بَاب الصمت
أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الأَصْبَهَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ
السُّلَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ عَن أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»
أَخْبَرَنَا
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ
قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى الأَسَدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ سَعِيدٍ الأَصْبَهَانِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَي بْن أَيُّوبَ
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنِ الْقَاسِمِ عَنِ
أَبِي أُمَامَةَ، عَنٍ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: احْفَظْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ
عَلَى خَطِيئَتِكَ
قَالَ
الأستاذ رحمه اللَّه: الصمت سلامة وَهُوَ الأصل وعليه ندامة إذ ورد عَنْهُ الزجر
فالواجب أَن يعتبر فِيهِ الشرع والأمر والنهى والسكوت فِي وقته صفة الرجال كَمَا
أَن النطق فِي موضعه من أشرف الخصال سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: من
سكت عَنِ الحق فَهُوَ شَيْطَان أخرس والصمت من آداب الحضرة قَالَ اللَّه تَعَالَى:
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] وَقَالَ تَعَالَى مخبرا عَنِ الجن بحضرة الرسول
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا}
[الأحقاف: 29]
وَقَالَ
تَعَالَى: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} [طه:
108] وكم بَيْنَ عَبْد سكت تصاونا عَنِ الكذب والغيبة وبين عَبْد سكت لاستيلاء
سلطان الهيبة عَلَيْهِ، وَفِي معناه أنشدوا:
أفكر مَا
أقول إِذَا افترقنا ...
وأحكم دائبا حجج المقال
فانساها
إِذَا نحن التقينا ...
فأنطق حِينَ أنطق بالمحال
وأنشدوا:
فيا ليل كم
من حاجة لي مهمة ...
جئتكم لَمْ أدر يا ليل مَا هيا
وأنشدوا:
وكم حَدِيث
لَك حَتَّى إِذَا ... مكنت
من القيام أنسيته
وأنشدوا:
رأيت
الْكَلام يزين الفتى ...
والصمت خير لمن قَدْ صمت
فكم من حروف
تجر الحتوف ... ومن ناطق
ود أَن لو سكت
والسكوت
عَلَى قسمين: سكون بالظاهر وسكوت بالقلب والضمائر فالمتوكل يسكت قلبه عَن تقاضي
الأزراق والعارف يسكت قلبه مقابلة للحكم بنعت الوفاق فهذا بجميل صنعه واثق وَهَذَا
بجميع حكمه قانع وَفِي معناه قَالُوا: تجرى عليك صروفه وهموم سرك مطرقه وربما
يَكُون سبب السكوت حيرة البديهة فَإِنَّهُ إِذَا ورد كشف عَن وصف البغتة خرست
العبارات عِنْدَ ذَلِكَ فلا بيان ولا نطق وطمست الشواهد هناك فلا علم ولا حس قَالَ
اللَّه تَعَالَى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ
قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا} [المائدة: 109]
فأما إيثار
أرباب المجاهدة السكوت فلما علموا فِي الْكَلام من الآفات , ثُمَّ مَا فِيهِ من
حفظ النفس وإظهار صفات المدح والميل عَلَى أَن يتميز بَيْنَ أشكاله بحسن النطق
وغير هَذَا من آفات الخلق وَذَلِكَ نعت أرباب الرياضات وَهُوَ أحد أركانهم فِي حكم
المنازلة وتهذيب الخلق وقيل: إِن دَاوُد الطائي لما أراد أَن يقعد فِي بيته اعتقد
أَن يحضر مجالس أَبِي حَنِيفَة إذ كَانَ تلميذا لَهُ ويقعد بَيْنَ أضرابه من
الْعُلَمَاء ولا يتكلم فِي مسألة فلما قوى نَفْسه عَلَى ممارسة هذه الخصلة سنة
كاملة قعد فِي بيته عِنْدَ ذَلِكَ وآثر العزلة وَكَانَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز
إِذَا كتب كتابا فاستحسن لفظه مزق الكتاب وغيره.
سمعت الشيخ
أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد
الرازي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن إِسْحَاق السراج قَالَ:
سمعت أَحْمَد بْن الفتح يَقُول: سمعت بشر بْن الْحَارِث يَقُول: إِذَا أعجبك
الْكَلام فاصمت وإذا أعجبك الصمت فتكلم وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ لا يصح لأحد
الصمت حَتَّى يلزم نَفْسه الخلوة ولا تصح لَهُ التوبة حَتَّى يلزم نَفْسه الصمت
وَقَالَ أَبُو بَكْر الفارسي من لَمْ يكن الصمت وطنه فَهُوَ فِي الفضول وإن كَانَ
صامتا والصمت لَيْسَ بمخصوص عَلَى اللسان لكنه عَلَى القلب والجوارح كلها وَقَالَ
بَعْضهم من لَمْ يستغنم السكوت فَإِذَا نطق نطق بلغو.
سمعت
مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن شاذان
يَقُول: سمعت ممشاذ الدينوري يَقُول الحكماء ورثوا الحكمة بالصمت والتفكر.
وسئل أَبُو
بَكْر الفارسي عَن صمت السر فَقَالَ: ترك الاشتغال بالماضي والمستقبل وَقَالَ
أَبُو بَكْر الفارسي إِذَا كَانَ العبد ناطقا فيما يعنيه وَمَا لابد منه فَهُوَ
فِي حد الصمت
ويروى عَن
معاذ بْن جبل أَنَّهُ قَالَ: كلم النَّاس قليلا وكلم ربك تَعَالَى كثيرا لعل قلبك
يرى اللَّه تَعَالَى.
وقيل لذي
النون الْمِصْرِي من أصون النَّاس لنفسه؟ قَالَ أملكهم للسانه وَقَالَ ابْن
مَسْعُود مَا من شَيْء بطول السجن أحق من اللسان وَقَالَ عَلِي بْن بكار جعل
اللَّه تَعَالَى لكل شَيْء بابين وجعل للسان أربعة أبواب فالشفتان مصراعان
والأسنان مصراعان وقيل: إِن أبا بَكْر الصديق رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
كَانَ يمسك فِي فِيهِ حجرا كَذَا كَذَا سنة ليقل كلامه وقيل: إِن أبا حمزة
البغدادي كَانَ حسن الْكَلام فهتف بِهِ هاتف تكلمت فأحسنت بقى أَن تسكت فتحسن
فَمَا تكلم بَعْد ذَلِكَ حَتَّى مَات وَمَاتَ قريبا من هذه الحالة عَلَى رأس أسبوع
أَوْ أقل وأكثر وربما يَكُون السكوت يقع عَلَى المتكلم تأديبا لَهُ لأنه أساء أدبه
فِي شَيْء.
كَانَ
الشبلي إِذَا قعد فِي حلقته ولا يسألونه يَقُول ووقع القول عَلَيْهِم بِمَا ظلموا
فَهُمْ لا ينطقون وربما يقع السكوت عَلَى المتكلم، لأن فِي الْقَوْم من هُوَ أولى
منه بالكلام سمعت ابْن السماك يَقُول: كَانَ بَيْنَ شاه الكرماني ويحي بْن معاذ
صداقة فجمعهما بلد فكان شاه لا يحصر مجلسه فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: الصواب
هَذَا فَمَا زالوا بِهِ حَتَّى حضر يوما مجلسه وقعد ناحية لا يشعر بِهِ يَحْيَي
بْن معاذ فلما أخذ يَحْيَي فِي الْكَلام سكت ثُمَّ قَالَ: ههنا من هُوَ أولى
بالكلام منى وارتج عَلَيْهِ فَقَالَ شاه قُلْت لكم: الصواب أَن لا أحضر مجلسه
وربما يقع السكوت عَلَى المتكلم لمعنى فِي الحاضرين وَهُوَ أَن يَكُون هناك من
لَيْسَ بأهل لسماع ذَلِكَ الْكَلام فيصون اللَّه تَعَالَى لسان المتكلم غيرة
وصيانة لِذَلِكَ الْكَلام عَن غَيْر أهله وربما كَانَ سببا السكوت الَّذِي يقع
عَلَى المتكلم أَن بَعْض الحاضرين كَانَ معلوم اللَّه تَعَالَى
من حاله
أَنَّهُ يسمع ذَلِكَ الْكَلام فيكون فتنة لَهُ إِمَّا لتوهمه أَنَّهُ وقته ولا
يَكُون أَوْ لأنه يحمل نَفْسه مَا لا يطيق فيرحمه اللَّه تَعَالَى بأن يحفظ سمعه
عَن ذَلِكَ الْكَلام إِمَّا صيانة لَهُ أَوْ عصمة عَن غلطه، وَقَالَ مشايخ هذه
الطريقة: رُبَّمَا يَكُون السبب فِيهِ حضور من لَيْسَ بأهل لسماعه من الجن إذ لا
تخلو مجالس الْقَوْم من حضور جَمَاعَة من الجن.
سمعت
الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: اعتللت مرة بمرو فاشتقت أَن أرجع
إِلَى نيسابور فرأيت فِي المنام كأن قائلا يَقُول لي لا يمكنك أَن تخرج من هَذَا
البلد فَإِن جَمَاعَة من الجن قَد استحلوا كلامك ويحضرون مجلسك فلأجلهم تجلس ههنا.
وَقَالَ
بَعْض الحكماء: إِنَّمَا خلق للإِنْسَان لسان واحد وعينان وأذنان ليسمع ويبصر
أَكْثَر مِمَّا يَقُول.
ودعى
إِبْرَاهِيم بْن أدهم إِلَى دعوة فلما جلس أخذوا فِي الغيبة فَقَالَ: عندنا يؤكل
اللحم بَعْد الخبز وأنتم ابتدأتم بأكل اللحم أشار إِلَى قَوْله تَعَالَى:
{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}
[الحجرات: 12] وَقَالَ بَعْضهم: الصمت لسان الحلم، وَقَالَ بَعْضهم: تعلم الصمت
كَمَا تتعلم الْكَلام فَإِن كَانَ الْكَلام يهديك فَإِن الصمت يقيك.
وقيل: عفة
اللسان صمته، وقيل: مثل اللسان مثل السبع إِن لَمْ توثقه عدا عليك.
وسئل أَبُو
حفص أي الحالين للولي أفضل الصمت أَوِ النطق؟ فَقَالَ: لو علم الناطق مَا آفة
النطق لصمت إِن استطاع عُمَر نوح ولو علم الصامت مَا آفة الصمت لسأل اللَّه
تَعَالَى ضعفى عُمَر نوح حَتَّى ينطق.
وقيل: صمت
العوام بألسنتهم وصمت العارفين بقلوبهم وصمت المحبين من خواطر أسرارهم، وقيل
لبعضهم: تكلم فَقَالَ: لَيْسَ لي لسان فأتكلم فقيل لَهُ: اسمع فَقَالَ: لَيْسَ فِي
مكان فأسمع.
وَقَالَ
بَعْضهم: مكثت ثلاثين سنة لا يسمع لساني إلا من قلبي ثُمَّ مكثت ثلاثين سنة لا
يسمع قلبي إلا من لساني.
وَقَالَ
بَعْضهم: لو سكت لسانك لَمْ تنج من كَلام قلبك ولو صرت رميما لَمْ تتخلص من حَدِيث
نفسك ولو جهدت كُل الجهد لَمْ تكلمك روحك لأنها كاتمة للسر.
وقيل: لسان
الجاهل مفتاح حتفه وقيل: المحب إِذَا سكت هلك والعراف إِذَا سكت ملك.
سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد
اللَّهِ بْن مُحَمَّد الرازي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن نصر الصائغ يَقُول: سمعت مردويه الصائغ يَقُول: سمعت الفضل بْن عياض يَقُول: من
عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه.
الكلمات المفتاحية :
التربية و السلوك
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: