بَاب اليقين
قَالَ اللَّه تَعَالَى:
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4]
حَدَّثَنَا
الأُسْتَاذُ الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ فَوْرَكٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ
بْنُ مَحْمُودِ بْنِ خَرْزَاذَ
الأَهْوَازِيُّ بِهَا، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَيُّوبَ،
قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ يَعْنِي: ابْنَ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ، وَشَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ
سُلَيْمَانَ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: لا تَرْضِيَنَّ
أَحَدًا بِسَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلا تَحْمِدَنَّ أَحَدًا عَلَى فَضْلِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلا تَذُمَّنَّ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ
تَعَالَى، فَإِنَّ رِزْقَ اللَّهِ تَعَالَى لا يَسُوقُهُ إِلَيْكَ حِرْصُ حَرِيصٍ
وَلا يَرُدُّهَ عَنْكَ كَرَاهَةُ كَارِهٍ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِعَدْلِهِ
وَقِسْطِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَحَ فِي الرِّضَا، وَالْيَقِينِ وَجَعَلَ
الْهَمَّ وَالْحَزَنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَطِ
أَخْبَرَنَا
الشيخ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد
بْن أَحْمَد بْن سَعِيد الرازي , قَالَ: حَدَّثَنَا عياش بْن حمزة , قَالَ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الحواري , قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ
الأنطاكي: إِن أقل اليقين إِذَا وصل إِلَى القلب يملأ القلب نورا وينفي عَنْهُ كُل
ريب ويمتلئ القلب بِهِ شكرا ومن اللَّه تَعَالَى خوفا.
ويحكى عَن
أَبِي جَعْفَر الحداد قَالَ: رآني أَبُو تراب النخشبي وأنا فِي البادية جالس عَلَى
بركة ماء ولى ستة عشر يوما لَمْ آكل وَلَمْ أشرب فَقَالَ لي: مَا جلوسك؟ فَقُلْتُ:
أنا بَيْنَ العلم واليقين أنتظر مَا يغلب فأكون مَعَهُ يَعْنِي: إِن غلب العلم
شربت وإن غلب اليقين مررت فَقَالَ: سيكون لَك شأن وَقَالَ أَبُو عُثْمَان الحيرى:
اليقين قلة الاهتمام لغد
وَقَالَ سهل
بْن عَبْد اللَّهِ: اليقين من زيادة الإيمانه ومن تحقيقه، وَقَالَ سهل أَيْضًا:
اليقين شُعْبَة من الإيمان وَهُوَ دُونَ التصديق.
وَقَالَ
بَعْضهم: اليقين هُوَ العلم المستودع فِي القلوب يشير هَذَا القائل إِلَى أَنَّهُ
غَيْر مكتسب.
وَقَالَ
سهل: ابتداء اليقين المكاشفة ولذلك قَالَ بَعْض السلف: لو كشف الغطاء مَا ازددت يقينا
ثُمَّ المعاينة والمشاهدة، وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن خفيف: اليقين تحقق
الأسرار بأحكام المغيبات.
وَقَالَ
أَبُو بَكْر بْن طاهر: العلم بمعارضة الشكوك، واليقين لا شك فِيهِ أشار إِلَى
العلم الكسبي وَمَا يجري مجرى البديهي وَكَذَلِكَ علوم الْقَوْم فِي الابتداء كسبي
وَفِي الانتهاء بديهي.
سمعت
مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: قَالَ بَعْضهم: أَوِ المقامات المعرفة ثُمَّ
اليقين ثُمَّ التصديق ثُمَّ الإخلاص ثُمَّ الشهادة ثُمَّ الطاعة والإيمان اسم يجمع
هَذَا كُلهُ أشار هَذَا القائل إِلَى أَن أول الواجبات هُوَ المعرفة بالله سبحانه
وتعالى والمعرفة لا تحصل إلا بتقديم شرائطها وَهُوَ النظر الصائب، ثُمَّ إِذَا
توالت الأدلة وحصل البيان صار بتوالي الأنوار وحصول الاستبصار كالمستغني عَن تأمل
البرهان وَهُوَ حال اليقين ثُمَّ تصديق الحق سبحانه فيما أخبر عِنْدَ إصغائه إِلَى
إجابة الداعي فيما يخبر من أفعاله سبحانه فِي المستأنف، لأن التصديق إِنَّمَا
يَكُون فِي الإخبار ثُمَّ الإخلاص فيما يتعقبه من أداء الأوامر ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ
إظهار الإجابة بجميل الشهادة ثُمَّ أداء الطاعات بالتوحيد فيما أمر بِهِ والتجرد
عما زجر عَنْهُ، وإلى هَذَا المعنى أشار الإِمَام أَبُو بَكْر بْن فورك فيما سمعته
يَقُول: ذكر اللسان فضلة يفيض عَلَيْهَا القلب.
وَقَالَ سهل
بْن عَبْد اللَّهِ: حرام عَلَى قلب أَن يشم رائحة اليقين وفيه سكون إِلَى غَيْر
اللَّه تَعَالَى.
وَقَالَ ذو
النون الْمِصْرِي: اليقين داع إِلَى قصر الأمل، وقصر الأمل يدعو إِلَى الزهد،
والزهد يورث الحكمة، والحكمة تورث النظر فِي العواقب.
سمعت
مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس البغدادي يَقُول: سمعت
مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن سهل يَقُول: سمعت سَعِيد بْن عُثْمَان يَقُول: سمعت ذا
النون الْمِصْرِي يَقُول: ثلاثة من أعلام اليقين: قلة مخالطة النَّاس فِي العشرة،
وترك المدح لَهُمْ فِي العطية، والتنزه عَن ذمهم عِنْدَ المنع.
وثلاثة من
أعلام يقين اليقين: النظر إلى الله تَعَالَى فِي كُل شَيْء، والرجوع إِلَيْهِ فِي
كُل أمره، والاستعانة بِهِ فِي كُل حال.
وَقَالَ
الجنيد: اليقين هُوَ استقرار العلم الَّذِي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير فِي
القلب.
وَقَالَ
ابْن عَطَاء: عَلَى قدر قربهم من التقوى أدركوا مَا أدركوا من اليقين.
وأصل التقوى
مباينة النهي، ومباينة النهى مباينة النفس، فعلى قدر مفارقتهم النفس وصلوا إِلَى اليقين،
وَقَالَ بَعْضهم: اليقين هُوَ المكاشفة، والمكاشفة عَلَى ثلاثة أوجه: مكاشفة
بالإخبار ومكاشفة بإظهار القدرة، ومكاشفة القلوب بحقائق الإيمان.
واعلم أَن
المكاشفة فِي كلامهم عبارة عَن ظهور الشيء للقلب باستيلاء ذكره من غَيْر بقاء
للريب، وربما أرادوا بالمكاشفة مَا يقرب مِمَّا يراه الرائي بَيْنَ اليقظة والنوم
, وكثيرا مَا يعبر هَؤُلاءِ عَن هذه الحالة بالثبات , سمعت الإِمَام أبا بَكْر بْن
فورك يَقُول سألت أبا عُثْمَان المغربي، فَقُلْتُ مَا هَذَا الَّذِي تقول؟ قَالَ
الأشخاص أراهم كَذَا وكذا، فَقُلْتُ تراهم معاينة أَوْ مكاشفة؟ قَالَ: مكاشفة
وَقَالَ عامر بْن عَبْد قَيْس: لو كشف الغطاء مَا ازددت يقينا، وقيل: اليقين رؤية
العيان بقوة الإيمان، وقيل: اليقين زوال المعارضات.
وَقَالَ
الجنيد: اليقين ارتفاع الريب فِي مشهد الغيب.
سمعت
الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول فِي قَوْل النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي عيسى بْن مريم عَلَيْهِ السَّلام لو ازداد يقينا لمشى فِي الهواء
قَالَ رحمه اللَّه تَعَالَى: إنه أشار بِهَذَا إِلَى حال نَفْسه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج، لأن فِي لطائف المعراج أَنَّهُ قَالَ: رأيت
البراق قَدْ بقى ومشيت.
سمعت
مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَلِي بْن جَعْفَر يَقُول: سمعت
إِبْرَاهِيم بْن فاتك يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: سمعت السري يَقُول وَقَدْ سئل
عَنِ اليقين فَقَالَ: اليقين سكونك عِنْدَ جولان الموارد فِي صدرك لتيقنك أَن
حركتك فِيهَا لا تنفعك ولا ترد عَنْك مقضيا، وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ
بْن عَلِيّ يَقُول: سمعت أبا جَعْفَر الأَصْبَهَانِي يَقُول: سمعت عَلِي بْن سهل
يَقُول الحضور أفضل من اليقين، لأن الحضور وطنات واليقين خطرات كَأَنَّهُ جعل اليقين
ابتداء الحضور والحضور دوام المشاهدة يعنى أَن فِي المشاهدة يقينا لا شك فِيهِ
لأنه لا يشاهده من لا يثق بِمَا منه وَقَالَ أَبُو بَكْر الوراق اليقين ملاك القلب
وَبِهِ كمال الإيمان وباليقين عرف اللَّه تَعَالَى وبالعقل عقل عَنِ اللَّه
تَعَالَى وَقَالَ الجنيد: قَدْ مشى رجال باليقين على الماء وَمَاتَ بالعطش أفضل
مِنْهُم يقينا.
سمعت الشيخ
أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن يَحْيَي يَقُول: سمعت
جعفرا يَقُول: قَالَ إِبْرَاهِيم الخواص: لقيت غلاما فِي التيه كَأَنَّهُ سبيكة
فضة فَقُلْتُ: إِلَى أين يا غلام فَقَالَ: إِلَى مَكَّة حرسها اللَّه تَعَالَى
فَقُلْتُ: بلا زاد ولا راحة ولا نفقة فَقَالَ لي: يا ضعيف اليقين الَّذِي يقدر
عَلَى حفظ السموات والأرضين لا يقدر عَلَى أَن يوصلني إِلَى مَكَّة بلا علاقة
قَالَ فلما دخلت مَكَّة حرسها اللَّه تَعَالَى إذ أنا بِهِ فِي الطواف وَهُوَ
يَقُول:
يا عين سجي
أبدا ... يا نفس
موتي كمدا
ولا تحبي
أحدا ... إلا الجليل
الصمدا
فلما رآني
قَالَ لي: يا شيخ أَنْتَ بَعْد عَلَى ذَلِكَ الضعف من اليقين.
وسمعته
يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت النهرجوري يَقُول: إِذَا
استكمل العبد حقائق اليقين صار البلاء عنده نعمة والرخاء مصيبة.
وَقَالَ
أَبُو بَكْر الوراق: اليقين عَلَى ثلاثة: أوجه يقين خبر ويقين دلالة ويقين مشاهدة
وَقَالَ أَبُو تراب: رأيت غلاما فِي البادية يمشى بلا زاد فَقُلْتُ: إِن لَمْ يكن
مَعَهُ يقين فَقَدْ هلك فَقُلْتُ: يا غلام فِي مثل هَذَا الموضع بلا زاد فَقَالَ:
يا شيخ ارفع رأسك هل ترى غَيْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَقُلْتُ: الآن اذهب حيث شئت.
سمعت
مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا نصر الأَصْبَهَانِي يَقُول: سمعت
مُحَمَّد بْن عيسى يَقُول: قَالَ أَبُو سَعِيد الخراز العلم مَا استعملك واليقين
مَا حملك.
وسمعته يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول:
سمعت أبا عُثْمَان الأدمي يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم الخواص يَقُول طلبت المعاش لأكل الحلال فاصطدت السمك فيوما وقعت فِي
الشبكة سمكة فأخرجتها وطرحت الشبكة فِي الماء فوقعت أُخْرَى فِيهَا فرميت بِهَا ثُمَّ
عدت فهتف بي هاتف لَمْ تجد معاشا إلا أَن تأتي من يذكرنا فتقتلهم قَالَ فكسرت القصبة وتركت الاصطياد.
الكلمات المفتاحية :
العبودية
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: