قبول ذلك والإذن لهم.
إذا وقف الحجاج يوم العاشر غلطاً بدل اليوم التاسع أجزأهم الوقوف ولم يجب عليهم القضاء لقوله عليه الصلاة والسلام: “ يوم عرفة اليوم الذي يعرف فيه الناس ".
المرأة الحائض يجوز لها أن تسافر من غير طواف وداع، لما ورد في الصحيحين عن ابن عباس: “ أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض ".
كما يحرم على الحاج الصيد يحرم عليه قطع نبات الحرم الذي لا يستنبت، وتجب فيه الفدية، ففي الشجرة الكبيرة بدنة، وفي الشجرة الصغيرة شاة، وفي النبات القيمة.
صيد المدينة حرام كصيد الحرم إلا أنه لا ضمان فيه.
إذا حج الصبي صح حجه ولكنه لا يقع عن حجة الإسلام، فإذا بلغ وجب عليه أن يحج حجة الإسلام إن كانت توجد فيه شروط الاستطاعة .
كيف تحج ؟
لقد تحدثنا فيما مضى عن الحج والعمرة وشروط وجوبهما، وعن أركانهما، وعن الواجبات فيهما، وعن مفسداتهما وعن حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أمور كثيرة تتعلق بالحج والعمرة.
(2/115)
والآن نريد أن تستعرض أفعال الحج بشكل متسلسل، كي يسهل على المرء المسلم أداء هذه الفريضة العظيمة.
يبدأ المسلم رحلة الحج بأن يؤدي ما عليه من واجبات، فإن كان عليه دين أداه إلى صاحبه، أو استأذن منه في السفر إلى الحج، وإن كان قد آذى مسلماً تحلل منه، وطلب منه المسامحة .
يختار في الحج الرفقة الصالحة، ولاسيما الفقهاء في الدين، فإن ذلك ضروري لأداء فريضة الحج على أكمل وجه.
يتعلم قبل سفره ما لا بد منه من أحكام الحج ، وقد عد الإمام الغزالي هذا التعلم فرض عين على كل من أراد أداء هذه الفريضة ,.
إذا بدأ بالسفر إلى الحج جاز له أن يحرم من بيته ، وجاز له أن يؤجل الإحرام إلى الميقات .
إذا أراد أن يحرم سواء أكان من بيته أم من الميقات يغتسل أولا،ً ثم يلبس ثياب الإحرام وهي إزار ورداء غير مخيطين ثم يصلي ركعتين سنة الإحرام ، ثم يتوجه إلى القبلة ويقول : لبيك اللهم بحج ناوياً ذلك بقلبه أيضاً، هذا إذا أراد الدخول في الحج ، وإذا أراد الدخول في العمرة قال : لبيك الهم بعمرة، فإذا فعل ذلك صار محرماً بالنسك وحرم عليه الأشياء التي ذكرناها فيما مضى تحت عنوان محرمات الإحرام .
فإن فعل شيئاً من هذه المحرمات ترتب عليه الفدية التي ذكرناها فيما مضى، وأما الجماع منها فإنه مفسد للحج وموجب للفدية كما ذكرنا.
إذا كان سفره بالطائرة استحسن أن يبدأ بالإحرام عند قيام الطائرة، خشية أن تكون لسرعتها تتجاوز الميقات من غير إحرام، فيلزم الإنسان دم ذلك.
إذا أحرم بالنسك سن له أن يقول : اللهم أحرم لك شعري وبشري ولحمي ودمي، وسن له التلبية، وخاصة إذا صعد مرتفعاً أو هبط وادياً أو التقى برفقة، والتلبية أن يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك .
(2/116)
والمرأة في ذلك كالرجل، إلا أنها لا يجب عليها خلع المخيط ، ولا ترفع صوتها بالتلبية . و نذكر هنا أن المرأة يجب عليها كشف وجهها وكفيها ، ويسن خضبهما بحناء كما مر .
إذا شارف المحرم دخول مكة سن له أن يغتسل لدخول مكة، والأفضل الاغتسال عند بئر ذي طوى كما مر.
أن يتجه فور وصوله مكة إلى البيت الحرام قاصداً طواف القدوم ، إن كان قد نوى الحج ، وإن كان معتمراً نوى بالطواف طواف العمرة ، وعند مشاهدته الكعبة المشرفة يرفع يديه مكبراً وداعياً بهذا الدعاء : “ اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة ، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً وبراً ، اللهم أنت السلام ومنك السلام ، فحينا ربنا بالسلام “ . ثم يدعوا بما شاء ويستحب أن يدخل المسجد من باب بني شيبة ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل منه .
ثم يتقدم إلى الكعبة المشرفة ويبتدئ بالطواف من عند الحجر الأسود ويستلمه بيده أو يقبله إن استطاع وهذا سنة ، فإذا قبله وجب عليه أن يرفع رأسه ويرجع قليلاً حتى يخرج عن سمت بناء البيت، وإن لم يستطع أشار إليه من بعيد.
ثم يستمر بالطواف من عند الحجر الأسود جاعلاً الكعبة عن يساره ، وكلما وصل إلى الحجر الأسود فقد أتم طوفة . وهكذا يفعل ذلك سبع مراتٍ، لأن الطواف سبعة أشواط.
ويجب في الطواف ستر العورة ، والطهارة من الحدث والنجس ، فلو أحدث في أثناء الطواف تطهر وبنى، ويجب أن يكون الطواف خارج البيت الحرام، فلو دخل من إحدى فتحتي حجر إسماعيل ـ وهو المحوط بجدار قصير ـ وخرج من الفتحة الأخرى لم تحسب له الطوفة ، لأن الحجر من البيت الحرام .
(2/117)
ويسن في الطواف أن يقول في أول طوافه " بسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، وإتباعا لسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - وليقل قبالة باب الكعبة. “ اللهم إن البيت بيتك ، والحرم حرمك، والأمن أمنك ، وهذا مقام العائذ بك من النار “ وليقل بين الركنين اليمانيين : “ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار “ ثم يدعوا أثناء طوافه بما شاء .
ويسن أن يرمل في الأشواط الثلاثة الأول إن كان يعقب هذا الطواف سعي ـ والرمل الإسراع في المشي مع تقارب الخطو ـ ويمشي في الأشواط الأربعة الباقية، وليقل في رمله: “ اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً وسعياً مشكوراً ".
ويسن أيضاً أن يضطبع في جميع طواف يعقبه سعي ، والاضطباع هو أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن مع كشفه ، ويجعل طرفيه على منكبه الأيسر.
والرمل والاضطباع خاص بالذكر ، أما المرأة فلا ترمل ولا تضطبع .
ويسن في الطواف أن يكون قريباً من البيت الحرام بأن يجعل بينه وبين البيت ثلاث خطوات، إلا أن يتأذى بالقرب فالبعد أفضل.
أما المرأة فيسن لها أن تكون في حاشية المطاف إن كان ازدحام.
ويسن استلام الركن اليماني إن أمكن وإلا اكتفي بالإشارة من بعيد، ولم يرد في الركن اليماني سنة في تقبيله، لكن إذا قبله لم يكره.
هذا وأركان الكعبة أربعة: الركن الذي فيه الحجر الأسود ـ يليه حال الطواف الركن العراقي ـ ثم الشامي ـ ثم اليماني. و يطلق على هذا والركن الذي فيه الحجر اسم الركنين اليمانيين .
إذ انتهى من طوافه صلى خلف مقام إبراهيم ركعتين سنة الطواف، يقرأ في أولاهما:
{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ويقرأ في الثانية { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ … }
وبعد الانتهاء من الركعتين يأتي فيقبل الحجر الأسود أو يستلمه إن أمكن ذلك.
(2/118)
ثم يخرج من باب الصفا للسعي ويصعد على الصفا مبتدئاً بالسعي ، فإذا ارتقى على الصفا قال : “الله أكبر الله أكبر الله اكبر ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا ، والحمد لله على ما أولاناً ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون “ ثم يدعوا بما شاء من أمور الدين والدنيا .
ويسن أن يعيد الذكر والدعاء ثانياً وثالثاً.
ثم ينحدر من الصفا ويمشي حتى يأتي العلم الأخضر فيرمل حتى يصل إلى العلم الثاني فيمشي حتى يصل إلى المروة فهذا شوط .
ثم يعود من المروة إلى الصفا وهذا شوط ثانٍ، والفرض أن يسعى سبعة أشواط . والرمل في السعي سنة للرجل أما المرأة فلا يسن في حقها الرمل كالطواف.
ويسن أن يقول الساعي أثناء سعيه: “ رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم ".
ومما مر علم أن الواجب الافتتاح بالصفا والاختتام بالمروة .
ومما يجدر ملاحظته أن السعي لا يكون إلا بعد طواف قدوم أو طواف ركن.
إذ انتهى من السعي فإن كان قد أحرم بالعمرة حلق شعره أو قصره، وقد انتهى من عمرته.
وإن كان قد أحرم بالحج لم يتحلل بل يبقى محرماً، ويمكث في مكة هكذا إلى يوم الثامن من ذي الحجة وهو يوم التروية.
إذا كان هذا اليوم ـ يوم التروية ـ أحرم بالحج إن لم يكن محرماً ـ ثم مضى الحجاج جميعهم إلى منى ليبيتوا في منى تلك الليلة. والخروج إلى منى يوم الثامن سنة لا يضر تركها بالحج .
إذا كان صباح يوم التاسع بعد طلوع الشمس توجه الحاج من منى إلى عرفات، والسنة أن لا يدخل الحاج عرفات إلا بعد زوال الشمس ، بل السنة أن يقيم بنمرة إلى ما بعد دخول وقت الظهر، ويصلي الظهر مع العصر مجموعة جمع تقديم .
(2/119)
ثم يدخل عرفه ويمكث فيها إلى غروب الشمس ، وفي عرفات يذكر الحاج ربه ويدعوه بما يشاء ، ويكثر من التهليل ، والوقوف بعرفة ركن لابد منه كما مر .
وقد ورد أدعية كثيرة يدعى بها في ذلك اليوم العظيم الذي هو أعظم الأيام. منها: “ اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري “ ومنها: “ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت. فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة. واكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك، ونور قلبي وقبري، واهدني وأعذني من الشر كله، واجمع لي الخير، اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى" ومنها:" اللهم إنك ترى مكاني ، وتسمع كلامي ، وتعلم سري وعلانيتي ولا يخفى عليك شيء من أمري ، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير ، الوجل المشفق ، المقر المعترف بذنبه ، أسألك مسألة المسكين ، وابتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خشعت لك رقبته وذل لك جسده ، وفاضت لك عينه ، ورغم لك أنفه “ .
إذا غربت الشمس قصدوا مزدلفة، ويكفي في الوقوف بعرفة حضور لحظة من زوال الشمس إلى فجر يوم العيد ففي أي وقت من ذلك وقف كفاه، ولكن الأفضل الجمع بين جزء من النهار وجزء من الليل.
(2/120)
إذا وصل الحاج إلى مزدلفة صلى فيها المغرب والعشاء مقصورة مجموعة جمع تأخير، ويجب أن يبقى فيها إلى ما بعد منتصف الليل، فإن خرج منها قبل منتصف الليل وجب عليه دم. ويسن أن يلتقط من منى حصى الرمي، وهي حصى صغير، ثم يصلي الفجر، ثم يأتي حتى يقف عند المشعر الحرام ـ وهو جبل صغير آخر المزدلفة، ثم يدعو الله عنده ، ويكون من جمله دعائه “ اللهم كما أوقفتنا فيه وأريتنا إياه ، فوفقنا لذكرك كما هديتنا ، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق : { َإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } والوقوف عند المشعر الحرام سنة .
ويسن أن يبقى واقفاً عند المشعر الحرام مستقبل القبلة إلى الإسفار ـ وهو طلوع الضوء من المشرق بمقدار ما تتعارف الوجوه ـ ثم يسيرون ليصلوا إلى منى بعد طلوع الشمس .
إذا وصل الحاج إلى منى وجب عليه أن يرمى جمرة العقبة، وهي الجمرة الكبرى التي في غرب منى عند فم الطريق إلى مكة .
ويسن أن يقف عند الرمي مستقبل الجمرة ومنى عن يمينه ومكة عن يساره، ويقطع التلبية عند الرمي.
ويسن أن يكبر مع كل حصاة، فيقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر والله اكبر ولله الحمد. ويسن أن يرمي بيده اليمنى رافعاً حتى يبدو بياض إبطيه، أما المرأة فلا ترفع يدها.
ويجب أن يصيب الحصى المرمى، فإن لم تصب حصاة المرمى لم تحسب.
إذا انتهى الحاج من الرمي ذبح هديه إن كان معه هدي, والهدي ما يسوقه الحاج من النعم ليهديه لمكة وحرمها تقريباً إلى الله تعالى.
ثم يحلق شعره أو يقصر، والأفضل للرجل الحلق، وللمرأة التقصير، والحلق أو التقصير ركن من أركان الحج.
(2/121)
فإذا رمى وحلق فقد تحلل الأول، وحل له ما كان محرماً عليه من لبس ثياب وتطيب وما أشبه ذلك، ولم يبق محرماً عليه إلا النساء.
ثم بعد الحلق يأتي مكة ويطوف حول البيت سبع مرات طواف الإفاضة، وهذا الطواف ركن لا يتم الحج إلا به.
ثم يسعى إن لم يكن قد سعى الحج بعد طواف القدوم. فإذا رمى الحاج وحلق وطاف طواف الإفاضة فقد حل له جميع ما كان محرماً عليه للإحرام، حتى النساء وعقد الزواج.
ثم يرجع إلى منى ليبيت فيها، والمبيت بمنى واجب عليه دم إن تركه.
وبعد زوال الشمس عن وسط السماء أي عند دخول وقت الظهر، يدخل وقت الرمي، فيرمي الجمرة الأولى بسبع حصيات ، ثم الجمرة الوسطى ، ثم جمرة العقبة ويجب ترتيب الجمرات في الرمي .
ثم يبيت في منى الليلة الثانية، فإذا دخل وقت الظهر، دخل وقت الرمي، فيرمي الجمرة الأولى ثم الجمرة الثانية ثم جمرة العقبة.
فإذا انتهي من هذا الرمي رمي اليوم الثاني من أيام التشريق جاز له أن يتعجل وينزل إلى مكة وقد انتهت أعمال الحاج.
لكن يجب عليه في هذا الحال أن يغادر منى قبل غروب الشمس، فإن غربت وهو في منى وجب عليه أن يبيت الليلة الثالثة، فإذا كان وقت الظهر رمى ثم نزل إلى مكة.
إذا أراد الحاج الرجوع إلى أهله طاف بالبيت الحرام طواف الوداع، وهذا الطواف واجب، إن تركه كان عليه دم. إلا الحائض فإنها تنفر بلا طواف وداع فهو ساقط عنها، ويجب أن لا يتأخر عن السفر بعد طواف الوداع، فإن مكث في مكة بعده كان عليه أن يعيده.
ويسن شرب ماء زمزم وينوي عند شربه ما يريد من خير، ويسن استقبال القبلة عند شربه.
.
..الأيمان والنذور
الأيمان
تعريف الأيْمان :
(3/1)
الأيْمان : جمع يمين ، واليمين في اللغة : القوة.
ومنه قول الله عزّ وجلّ : [لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ] (الحاقة : 45 ) [ أي: بالقوة ].
وقول الشاعر :
إذا ما راية رفعت لمجد ... ... ... ... تلقاها عرابة باليمين
[ أي : بالقوة ]
وتطلق اليمين على اليد اليمنى ، وذلك لتوفر القوة فيها.
وتطلق اليمين أيضاً على الحَلِف بمعظم.
وسمى الحلف يميناً، لأن العرب كانوا إذا تحالفوا أخذ كل واحد منهم بيمين صاحبه.
وأما اليمين اصطلاحاً :
فهي توثيق كلام غير ثابت المضمون بذكر أحد أسماء الله عزّ وجلّ، أو ذكر صفة من صفاته ، بصياغة مخصوصة.
فخرج بقيد ـ التوثيق ـ اليمين اللغو ؛ وهي اليمين الدارجة على اللسان بدون قصد تحقيق أمر ، ولا توثيقه:
وذلك كقول الرجل : لا والله ، وبلى والله.
فلا يُعد هذا يميناً منعقدة شرعاً.
قال الله تعالى : [ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ] ( المائدة : 89). [ ومعنى عقدتم : قصدتم].
قالت عائشة رضي الله عنها : نزلت في قوله : (لا والله، وبلى والله). رواه البخاري في [ الأيمان والنذور ـ باب ـ لا يؤاخذكم الله ..، رقم : 6286]. وروى أبو داود في [ الأيمان والنذور ـ باب ـ لغو اليمين، رقم : 3254]، قال : قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " هو كلامُ الرجل في بيته : كلا والله ، وبلى والله" [ الحديث صححه ابن حبان. انظر : موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان رقم 1187].
وخرج بقيد ـ غير ثابت المضمون ـ توثيق كلامٍ ثابت المضمون، لا محالة ، كقول القائل: والله لأموتنَّ ، أو والله إن الشمس طالعة، وهي طالعة فعلاً.
فهذه ليست يميناً شرعية، لتحققها في نفسها، ولأنه لا يتصور فيها الحِنْث : أي عدم الوفاء باليمين.
وتكون اليمين على الماضي، كقول القائل: والله ما فعلت كذا، أو والله لقد فعلته.
(3/2)
ويستدل لذلك بقول الله عزّ وجلّ : [يحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ] (التوبة :74).
كما تكون اليمين على المستقبل، كقوله: والله لأفعلن.
ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :" والله لأغزون قريشاً". أخرجه أبو داود في [ الأيمان والنذور ـ باب ـ الاستثناء في اليمين بعد السكوت، رقم :3285].
حكم اليمين شرعاً :
يكره التلفظ باليمين في أعمّ الأحوال، ودليل هذا قول الله عزّ وجلّ : [وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ ] ( البقرة : 224 ) [ أي لا تكثروا الحلف بالله تعالى ]. وسبب ذلك أنه ربما يعجز الحالف عن الوفاء به.
قال حرملة رحمه الله تعالى : سمعت الشافعي رحمه الله تعالى يقول :( ما حلفت بالله صادقاً، ولا كاذباً).
إلا أن أحكاماً أخرى قد تعرض لليمين، حسب الدوافع والنتائج، فتكون بناءً على ذلك :
1- حراماً : وذلك إذا كانت على فعل حرام ، أو ترك واجب ، أو على شيء كاذب، لا أصل له.
2- واجبة : وذلك إذا كانت اليمين هي السبيل التي لا يوجد غيرها لإنصاف مظلوم، أو بيان حق: كما لو كان شخص مُدَّعى عليه، فطلب منه اليمين، وعلم أنه لو نكل [ أي امتنع عن الحلف] حلف المدّعي كذباً، وظُلِم بذلك إنسان بريء.
3- مباحةً : وذلك إذا كانت على فعل طاعة، أو تجنّب معصية، أو إرشاد إلى حق، أو تحذير من باطل.
ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فواللهِ لا يَملُّ اللهُ حتى تَملوا". أخرجه البخاري في [الأيمان ـ باب ـ أحبّ الدين إلى الله أدومه، رقم : 43] [ ومعناه: لا يترك الله إثابتكم على العمل، إلا إذا انقطعتم عنه، بسبب إفراطكم فيه، ومللكم منه].
4- مندوبة : وذلك إذا كانت اليمين وسيلة للتأثير على السامعين ، وسبباً في تصديقهم لموعظة، أو نصيحة.
التحذير من اتخاذ اليمين معتمداً في المكالمات والمعاملات:
(3/3)
إن أهم مظاهر سوء الأدب مع الله عزّ وجلّ، أن يجعل الإنسان من اسمه سبحانه وتعالى، تكأة في مكالماته، ووسائل إقناعه، وتأثيراته على الآخرين، غير مبال بقوله سبحانه وتعالى ، وهو يحذر من هذه العادة السيئة:[ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ] ( البقرة :224).
ذلك لأن من شأن المؤمن أن يكون معظماً لله عزّ وجلّ، يفيض قلبه خشية منه، ومهابة له.
والتعظيم والخشية يتنافيان مع هذه الاستهانة باسم الله عزّ وجلّ. ومن أخطر نتائج هذه العادة، أن صاحبها قد يستسيغ تعمّد الكذب في الحلف باسم الله عزّ وجلّ، وهي اليمين الغموس التي من شأنها أن تغمس صاحبها في النار، إن لم يتب منها، وتكون سبباً في محق البركة والخير، في كسبه وماله.
روى البخاري في [البيوع ـ باب ـ الربا، رقم 1981] ومسلم في [ المساقاة ـ باب ـ النهي عن الحلف في البيع، رقم 1606] عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :" الحلفُ منفقة للسلعةِ مَمْحقةٌ للبركة".
وروى البخاري في [الأيمان والنذور ـ باب ـ اليمين الغموس، رقم: 6298] عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الكبائرُ : الإشراكُ باللهِ ، وعقوقُ الوالدينِ ، وقتلُ النفسِ ، واليمينُ الغموسُ" [ ا] التي تغمس صاحبها في النار، لتعمّد الكذب فيها].
شروط انعقاد اليمين :
يشترط لانعقاد اليمين تحقّق الأمور التالية :
1- أن يكون الحالف بالغاً عاقلاً :
(3/4)
وذلك لرفع القلم والمؤاخذة عن غير البالغ العاقل ، والدليل في ذلك ما رواه أبو داود [ في الحدود ـ باب ـ في المجنون يسرق ، أو يصيب حدّاً، رقم : 4403] وغيره ، عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : رُفعَ القلمُ عن ثلاثة : عن النائمِ حتى يستيقظ، وعن الصبيِّ حتى يحتلمَ ، وعن المجنون حتى يعقل ".
[ يحتلم : يبلغ ].
2- أن لا يكون اليمين لغواً :
وذلك كقولهم : بلى والله ، ولا والله، ونحو ذلك مما يدرج على ألسنة الناس، بغير قصد، ويشيع في العُرْف ذلك.
وقد سبق دليل من الكتاب والسنّة عند الكلام عن تعريف اليمين اصطلاحاً.
3- أن يكون القَسَم بواحد مما يلي:
أ) ذات الله عزّ وجلّ :
كقول الشخص : أقسم بذات الله تعالى، أو أقسم بالله عزّ وجلّ.
ب) أحد أسمائه تعالى الخاصة به :
كقول القائل: أقسم بربّ العالمين، أو بمالك يوم الدين، أو أقسم بالرحمن.
ج) صفة من صفاته تعالى :
وذلك مثل قول الإنسان: أقسم بعزة الله ، أو بعلمه ، أو بإرادته، أو بقدرته.
والأصل في كل ما ذكر ما جاء في السنة الصحيحة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
روى البخاري [ في الأيمان والنذور ـ باب ـ لا تحلفوا بآبائكم، رقم : 6270] ومسلم [ في الأيمان ـ باب ـ النهي عن الحلف بغير الله تعالى، رقم : 1646] عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب، وهو يسير في ركب ، يحلف بأبيه ، فقال " ألا إنَّ اللهَ ينهاكم أن تَحلفوا بآبائِكم، من كان حالفاً فليحلفْ باللهِ، أو ليَصْمُتٍُ".
وروى البخاري [ في الأيمان النذور ـ باب ـ كيف كان يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم 6253] عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا ومقلِّبِ القلوبِ ".
(3/5)
وثبت في أكثر من حديث عند البخاري وغيره ، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في حَلِفه : " والذي نفسي بيدِهِ"، " والذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ". [ البخاري، في كتاب الأيمان والنذور ـ باب ـ كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - ، رقم 6254 ، 6255].
فلو أن أحداً أقسم بغير ما ذكر لم ينعقد يمينه، لسببين:
أولهما : حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السابق: " مَن كان حالفاً، فليحلفْ بالله، أو ليَصمتْ".
ثانيهما : فَقْدُ كمال العظمة في غير ما ذُكر، والمؤمن منهيّ عن تعظيم غير الله عزّ وجلّ تعظيماً ذاتياً.
اليمين صريح وكناية :
ثم إن اليمين ينقسم إلى قسمين: صريح، وكناية.
الصريح :
واليمين الصريح: هو كل ما أقسم فيه الشخص باسم من أسماء الله تعالى الخاصة به، كقول القائل: أُقسم بالله ، أو أُقسم بربّ العالمين.
2- الكناية :
وهو أن يقسم بما ينصرف إليه ـ سبحانه وتعالى ـ عند الإطلاق، كقوله: أُقسم بالخالق، أو أُقسم بالرازق ، أو الرب.
أو أن يُقسِم بما من شأنه أن يُستعمل في التعبير عن ذات الله تعالى وعن غيره، على حدٍّ سواء، كقول القائل: أقسم بالموجود، أو العالِم ، أو الحي.
أو يقسم بصفة من صفات الله عزّ وجلّ: كقدرة الله تعالى، وعلمه ، وكلامه.
حكم كل من الصريح والكناية :
1- حكم اليمين الصريح :
اليمين الصريح يتم انعقاده بمجرّد التلفّظ به ، ولا يُقبل قول الحالف : لم أُرِد به اليمين، لأن هذه الألفاظ لا تحتمل غير اليمين.
فلو قال: قصدت بلفظ ( الله) غير ذات الله عزّ وجلّ، لم يُقبل منه قوله، ولكن لابدّ فيه من إرادة اليمين المنعقدة.
فلو سبق هذا اللفظ إلى لسانه من غير أن يقصد اليمين، كان لغواً، كما سبق بيانه.
2- حكم اليمين الكناية:
أما اليمين الكناية، فحكمه أنه لا ينعقد إلا بالنيّة والقصد، فيقبل قول الحالف : لم أقصد اليمين.
(3/6)
فإن قال : أقسم بالخالق، أو الرازق ، أو الرب ، انعقد يمينه إلا إن أراد بهذه الألفاظ غير ذات الله عزّ وجلّ، فينصرف إلى المعنى الذي أراده، ولا ينعقد كلامه عندئذ يميناً، لأنه قد يستعمل هذا الكلام في غير الله تعالى مقَّيداّ.
قال الله عزّ وجلّ : [وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً] ( العنكبوت :17). [ أي تقولون كذباً، وتصنعون أصناماً بأيديكم، وتسمونها آلهة].
وقال عز من قائل: [ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ ] ( النساء : 8).
وقال جل جلاله : [ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ] (يوسف : 50).
وإن قال : أقسم بالموجود، أو العالم، أو الحي ، لم ينعقد كلامه يميناً بمثل هذه الألفاظ، إلا بشرط أن ينوي بها ذات الله عزّ وجلّ، لأنها لما كانت تستعمل للدلالة على ذات الله تعالى، وعلى غيره على حدٍّ سواء لم يتعين يميناً إلا بالنية.
وإن قال : أقسم بقدرة الله تعالى، أو علمه، أو كلامه انعقد كلامه يميناً بشرط أن لا يقصد بالعلم : المعلوم، وبالقدرة، المقدور، وبالكلام: الحروف والأصوات.
فإن قصد ذلك لم ينعقد كلامه يميناً، لأن معلوم الله ومقدوره والحروف والأصوات، ليس شيء منها داخلاً في ذات الله عزّ وجلّ، أو إحدى صفاته.
البِرّ باليمين والحنث بها: معناهما وحكمهما :
1- معنى البِرّ باليمين والحنث بها :
إذا أقسم الإنسان بالله عزّ وجلّ ، أو بإحدى صفاته، وكان قَسَمه معقوداً : أي مستوفياً الشروط التي مرّ ذكرها، فلابدّ أن يَؤُول أمره بالنسبة لهذا القسم إلى البِرّ بيمينه، أو الحِنْث به.
فالبِرّ باليمين: هو أن يحقّق ما التزمه بيمينه، إن كان وعداً. وأن يكون صادقاً فيها إن كان إخباراً عن شيء ثابت.
والحنث فيه : أن لا يحقّق ما قد التزمه، إن كان وعداً والتزاماً. أو يكون كاذباً فيه إن كان إخباراً.
والحنث في الأصل : الذنب، وأطلق على ما ذكر، لأنه سبب له.
2- حكم البِرِّ باليمين والحنث فيها :
حكم البر باليمين : أنه يرفع عُهدة المسئولية عن صاحبها.
(3/7)
وأما حكم الحنث فيها : فهو ذو حالتين ، لكل حالة منهما حكم خاص بها :
الحالة الأولى :
أن يكون الحنث باليمين عبارة عن عدم تحقيق المقسِم لما التزمه بيمينه؛ كأن أقسم بالله تعالى ليتصدقنّ على فقير في يوم كذا، فلم يتصدّق في اليوم المحدود. وحكم هذا الحنث: هو وجوب تكفير الحانث عن يمينه. وسيأتي بيان كفّارة اليمين بعد قليل، إن شاء الله تعالى.
الحالة الثانية :
أن يكون الحنث باليمين عبارة عن الكذب في إخباره، الذي أبى إلا أن يوثّقه باليمين، كأن يقول : والله إن هذا المتاع ملكي، وهو يعلم أنه ليس ملكه، ويسمى مثل هذا اليمين يميناً غموساً، كما سبق بيانه.
وحكم هذا الحنث استحقاق صاحبه العقاب الكبير من الله عزّ وجلّ مع وجوب الكفارة، لأنه من اليمين المنعقدة.
والفرق بين الحالتين : أن صاحب الحالة الثانية أكثر استهتاراً باسم الله عزّ وجلّ، إذ هو يُقسِم بالله في الوقت الذي يعلم أنه يقسم بالله كذباً.
أما صاحب الحالة الأولى، فربما كان عازماً عند النطق باليمين على البِرّ باليمين، والعمل بموجبها، لكنه حالَ بينه وبين الوفاء بها حائل، أو أنه تنبّه بعد ذلك إلى شيء هو خير مما التزمه باليمين، فعمل بوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ حلفَ على يمينٍ، فرأى غيرَها خيراً منها، فليأتِ الذي هو خيرٌ، وليكفِّرْ عن يمينه". أخرجه مسلم
[ في الأيمان ـ باب ـ ندب مَن حلف يميناً فرأى غيرها..، رقم : 1650].
كفّارة اليمين :
ومَنْ حنث في يمين غموس ، أو غير غموس ، وجبت عليه كفارة. وهو مخيَّر فيها أولاً بين ثلاثة أشياء :
1- عِتق رقبة مؤمنة، والمراد بالرقبة : عبد أو أَمَة. وإنما يكون هذا حيث يوجد الرقيق.
2- إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين مُدُّ حَبٍّ من غالب قوت بلده. والمدّ: مكيال معروف يتسع: 600 غراماً تقريباً.
ويجب تمليك كل مسكين ما ذكر، فلا يكفي دعوتهم لتناول طعام غداء، أو عشاء، ونحو ذلك.
(3/8)
3- كِسْوَة عشرة مساكين مما يُعتاد لُبْسه، ويسمى في العُرْف كسوة : فالقميص، والسراويل، والجَوْرب، وغطاء الرأس على أي شكل كان ، كله يسمى كسوة.
فإن عجز عن تحقيق شيء من هذه الأمور الثلاثة : بأن كان مُعْسِراً، وجب عليه صيام ثلاثة أيام ، ولا يشترط فيها التتابع، بل يجوز له تفريقها.
دليل كفارة اليمين :
ودليل هذه الكفّارة قول الله عزّ وجلّ: [لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( المائدة : 89).
خاتمة في بعض أحكام اليمين :
1- لو قال شخص : أقسمتُ بالله ، أو أُقسِم بالله ، لأفعلنّ كذا ، فهو يمين ، إن نوى اليمين، أو أطلق، لكثرة استعمال هذا اللفظ في الأيمان.
قال الله تبارك تعالى: [وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ] (النحل: :38). وإن لم يقصد اليمين، بل قصد خبراً ماضياً ، أو مستقبلاً ، فليس بيمين ،لاحتمال اللفظ ما نواه.
2- لو قال شخص لغيره : أُقسِم عليك بالله ، أو أسألك بالله ، لتفعلنّ كذا ، فهو يمين إن أراد به يمين نفسه ،لاشتهار ذلك شرعاً ، ويسنّ عندئذ للمخاطب إبرار الحالف ، إن لم يكن في إبراره ارتكاب محرَّم ، أو مكروه.
ودليل ذلك ما رواه البخاري في [ الجنائز ـ باب ـ الأمر بإتباع الجنائز، رقم : 1182] عن البراء - رضي الله عنه - قال : ( أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع … وعدّ منها : إبرار القسم).
(3/9)
أما إن أراد بقوله : أُقسم عليك بالله ، أو أسألك بالله ، أو أسألك بالله يمين المخاطب، أو لم يردّ يميناً، وإنما أراد التشفُّع إليه ، فإنه لا يكون يميناً عندئذٍ ، لأنه لم يقصد اليمين هو ، ولم يحلف المخاطب أيضاً، ولذلك قالوا : يُكره السؤال بوجه الله عزّ وجلّ.
ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة). أخرجه أبو داود في [الزكاة ـ باب ـ كراهية المسألة بوجه الله تعالى ، رقم :1671].
3- مَن حلف على ترك واجب من الواجبات: كترك الصلاة والصيام مثلاً ، أو حلف على فعل محرَّم : كالسرقة ، أو القتل ، فإنه قد عصى الله عزّ وجلّ، في الحالتين ، ولزمه الحنث فيهما، لأن الإقامة على هذه الحالة معصية، كما تلزمه الكفارة أيضاً.
4- إذا حلف أن لا يفعل شيئاً : كبيع ، وشراء ، ونحو ذلك ، فوكَّل غيره بفعله ، فإنه لا يحنث بفعل وكيله ، لأن العبرة بما يدل عليه اللفظ، فإنه حلف على فعل نفسه، فلا يحنث بفعل غيره، والفعل إنما ينسب إلى من باشره.
نعم إن أراد عند التلفّظ باليمين ما يشمل فعله المباشر، وفعل الوكيل عنه حنث.
5- إذا حلف أن لا يتزوج فلانة ، فوكّل من يقبل له العقد عليها عوضاً عنه حنث، لأن الزواج لا يطلق على العقد وحده ، بل يطلق عليه وعلى نتائجه، وهو الوطء ، والحالف وإن لم يكن مباشراً للعقد ، فهو مباشر لنتائجه.
6- مَن حلف على ترك أمرين، ففعل أحدهما لم يحنث، كأن قال : والله لا ألبس هذين الثوبين، أو لا أُكلّم هذين الرجلين، فلبس أحد الثوبين، أو كلّم أحد الرجلين ، فإنه لم يحنث بذلك ، لأن يمينه واحدة على مجموع الأمرين.
أما لو قال : والله لا ألبس هذا الثوب، ولا هذا ، أو لا أُكلّم هذا الرجل ، ولا هذا ، فإنه يحنث بلبس أحد الثوبين، أو تكليم أحد الرجلين، لأن إعادة حرف النفي جعلت كلاً منهما مقصوداً باليمين على انفراد.
(3/10)
7- مَن حلف على فعل أمرين اثنين، كأن قال : والله لآكلنّ هذين الرغيفين، أو لأُكلمنّ هذين الشخصين لم يبِرّ بقسَمَه بفعل أحدهما، بل لابدّ لكي يبرّ بقسمه، وينجو من الحنث من أكل الرغيفين، ومكالمة كِلا الشخصين ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
النُّذُور
تعريف النذور :
النذور : جمع نذر، والنذر في اللغة : الوعد بخير أو شر.
وشرعاً : الوعد بخير خاصة.
والنذر في اصطلاح الفقهاء : التزام قُرْبة غير واجبة في الشرع، مطلقاً، أو معلقاً على شيء.
أدلة تشريع النذر :
يدلّ على مشروعية النذر، ولزوم الوفاء به :
القرآن والسُنّة.
أما القرآن، فقول الله عزّ وجلّ في صفات الأبرار : [ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً] ( الدهر : 7).
وقوله تبارك وتعالى : [ وليوفوا نذورهم ] (الحج :29).
وأما السُنّة فقوله - صلى الله عليه وسلم - ، فيما رواه البخاري في [ الأيمان والنذور ـ باب ـ النذر في الطاعة ، رقم : 6318] عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يَعْصِيه".
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الذين لا يوفّون بنذورهم : " إن بعدَكم قوماً يخونون ولا يُؤتمنون، ويَشهدون ولا يُستشهدون، ويَنذُرون ولا يَفُون، ويظهر فيهم السِّمنُ". رواه البخاري في [ الشهادات ـ باب ـ لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، رقم : 2508] ومسلم في [ فضائل الصحابة ـ باب ـ فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، رقم : 2535] عن عمران بن حصين رضي الله عنهما.
[ يظهر فيهم السمن : أي بسبب كثرة المآكل مع الخلود إلى الراحة، وترك الجهاد، وقيل: هو كناية عن التفاخر بمتاع الدنيا].
حكم النذر :
إن النذر مشروع، وهو من نوع القربات، ولذلك قال الفقهاء : إنه لا يصحّ من الكافر.
إلا أن الأفضل أن يباشر الإنسان القربة التي يريدها بدون أن يلزم نفسه بها ، ويجعلها عليه نذراً.
(3/11)
فالصدقة التي يتقرّب بها الإنسان إلى الله تعالى اختياراً، أفضل من الصدقة التي يلتزمها نذراً.
ودليل ذلك ما رواه البخاري في [ القدر ـ باب ـ إلقاء العبد النذر إلى القدر، رقم: 6234] ومسلم في [ النذر ـ باب ـ النهي عن النذر، وأنه لا يردّ شيئاً ، رقم 1639] أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر، وقال: " إنه لا يردُّ شيئاً ، وإنما يُستخرج به من النخيل ".
أي إن النذور المعلّقة لا تغيِّر من قضاء الله شيئاً ، وهو ليس إلا وسيلة يلزم بها البخيل نفسه بالإنفاق والصدقة، لعلمه أنها لو لم تصبح واجبة عليه بالنذر والالتزام، فإنه لن يستطيع أن يتغلب على نفسه في إخراجها.
أنواع النذر :
ينقسم النذر إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول : نذر اللَّجاج :
وهو ما يقع حال الخصومة ، بسائق من الغضب، كأن يقول أثناء خصومته : إن كلمتُ فلاناً، فلله عَلَيَّ صيام شهر.
النوع الثاني : نذر المجازاة: أي المكافأة :
وهو أن يعلّق التزامه بقربةٍ ما على حصول غرض للناذر، دون أن يكون مدفوعاً إلى ذلك بخصومة، أو لجاج، وذلك كأن يقول : إن شفي الله مريضي، فلله عليّ أن أتصدق بشاة.
النوع الثالث : النذر المطلق :
وهو أن يلتزم قربةً ما لله تعالى دون تعليق على حصول غرض له، ودون دافع خصومة، أو غضب، كأن يقول: لله عليّ صيام يوم الخميس.
ويسمى كلٍّ من النوعين: الثاني والثالث، نذر التبرّر، وسمي بذلك، لأن الناذر طلب به البِرّ، والتقرّب إلى الله تعالى.
أحكام كل نوع من أنواع النذر :
أما النوع الأول : وهو نذر اللجاج، فحكمه أن المعلّق عليه إذا وقع وجب على الناذر إنجاز ما التزمه، أو إخراج كفّارة يمين، يختار واحداً منهما، لأن هذا النوع يشبه النذر من جانب كونه التزاماً ، ويشبه اليمين من جانب كونه وسيلة امتناع عن أمر.
(3/12)
ودليل ذلك ما رواه مسلم في [ النذر ـ باب ـ كفارة النذر ، رقم 1645] عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كفارةُ النذرِ كفارةُ اليمينِ ".
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى : حمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج.
أما النوع الثاني : وهو نذر المجازاة، فحكمه أن المعلق عليه إذا وقع ؛ كأن شفى الله مريضه، أو قَدِم غائبه، وجَبَ على الناذر إنجاز ما قد التزمه، لا يغنيه عن ذلك شيء.
ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ : [وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ ] ( النحل : 91). وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من نذر أن يطيع الله فليُطِعه". رواه البخاري في [ الأيمان والنذور ـ باب ـ النذر في الطاعة ، رقم 6318] عن عائشة رضي الله عنها.
وأما النوع الثالث: وهو النذر المطلق، وهو القسم الثاني من نذر التبرّر، فحكمه أنه يجب على الناذر تحقيق ما التزمه مطلقاً، أي دون أيّ تعليق على شيء.
ودليل ذلك عموم الأدلة المتقدمة، إلا أن له أن يتأخَّر في الوفاء به ما لم يصل إلى زمن يغلب فيه على ظنه أنه لن يتمكن من الوفاء.
وليس له أن يستبدل به كفّارة يمين، لأن معنى اليمين مفقودة في هذا النوع من النذور.
شروط النذر :
للنذر شروط من حيث هو نذر: أي بقطع النظر عن أنواعه الثلاثة.
وتتلخص هذه الشروط فيما يلي:
أولاً :من حيث الناذر : ويشترط فيه ثلاثة شروط:
1- الإسلام :
فلا يصحّ النذر من كافر، لأن الكافر ليس أهلاً لاكتساب القربات، إذ لا تصح منه ما دام كافراً.
2- التكليف :
فلا يصح النذر من الصبي والمجنون، لأن كلاً منهما ليس أهلاً للالتزام، فمهما ألزم كل واحد منهما نفسه بقربة، أو أوجبها على نفسه، فإنها لا تصبح بذلك واجبة عليه، لأنه ليس أهلاً لذلك، لكونه غير مكلف شرعاً.
3- الاختيار :
(3/13)
فلا يصحّ النذر من المُكرَه، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه " رواه ابن ماجه في [ الطلاق ـ باب ـ طلاق المكره والناسي ، رقم 2045] وصحّحه ابن حبّان والحاكم ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - .
أي وضع عنهم حكم ذلك ، وما ينتج عنه.
ثانياً :
من حيث المنذور : ويشترط فيه الشرطان التاليان :
1- أن يكون المنذور قربه :
فلا نذر في المباحات، وهي الأمور التي لا يترتب على فعلها أو تركها ثواب أو عقاب، فلو نذر فعل مُباح، أو تركه: كأكل ، ونوم لم يلزمه الفعل، ولا الترك، وليس عليه شيء.
ودليل ذلك ما رواه البخاري في [ الأيمان والنذور ـ باب ـ النذر فيما لا يملك وفي معصية، رقم : 6326] عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بينما النبي- صلى الله عليه وسلم - يخطب، إذ هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا :أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد ، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :" مره فليتكلم ، وليستظل ، وليقعد، وليتمّ صومه".
وإنما أمره بإتمام الصوم، لأن الصوم طاعة، ويلزمه الوفاء بها إذا نذرها.
وكذلك لا نذر في المحرمات: كالقتل ، والزنى...
ولا في المكروهات : كأن نذر أن يترك السُنن الرواتب مثلاً، لأن فعل المحرم، أو المكروه ليس مما يبتغي به وجه الله عزّ وجلّ.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" لا نذر في معصية الله ". رواه مسلم في [ النذر ـ باب ـ لا وفاء لنذر في معصية الله ، رقم : 1641] وقد سبق ما رواه البخاري في [ الأيمان والنذور ـ باب ـ النذر في الطاعة ، رقم: 6318] عن عائشة رضي الله عنها: " … ومن نذر أن يَعصِيَه ، فلا يعصِهْ".
وقال عليه الصلاة والسلام :" لا نذر إلا فيما ابُتغِيَ به وجه الله ". رواه أبو داود في [ الأيمان والنذور ـ باب ـ اليمين في قطيعة الرحم، رقم : 3273].
2- أن لا يكون المنذور من الواجبات العينية ابتداءاً:
(3/14)
فلو نذر أن يصلي صلاة الظهر، أو أن يُخرج زكاة ماله، كان ذلك النذر باطلاً، إذ ليس له من أثر جديد على المنذور، لكونه واجباً في حق الناذر ابتداءاً دون حاجة إلى النذر، فلا معنى لإيجابه.
وخرج بالواجبات العينية الواجبات الكفائية، فيجوز النذر بها، كما لو نذر الصلاة على جنازة، أو تعَلُّمَ علمٍ مما يجب على المسلمين تعلّمه على سبيل الكفاية كالطب، والصناعات.
ذلك لأن النذر يُخرِج هذا المنذور من مستوى الفرض الكفائي، إلى الفرض العيني، في حق الناذر.
الآثار المترتبة على النذر الصحيح :
إذا صحّ النذر: بأن توفرت فيه الشرائط التي ذكرناها، وجب على الناذر تحقيق ما التزم به ، عند حصول الشيء المعلّق به في النذر المعلّق، ومطلقاً، في النذر الناجز، أي المطلق.
ويجب عليه من ذلك ما يقع عليه الاسم شرعاً، سواء كان المنذور صلاة، أو صياماً، أو صدقة، أو غير ذلك.
فلو نذر صلاة، ولم يقيدها بكيفية، أو عدد وجب عليه ركعتان من قيام إذا كان قادراً على القيام، وذلك حملاً على أقل واجب الشرع.
أما لو نذر عدداً من الركعات، أو نذر الصلاة من قعود وجب عليه التزام القدر الذي حدّده، والكيفية التي حدّدها، لكن لو صلاها من قيام كان أفضل.
ولو نذر صوماً مطلقاً، فأقل ما يقع عليه الاسم من ذلك صوم يوم واحد.
أما إن نذر صوم أيام دون تحديد لعدد هذه الأيام، فأقل ما يجب عليه الصوم ثلاثة أيام، لأنها أقل الجمع.
ولو نذر صدقة، وجب عليه أن يتصدق بأقل مُتَمَوِّل من ممتلكاته، على مَن هو أهل للزكاة، كالفقراء، والمساكين.
أما إن قيّد القربة التي التزمها بحال معينة، أو زمن معين، أو عدد معين، فالأصل عندئذٍ وجوب ما قد التزمه، على الكيفية والحال التي نصّ عليها.
فإن نذر التصدّق على أهل بلد معينة، وجب عليه التصدّق عليهم بأعيانهم، ولم يَجُزْ له صرف صدقته إلى أهل بلدة أخرى.
(3/15)
أو نذر الاعتكاف في مسجد معين ، فإن كان أحد المساجد الثلاثة : المسجد الحرام، والمسجد النبوي ، والمسجد الأقصى ، وجب عليه الاعتكاف في المسجد الذي عيّنه منها، وذلك لفضيلة هذه المساجد على غيرها.
ودليل فضيلتها على غيرها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ومسجد الأقصى " . أخرجه البخاري في
[ أبواب التطوّع ـ باب ـ فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، رقم 1132] ومسلم في [ الحج ـ باب ـ فضل الصلاة بمسجد مكة والمدينة ، رقم : 1394].
وإن عيّن في نذره مسجداً غير هذه المساجد الثلاثة، وجب عليه أن يعتكف في أيّ المساجد شاء، لأن أجر الاعتكاف لا يختلف بين بلدة وأخرى، أو مسجد وآخر.
وإن نذر حجاً، أو عمرة، لزمه أن يفعل ذلك بنفسه، إن كان قادراً على ذلك بنفسه، فإن كان عاجزاً عن الحج أو العمرة بنفسه استناب من يحج عنه، أو يعتمر، ولو بأجرة، كما يجب عليه ذلك في حجة الفريضة إذا عجز عن أدائها بنفسه، استناب من يحج عنه.
ويندب تعجيله بالوفاء بما نذره، في أول فرصة تسنح له، مبادرة إلى براءة ذمته.
فإن تمكن من الحج أو العمرة فأخّر أداءها فمات حُجَّ عنه أو اعتمر من ماله ، لتقصيره بعد حصول التمكّن.
أما إذا مات قبل التمكّن من الحج أو العمرة فلا شيء عليه، لعدم تقصيره حينئذٍ.
وإن نذر أن يحج، أو يعتمر ماشياً لزمه المشي إن كان قادراً على المشي، لأنه التزم جعل المشي وصفاً للعبادة ، فهو كما لو نذر أن يصوم متتابعاً.
أما إذا لم يكن قادراً على المشي، فإنه لا يلزمه المشي، بل يجوز له الركوب، لعجزه عن المشي.
عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال : نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله ، وأمرتني أن أستفتي لها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فاستفتيته ، فقال عليه الصلاة والسلام: " لتمشِ ، ولتركبْ".
(3/16)
أخرجه البخاري في [ الإحصار، وجزاء الصيد ـ باب ـ من نذر المشي إلى الكعبة، رقم : 1767] ومسلم في [ النذر ـباب ـ من نذر أن يمشي إلى الكعبة، رقم : 1644].
ولو نذر أن يهدي شيئاً من نَعَم: وهي الإبل والبقر والغنم والمَعِز، أو مالٍ إلى مكة لزمه حمله إليه، ولزمه التصدّق به على مَن بها من الفقراء والمساكين، سواء أكانوا من أهلها، أم من الوافدين إليها.
ولو نذر أن يذبح شاة في بلد غير مكة ويفرقها فيها، لزمه الذبح في تلك البلد، وتفريق لحمها على مساكينها، ما دام قد نوى الذبح والتفرقة فيها، لأن الذبح وسيلة إلى التفرقة المقصودة، فلما جعل مكان الذبح مكان التفرقة، اقتضى تعيين الذبح فيها تبعاً لتفريق لحمها فيها.
ولو نذر شمعاً، لتوقد في المشاهد التي بُنيت على قبور الصالحين والأولياء، فإن قصد الناذر بذلك التنوير على من يسكن هناك من الناس ، أو يتردد إليها صحّ نَذْره، ولزمه ذلك، وإن قصد به الإيقاد على القبر، ولو مع قصد التنوير على الناس، فلا يصح نذره.
وإن قصد به تعظيم البقعة، أو القبر، أو التقرّب إلى مَن دُفن فيها، أو نسبت إليه، فهذا نذر باطل غير منعقد.
النذر المطلق لا يتحدد بوقت :
إذا كان النذر مطلقاً عن تحديد الزمان، فإن وجوبه يكون من نوع الواجب الموسّع، أي فللناذر أن يتأخر في الوفاء بنذره ما دامت الفرصة سانحة له ، ولم يغلب على ظنه أن التراخي سيحول دون قدرته على الوفاء بالنذر.
إلا أن يسنّ تعجيل الوفاء بالنذر، وإن كانت الفرصة لا تزال سانحة ومتّسعة، وذلك مسارعة إلى براءة ذمته من النذر. أما إذا كان النذر مقيداً بزمن مخصوص، وجب التقيد بذلك الزمن، فإن أخّر الوفاء به عن ذلك الزمن بدون عذر أثم، ووجب عليه القضاء، وإن أخّر لعذر، لم يأثم، ووجب عليه القضاء أيضاً في أيّ فرصة ممكنة.
والله تعالى اعلم.
الصَّيْد وَالذّبَائِح
الصَّيْد
تعريف الصيد :
(3/17)
الصيد في الأصل : مصدر صاد يصيد صيداً : أي قنصه، وأخذه خِلْسة، وبحيلة ، سواء أكان مأكولاً، أم غير مأكول.
ثم أريد به اسم المفعول، أي المصيد.
قال الله تبارك وتعالى : [لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ] ( المائدة: 95). [ أي: المصيد].
والصيد في اصطلاح الفقهاء خاص بما كان مأكولاً.
مشروعية الصيد :
الصيد مشروع، والأصل الدّال على مشروعيته، قول الله عزّ وجلّ:[ ُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ](المائدة :1).
وقوله سبحانه وتعالى : [وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ]( المائدة:2).
فإن الآية الأولى حصرت المنع من الصيد في حالة الإحرام، والآية الثانية صرّحت بإباحة الصيد بعد التحلّل من الإحرام.
وقوله تبارك وتعالى :[ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ].
( المائدة : 4). [ مكلبين : معلمين لها الصيد، وسمي التعليم هنا تكليباً ، لأنه أكثر ما يكون في الكلاب].
الحكمة من مشروعية الصيد :
اعلم أن الوسائل التي حدّدها الشارع لحل أكل الحيوانات، من تذكية: أي ذبح، وصيد ونحوهما داخلة في قسم التعبدات المحضة، وليست قائمة على شيء من العلل والمصالح التي تقوم على أمثالها أحكام المعاملات. غير أن للباحث أن يستجلي بعض الحِكَم من حلِّ أكل بعض الحيوانات دون بعضها الآخر، ومن مشروعية الصيد إلى جانب مشروعية التذكية بالذبح، فإن كثيراً من العبادات يمكن للباحث الوقوف على بعض أسرارها وحكمها.
(3/18)
وحكمة مشروعية الصيد تشبه الحكمة من مشروعية ذكاة الضرورة، أي التذكية الاضطرارية، التي سنتحدث عنها فيما بعد.
إذ لمّا كان في الحيوانات التي استطابتها العرب، وأقرّت الشريعة الإسلامية أكلها، ما هو وحشي، وغير أليف، يصعب إخضاعه للتذكية العادية يسّر الله سبحانه وتعالى على الناس سبيل الحصول على هذه الحيوانات عن طريق القنص والصيد، وأقام ذلك مقام التذكية الأصلية، إن لم يتمكن الصائد منها.
وفي ذلك من التيسير على الناس ما لا يخفى ألطافه وفوائده على أي متأمِّل وباحث.
ما يحلّ من الصيد وما لا يحلّ :
الأصل حلّ الصيد بأنواعه، مهما كان نوع الحيوانات المُصادة، ودليل ذلك عموم ما يدل عليه قول الله تعالى: [وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ] ( المائدة :2).
إلا أنه يستثنى من عموم ذلك ما يلي :
1- صيد الحيوانات التي لا يحلّ أكلها، ولا يجوز قتلها، مما لا يعدّ ضارّاً، ولا مؤذياً، إذا كانت وسيلة الصيد من شأنها أن تؤذي الحيوان، أو تعطبه، أو تقتله.
فإن كانت وسيلة الصيد غير مؤذية: كشباك ونحوه، لم يحرم.
2- كل صيد يُبتغي منه مجرد العبث إذا كان بقتل، أو إعطاب، سواء كان الحيوان مما يحلّ أكله، أو مما يحرّم: كمن خرج لصيد الطيور لا يريد من ذلك إلا التسلية والعبث، وليس له في الأكل منها أيّ غرض، أو قصد.
3- صيد الحيوانات البرية المأكولة بالنسبة للمُحِرم، سواء كان ذلك بالقتل، أو الإعطاب، أو بمجرد وضع اليد عليه.
ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ: [لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ] ( المائدة : 95). كما يحرّم أيضاً الصيد في الحرم، ولو كان الصائد غير مُحِرم.
ودليل ذلك ما رواه البخاري في [ كتاب الحج ـ باب ـ فضل الحرم، رقم : 1510] وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله ، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها".
(3/19)
[ هذا البلد: مكة المكرمة.
حرمه الله : جعله الله حراماً، يحرم فيه ما ذكر في الحديث، وجعل له أيضاً حرمة وتعظيماً.
لا يعضد : لا يقطع ويكسر.
لا ينفر صيده : لا يزعج من مكانه، ولا يحل صيده.
لا يلتقط : لا يأخذ.
لقطته : ما سقط فيه.
عرفها : نادى عليها، حتى يجيء صاحبها، ولا يأخذها ليتملكها].
أما صيد ما لا يؤكل لحمه، فلا إثم فيه على المُحرِم إذا كان مؤذياً، أو لم يكن مؤذياً، وكان صيده مجرد وضع اليد عليه.
والمقصود بحُرمة صيد الحيوان في هذه الحالات الثلاث المذكورة استلزامه الإثم، بقطع النظر عن أثر ذلك في تحريم أكله، إذ ليس بينهما أي تلازم.
الوسيلة المشروعة في الاصطياد :
ويقصد بالوسيلة المشروعة في الاصطياد، ما يترتب على اصطياد الحيوان بها جواز أكله، وبالوسيلة غير المشروعة ما لا يترتب على الاصطياد بها جواز ذلك.
ووسيلة الاصطياد المشروعة تكون بواحدة من السببين التاليين :
الأول : كل ما يجرح من محدَّد :
سواء كان حديداً ، أو رصاصاً، أو قصباً، أو زجاجاً، أو غير ذلك مما يجرح الحيوان.
ودليل ذلك ما رواه رافع بن خديج - رضي الله عنه - ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما أنهر الدَّمَ، وذكر اسم الله عليه فكُلُوه". أخرجه البخاري في [ الشركة ـ باب ـ قسمة الغنم، رقم :2356] ومسلم في [ الأضاحي ـ باب ـ جواز الذبح بكل ما انهر الدم، رقم: 1968]. [ ومعنى أنهر الدم : أي أساله].
فلو كان ما يُصاد به شيئاً لا حدّ له، وإنما يقتل بضغطه، وأو بثقلة: كحجر لا حدّ فيه، أو كان شيئاً يقتل بالحرق، ومات الحيوان بسببه لم يجز أكله.
أما إذا لم يمت الحيوان به : كأن أصاب منه جناحاً، أو قدماً، ثم أدركه الصائد حياً، فذكاه الذكاة المشروعة، التي سنتحدث عنها، أو رماه بشيء يقتل بحدِّه:كسكّين وسهم، ونحوهما، فإنه يجوز أكله.
الثاني : إرسال جارحة من سباع البهائم أو جوارح الطير :
الكلمات المفتاحية :
الفقه الشافعي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: