باب الشكر
قَالَ
اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]
حَدَّثَنَا
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الصَّفَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَسْفَاطِيُّ قَالَ:
حَدَّثَنَا مِنْجَابٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَي بْنُ يَعْلَى , عَنْ أَبِي
خَبَّابٍ
, عَنْ عَطَاءٍ , قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَقُلْتُ: أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ مَا
رَأَيْتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَبَكَتْ،
وَقَالَتْ: وَأَيُّ شَأْنِهِ لَمْ يَكُنْ عَجَبًا إِنَّهُ أَتَانِي فِي لَيْلَةٍ
فَدَخَلَ مَعِي فِي فِرَاشِي أَوْ قَالَتْ: فِي لِحَافِي حَتَّى مَسَّ جِلْدِي
جِلْدَهُ ثُمَّ قَالَ: يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ ذَرِينِي أَتَعَّبَدُ لِرَبِّي.
قَالَتْ:
قُلْتُ: إِنِّي أُحِبُّ قُرْبَكَ.
فَأَذِنْتُ
لَهُ , فَقَامَ إِلَى قِرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ وَأَكْثَرَ صَبَّ الْمَاءِ،
ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَبَكَى حَتَّى سَالَتْ دُمُوعَهُ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ
رَكَعَ فَبَكَى ثُمَّ سَجَدَ فَبَكَى، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَبَكَى فَلَمْ
يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى جَاءَ بِلالٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلاةِ، فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، مَا يُبْكِيكَ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا وَلِمَ لا
أَفْعَلُ وَقَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل
عمران: 190] الآيَةَ
قَالَ
الأستاذ: حقيقة الشكر عِنْدَ أهل التحقيق الاعتراف بنعمة المنعم عَلَى وجه الخضوع
وعلى هذا القول يوصف الحق سبحانه بأنه شكور توسعا ومعناه أَنَّهُ يجازى الْعِبَاد
عَلَى
الشكر فسمى
جزاء الشكر شكرا كَمَا قَالَ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:
40] .
وقيل: شكره
إعطاؤه الكثير من الثوابت عَلَى العمل اليسير من قولهم دابة شكور إِذَا أظهرت من
السمن فَوْقَ مَا تعطى من العلف ويحتمل أَن يقال: حقيقة الشكر الثناء على المحسن
بذكر إحسانه فشكر العبد لِلَّهِ تَعَالَى ثناؤه عَلَيْهِ بذكر إحسانه إِلَيْهِ
وشكر الحق سبحانه للعبد ثناؤه عَلَيْهِ بذكر إحسانه لَهُ ثُمَّ إِن إحسان العبد
طاعته لِلَّهِ تَعَالَى وإحسان الحق إنعامه عَلَى العبد بالتوفيق للشكر لَهُ وشكر
العبد عَلَى الحقيقة إِنَّمَا هُوَ نطق اللسان وإقرار القلب بإنعام الرب تَعَالَى
والشكر ينقسم إلى شكر باللسان وَهُوَ أعترافه بالنعمة بنعت الاستكانة وشكر بالبدن
والأركان وَهُوَ اتصاف بالوفاق والخدمة وشكر القلب وَهُوَ اعتكاف عَلَى بساط
الشهود بإدامة حفظ الحرمة ويقال: شكر هُوَ شكر العاملين يَكُون من جملة أقوالهم
وشكر هُوَ نعت العابدين يَكُون نوعا من أفعالهم وشكر هُوَ شكر العارفين يَكُون
باستقامتهم لَهُ فِي عموم أحوالهم وَقَالَ أَبُو بَكْر الوراق شكر النعمة مشاهدة
المنة وحفظ الحرمة وَقَالَ حمدون القصار شكر النعمة أَن ترى نفسك فِيهِ طفيليا
وَقَالَ الجنيد: الشك فِيهِ علة لأنه طَالِب لنفسه المزيد فَهُوَ واقفا مَعَ
اللَّه تَعَالَى عَلَى حظ نَفْسه وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: الشكر معرفة العجز عَنِ
الشكر ويقال: الشكر عَلَى الشكر أتم من الشكر وَذَلِكَ بأن ترى شكرك بتوفيقه ويكون
ذَلِكَ التوفيق من أجل النعم عليك فتشكره عَلَى الشكر ثُمَّ تشكره عَلَى شكر الشكر
إِلَى مالا يتناهى وقيل: الشكر إضافة النعم إِلَى موليها بنعت الاستكانة.
وَقَالَ
الجنيد: الشكر أَن لا ترى نفسك أهلا للنعمة وَقَالَ رويم الشكر استفراغ الطاقة.
وقيل:
الشاكر الَّذِي شكر عَلَى الموجود والشكور الَّذِي يشكر عَلَى المفقود ويقال:
الشاكر الَّذِي يشكر على الرفد والشكور الَّذِي يشكر عَلَى الرد ويقال: الشاكر
الَّذِي يشكر على النفع والشكور الَّذِي يشكر على المنع ويقال: الشاكر الَّذِي
يشكر عَلَى العطاء والشكور الَّذِي يشكر عَلَى البلاء ويقال: الشاكر الَّذِي يشكر
عِنْدَ البذل والشكور الَّذِي يشكر عِنْدَ المطل.
سمعت الشيخ
أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت الأستاذ أبا سهل الصعلوكي يَقُول: سمعت
المرتعش يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول كنت بَيْنَ يدي السري ألعب وأنا ابْن سبع سنين
وبين يديه جَمَاعَة يتكلمون فِي الشكر فَقَالَ لي: يا غلام مَا الشكر فَقُلْتُ:
أَن لا تعصى اللَّه بنعمة فَقَالَ: يوشك أَن يَكُون حظك من اللَّه تَعَالَى لسانك.
قَالَ
الجنيد: فلا أزال أبكي عَلَى هذه الكلمة الَّتِي قالها السري.
وَقَالَ
الشبلي: المنعم لا روية النعمة وقيل: الشكر قيد الموجود وصيد المفقود وَقَالَ
أَبُو عُثْمَان شكر العامة عَلَى المطعم والملبس وشكر الخواص عَلَى مَا يرد عَلَى
قلوبهم من المعاني.
وقيل: قَالَ
دَاوُد عَلَيْهِ السَّلام إلهي كَيْفَ أشكرك وشكري لَك نعمة من عندك فأوحى اللَّه
إِلَيْهِ: الآن قَدْ شكرتني وقيل: قَالَ موسي عَلَيْهِ السَّلام فِي مناجاته: إلهي
خلقت آدم بيدك فعلت وفعلت , فكيف شكرك فَقَالَ: علم أَن ذَلِكَ منى فكانت معرفته
بِذَلِكَ شكره لي.
وقيل: كَانَ
لبعضهم صديق فحبسه السلطان فأرسل إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ صاحبه:
أشكر اللَّه
تَعَالَى فضرب الرجل فكتب إِلَيْهِ فَقَالَ: اشكر اللَّه تَعَالَى فجئ بمجوسي
مبطون وقيد وجعلت حلقة من قيده عَلَى رجل هَذَا وحلقه عَلَى رجل المجوسي فكان يقوم
المجوسي بالليل مرات وَهَذَا يحتاج أَن يقوم عَلَى رأسه حَتَّى يفرغ فكتب إِلَى
صاحبه فَقَالَ: أشكر اللَّه تَعَالَى فَقَالَ: إِلَى مَتَى تقول وأي بلاء فَوْقَ
هَذَا فَقَالَ لَهُ صاحبه: لو وضع الزنار الَّذِي فِي وسطه فِي وسطك كَمَا وضع
القيد الَّذِي فِي رجله فِي رجلك ماذا كنت تصنع؟ .
وقيل:
دَخَلَ رجل عَلَى سهل بْن عَبْد اللَّهِ فَقَالَ: إِن اللص دَخَلَ داري وأخذ متاعي
فَقَالَ: اشكر اللَّه تَعَالَى لو دَخَلَ اللص قلبك وَهُوَ الشَّيْطَان وأفسد التوحيد
ماذا كنت تصنع.
وقيل: شكر
العينين أَن تستر عيبا تراه بصاحبك وشكر الأذنين أَن تستر عيبا تسمعه فِيهِ.
وقيل: الشكر
التلذذ بثنائه عَلَى مَا لَمْ يستوجبه من عطائه.
سمعت السلمي
يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن يَحْيَي
يَقُول: سمعت جعفرا يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: كَانَ السري إِذَا أراد أَن
ينفعني يسألني فَقَالَ لي يوما: يا أبا القاسم إيش الشكر؟ فَقُلْتُ: أَن لا يستعان
بشيء من نعم اللَّه تَعَالَى عَلَى معاصيه فَقَالَ: من أين لَك هَذَا؟ فَقُلْتُ من
مجالستك وقيل: التزم الْحَسَن بْن عَلِيّ الركن وَقَالَ: إلهي نعمتني فلم تجدني
شاكرا وابتليتني فلم تجدني صابرا فلا أَنْتَ سلبت النعمة بترك الشكر ولا أدمت
الشدة بترك الصبر إلهي مَا يَكُون من الكريم إلا الكرم.
وقيل: إِذَا
قصرت يدك عَنِ المكافأ فليطل لسانك بالشكر.
وقيل: أربعة
لا ثمرة لأعمالهم
مسارة الأصم
وواضع النعمة عِنْدَ من لا يشكر والباذر فِي السبخة والمسرج فِي الشَّمْس وقيل:
لما بشر إدريس عَلَيْهِ السَّلام بالمغفرة سأل الحياة فقيل لَهُ فِيهِ فَقَالَ:
لأشكره فإني كنت أعمل قبله للمغفرة فبسط الْمَلِك جناحه وحمله إِلَى السماء.
وقيل: مر
بَعْض الأنبياء عَلَيْهِم السَّلام بحجر صَغِير يخرج منه الماء الكثير فتعجب منه
فأنطقه اللَّه تَعَالَى مَعَهُ فَقَالَ: مذ سمعت اللَّه تَعَالَى يَقُول: {نَارًا
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] أنا أبكى من خوفه قَالَ فدعا
ذَلِكَ النَّبِي أَن يجير اللَّه ذَلِكَ الحجر فأوحى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ:
إني أجرته من النار فمر ذَلِكَ النَّبِي فلما عاد وجد الماء يتفجر منه مثل ذَلِكَ
فعجب فأنطق اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ الحجر مَعَهُ فَقَالَ: لَمْ تبكى وَقَدْ غفر
اللَّه تَعَالَى لَك فَقَالَ: ذَلِكَ كَانَ بكاء الحزن والخوف وَهَذَا بكاء الشكر
والسرور.
وقيل:
الشاكر مَعَ المزيد لأنه فِي شهود النعمة قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {لَئِنْ
شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] والصابر مَعَ اللَّه تَعَالَى لأنه
بشهود المبتلى قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}
[البقرة: 153] وقيل: قدم وفد على عمر بْن عَبْد الْعَزِيز وَكَانَ فيهم شاب فأخذ
يخطب فَقَالَ عُمَر: الكبر الكبر فَقَالَ الشاب: يا أمير الْمُؤْمِنيِنَ لو كَانَ
الأمر بالسن لكان فِي الْمُسْلِمِينَ من هُوَ أسن منك فَقَالَ: تكلم فَقَالَ: لسنا
وفد الرغبة ولا وفد الرهبة.
أما الرغبة
فَقَدْ أوصلها إلينا فضلك.
وَأَمَّا
الرهبة فَقَدْ أمننا منها عدلك فَقَالَ: فمن أنتم؟ فَقَالَ: وفد الشكر جئناك نشكرك
وننصرف، وأنشدوا:
ومن الرزية
أَن شكري صامت ... عما فعلت
وأن برك ناطق
ورأى
الصنيعة منك ثُمَّ أسرها ... إني إذن ليد الكريم لسارق
وقيل: أوحى
اللَّه تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام: ارحم عبادي المبتلى والمعافى
فَقَالَ: مَا بال المعافى فَقَالَ: لقلة شكرهم عَلَى عافيتي إياهم.
وقيل: الحمد
عَلَى الأنفاس والشكر عَلَى نعم الحواس وقيل: الحمد ابتداء منه والشكر افتداء منك،
وَفِي الْخَبَر الصحيح أول من يدعى إِلَى الْجَنَّة الحامدون لِلَّهِ تَعَالَى
عَلَى كُل حال.
وقيل: الحمد
عَلَى مَا دفع والشكر عَلَى مَا صنع.
وحكى عَن بَعْضهم أَنَّهُ قَالَ: رأيت فِي بَعْض
الأسفار شيخا كبيرا قَدْ طعن فِي السن فسألته عَن حاله فَقَالَ: إني كنت فِي ابتداء عمري أهوى ابنة عم لي وَهِيَ لي كَذَلِكَ تهواني فاتفق أَنَّهَا زوجت منى فليلة زفافها قُلْنَا: تعال حَتَّى نحيي هذه الليلة شكرا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا جمعنا فصلينا تلك الليلة وَلَمْ يتفرغ أحدنا لصاحبه فلما كانت الليلة الثَّانِيَة قُلْنَا: مثل ذَلِكَ فمنذ سبعين أَوْ ثمانين سنة نحن عَلَى تلك الصفة كُل ليلة أليس كَذَلِكَ يا فلانة؟ فَقَالَت العجوز: كَمَا يَقُول الشيخ.
الكلمات المفتاحية :
العبودية
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: