بَاب الصحبة
قَالَ
اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ
لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] قَالَ الأستاذ
الإِمَام أَبُو القاسم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لما أثبت سبحانه للصديق رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ الصحبة بَيْنَ أَنَّهُ
أظهر عَلَيْهِ الشفقة فَقَالَ تَعَالَى:
{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] فالحر
شفيق عَلَى من يصحبه.
أَخْبَرَنَا
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ
الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَي بْنُ مُحَمَّدٍ الْجِيَانِيُّ قَالَ:
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ
سَالِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتَى أَلْقَى أَحْبَابِي؟ فَقَالَ أَصْحَابُهُ: بِأَبِينَا
أَنْتَ وَأُمِّنَا أَوَلَسْنَا أَحْبَابَكَ؟ فَقَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي،
أَحْبَابِي قَوْمٌ لَمْ يَرُونِي وَآمَنُوا بِي وَأَنَا إِلَيْهِمْ بِالأَشْوَاقِ
لأَكْثَرَ.
والصحبة
عَلَى ثلاثة أقسام: صحبة مَعَ من فوقك وَهِيَ فِي الحقيقة خدمة وصحبة مَعَ من دونك
وَهِيَ تقضي عَلَى المتبوع بالشفقة والرحمة وعلى التابع بالوفاق والحرمة وصحبة
الأكفاء والنظراء وَهِيَ مبنية عَلَى الإيثار والفتوة فمن صحب شيخا فوقه فِي
الرتبة فأدبه ترك الاعتراض وحمل مَا يبدو منه عَلَى وجه جميل وتلقى أحواله
بالإيمان بِهِ
سمعت
مَنْصُور بْن خلف المغربي وسأله بَعْض أَصْحَابنا كم سنة صحبت أبا عُثْمَان
المغربي فنظر إِلَيْهِ شزرا وَقَالَ: إني لَمْ أصحبه بَل خدمته مدة وَأَمَّا إِذَا
صحبك من هُوَ دونك فالخيانة منك فِي حق صحبته أَن لا تنبهه عَلَى مَا فِيهِ من
نقصان فِي حالته.
كتب أَبُو
الخير التبناتي إِلَى جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن نصير: وزر جهل الفقراء عليكم لأنكم
اشتغلتم بنفوسكم عَن تأديبهم فبقوا جهلة.
وَأَمَّا
إِذَا صحبت من هُوَ فِي درجتك فسبيلك التعامي عَن عيوبه وحمل مَا ترى منه عَلَى
وجه من التأويل جميل مَا أمكنك فَإِن لَمْ تجد تأويلا عدت إِلَى نفسك بالتهمة وإلى
التزام اللائمة.
سمعت
الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: قَالَ أَحْمَد بْن أَبِي الحواري قُلْت: لأبي
سُلَيْمَان الداراني: إِن فلانا لا يقع من قلبي، فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: وليس يقع
أَيْضًا من قلبي ولكن يا أَحْمَد لعلنا أتينا من قبلنا لسنا من جملة الصالحين
فلسنا نحبهم وقيل: صحب رجل إِبْرَاهِيم بْن أدهم فلما أراد أَن يفارقه قَالَ لَهُ
الرجل: إِن رأيت فِي عيبا فنبهني عَلَيْهِ فَقَالَ إِبْرَاهِيم: إني لَمْ أر بك
عيبا لأني لاحظتك بعين الوداد فاستحسنت منك مَا رأيت فسل غيري عَن عيبك، وَفِي
معناه أنشدوا:
وعين الرضا
عَن كُل عيب كليلة ... ولكن
عين السخط تبدي المساويا
وحكى عَن
إِبْرَاهِيم بْن شيبان أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا لا نصحب من يَقُول نعلي.
سمعت أبا
حاتم الصوفي يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: قَالَ أَبُو أَحْمَد القلانسي
وَكَانَ من أستاذي الجنيد صحبت أقواما بالبصرة فأكرموني فَقُلْتُ مرة لبعضهم: أين
إزاري فسقطت من أعينهم.
وسمعت أبا
حاتم يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: سمعت الدقي يَقُول: سمعتا لزقاق يَقُول
منذ أربعين سنة أصحب هَؤُلاءِ فَمَا رأيت رفقا لأَصْحَابنا إلا من بَعْضهم لبعض
أَوْ مِمَّن يحبهم ومن لَمْ يصحبه التقوى والورع فِي هَذَا الأمر أكل الحرام النص.
سمعت
الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: قَالَ رجل لسهل بْن عَبْد اللَّهِ: أريد أَن
أصحبك يا أبا مُحَمَّد فَقَالَ: إِذَا مَات أحدنا فمن يصحبه الباقي فَقَالَ: اللَّه تَعَالَى فَقَالَ: فليصحبه الآن.
وصحب رجل
رجلا مدة ثُمَّ بدا لأحدهما المفارقة فاستأذن صاحبه فَقَالَ: بشرط أَن لا تصحب
أحدا إلا إِذَا كَانَ فوقنا وإن كَانَ أَيْضًا فوقنا فلا تصحبه لأنك صحبتنا أولا
فَقَالَ الرجل: زال من قلبي إرادة المفارقة.
سمعت أبا
حاتم الصوفي يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: سمعت الدقي يَقُول: سمعت الكتاني
يَقُول صحبني رجل وَكَانَ عَلَى قلبي ثقيلا فوهبت لَهُ شَيْئًا ليزول مَا فِي قلبي
فلم يزل فحملته إِلَى بَيْتِي وقلت لَهُ: ضع رجلك الآن عَلَى خدي فأبي فَقُلْتُ:
لابد ففعل واعتقدت أَن لا يرفع رجله من خدي حَتَّى يرفع اللَّه تَعَالَى من قلبي
مَا كنت أجده فلما زال عَن قلبي مَا كنت أجده قُلْت لَهُ: ارفع رجلك الآن وَكَانَ
إِبْرَاهِيم بْن أدهم يعمل فِي الحصاد وحفظ البساتين وغيره ويتفق عَلَى أَصْحَابه
وقيل: كَانَ مَعَ جَمَاعَة من أَصْحَابه فكان يعمل بالنهار وينفق عَلَيْهِم
ويجتمعون بالليل فِي موضع وَهُوَ صيام فكان يبطئ فِي الرجوع من العمل فَقَالُوا
ليلة تعالوا نأكل فطورنا دونه حَتَّى يعود بَعْد هَذَا أسرع فأفطروا وناموا فلما
رجع إِبْرَاهِيم وجدهم نياما فَقَالَ: مساكين لعلهم لَمْ يكن لَهُمْ طَعَام فعمد
إِلَى شَيْء من الدقيق كَانَ هناك فعجنه وأوقد عَلَى النار ووضع الملة فانتبهوا
وَهُوَ ينفخ فِي النار واضعا محاسنه عَلَى التراب فَقَالُوا لَهُ: فِي ذَلِكَ
فَقَالَ: قُلْت: لعلكم لَمْ تجدوا فطورا فنمتم فأحببت أَن تستيقظوا والملة قَدْ
أدركت فَقَالَ بَعْضهم لبعض: انظروا إيش الَّذِي عملنا وَمَا الَّذِي بِهِ يعاملنا
وقبل كَانَ إِبْرَاهِيم بْن أدهم إِذَا صحبه أحد شارطه عَلَى ثلاثة أشياء أَن تكون
الخدمة والأذان لَهُ وأن تكون يده فِي جَمِيع مَا يفتح اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِم
من الدنيا كيدهم فَقَالَ لَهُ يوما رجل من أَصْحَابه: أنا لا أقدر عَلَى هَذَا
فَقَالَ: أعجبني صدقك وَقَالَ يُوسُف بْن الْحُسَيْن: قُلْت لذي النون: مَعَ من
أصحب؟ فَقَالَ: مَعَ من لا تكتمه شَيْئًا يعلمه اللَّه تَعَالَى منك - وَقَالَ سهل
بْن عَبْد اللَّهِ لرجل: إِن كنت مِمَّن يخاف السباع فلا تصبحني
سمعت
مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحَسَن العلوي يَقُول:
حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن حمدان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو القاسم بْن منبه
قَالَ: سمعت بشر بْن الحرث يَقُول: صحبة الأشرار توجب سوء الظن بالأخيار.
وحكى الجنيد
قَالَ لما دَخَلَ أَبُو حفص بغداد كَانَ مَعَهُ إِنْسَان أصلع لا يتكلم بشيء فسألت
أَصْحَاب أَبِي حفص عَن حاله فَقَالُوا هَذَا رجل أنفق عَلَيْهِ مائة ألف درهم
واستدان مائة ألف درهم أنفقها عَلَيْهِ ولا يرخص أَبُو حفص لَهُ أَن يتكلم بحرف
وَقَالَ ذو النون لا تصحب مَعَ اللَّه تَعَالَى إلا بالموافقة ولا مَعَ الخلق إلا
بالمناصحة ولا مَعَ النفس إلا بالمخالفة ولا مَعَ الشَّيْطَان إلا بالعداوة.
وَقَالَ رجل
لذي النون: مَعَ من أصحب؟ فَقَالَ: مَعَ من إِذَا مرضت عادك وإذا أذنبت تاب عليك.
سمعت
الأستاذ أبا عَلِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: الشجر إِذَا نبت بنفسه وَلَمْ يستنبته
أحد يورق ولكنه لا يثمر كذاك المريد إِذَا لَمْ يكن لَهُ أستاذ يتخرج بِهِ لا يجئ
منه شَيْء، وَكَانَ الأستاذ أَبُو عَلِي يَقُول: أخذت هَذَا الطريق عَنِ
النصرأباذي والنصراباذي , عَنِ الشبلي والشبلي , عَنِ الجنيد والجنيد , عَنِ السري
والسري , عَن معروف الكرخي , ومعروف الكرخي , عَن دَاوُد الطائي , وَدَاوُد الطائي
لقى التابعين.
وسمعته
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول: لَمْ أختلف إِلَى مجلس النصرأباذي قط إلا
اغتسلت قبله قَالَ الأستاذ أَبُو القاسم القشيري: وَلَمْ أدخل أنا عَلَى أستاذ
أَبِي عَلِي فِي وقت بدايتي إلا صائما وكنت أغتسل قبله وكنت أحضر بَاب مدرسته
غَيْر مرة فأرجع من الباب احتشاما منه أَن أدخل عَلَيْهِ فَإِذَا تجاسرت مرة ودخلت
المدرسة كنت إِذَا بلغت وسط المدرسة يصحبني شبه خدر حَتَّى لو غرز فِي إبرة مثلا
لعلي كنت لا أحس بِهَا , ثُمَّ إِذَا قعدت لواقعة وقعت لي لَمْ أحتج أَن أسأله
بلساني عَنِ المسألة , فكما كنت أجلس كَانَ يبتدئ بشرح واقعتي وغير مرة رأيت منه
هَذَا عيانا وكنت أفكر فِي نفسي كثيرا أَنَّهُ لو بعث اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي
وقتي رسولا إِلَى الخلق هل يمكنني أَن أزيد من حشمته عَلَى قلبي فَوْقَ مَا كَانَ
منه رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فكان لا يتصور لي أَن ذَلِكَ ممكن ولا أذكر أني فِي
طول اخْتِلاف إِلَى مجلسه ثُمَّ كوني مَعَهُ بَعْد حصول الوصلة أَن جرى فِي قلبي
أَوْ خطر ببالي عَلَيْهِ قط اعتراض إِلَى أَن خرج رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى من
الدنيا.
أَخْبَرَنَا
حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ السَّهْمِيّ الْجُرْجَانِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ , قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد العبدي , قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عوانة ,
قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُس , قَالَ: حَدَّثَنَا خلف بْن تميم أَبُو الأحوص عَن
مُحَمَّد بْن النضر الحارثي قَالَ: أوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلام كن يقظانا مرتادا لنفسك أخدانا وكل خدن لا يؤاتيك عَلَى مسرة فأقصه ولا
تصحبه , فَإِنَّهُ يقسي قلبك وَهُوَ لَك عدو وأكثر من ذكري تستوجب عَلَى شكري
والمزيد من فضلي.
سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن المعلم , يَقُول:
سمعت أبا بَكْر الطمستاني , يَقُول: اصحبوا مَعَ اللَّه تَعَالَى فَإِن لَمْ تطيقوا فاصبحوا مَعَ من
يصحب مَعَ اللَّه تَعَالَى لتوصلكم بركات صحبتهم إِلَى صحبة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
الكلمات المفتاحية :
التربية و السلوك
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: