شهيد العشق حسين بن منصور الحلاج
جاء أبو منصور الحلاج ليُصبح أسطورة شعبية إضافة إلى أسطورته عند المتصوفة، فكانت مبادؤه والتجرد الذي يحياه إضافة إلى عدم خشيته في قول
الحق، نموذجًا حقيقيًا لمن ترك الدنيا للآخرين واهتم برضا خالقه، وكانت أفكاره رافضة للنظام السياسي في عصره، والذي اصطدم به أكثر من مرة، حتى تم إعدامه، ليترك للتراث أشعاره وسيرته الزاهدة.
ولد الحسين بن منصور في السادس والعشرين من مارس عام 244 هجرية في قرية الطور في مدينة البيضاء في فارس؛ وبعد ولادته اضطربت أحوال والده المادية، فرحل إلى مدينة واسط في العراق، وهي المدينة التي بناها الحجاج بن يوسف الثقفي، وكانت من أعظم مناطق النسيج في الدولة العباسية، ويُقال أن تسميته ترجع إلى أن والده كان يعمل بالنسيج ولهذا سُمّيَ الحلاج؛ بينما قال ابن كثير أن والده ساعد رجل من واسط في حلج قطنه، وعندما عاد الرجل وجد أن كل قطنه محلوجًا وكان أربعة وعشرين ألف رطل فذهل الرجل وأطلق اسم الحلاج على الحسين بن منصور؛ وكذلك أورد رواية أخرى هي أن أهل الأهواز أطلقوا عليه هذه التسمية لأنه كان يُكاشفهم بما في قلوبهم فسموه حلاج الأسرار.
لفت الحسين الأنظار منذ طفولته بذكائه وشفافية روحه وحبه للعلم والمعرفة، وحفظ القرآن الكريم وهو في العاشرة من عمره وتعمق في فهم معانيه، كما كان كثير الصلاة والتأمل، وأمضى صباه مُتنقلًا بين كتاتيب واسط في العراق، ثم انتقل إلى تستر حيث درس على سهل ابن عبد الله التستريّ، ثم البصرة لينشئ علاقة طيبة بعمرو بن عثمان المكّي الصوفي، وقصد بغداد حيث الشيخ الجنيد، وذهب لأداء الحجّ حيث استقر هناك عاما كاملا مارس فيه أشق الرياضات الصوفية، حيث كان يُعرّض جسده لأشد ألوان العذاب، ويقتصر في طعامه على الخبز والماء، ويُعرّض جسده لأشعة الشمس المحرقة أو للمطر الغزير.
"لأن أمسيت في ثوبي عديم لقد بليا على حر كريم
فـــلا يغررك أن أبصرك حالا مغيرة عــن الحال القديم"..
كان الحلاج يتلون في ملابسه، فتارة يلبس لباس الصوفية، وتارة يتجرد في ملابس رزية، وثالثة يلبس لباس الجنود ويعاشر أبناء الاغنياء والملوك والقادة، واعتبر أن بمقدور التصوف احتواء المذاهب الفكرية المُتعارضة، ومحو العصبيات بروحانيته وكذلك يُمكن أن يحارب الترف والفساد الذي عاشت فيه الخلافة العباسية؛ كما آمن أن هناك صلات لا تنفصم بين الكمال الروحي الذي ينشده، والإصلاح الإيماني الذي يُريده.
غادر الحلاج مكة إلى الأحواز، حيث توجه بدعوته إلى طبقة المثقفين، وقسّم منهجه إلى خطوط رئيسية جوهرها عبادة الله وحبه، واهتم بإصلاح الخلافة الغارقة في الترف والشهوات حتى يستقيم ميزان الأمة التي مزقتها العصبيات والفلسفات كي تنهض برسالتها، فعظم أمر الحلاج وانتشر بين الناس سريعًا، وفتنت به الجماهير، ونسبت له الكثير من العجائب والغرائب؛ ثُم ارتحل مع كثيرين إلى خراسان مُستمرًا في دعوة الناس إلى حب الله، وقضى خمس سنوات من التجوال قبل أن يعود إلى مكة مرة أخرى مع أربعمائة من اتباعه، وعاود الاختلاء بنفسه بقمة جبل أبى قبيس؛ فقيل أنه يقوم بأعمال السحر والشعوذة وتحضير الجن، ثم عاد للارتحال مرة أخرى، وعندما عاد بدأ في نشر رسائله الكُبرى عن السياسة مُطالبًا بإقامة خلافة تتحمل مسئولياتها أمام الله، وهاجم المفسدين من الملوك والأمراء ومن يمشي في مواكبهم من محترفي الدين والدنيا.
عاد الحلاج إلى بغداد ليرى فيها الصراع الفكري والعصبيات بين العرب والفرس والترك وبين القبائل العربية المختلفة، ورأى كذلك الترف والمجون الذي تحيا فيه الخلافة العباسية؛ وكان الخليفة المقتدر ركيك يقضي وقته في اللعب والإسرف والتبذير، واشتهرت قصة حبه لجارية رومية حسناء أسلمها الدولة وأهدى لها فصًا من الياقوت بثلاثمائة ألف دينار؛ فلم تكن بغداد على استعداد لأن تسلم للحلاج بمنهجه الصوفي.
"لا يجوز لمن يريد غير الله.. أو يذكر غير الله أن يقول عرفت الله.. ومن عبد الله لنفسه فإنما يعبد نفسه ومن استصحب كل نُسك في الدنيا والآخرة وهو جاهل لا يقرب من الله أبدًا"..
ولم يكن الأمر سهلا أن يدعو رجل إلى إسقاط خلافة بكل جبروتها، أو أن يُحاول انتزاع الزعامة الفكرية والروحية من كبار العلماء والمشايخ ورجال الدين، وكان الحلاج يتحدى رجال المقتدر وإعلام المتصوفة في عصره، حيث هاجم الشيعة وطالب بعزلهم عن الخراج وإبعادهم عن بيت المال لأنهم أرهقوا الناس وأفسدوا الضمائر واختلسوا المال، وهاجم المعتزلة لأنهم حصروا أنفسهم في قوالب فلسفية، وحتى الخلافة وأحزابها وقوادها هاجمهم بسبب الترف وانحرافهم عن رسالة الإسلام، وكذلك تخاصم مع الكثيرين من مُعاصريه.
كان التصوف عند الحلاج جهاد في سبيل إحقاق الحق، وليس مسلكًا فرديًا بين المتصوف والخالق فقط، وطور الحلاج النظرة العامة إلى التصوف، فجعله جهادًا ضد الظلم والطغيان في النفس والمجتمع، وفي هذا كان يقول "النقطة أصل كل خط، والخط كله نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط؛ وكل خط مستقيم أو منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها، وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين، وهذا دليل على تجلّي الحق من كل ما يشاهد وترائيه عن كل ما يعاين، ومن هذا قلت ما رأيت شيئًا إلاّ ورأيت الله فيه".
في أحد مواقفه دخل الحلاج مسجد بغداد وأبو القاسم الجنيد البغدادي يتكلم على المنبر، فهتف الحلاج أمام الجميع"يا أبا القاسم إن الله لا يرضى من العالم بالعلم حتى يجده في العلم، فإن كنت في العلم فالزم مكانك وإلا فانزل"،فنزل الجنيد ولم يتكلم مع الناس شهرًا كاملًا؛ وبدأ صراع عنيف بين الرجلين كان له صدى عميق في بغداد، حيث هاجم البغدادي الحلاج جهرًا ورماه بالسحر والشعوذة، وفي لحظة غضب قال للحلاج أنه سيُقتل، فضحك الحلاج قال"نعم وستمضي على قتلي".
"إذ كانت العين مذ فارقتها نظرت إلى سواك فخانتها مآقيها
أو كانـت النفس بعد البعد آلفة خلفا عداك فلا نالت أمانيهـا"..
صدى كلمات الحلاج المدوية جعلت الطامعين في الخلافة من بني العباس يحاولون الاستيلاء عليها، مثل ابن المعتز الذي كان يرى نفسه أحق بالخلافة من المقتدر، فبدأ حركته التي انضم لها سرًا الكثير من تلاميذ الحلاج والوزراء والقادة؛ فقامت خلافة تحت رعاية الحلاج تولاها ابن المعتز استمرت يومًا واحدًا وفشلت؛ وأعيدت الخلافة إلى المقتدر بمساعدة الشرطة وابن الفرات الذي تولى الوزارة وكان أول أمر إصداره خطاب إلقاء القبض على الحلاج الذي اختفى لدى الحنابلة في بلدة سوس ثلاث سنوات، إلى أن خانه والي مدينة واسط الذي قبض على عليه وأرسله إلى المقتدر في بغداد، ولكن مكانته لدى الناس حمته من غضب الخليفة فأمر بالعفو عنه مُكتفيًا بتحديد إقامته في دار حاجب الخليفة نصر القشوري تلميذ الحلاج المخلص.
ثُم حدث ومرض المُقتدر ووالدته بداء في الجوف، فاستطاع الحلاج شفاؤه، كما يذكر القرطبي في كتابه "صلة تاريخ الطبري" أنه عالج كذلك ولي العهد الراضي محمد بن جعفر المقتدر، فأحدث ذلك دويا في القصر وفي بغداد، فأصبح الحلاج مسموع الصوت في قصر الخليفة، حتى أن والدة الخليفة بسلطانها ونفوذها كانت من أخلص تلاميذ الحلاج المؤمنين به والمدافعين عنه، ومشى كثير من الوزراء والقادة والأمراء في موكبه، وامتلأ قصر الخليفة بالحديث عن كراماته وما تصنع يداه من عجائب وغرائب، ولكن بدأت الدسائس والمؤامرات تحيط به من كل جانب وتطارده، فبدأت الحاشية تهمس في أذن الخليفة بأن الحلاج يُعّد العّدّة ليتولى الأمر من بعده، حتى خاف الخليفة ونسيَّ صداقته للحلاج، وبدأ المقتدر بالله يضيق به.
"الله يعلم ما في النفس جارحة إلا وذكرك فيها نيل ما فيها
ولا تنفست إلا كنت في نفسي تجري بك الروح مني في مجاريها"..
عندما وجد الحلاج نفسه محُاصرًا بالخصوم والخليفة ينقلب عليه أخذ يحُرّك أتباعه من الوزراء وقادة الجيش، وعادت اتصالاته بالجماهير تتسع، فغضب الوزير حامد بن العباسي خصم الحلاج الأكبر وأدرك أن الخطر أصبح من الضخامة بحيث لا يُقاوم إلا بالإقدام على القبض على الحلاج نفسه ومحاكمته، ولكن كان يجب أن يكون القرار من الخليفة نفسه، ولكن الخليفة تردد فاتصل الوزير بالفقيه محمد بن داود الظاهري الذي كان يبغض الحلاج ويمقت الصوفية من المتزمتين، فأغراه بالمال وحرّضه باسم الخلافة فاستغل الظاهري مركزه ورفع أمر الحلاج إلى المحكمة العُليا طالبًا محُاكمته والحكم بقتله بدعوى الشعوذة وادعاء الألوهية.
وفي يوم المُحاكمة كان الوزير حامد قد جنّد شهوده ؛ فجاء برجل من الصوفية جعله يقول أنه سمع الحلاج يتحدث في درسه الصوفي بمسجد المنصور قائلًا أنا الحق، وجاء برجل آخر من العامة ليشهد بأنه من أتباع الحلاج وبأن الحلاج إله، وأنه يحيي الموتى؛ بينما أنكر الحلاج ما نسب إليه وقال "أعوذ بالله أن أدعي الربوبية أو النبوة، وإنما أنا رجل أعبد الله وأكثر له الصوم والصلاة وفعل الخير ولا اعرف غير ذلك"، فانتصر للحلاج القاضي ابن سريح الشافعي بقوله إن مثل هذا لا يدخل في القضاء، وأن الأدلة غير ثابته والدليل لا يوجد؛ ولكن الوزير حامد أسرع فشكّل هيئة قضاء أخرى وكان القاضي هذه المرة أبو عمر محمد يوسف، وأعيد الاتهام وجاؤا بالحلاج بعد أن أضافوا تهُم أخرى منها منها إدعاء الألوهية وإحياء الموتى وتسخير الجن والإيحاء بالمُعجزات، وجاؤوا بشهودهم؛ فأنكر الحلاج وسخر من شهوده، وتعالت صيحات الناس خارج دار القضاء ليعود القضاة إلى الوزير حامد ويبلغوه بأنهم لم يجدوا ما يوجب قتل الحلاج ولا عقابه.
أسرع الوزير إلى الخليفة المقتدر ينشد التأييد ونصرته بعد أن زادت المحاكمات من قوة الحلاج، ولكن الخليفة كان أكثر حرصا من وزيره، وكان مترددًا في حمل مسئولية دم الحلاج، فأمر الوزير بأن يُسلمه إلى على بن عيسى عالم بغداد -وكان على عداء مع الحلاج- ليُناظره؛ فلما حضر الحلاج مجلس المناظرة خاطبه بن عيسى بغلظة، فقال له الحلاج "قف حيث انتهيت ولا تزد عليه شيئًا، وتأدب وإلا قلبت عليك الأرض" فتهيب ابن عيسى من مُناظرته وطلب من الخليفة أن يُعفيه.
"لي حبيب حبه وسط الحشا لو يشا يمشي على خدي مشي
روحه روحي وروحي روحه إن يشا شئـت وإن شئت يشا"..
وأخيرًا وجد الوزير حامد الفرصة الذهبية التي كان ينتظرها منذ زمن طويل بفارغ الصبر بفارغ الصبر، فجمع مُراسلات الحلاج مع القرامطة، ومنحه المقتدر تفويضًا بقمع الثورة ومحاكمة الحلاج والقضاء عليه، فصدرت الأوامر حاسمة بسجن الحلاج وتكبيله بالأغلال والقيود، حتى قيل أنه قيُد من كعبه إلى ركبته بثلاثة عشر قيدًا؛ وأعد الوزير شهوده، ثُم أخذ يُحضر الحلاج كل يوم إلى المحكمة مُكبلًا بالقيد ومحُاطًا بالجند، وتوالت الأيام الشهور دون أن يستطيع أحد إقامة حُجته على الحلاج، فقرأ عليه في بعض الأيام من كتب الحلاج ما حكى فيه "من أراد الحج ولم يتيسر له فليبن في داره بيتا لا يناله شيء من النجاسة ولا يمكن أحدا من دخوله، فإذا كان في أيام الحج فليصم ثلاثة أيام وليطف به كما يطاف ثم جمع ثلاثين يتيمًا، وكساهم قميصًا قميصًا، وعمل لهم طعامًا طيبًا، فأطعمهم وخدمهم وكساهم، وأعطى لكل واحدٍ سبعة دراهم أو ثلاثة، فإذا فعل ذلك، قام له ذلك مقام الحج".
وكان هذا الشِرك هو ما قتل الحلاج، حيث سأله القاضي عن مصدر هذا الكلام، فرد بأنه من كتاب الإخلاص للحسن البصريّ؛ قال له القاضي"كذبتَ يا حلالَ الدم قد سمعناه بمكّة وليس فيه هذا"؛ فاستغل الوزير قول القاضي وضغط عليه فكتب بإحلال دمه رغم ذكر الأسطخري بأنه"لم يُعرف للحسن البصري... كتابا باسم الإخلاص ومع ذلك وضعت الرواية على لسان الحلاج اسم هذا الكتاب ووضعت على لسان القاضي أنه قرأه بمكة".
عندما سمع الحلاّج الحُكم عليه قال"ما يحلّ لكم دمي واعتقادي الإسلام ومذهبي السُّنّة، ولي فيها كتب موجودة، فالله الله في دمي"، وكتب الوزير إلى الخليفة يستأذنه في قتله، فعاد الجواب من المقتدر بالله أن يُضرب ألف سوط حتى يموت.
وجاء صاحب الشرطة فضرب الحلاج ألف سوط فلم يتأوّه، ثمّ قطع يديه ورجليه من خلاف، ثمّ قُتل وأُحرق بالنار، فلمّا صار رمادًا أُلقي في دجلة، ونُصِب الرأس ببغداد، وأُرسل إلى خُراسان لأنّه كان له بها أصحاب.
الحق، نموذجًا حقيقيًا لمن ترك الدنيا للآخرين واهتم برضا خالقه، وكانت أفكاره رافضة للنظام السياسي في عصره، والذي اصطدم به أكثر من مرة، حتى تم إعدامه، ليترك للتراث أشعاره وسيرته الزاهدة.
ولد الحسين بن منصور في السادس والعشرين من مارس عام 244 هجرية في قرية الطور في مدينة البيضاء في فارس؛ وبعد ولادته اضطربت أحوال والده المادية، فرحل إلى مدينة واسط في العراق، وهي المدينة التي بناها الحجاج بن يوسف الثقفي، وكانت من أعظم مناطق النسيج في الدولة العباسية، ويُقال أن تسميته ترجع إلى أن والده كان يعمل بالنسيج ولهذا سُمّيَ الحلاج؛ بينما قال ابن كثير أن والده ساعد رجل من واسط في حلج قطنه، وعندما عاد الرجل وجد أن كل قطنه محلوجًا وكان أربعة وعشرين ألف رطل فذهل الرجل وأطلق اسم الحلاج على الحسين بن منصور؛ وكذلك أورد رواية أخرى هي أن أهل الأهواز أطلقوا عليه هذه التسمية لأنه كان يُكاشفهم بما في قلوبهم فسموه حلاج الأسرار.
لفت الحسين الأنظار منذ طفولته بذكائه وشفافية روحه وحبه للعلم والمعرفة، وحفظ القرآن الكريم وهو في العاشرة من عمره وتعمق في فهم معانيه، كما كان كثير الصلاة والتأمل، وأمضى صباه مُتنقلًا بين كتاتيب واسط في العراق، ثم انتقل إلى تستر حيث درس على سهل ابن عبد الله التستريّ، ثم البصرة لينشئ علاقة طيبة بعمرو بن عثمان المكّي الصوفي، وقصد بغداد حيث الشيخ الجنيد، وذهب لأداء الحجّ حيث استقر هناك عاما كاملا مارس فيه أشق الرياضات الصوفية، حيث كان يُعرّض جسده لأشد ألوان العذاب، ويقتصر في طعامه على الخبز والماء، ويُعرّض جسده لأشعة الشمس المحرقة أو للمطر الغزير.
"لأن أمسيت في ثوبي عديم لقد بليا على حر كريم
فـــلا يغررك أن أبصرك حالا مغيرة عــن الحال القديم"..
كان الحلاج يتلون في ملابسه، فتارة يلبس لباس الصوفية، وتارة يتجرد في ملابس رزية، وثالثة يلبس لباس الجنود ويعاشر أبناء الاغنياء والملوك والقادة، واعتبر أن بمقدور التصوف احتواء المذاهب الفكرية المُتعارضة، ومحو العصبيات بروحانيته وكذلك يُمكن أن يحارب الترف والفساد الذي عاشت فيه الخلافة العباسية؛ كما آمن أن هناك صلات لا تنفصم بين الكمال الروحي الذي ينشده، والإصلاح الإيماني الذي يُريده.
غادر الحلاج مكة إلى الأحواز، حيث توجه بدعوته إلى طبقة المثقفين، وقسّم منهجه إلى خطوط رئيسية جوهرها عبادة الله وحبه، واهتم بإصلاح الخلافة الغارقة في الترف والشهوات حتى يستقيم ميزان الأمة التي مزقتها العصبيات والفلسفات كي تنهض برسالتها، فعظم أمر الحلاج وانتشر بين الناس سريعًا، وفتنت به الجماهير، ونسبت له الكثير من العجائب والغرائب؛ ثُم ارتحل مع كثيرين إلى خراسان مُستمرًا في دعوة الناس إلى حب الله، وقضى خمس سنوات من التجوال قبل أن يعود إلى مكة مرة أخرى مع أربعمائة من اتباعه، وعاود الاختلاء بنفسه بقمة جبل أبى قبيس؛ فقيل أنه يقوم بأعمال السحر والشعوذة وتحضير الجن، ثم عاد للارتحال مرة أخرى، وعندما عاد بدأ في نشر رسائله الكُبرى عن السياسة مُطالبًا بإقامة خلافة تتحمل مسئولياتها أمام الله، وهاجم المفسدين من الملوك والأمراء ومن يمشي في مواكبهم من محترفي الدين والدنيا.
عاد الحلاج إلى بغداد ليرى فيها الصراع الفكري والعصبيات بين العرب والفرس والترك وبين القبائل العربية المختلفة، ورأى كذلك الترف والمجون الذي تحيا فيه الخلافة العباسية؛ وكان الخليفة المقتدر ركيك يقضي وقته في اللعب والإسرف والتبذير، واشتهرت قصة حبه لجارية رومية حسناء أسلمها الدولة وأهدى لها فصًا من الياقوت بثلاثمائة ألف دينار؛ فلم تكن بغداد على استعداد لأن تسلم للحلاج بمنهجه الصوفي.
"لا يجوز لمن يريد غير الله.. أو يذكر غير الله أن يقول عرفت الله.. ومن عبد الله لنفسه فإنما يعبد نفسه ومن استصحب كل نُسك في الدنيا والآخرة وهو جاهل لا يقرب من الله أبدًا"..
ولم يكن الأمر سهلا أن يدعو رجل إلى إسقاط خلافة بكل جبروتها، أو أن يُحاول انتزاع الزعامة الفكرية والروحية من كبار العلماء والمشايخ ورجال الدين، وكان الحلاج يتحدى رجال المقتدر وإعلام المتصوفة في عصره، حيث هاجم الشيعة وطالب بعزلهم عن الخراج وإبعادهم عن بيت المال لأنهم أرهقوا الناس وأفسدوا الضمائر واختلسوا المال، وهاجم المعتزلة لأنهم حصروا أنفسهم في قوالب فلسفية، وحتى الخلافة وأحزابها وقوادها هاجمهم بسبب الترف وانحرافهم عن رسالة الإسلام، وكذلك تخاصم مع الكثيرين من مُعاصريه.
كان التصوف عند الحلاج جهاد في سبيل إحقاق الحق، وليس مسلكًا فرديًا بين المتصوف والخالق فقط، وطور الحلاج النظرة العامة إلى التصوف، فجعله جهادًا ضد الظلم والطغيان في النفس والمجتمع، وفي هذا كان يقول "النقطة أصل كل خط، والخط كله نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط؛ وكل خط مستقيم أو منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها، وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين، وهذا دليل على تجلّي الحق من كل ما يشاهد وترائيه عن كل ما يعاين، ومن هذا قلت ما رأيت شيئًا إلاّ ورأيت الله فيه".
في أحد مواقفه دخل الحلاج مسجد بغداد وأبو القاسم الجنيد البغدادي يتكلم على المنبر، فهتف الحلاج أمام الجميع"يا أبا القاسم إن الله لا يرضى من العالم بالعلم حتى يجده في العلم، فإن كنت في العلم فالزم مكانك وإلا فانزل"،فنزل الجنيد ولم يتكلم مع الناس شهرًا كاملًا؛ وبدأ صراع عنيف بين الرجلين كان له صدى عميق في بغداد، حيث هاجم البغدادي الحلاج جهرًا ورماه بالسحر والشعوذة، وفي لحظة غضب قال للحلاج أنه سيُقتل، فضحك الحلاج قال"نعم وستمضي على قتلي".
"إذ كانت العين مذ فارقتها نظرت إلى سواك فخانتها مآقيها
أو كانـت النفس بعد البعد آلفة خلفا عداك فلا نالت أمانيهـا"..
صدى كلمات الحلاج المدوية جعلت الطامعين في الخلافة من بني العباس يحاولون الاستيلاء عليها، مثل ابن المعتز الذي كان يرى نفسه أحق بالخلافة من المقتدر، فبدأ حركته التي انضم لها سرًا الكثير من تلاميذ الحلاج والوزراء والقادة؛ فقامت خلافة تحت رعاية الحلاج تولاها ابن المعتز استمرت يومًا واحدًا وفشلت؛ وأعيدت الخلافة إلى المقتدر بمساعدة الشرطة وابن الفرات الذي تولى الوزارة وكان أول أمر إصداره خطاب إلقاء القبض على الحلاج الذي اختفى لدى الحنابلة في بلدة سوس ثلاث سنوات، إلى أن خانه والي مدينة واسط الذي قبض على عليه وأرسله إلى المقتدر في بغداد، ولكن مكانته لدى الناس حمته من غضب الخليفة فأمر بالعفو عنه مُكتفيًا بتحديد إقامته في دار حاجب الخليفة نصر القشوري تلميذ الحلاج المخلص.
ثُم حدث ومرض المُقتدر ووالدته بداء في الجوف، فاستطاع الحلاج شفاؤه، كما يذكر القرطبي في كتابه "صلة تاريخ الطبري" أنه عالج كذلك ولي العهد الراضي محمد بن جعفر المقتدر، فأحدث ذلك دويا في القصر وفي بغداد، فأصبح الحلاج مسموع الصوت في قصر الخليفة، حتى أن والدة الخليفة بسلطانها ونفوذها كانت من أخلص تلاميذ الحلاج المؤمنين به والمدافعين عنه، ومشى كثير من الوزراء والقادة والأمراء في موكبه، وامتلأ قصر الخليفة بالحديث عن كراماته وما تصنع يداه من عجائب وغرائب، ولكن بدأت الدسائس والمؤامرات تحيط به من كل جانب وتطارده، فبدأت الحاشية تهمس في أذن الخليفة بأن الحلاج يُعّد العّدّة ليتولى الأمر من بعده، حتى خاف الخليفة ونسيَّ صداقته للحلاج، وبدأ المقتدر بالله يضيق به.
"الله يعلم ما في النفس جارحة إلا وذكرك فيها نيل ما فيها
ولا تنفست إلا كنت في نفسي تجري بك الروح مني في مجاريها"..
عندما وجد الحلاج نفسه محُاصرًا بالخصوم والخليفة ينقلب عليه أخذ يحُرّك أتباعه من الوزراء وقادة الجيش، وعادت اتصالاته بالجماهير تتسع، فغضب الوزير حامد بن العباسي خصم الحلاج الأكبر وأدرك أن الخطر أصبح من الضخامة بحيث لا يُقاوم إلا بالإقدام على القبض على الحلاج نفسه ومحاكمته، ولكن كان يجب أن يكون القرار من الخليفة نفسه، ولكن الخليفة تردد فاتصل الوزير بالفقيه محمد بن داود الظاهري الذي كان يبغض الحلاج ويمقت الصوفية من المتزمتين، فأغراه بالمال وحرّضه باسم الخلافة فاستغل الظاهري مركزه ورفع أمر الحلاج إلى المحكمة العُليا طالبًا محُاكمته والحكم بقتله بدعوى الشعوذة وادعاء الألوهية.
وفي يوم المُحاكمة كان الوزير حامد قد جنّد شهوده ؛ فجاء برجل من الصوفية جعله يقول أنه سمع الحلاج يتحدث في درسه الصوفي بمسجد المنصور قائلًا أنا الحق، وجاء برجل آخر من العامة ليشهد بأنه من أتباع الحلاج وبأن الحلاج إله، وأنه يحيي الموتى؛ بينما أنكر الحلاج ما نسب إليه وقال "أعوذ بالله أن أدعي الربوبية أو النبوة، وإنما أنا رجل أعبد الله وأكثر له الصوم والصلاة وفعل الخير ولا اعرف غير ذلك"، فانتصر للحلاج القاضي ابن سريح الشافعي بقوله إن مثل هذا لا يدخل في القضاء، وأن الأدلة غير ثابته والدليل لا يوجد؛ ولكن الوزير حامد أسرع فشكّل هيئة قضاء أخرى وكان القاضي هذه المرة أبو عمر محمد يوسف، وأعيد الاتهام وجاؤا بالحلاج بعد أن أضافوا تهُم أخرى منها منها إدعاء الألوهية وإحياء الموتى وتسخير الجن والإيحاء بالمُعجزات، وجاؤوا بشهودهم؛ فأنكر الحلاج وسخر من شهوده، وتعالت صيحات الناس خارج دار القضاء ليعود القضاة إلى الوزير حامد ويبلغوه بأنهم لم يجدوا ما يوجب قتل الحلاج ولا عقابه.
أسرع الوزير إلى الخليفة المقتدر ينشد التأييد ونصرته بعد أن زادت المحاكمات من قوة الحلاج، ولكن الخليفة كان أكثر حرصا من وزيره، وكان مترددًا في حمل مسئولية دم الحلاج، فأمر الوزير بأن يُسلمه إلى على بن عيسى عالم بغداد -وكان على عداء مع الحلاج- ليُناظره؛ فلما حضر الحلاج مجلس المناظرة خاطبه بن عيسى بغلظة، فقال له الحلاج "قف حيث انتهيت ولا تزد عليه شيئًا، وتأدب وإلا قلبت عليك الأرض" فتهيب ابن عيسى من مُناظرته وطلب من الخليفة أن يُعفيه.
"لي حبيب حبه وسط الحشا لو يشا يمشي على خدي مشي
روحه روحي وروحي روحه إن يشا شئـت وإن شئت يشا"..
وأخيرًا وجد الوزير حامد الفرصة الذهبية التي كان ينتظرها منذ زمن طويل بفارغ الصبر بفارغ الصبر، فجمع مُراسلات الحلاج مع القرامطة، ومنحه المقتدر تفويضًا بقمع الثورة ومحاكمة الحلاج والقضاء عليه، فصدرت الأوامر حاسمة بسجن الحلاج وتكبيله بالأغلال والقيود، حتى قيل أنه قيُد من كعبه إلى ركبته بثلاثة عشر قيدًا؛ وأعد الوزير شهوده، ثُم أخذ يُحضر الحلاج كل يوم إلى المحكمة مُكبلًا بالقيد ومحُاطًا بالجند، وتوالت الأيام الشهور دون أن يستطيع أحد إقامة حُجته على الحلاج، فقرأ عليه في بعض الأيام من كتب الحلاج ما حكى فيه "من أراد الحج ولم يتيسر له فليبن في داره بيتا لا يناله شيء من النجاسة ولا يمكن أحدا من دخوله، فإذا كان في أيام الحج فليصم ثلاثة أيام وليطف به كما يطاف ثم جمع ثلاثين يتيمًا، وكساهم قميصًا قميصًا، وعمل لهم طعامًا طيبًا، فأطعمهم وخدمهم وكساهم، وأعطى لكل واحدٍ سبعة دراهم أو ثلاثة، فإذا فعل ذلك، قام له ذلك مقام الحج".
وكان هذا الشِرك هو ما قتل الحلاج، حيث سأله القاضي عن مصدر هذا الكلام، فرد بأنه من كتاب الإخلاص للحسن البصريّ؛ قال له القاضي"كذبتَ يا حلالَ الدم قد سمعناه بمكّة وليس فيه هذا"؛ فاستغل الوزير قول القاضي وضغط عليه فكتب بإحلال دمه رغم ذكر الأسطخري بأنه"لم يُعرف للحسن البصري... كتابا باسم الإخلاص ومع ذلك وضعت الرواية على لسان الحلاج اسم هذا الكتاب ووضعت على لسان القاضي أنه قرأه بمكة".
عندما سمع الحلاّج الحُكم عليه قال"ما يحلّ لكم دمي واعتقادي الإسلام ومذهبي السُّنّة، ولي فيها كتب موجودة، فالله الله في دمي"، وكتب الوزير إلى الخليفة يستأذنه في قتله، فعاد الجواب من المقتدر بالله أن يُضرب ألف سوط حتى يموت.
وجاء صاحب الشرطة فضرب الحلاج ألف سوط فلم يتأوّه، ثمّ قطع يديه ورجليه من خلاف، ثمّ قُتل وأُحرق بالنار، فلمّا صار رمادًا أُلقي في دجلة، ونُصِب الرأس ببغداد، وأُرسل إلى خُراسان لأنّه كان له بها أصحاب.
الكلمات المفتاحية :
شبهات و ردود
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
المتهوم
ردحذفحيث هاجم البغدادي الحلاج جهرًا ورماه بالسحر والشعوذة، وفي لحظة غضب قال للحلاج أنه سيُقتل، فضحك الحلاج قال"نعم وستمضي على قتلي".
ردحذف...
.....
.......
قراءت قصة الحلاج في اكثر من مكان ولكن كلما اصل الى حواره مع سيدي شيخ الطائفة الجنيد البغدادي رضي الله عنه اشك في هذا المقطع ولا يطمئن له قلبي فهذه التصرفات لا تصدر من شيخ الطائفة ... من كان له راي يسعفنا به بارك الله بكم وعليكم .
اشكر لك حسن ادبك و جعله الله في ميزان حسناتك ان شاء الله ازودك ببحث كامل اخي ابو قدوس
حذف