عقيدة الاشاعرة حماة الدين
يمكن تعريف "الأشعرية" بأنها استخدام العقل في توضيح النقل، إثبات عقيدة السلف بحجج كلامية وهى تنسب الى
أبي الحسن الأشعري وتعد مدرسة إسلامية سنية اتبع منهاجها في العقيدة عدد كبير من فقهاء أهل السنة والحديث، ودعمت اتجاههم العقدي اعتماد الأزهر لمنهجهم باعتباره صحيح الإسلام الوسطي البعيد عن التطرف والغلو.
ويعتبر الأشاعرة بالإضافة إلى الماتريدية "والتي تعني استخدام البراهين والدلائل العقلية والكلامية لإثبات حقائق الدين والعقيدة الإسلامية "أنهما المكوّنان الرئيسيان لأهل السنة والجماعة إلى جانب فضلاء الحنابلة، وقد قال في ذلك العلاّمة الحنبلي "طوائف أهل السنة ثلاثة: أشاعرة، وحنابلة، وماتردية، بدليل عطف العلماء الحنابلة على الأشاعرة في كثير من الكتب الكلامية وجميع كتب الحنابلة".
النشأة
برز هذا المنهج على يد أبي الحسن الأشعري الذي واجه المعتزلة وانتصر لآراء أهل السنة، وكان إمامًا لمدرسة تستمد اجتهادها من المصادر التي أقرّها علماء السنة فيما يخص صفات الخالق ومسائل القضاء والقدر واعتبر ظهور الأشاعرة نقطة تحول في تاريخ أهل السنة والجماعة التي تدعمت بنيتها العقدية بالأساليب الكلامية كالمنطق والقياس، فأثبت أبو الحسن الأشعري بهذا أن تغيير المقدمات المنطقية مع استخدام نفس الأدوات التحليلية المعرفية يمكن أن يؤدي إلى نتائج مختلفة واستخدم الأشاعرة إلى جانب نصوص الكتاب والسنّة، العقل في عدد من الحالات في توضيح بعض مسائل العقيدة.
ويُرجع المؤرخون الأشاعرة نشأة المدرسة الأشعرية إلى تاريخ اهتمام أئمة السلف بعلم الكلام واستخدامه في مواجهة الفرق التي اعتبروها مخالفة، ويعدّون الإمام أبا حنيفة النعمان هو المؤسس الحقيقي للمنهج الذي يسيرون عليه ومن بعده أئمة آخرون كالشافعي وابن كلاّب والبخاري، وكان التأطير الكبير لمنهج الأشاعرة في مواجهة المعتزلة على يد أبو الحسن الأشعري الذي يعد أبرز متكلمي أهل الحديث، حيث أن أبو الحسن الأشعري كان معتزليًا يأخذ المذهب عن الجبّائي، وما لبث أن عارض شيخه ورجع لمنهج أئمة السلف ومنهم أبو حنيفة النعمان والشافعي وغيرهما من متكلمي أهل الحديث كعبد الله بن كلاّب وأبي العباس القلانسي، والحارث بن أسد المحاسبي، في الانتصار بالأساليب الكلامية لعقائد السلف أهل السنة، خصوصًا في المسائل المتعلقة بخلق القرآن والقضاء والقدر.
وذكر ابن عساكر أن أبا الحسن الأشعري اعتزل الناس مدة خمسة عشر يومًا، وتفرغ في بيته للبحث والمطالعة، ثم خرج إلى الناس في المسجد الجامع، وأخبرهم أنه انخلع مما كان يعتقده المعتزلة، كما ينخلع من ثوبه، ثم خلع ثوبا كان عليه ورمى بكتبه الجديدة للناس، فكسب بذلك تأييد العديد من الناس، وكثر أنصاره مؤيدوه من حكام وعلماء، ولقّبه بعض أهل عصره بإمام السنة والجماعة.
وكان السبب المباشر لانطلاقة الأشعري نحو تجديد منهج العقيدة عند أهل السنة هو مواجهة المعتزلة، وأحاط بالأشعري علماء السنّة واعتبروه إمامهم، لأنه وضع حدًا لهيمنة المعتزلة، وأظهر عقائد أهل السنّة على مخالفيهم بحجج وأسلوب كانا كفيلين بأن يعيد لأهل السنّة حضورهم بعد أن نازعهم المعتزلة.
المنهج الأشعري لم يبق جامداً بل تطور، وإن كان على القاعدة نفسها التي وضعها المؤسس مع بعض التباين في تطبيقات هذه القاعدة القائمة على جعل العقل خادماً للنصوص وعدم اتخاذه حاكماً عليها ليؤوّلها أو يمضي ظاهرها كما هو الحال عند المعتزلة، وقابلية المنهج للتطور كان محصوراً في الجانب العقلي ومنسجماً مع المرونة التي اتبعها المؤسس لجهة استعمال العقل كخادم لا كحاكم.
وقد استعان الأشعري في سبيل ذلك بقضايا فلسفية ومسائل عقلية خاض فيها الفلاسفة وسلكها المناطقة، والسبب في سلوكه ذلك المسلك العقلي:
1- أنه كان منتسبا إلى المعتزلة، فاختار طريقتهم في الاستدلال لعقائد القرآن وهو مسلك المناطقة والفلاسفة، ولم يسلك طريقتهم في فهم نصوص القرآن والحديث.
2- أنه تصدّى للردّ على المعتزلة ومعارضتهم فتبع طريقتهم في الاستدلال ليقطع حجتهم ويفحمهم بما في أيديهم ويرد حجتهم عليهم.
3- أنه تصدّى للردّ على الفلاسفة، والقرامطة، والباطنية وغيرهم، وكثير هؤلاء لا يفنع إلاّ بالأقيسة المنطقية، ومنهم فلاسفة لا يقطعهم إلا دليل العقل.
تاج الدين السبكي
يقول تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى عن أبا حسن الأشعري «اعلم أن أبا الحسن لم يبدع رأياً ولم ينشئ مذهباً، وإنما هو مقرّر لمذاهب السلف مناضل عما كانت عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالانتساب إليه إنما هو باعتبار أنه عقد على طريق السلف نطاقاً وتمسك به، وأقام الحجج والبراهين عليه فصار المقتدى به في ذلك السالك سبيله في الدلائل يسمى أشعرياً.
بعد الأشعري جاء أئمة قوّوا تلك الآراء التي انتهى إليها الأشعري، وقد تعصب بعضهم لرأي الأشعري، لا في النتائج فقط وإنما كذلك في المقدمات التي ساقها، وأوجبوا اتباعه في المقدمة والنتيجة معاً، وعلى رأس هذا الفريق أبو بكر الباقلاني حيث أنه لم يقتصر على ما وصل إليه الأشعري من نتائج بل إنه لا يجوّز بغير مقدماته أيضاً.
رأى فريق آخر من الأشاعرة، جاء بعد الباقلاني وعلى رأسه الغزالي أن المقدمات العقلية لم يجئ بها كتاب أو سنّة، وميادين العقل متسعة وأبوابه مفتوحة، وأن هناك إمكانية أن يتم الوصول إلى دلائل وبيّنات من قضايا العقول ونتائج التجارب والقرائح لم يتجه إليه الأشعري وليس من ضير في الأخذ بها ما دامت لم تخالف ما وصل إليه من نتائج وما اهتدى إليه من ثمرات فكرية. ولم يسلك الغزالي مسلك الباقلاني، ولم يدع لمثل ما دعا إليه، بل قرر أنه لا يلزم من مخالفة الباقلاني في الاستدلال بطلان النتيجة، وأن الدين خاطب العقول جميعا، وعلى الناس أن يؤمنوا بما جاء بالكتاب والسنة، وأن يقووه بما يشاءون من أدلة.
جاء بعد الغزالي أئمة كثيرون اعتنقوا مذاهب الأشعري في نتائجه، وزادوا على دلائله، فلم يدعوا إلى التقيد بالمقدمات بل قيدوا أنفسهم فقط بالنتائج
الانتشار الجغرافي للأشاعرة
انتشر الفكر الأشعري في كافة أرجاء العالم العربي والسلامى وكانت البداية في المسجد الأُموي في دمشق الذى احتضن الفكر الأشعري وأصبح مركزا للعديد من علماء الأشاعرة في المشرق لينتقل الى جامع الزيتونة في تونس، والذى يعد أحد أهم المراكز التي أسهمت في نشر الفكر الأشعري في المغرب العربي.
وفي عهد دولة السلاجقة وبالتحديد في عهد الوزير نظام الملك الذي اهتم ببناء المدارس وربط المساجد ببعضها والذي كان يرفع من شأن العلماء، زاد انتشار مذهب الأشعري، وقد تم تدريس المنهج الأشعري في مدرسة بغداد النظامية، ومدرسة نيسابور النظامية، وكانت المدرسة النظامية في بغداد أكبر جامعة إسلامية في العالم الإسلامي وقتها ، فلم تأتِ الحروب الصليبية إلا وكان المذهب الأشعري قد ساد المشرق بشكل غير مسبوق.
السلطان صلاح الدين
وشكل قضاء السلطان صلاح الدين على دولة الفاطميين في مصر وتحويل الأزهر الذى كان على مذهب الإسماعيلية الشيعة إلى مذهب أهل السنة والجماعة على منهج الأشاعرة في العقيدة لحظة فارقة في نشر منهج الأشاعرة والذي ساعده على الانتشار الواسع في معظم أنحاء العالم العربى والإسلامي.
وفي بلاد المغرب العربي كان ليوسف بن تاشفين مؤسس دولة المرابطين دور كبير في نشر المنهج، حيث كان وطيد الصلة مع علماء الأشاعرة فابن رشد الجد (الملقب بشيخ المالكية)، وهو من الأشاعرة كان قاضي القضاة زمن المرابطين، وأبي عمران الفاسي الذي يعد العقل المدبر لتأسيس دولة المرابطين، كما أن أبا بكر بن العربي، وهو من أهم علماء المالكية وممن كان يعتمد عليهم ابن تاشفين كان من تلاميذ الغزالي الذي كان أهم علماء المشرق في ذاك العصر ومن المعلوم أن الغزالي من كبار علماء الأشاعرة، ويوسف بن تاشفين مؤسس دولة المرابطين، عندما عزم على الدخول إلى الأندلس قام باستشارة أبو حامد الغزالي أحد أهم أئمة الأشاعرة.
ويرى بعض السلفيين أن المغرب الإسلامي ظل على معتقد أهل الحديث حتى زمن دولة المرابطين الذين أظهروا هذا المعتقد وحاربوا الفرق والعقائد الكلامية، وأمروا بكتب الغزالي فأحرقت ثم خرج عليهم محمد بن تومرت داعياً إلى المعتقد الأشعري، فكان هو من قام بإدخال المنهج الأشعري إلى المغرب العربي، وكفر المرابطين بدعوى أنهم مجسمة ومشبهة، وسمى أتباعه الموحدين تعريضاً بهم، واستباح بذلك دماءهم وأموالهم وأعراضهم حتى قضى أتباعه من بعده على دولة المرابطين، وأسسوا دولة الموحدين على أنقاضها متبنين منهج الأشاعرة، وظل المعتقد الأشعري هو السائد في المغرب العربي حتى يومنا هذا.
بينما يرى المؤرخون الأشاعرة أن الصراع بين المرابطين والموحدين كان سياسيًا قبليًا، ولم يكن مذهبيًا، فبالإضافة إلى أنهم يرون أن مؤسسي دولة المرابطين هم أشاعرة، فإنهم يرون أن ابن تومرت لم يسع إلى إقامة دولته من أجل العقيدة الأشعرية، وأنه لا يمكن الإشارة إليه كممثل للأشاعرة، بل إن تومرت كان هدفه سياسيًا بامتياز، وكان يرمي إلى الاستيلاء على ملك المغرب، وهذا لا ينفي أن تدريس المنهج الأشعري قد ازدهر بعد سقوط دولة المرابطين، ونظرًا إلى أن المغرب الإسلامي لم يشهد فرقاً فكرية متنوعة كالتي شهدها المشرق، فإن هذا جعل أهل المغرب يعتنون بفروع الدين وبالأخص الفقه دون الأصول كالعقيدة، وذلك لعدم وجود تنازع كالذي حصل في المشرق بين الأشاعرة وبقية أهل الحديث من جهة والمعتزلة من جهة أخرى.
وبعد أن استقر المغرب وانطفأت فيه الفتن، بدأت حواضر علمية عدة في تبنّي منهجية تعليمية تنافس نظيراتها في المشرق، خاصة في تدريس عقيدة أهل السنة والجماعة وفق منهج الأشاعرة، وأبرز هذه الحواضر هي جامع الزيتونة بتونس، وجامعة القرويين بفاس، ومن أبرز أعلام الأشاعرة في المغرب الإسلامي الطرطوشي، والمازري، والباجي، والقاضي عياض، والقرطبي، والقرافي، والشّاطبي وعبد الواحد بن عاشر وأحمد زروق والسنهوري.
أفكار الأشاعرة ومنهجهم
الأشعرية مدرسة سنية، تكاد تكون مطابقة لعقائد المدارس الأخرى المنتسبة للسنة كالماتردية إلا في مسائل قليلة بسبب اختلاف منهج التلقي والاستدلال. واتبع علماء أشاعرة منهجًا كلاميًا في حالات عدة منها.
1- استدل الأشعري على العقائد بالنقل والعقل، فيثبت ما ورد في الكتاب والسنة من أوصاف الله والاعتقاد برسله واليوم الآخر والملائكة والحساب والعقاب والثواب، يستدل بالأدلة العقلية والبراهين المنطقية على صدق ما جاء في الكتاب والسنة بعد أن أوجب التصديق بها كما هي نقلاً، فهو لا يتخذ من العقل حَكَما على النصوص ليؤولها أو يمضي ظاهرها، بل يتخذ العقل خادما لظواهر النصوص يؤيدها مصدر التلقي.
2- الاستدلال عند الأشاعرة يكون بالأدلة النقلية (نصوص الكتاب والسنة) وبالأدلة العقلية على وجه التعاضد فالأدلة النقلية والعقلية عندهم يؤيد كل منهما الآخر، فهم يرون أن النقل الثابت الصريح والعقل الصحيح لا يتعارضان، والأشاعرة عندما يوجّهون خطابهم إلى مخالفيهم الذين لا يقيمون وزنا للكتاب والسنة، فإنهم يقدمون الأدلة العقلية على النقلية وذلك يكون فقط في مجال الاستدلال في العقائد في باب العقليات، لأنهم يرون أن المراد هو الرد على المخالفين، كالدهريين والثنوية وأهل التثليث والمجسمة والمشركين ونحوهم، فهؤلاء المخالفين لا يرون حجية للقرآن والسنة، إلا بعد إقامة الأدلة العقلية على الإيمان بالله وأن القرآن كلام الله وأن محمد بن عبد الله هو رسول الله.
3- لا يرى الأشاعرة ضرورة أن يتعلّم المسلمون علم الكلام، خاصةً إن لم تكن هناك فرق مخالفة يحتاج الرد عليها استخدام علم الكلام، وهذا ما كان عليه سلف الأمة من صحابة وتابعين، حيث لم تظهر في عصرهم فرق وآراء مخالفة لأهل السنة والجماعة مثل المعتزلة، فكان السلف يحذرون من استخدام علم الكلام لغياب الضرورة الداعية إلى ذلك، وهذا بحسب فهم الأشاعرة، ولكن بعد أن بدأت تظهر فرق تروّج لآراء تشكك في العقيدة الإسلامية بشكل عام وفي وجود الله وفي عقيدة أهل السنة والجماعة بشكل خاص، رأى عدد من العلماء ضرورة استخدام علم الكلام لتفنيد هذه الآراء المشككة، وعدم السكوت عنها مخافة أن يسبب عدم الرد على المخالفين فتنة للمسلمين فينجر بعض العوام وراء آراء المشككين، ومن هنا ذهب العديد من الأشاعرة إلى القول بأن تعلّم علم الكلام مطلوب فقط "ممن يغلب عليه الشك ليذهب شكه بما يقرأه من حجج، أو من يريد أن يدافع عن الإسلام بالحجج الباهرة أو يدل إنسانًا ضلّ سبيله في هذه الحياة، مغترًا ببعض الأقوال التي هي ضد الأديان، فلا بد من إنسان يتفرغ للرد على المشككين الذين يشككون الناس في عقائدهم بالرد عليهم بالأدلة المبطلة لأقوالهم، ويستعمل هذا العلم على قدر الحاجة، وأما المطلوب من عامة الناس فهو القيام على العقائد الحقة الصحيحة ومعرفتها على سبيل الإجمال، أما التوسع في معرفة أدلة الاعتقاد فليس مطلوبًا من كل الناس.
4- الأشاعرة يرون أن السمة الغالبة في طريقة التعامل مع النصوص المتشابهة في فترة السلف كانت بطريق التفويض مع التنزيه، وهو ما يعده الأشاعرة تأويلا إجماليًا، على الرغم من وجود حالات عديدة تذكر أن السلف من صحابة وتابعين ومن تبعهم قد قاموا بتأويل عدد من النصوص المتشابهة تأويلاً تفصيليًا، إلا أنه وبحسب ما يعتقد الأشاعرة، السلف أثناء التفويض يصرفون معنى النص الموهم للتشبيه عن ظاهره، وهذا يتفق مع التأويل التفصيلي الذي كان السمة الغالبة عند علماء الخلف دون أن ينفي ذلك وجود من اتبع من علماء الخلف طريقة التفويض مع التنزيه، ويبرز الاختلاف بين التأويلين في أن التفويض (التأويل الإجمالي) لا يحدد معنىً معينًا، بل يكتفي بعدم الإقرار بظاهر النص المتشابه الذي يستحيل على الله، ويفوضون المعنى المراد من النص إلى الله، أما التأويل التفصيلي فيزيد على التفويض بأنه حدد معنىً للنص المتشابه بعد أن نفى ظاهره المستحيل على الله، وهذا المعنى المؤوّل إليه يكون جائزًا في حق الله وينفي عنه التشبيه الذي توهمه البعض من ظاهر النص.
5- اهتم علماء الأشاعرة بشكل كبير بعلوم اللغة العربية لفهم معاني نصوص القرآن والأحاديث النبوية.
6- يتمسك الأشاعرة بظاهر ما يدل عليه اللفظ ويجيزون صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى احتمال مرجوح لدليل يقترن باللفظ فيصرفه عن ظاهره، وهذا الدليل يسمى عندهم "قرينة"، ومن أمثلة ذلك عندهم الآية القرآنية: "نسوا الله فنسيهم" من سورة التوبة، فتأتي كلمة النسيان في كلام العرب بمعنى الآفة وذهاب العلم، وتأتي بمعنى الترك واستعمالها بالمعنى الأول أكثر ولذا كان هو (الظاهر الراجح) من كلمة النسيان بصفة عامة، وكان الثاني وهو الترك هو (الاحتمال المرجوح) لذا فإنه يتعيّن العدول عن تفسير النسيان في الآية عن الظاهر الراجح وهو الآفة وذهاب العلم إلى الاحتمال المرجوح وهو الترك، والقرينة الصارفة عن المعنى الأول هو استحالة (الآفة وذهاب العلم) على الله.
7- ذهب الأشاعرة في التعامل مع الآيات المتشابهة إلى "التأويل الصحيح" للّفظ المتشابه، أي بصرفه عن المعنى الظاهر المباشر إلى معانٍ أخرى، ويُستعان على هذا بالقرائن المتعددة، وبعرف الاستعمال والعادة، لأنهم يرون أن التعويل في الحكم والاستنباط على قصد المتكلم ومراده، ومراده يظهر أحيانا من اللفظ نفسه، وأحيانا من العلامات والقرائن المصاحبة، فمراد المتكلم من قوله: رأيت أسدًا، غير مراده من قوله: رأيت أسدًا يخطب على المنبر، ففي الأولى يقصد الحيوان المفترس بدلالة لفظ الأسد، وفي الثاني يقصد الرجل الشجاع بدلالة القرينة "يخطب على المنبر".
8- الأشاعرة يتبعون السلف باتخاذهم لمذهب التأويل في التعامل مع النصوص المتشابهة وقد أشار إلى ذلك العلاّمة الألوسي بقوله: "والتأويل القريب إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي، على أن بعض الآيات مما أجمع على تأويلها السلف والخلف"، وفيما يلي مثال يستشهد به الأشاعرة على تأويل السلف للنصوص المتشابهة: ما قاله الشافعي عن القرآن: وأن منه ظاهراً يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره
9- يرى الأشاعرة أن جميع أفعال البشر تقع تحت حكم الله وإرادته، وأن ما يقع في الكون من الخير والشر الذي يكون مصدر الإنسان منهما، كله من عند الله، ولا احتمال عند أهل السنة الأشاعرة لتعارض إرادة الإنسان مع إرادة الله، ولا تعارض فيما فشل من إرادته مع إرادة الله، وإنما أراد الله من الإنسان الإرادة والفشل معًا، وأنه لا شيء في الكون خارج إحاطة إرادة الله، وأن إرادة الله شاملة شمولاً لا تخرج عنه أفعال البشر الاختيارية، ولا إرادتهم الجزئية، ويستدلون على ذلك بالآية القرآنية من سورة الإنسان: "وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله"
10- يرى الأشاعرة أن كتاب الإبانة للإمام أبو الحسن الأشعري دخل عليه الكثير من الدس، كما أن طريقة الكتابة في كثير منه تختلف عن المسلك الذي اتخذه الأشعري في التأليف، فبينما يتمسك معارضو الأشاعرة بالنسخة الرائجة ويرون فيها دليل على عودة الأشعري عن منهج المتكلمين، يجزم الأشاعرة أن النسخة الرائجة محرّفة وفي ذلك يقول العلاّمة الكوثري في تعليقه على كتاب الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة: "ومن غريب التحريف ما دس في بعض نسخ الإبانة للأشعري كما دس فيها أشياء أخر"، كما أن النسخة الرائجة توحي بالتجسيم وتتهجم على الإمام أبي حنيفة، وقد طبع كتاب الإبانة طبعة قوبلت على أربع نسخ خطية بتحقيق الدكتورة فوقية حسين، وعند المقارنة بين النسخة المتداولة مع طبعة الدكتورة فوقية حسين مع فصلين نقلهما ابن عساكر، تبيّن بوضوح قدر ذلك التحريف الذي جرى على هذا الكتاب
ما يميز المذهب الأشعري
يتميز المذهب الأشعري بأمرين رئيسيّين هما
1- عدم عزل «العقل» في مجال العقائد:
كانت المعتزلة تعتمد على العقل في المسائل الكلامية، ويؤوّلون النصوص القرآنية عندما يجدونها مخالفة لآرائهم ـ بزعمهم ـ و لا يكادون يعتمدون على السنة، ولأجل ذلك نرى أنّهم أوّلوا الآيات الكثيرة الواردة حول الشفاعة ـ الدالّة على غفران الذنوب بشفاعة الشافعين ـ بأنّ المراد رفع درجات الصالحين بشفاعة الشفعاء، لا غفران ذنوب الفاسقين.
وكان المحدّثون يرون الكتاب والسنّة مصدراً للعقائد، وينكرون العقل ورسالته في مجالها، ولم يعدّوه من أدوات المعرفة في الأُصول، فكيف في الفروع، ولا شكّ أنّ هذا خسارة كبيرة لا تجبر.
وقد جاء الإمام الأشعري بمنهج معتدل بين المنهجين، وقد أعلن أنّ المصدر الرئيسي للعقائد هو الكتاب والسنّة، وفي الوقت نفسه خالف أهل الحديث بذكاء خاص عن طريق استغلال البراهين العقلية والكلامية على ما جاء في الكتاب والسنة.
إمام الحرمين أبي المعالي الجويني ولأجل ذلك تفترق كتب الشيخ الأشعري وتلاميذ منهجه ـ ممن أتوا بعده كالقاضي أبي بكر الباقلاني، وعبد القاهر البغدادي، وإمام الحرمين أبي المعالي الجويني ـ عن كتب الحنابلة المتعبّدين بظواهر النصوص وقد عزلوا العقل عن الرسالة المودعة له، حتى في الكتاب والسنّة، ولوجود هذا التفاوت ظل المذهب الأشعري غير مقبول عند الحنابلة في فترات من الزمن.
ولأجل ذلك ترى أنّ الأشعري بحث عن كثير من العقليات والحسيات التي لا صلة لها بالعقيدة والديانة، لمّا وجد أنّ المعتزلة والفلاسفة بحثوا عنها بلسان ذلق وذكاء بارز، وترى أنّ الجزء الثاني من كتاب «مقالات الإسلاميين» يبحث عن الجسم والجواهر، والجوهر الفرد، والطفرة والحركة و السكون، إلى غير ذلك من المباحث التي يبحث عنها في الفلسفة فى الأُمور العامة
2- العقيدة الوسطى بين العقيدتين
إذا كان بعض أهل الحديث يصرون على إثبات الصفات الخبرية لله تعالى، كالوجه واليد والرجل والاستواء على العرش، حتى اشتهروا بالصفاتية، كما اشتهرت المعتزلة بنفاة الصفات ومؤوّليها. فجاء إمام الأشاعرة بمنهج وسط، وزعم أنّه قد أقنع به كلا الطرفين، فاعترف بهذه الصفات كما ورد في الكتاب والسنّة بلا تأويل وتصرف، ولما كان إثباتها على الله سبحانه بظواهرها يلازم التشبيه والتجسيم ـ وهما يخالفان العقل، ولا يرضى بهما أهل التنزيه من العدلية ـ أضاف كلمة خاصة أخرجته عن مغبّة التشبيه ومزلقة التجسيم، وهي أنّ لله سبحانه هذه الصفات لكن بلا تشبيه وتكييف.
وهذا هو المميز الثاني لمنهج الأشعري، فقد تصرف في الجمع بين المنهجين في كلّ مورد بوجه خاص.
الأزهر والمنهج الأشعري
دخل المنهج الأشعري إلى الأزهر مع "صلاح الدين الأيوبي" الذى قام بالقضاء على المذهب الشيعي من خلال منع تدريس مناهجه في "الأزهر" واستبدالها بالمذاهب السُنية الأربعة في الفقه والمذهب الأشعري في العقيدة.
وكان لنجاح قادة المدرسة النظامية في قيادة الأمة أثر كبير في انتشار الفكر الأشعري في العالم الإسلامي أجمع واستمر انتشار المد الأشعري مدفوعا بقوة بعد الانتصار على الصليبيين، وبقى المذهب الأشعري هو المذهب الرسمي في "الأزهر".
ولكن يبقى السؤال هل التزم جميع خريجي الأزهر ورموزه "الفقه السني والعقيدة الأشعرية"؟
الواقع أن يقول رموز "الأزهر" الكبار عبر التاريخ اختلفت توجهاتهم فنجد ما يلي
1- من علماء الأزهر من مال إلى مذهب الفلاسفة لا سيما بعد افتتاح قسم الفلسفة في الجامعة الأزهرية.
2- من علماء الازهر من قبل بالمذهب الشيعي كمذهب فقهي خامس، رغم أن الأساس الذي قامت عليه المدرسة النظامية التي أدخل رجالها المنهج الأشعري إلى الجامعة الأزهرية هو نقد الشيعة.
3- من علماء الازهر من تردد بين السلفية والأشعرية كالشيخ "أبو زهرة".
4- من علماء الأزهر من اختار السلفية كالشيخ "محمد خليل هراس".
5- من علماء الازهر من قبل بالصوفية حتى الصوفية الفلسفية، وهذا فيه غاية المناقضة لمنهج الأشاعرة.
عبد الرحمن البر-سيد سابق 6- على الرغم من تماسك رموز "الأزهر" إلا أن هناك بعض الأزهريين ممن طغت عليهم أيدلوجتهم المتطرفة واعتمدت على مناهج متطرفة في الفتوى ومحاولة إخضاع المؤسسة لأفكار جماعتهم ومنهم عبد الرحمن البر مفتى جماعة الإخوان وعضو مكتب الارشاد بالإضافة الى بعض السلفيين الذين حصلوا على مؤهلات أزهرية أعتلوا من خلالها منابر الاوقاف ليصدروا أفكارهم الغير موجودة في المذهب الأشعري الوسطى وتصدر المشهد قضايا شرك زيارة القبور وفوضى الإفتاء مع انتشار عدد ليس بقليل من علماء الأزهر وطلابه يدينون بالمنهج السلفي ولعل كتاب فقه السنة للشيخ "سيد سابق"، وهو شيخ أزهري دليل على ذلك بل أن الكتاب السلفى المعتمد لدى الدعوة السلفية في معرفة البدع كتاب كان مقررا على "الأزهر" وهو كتاب "الإبداع في مضار الابتداع" للشيخ "على محفوظ".
شيخ الأزهر: مذهبنا الأشعرية
قال الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، إن الأزهر سيبقى أشعري المذهب صوفي الفكر، وهذا ما أنتمى إليه أنا والعديد من شيوخ الأزهر وأن عقيدة الأزهر الشريف هي عقيدة الأشعري والماتريذى وفقه الأئمة الأربعة وتصوف الإمام الجنيد وأن السلفيين الجدد هم خوارج العصر .
الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر
انتقد الطيب هجوم السلفيين على الأضرحة ومقامات الأولياء مؤكدًا أن هذه العمل يخالف صحيح الإسلام وأن الأزهر سيبقى أشعري المذهب ومحافظا على الفكر الصوفي الصحيح الذى انتمى إليه عشرات من شيوخ الأزهر على مدى تاريخه.
أهم الكتب عن المذهب الأشعري
هناك العديد من المؤلفات عن المذهب الأشعري من أهمها
تبيين كذب المفتري فيما نسب للأشعري
تلبيس إبليس لابن الجوزي
كتاب تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل – الباقلاني
خلق أفعال العباد – البخاري
رسالة إلى أهل الثغر – الأشعري
غاية المرام – الآمدي
فضائح الباطنية – الغزالي
قواعد العقائد – الغزالي
لمع الأدلة في قواعد أهل السنة والجماعة – الجويني أبو المعالي
الأسماء والصفات للبيهقي
الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي
الإنصاف للباقلاني
نهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني
رفع الأستار لإبطال أدلة لقائلين بفناء النار للأمير الصنعاني
لمعة الاعتقاد للمقدسي
شرح العقيدة الطحاوية لابن ابي العز الحنفي
المنقذ من الضلال للغزالي
أدلة معتقد أبي حنيفة للقاري
أهم أئمة المذهب الأشعري
أبو الحسن الأشعري
هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن أمير البصرة بلال بن أبي بردة بن أبي موسى عبد الله بن قيس بن حَضَّار الأشعري اليماني البصري ولد بالبصرة سنة 260هـ
تعليمه
تلقى الأشعري علمه الديني على مرحلتين هما:
المرحلة الأولى: عاش فيها في كنف أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة في عصره وتلقى علومه حتى صار نائبه وموضع ثقته ولم يزل أبو الحسن يتزعم المعتزلة أربعين سنة.
المرحلة الثانية: ثار فيها على عقيدة الاعتزال الذي كان يدافع عنه، بعد أن اعتكف في بيته خمسة عشر يوماً، يفكر ويدرس ويستخير الله حتى اطمأنت نفسه، وأعلن البراءة من الاعتزال وانتهى إلى إتباع طريقة عبد الله بن كلاب وأتباعه المعروفين بالكلابية
أسلوبه
لجأ إلى تأويل النصوص بما ظن أنه يتفق مع أحكام العقل، وإثبات الصفات السبع عن طريق العقل: الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام، أما الصفات الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق فتأولها على ما ظن أنها تتفق مع أحكام العقل وهذه هي المرحلة التي ما زال الأشاعرة عليها.
خلافه مع السلفية
وقد حصل خلاف بين أتباع أبو الحسن الأشعري من الأشاعرة وبين السلفية على وجود المرحلة الثالثة، فالسلفية يقرّون بمرحلة ثالثة مر بها أبو الحسن والتي كان فيها على منهج السلف وبخاصة أحمد ابن حنبل في إثبات الصفات جميعها لله من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف ولا تبديل ولا تمثيل - على قولهم- وفي هذه المرحلة ألف كتابه "الإبانة عن أصول الديانة" والذي يعتبره بعض السلفية عدولاً من أبي الحسن عن منهجه التأويلي إلى منهج السلف في قبول النصوص دون تأويل، بينما يقول الأشاعرة بأن أبا الحسن كان يأخذ بالمنهجين ويستخدم كل منهج في سياقه الخاص. كما اعتبروا ان النسخة الرائجة من الكتاب غير صحيحة، حيث تحوي على كثير من الدس، لذا فالأشاعرة يعتقدون أن المرحلة الثالثة ليس لها وجود في حياة الأشعري على الإطلاق. ويوافق الأشاعرة في ذلك ابن تيمية، حيث يقول ابن تيمية أن الأشعري لم يعرف غير طريقة المتكلمين.
مؤلفاته
مؤلفات الأشعري كثيرة قيل إنها بلغت ما يقارب الخمسين مصنفا وقيل أكثر من ذلك، منها:
إيضاح البرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان.
تفسير القرآن، وهو كتاب حافل جامع.
الرد على ابن الراوندي في الصفات والقرآن.
الفصول في الرد على الملحدين والخارجين عن الملّة.
القامع لكتاب الخالدي في الإرادة.
كتاب الاجتهاد في الأحكام.
كتاب الأخبار وتصحيحها.
كتاب الإدراك في فنون من لطيف الكلام.
كتاب الإمامة.
الإبانة عن أصول الديانة،.
التبيين عن أصول الدين.
الشرح والتفصيل في الرد على أهل الإفك والتضليل.
العمد في الرؤية.
كتاب الموجز.
كتاب خلق الأعمال.
كتاب الصفات، وهو كبير تكلم فيه على أصناف المعتزلة والجهمية.
كتاب الرد على المجسمة.
النقض على الجبائي.
النقض على البلخي.
جمل مقالات الملحدين.
كتاب في الصفات وهو أكبر كتبه نقض فيه آراء المعتزلة.
أدب الجدل.
الفنون في الرد على الملحدين.
النوادر في دقائق الكلام.
جواز رؤية الله بالأبصار.
مقالات الإسلاميين.
رسالة إلى أهل الثغر.
اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع.
وفاته
توفي أبو الحسن الأشعري سنة 324 هـ ودفن ببغداد ونودي على جنازته: "اليوم مات ناصر السنة".
أبو حامد الغزالي
هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزّالي الطوسي النيسابوري، يُكنّى بأبي حامد لولد له مات صغيراً، ويُعرَف بـ "الغزّالي" نسبة إلى صناعة الغزل، حيث كان أبوه يعمل في تلك الصناعة، ويُنسب أيضاً إلى "الغَزَالي" نسبة إلى بلدة غزالة من قرى طوس وقد اختلف الباحثون في أصل الغزالي أعربي أم فارسي، فهناك من ذهب على أنه من سلالة العرب الذين دخلوا بلاد فارس منذ بداية الفتح الإسلامي، ومن الباحثين من ذهب إلى أنه من أصل فارسي.
ولد أبو حامد الغزّالي عام 450 هـ الموافق 1058، في "الطابران" من قصبة طوس، وهي أحد قسمي طوس، وقيل بأنّه وُلد عام 451 هـ الموافق 1059. وقد كانت أسرته فقيرة الحال، إذ كان أباه يعمل في غزل الصوف وبيعه في طوس، ولم يكن له أبناء غيرَ أبي حامد، وأخيه أحمد والذي كان يصغره سنّاً. كان أبوه مائلاً للصوفية، رجلاً صالحاً لا يأكل إلا من كسب يده، وكان يحضر مجالس الفقهاء ويجالسهم، ويقوم على خدمتهم، وينفق بما أمكنه إنفاقه، وكان كثيراً يدعو الله أن يرزقه ابنا ويجعله فقيهاً، فكان ابنه أبو حامد أفقه علماء زمانه، وكان ابنه أحمد واعظاً مؤثراً في الناس ولما قربت وفاة أبيهما، وصّى بهما إلى صديق له متصوّف، وقال له: «إِن لي لتأسفاً عظيماً على تعلم الخط وأشتهي استدارك ما فاتني في وَلَديّ هذَيْن فعلّمهما ولا عليك أن تنفذ في ذلك جميع ما أخلّفه لهما»، فلما مات أقبل الصوفيّ على تعليمهما حتى نفد ما خلّفهما لهما أبوهما من الأموال، ولم يستطع الصوفيّ الإنفاق عليهما، عند ذلك قال لهما: «اعلما أنّي قد أنفقت عليكما ما كان لكما وأنا رجل من الفقر والتجريد بحيث لا مال لي فأواسيكما به وأصلح ما أرى لَكمَا أن تلجآ إِلَى مدرسة كأنكما من طلبة الْعلم فَيحصل لَكمَا قوت يعينكما على وقتكما"، ففعلا ذلك وكان هو السبب في علو درجتهما، وكان الغزاليّ يَحكي هذا ويقُول: «طلبنا الْعلم لغير الله فأبى أن يكون إِلّا لله».
تعليمه
ابتدأ طلبه للعلم في صباه عام 465 هـ، فأخذ الفقه في طوس على يد الشيخ أحمد الراذكاني، ثم رحل إلى جرجان وطلب العلم على يد الشيخ الإسماعيلي (وهو أبو النصر الإسماعيلي بحسب تاج الدين السبكي، بينما يرى الباحث فريد جبر أنه إسماعيل بن سعدة الإسماعيلي وليس أبا النصر لأنه توفي سنة 428 هـ قبل ولادة الغزالي)، وقد علّق عليه التعليقة (أي دوّن علومه دون حفظ وتسميع)، وفي طريق عودته من جرجان إلى طوس، واجهه قطّاع طرق، حيث يروي الغزالي قائلاً: «قطعت علينا الطرِيق وأخذ العيّارون جميع ما معي ومضوا فتبعتهم فالتفت إليّ مقدّمهم وقال: ارجع ويحك وإِلا هلكت، فقلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن ترد علي تعليقتي فقط فما هي بشيء تنتفعون به، فقال لي: وما هي تعليقتك: فقلت: كتبت في تلك المخلاة هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها، فضحك وقال: كيف تدّعي أنّك عرفت علمها وقد أخذناها منك فتجردت من معرفتها وبقيت بلا علم؟ ثم أمر بعض أصحابه فسلّم إِليّ المخلاة» بعد ذلك قرّر الغزالي الاشتغال بهذه التعليقة، وعكف عليه 3 سنوات من 470 هـ إلى 473 هـ حتى حفظها.
وفي عام 473 هـ رحل الغزّالي إلى نيسابور ولازم إِمام الحرمين أبو المعالي الجويني (إمام الشافعية في وقته، ورئيس المدرسة النظامية)، فدرس عليه مختلف العلوم، من فقه الشافعية، وفقه الخلاف، وأصول الفقه، وعلم الكلام، والمنطق، والفلسفة، وجدّ واجتهد حتى برع وأحكم كل تلك العلوم، ووصفه شيخه أبو المعالي الجويني بأنه: «بحر مغدِق» وكان الجويني يُظهر اعتزازه بالغزالي، حتى جعله مساعداً له في التدريس، وعندما ألف الغزالي كتابه "المنخول في علم الأصول" قال له الجويني: «دفنتني وأنا حيّ، هلّا صبرتَ حتى أموت؟».
عندما تُوفي أبو المعالي الجويني سنة 478 هـ الموافق 1085، خرج الغزالي إلى "العسكر" أي "عسكر نيسابور"، قاصداً للوزير نظام الملك (وزير الدولة السلجوقية)، وكان له مجلس يجمع العلماء، فناظر الغزالي كبار العلماء في مجلسه وغلبهم، وظهر كلامه عليهم، واعترفوا بفضله، وتلقوه بالتعظيم والتبجيل ان الوزير نظام الملك زميلاً للغزالي في دراسته، وكان له الأثر الكبير في نشر المذهب الشافعي الفقهي، والعقيدة الأشعرية السنّي، وذلك عن طريق تأسيس المدارس النظامية المشهورة، والتي قبل الغزالي عرض نظام الملك بالتدريس في المدرسة النظامية في بغداد، وكان ذلك في جمادى الأولى عام 484 هـ الموافق 1091، ولم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره.
الغزالي في بغداد
وصل الغزالي إلى بغداد في جمادى الأولى سنة 484 هـ، في أيام الخليفة المقتدي بأمر الله العباسي، ودرّس بالمدرسة النظامية حتى أُعجب به الناس لحسن كلامه وفصاحة لسانه وكمال أخلاقه، وأقام على التدريس وتدريس العلم ونشره بالتعليم والفتيا والتصنيف مدّة أربعة سنوات، حتى اتسعت شهرته وصار يُشدّ له الرّحال، ولُقّب يومئذٍ بـ "الإمام" لمكانته العالية أثناء التدريس بالنظامية في بغداد، ولقّبه نظام الملك بـ "زين الدين" و"شرف الأئمة" وكان يدرّس أكثر من 300 من الطلاب في الفقه وعلم الكلام وأصول الفقه، وحضر مجالسه الأئمة الكبار كابن عقيل وأبي الخطاب وأبي بكر بن العربي، حيث قال أبو بكر بن العربي: «رأيت الغزالي ببغداد يحضر درسه أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم يأخذون عنه العلم».
انهمك الغزالي في البحث والاستقصاء والردّ على الفرق المخالفة بجانب تدريسه في المدرسة النظامية، فألّف كتابه "مقاصد الفلاسفة" يبيّن فيه منهج الفلاسفة، ثمّ نقده بكتابه "تهافت الفلاسفة" مهاجماً الفلسفة ومبيّناً تهافت منهجهم. ثمّ تصدّى الغزالي للفكر الباطني (وهم الإسماعيلية) الذي كان منتشراً في وقته والذي أصبح الباطنيون ذوو قوّة سياسية، حتى أنّهم قد اغتالوا الوزير نظام الملك عام 485 هـ الموافق 1091، وتُوفي بعده الخليفة المقتدي بأمر الله، فلما جاء الخليفة المستظهر بالله، طلب من الغزالي أن يحارب الباطنية في أفكارهم، فألّف الغزالي في الردّ عليهم كتب "فضائح الباطنية" و"حجّة الحق" و"قواصم الباطنية".
وبعد خوض الغزالي في علوم الفلسفة والباطنية، عَكَف على قراءة ودراسة علوم الصوفية، وصحب الشيخ الفضل بن محمد الفارمذي (الذي كان مقصداً للصوفية في عصره في نيسابور، وهو تلميذ أبو القاسم القشيري)
فتأثر الغزالي بذلك، ولاحظ على نفسه بعده عن حقيقة الإخلاص لله وعن العلوم الحقيقية النافعة في طريق الآخرة، وشعر أن تدريسه في النظامية مليء بحب الشهرة والعُجُب والمفاسد، عند ذلك عقد العزم على الخروج من بغداد وكان خروجه من بغداد في ذي القعدة سنة 488 هـ، وقد ترك أخاه أحمد الغزّالي مكانه في التدريس في النظامية في بغداد، وقد خرج إلى الشام قاصداً الإقامة فيها، مُظهِرَاً أنه متّجه إلى مكة للحجّ حذراً أن يعرف الخليفة فيمنعه من السفر إلى الشام.
وصل دمشق في نفس العام، ومكث فيها قرابة السنتين لا شغل له إلا العزلة والخلوة، والمجاهدة، اشتغالاً بتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، فكان يعتكف في مسجد دمشق، يصعد منارة المسجد طول النهار، ويغلق على نفسه الباب، وكان يكثر الجلوس في زاوية الشيخ نصر المقدسي في الجامع الأموي والمعروفة اليوم بـ "الزاوية الغزالية" نسبةً إليه.
بعد ذلك رحل الغزالي إلى القدس واعتكف في المسجد الأقصى وقبة الصخرة. ثم ارتحل وزار مدينة الخليل في فلسطين، وما لبث أن سافر إلى مكة والمدينة المنورة لأداء فريضة الحج، ثم عاد إلى بغداد، بعد أن قضى 11 سنة في رحلته، ألّف خلالها أعظم كتبه "إحياء علوم الدين"، وقد استقر أمره على الصوفية.
وبحسب تاج الدين السبكي وابن الجوزي وغيرهما، فإن الغزالي خرج أولاً من بغداد إلى الحج سنة 488 هـ، ثم عاد منها إلى دمشق فدخلها سنة 489 هـ، فلبث فيها أياماً، ثم توجّه إلى القدس، فجاور فيها مدّة، ثم عاد وبقي في دمشق معتكفاً في جامعها، ثم رحل وزار الإسكندرية في مصر، واستمرّ يجول في البلدان ويزور المشَاهد وَيَطوف على المساجد حتى عاد إلى بغداد للتدريس فيها.
عودته إلى طوس
بعد قرابة 11 سنة من العزلة والتنقّل، عزم الغزّالي على العودة إلى بغداد، فكان ذلك في ذي القعدة سنة 499 هـ، ولم يدم طويلاً حتى أكمل رحلته إلى نيسابور ومن ثمّ إلى بلده طوس، وهناك لم يلبث أن استجاب إلى رأي الوزير فخر الملك للتدريس في نظامية نيسابور مكرهاً، فدرّس فيها مدة قليلة، وما لبث أن قُتل فخر الدين الملك على يد الباطنية، من ثم رحل الغزالي مرة أخرى إلى بلده طابران في طوس، وسكن فيها، متخذاً بجوار بيته مدرسة للفقهاء وخانقاه (مكان للتعبّد والعزلة) للصوفية، ووزّع أوقاته على وظائف من ختم القرآن ومجالسة الصوفية والتدريس لطلبة العلم وإدامة الصلاة والصيام وسائر العِبَادات، كما صحّح قراءة أحاديث صحيح البخاري وصحيح مسلم على يد الشيخ عمر بن عبد الكريم بن سعدوية الرواسي.
مؤلفاته
له العديد من المؤلفات منها:
الاقتصاد في الاعتقاد.
بغية المريد في مسائل التوحيد.
إلجام العوام عن علم الكلام.
المقصد الأسنى شرح أسماء الله الحسنى.
المعارف العقلية ولباب الحكمة الإلهية.
القانون الكلي في التأويل.
فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة.
فضائح الباطنية.
حجّة الحق، في الرد على الباطنية.
قواصم الباطنية.
مقاصد الفلاسفة.
تهافت الفلاسفة.
معيار العلم في فن المنطق.
محك النظر في المنطق.
ميزان العمل.
التعليقة في فروع المذهب.
البسيط في الفروع.
الوسيط، في فقه الإمام الشافعي.
الوجيز، في فقه الإمام الشافعي.
فتاوى الغزالي.
غاية الغور في دراية الدور، في المسألة السريجية.
المستصفى في علم أصول الفقه.
المنخول في علم الأصول.
تهذيب الأصول.
المباديء والغايات.
شفاء الغليل في القياس والتعليل.
القسطاس المستقيم.
أساس القياس.
المنتحل في علم الجدل.
مآخذ الخلاف.
لباب النظر.
تحصين المآخذ في علم الخلاف.
جواب مفصل الخلاف.
إحياء علوم الدين.
الإملاء على مشكل الإحياء.
بداية الهداية.
أيها الولد.
أسرار معاملات الدين.
روضة الطالبين وعمدة السالكين.
الأربعين في أصول الدين.
مدخل السلوك الي منازل الملوك.
ميزان العمل.
كيمياء السعادة، (وقد كتبه بالفارسية وتُرجم إلى العربية).
زاد الآخرة، (وقد كتبه بالفارسية وتُرجم إلى العربية).
مكاشفة القلوب المقرب إلى حضرة علاّم الغيوب.
سر العالمين وكشف ما في الدارين.
منهاج العابدين.
منهاج العارفين.
معارج القدس في مدارج معرفة النفس.
مشكاة الأنوار.
الرسالة اللدنية.
الكشف والتبيين في غرور الخلق أجمعين.
تلبيس إبليس.
المنقذ من الضلال.
المضنون به على غير أهله.
المضنون به على أهله.
جواهر القرآن ودرره.
حقيقة القرآن.
الحكمة في مخلوقات الله.
التبر المسبوك في نصحية الملوك.
القصيدة المنفرجة.
شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل.
وفاته
بعد أن عاد الغزّالي إلى طوس، لبث فيها بضع سنين، وما لبث أن تُوفي يوم الاثنين 14 جمادى الآخرة 505 هـ، الموافق 19 ديسمبر 1111م، في "الطابران" في مدينة طوس وهناك خلاف على مكان دُفنه فالبعض يقول دفن في مقبرة "طابران"، وقبره هناك ظاهر وبه مزار أمّا حالياً فلا يُعرف قبر ظاهر للغزّالي، إلا أنه حديثاً تم اكتشاف مكان في طوس قرب مدينة مشهد في إيران حيث يُعتقد بأنه قبر الغزّالي، والذي أمر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بإعادة إعماره خلال زيارته إلى إيران في ديسمبر 2009.
وقد ادّعى الشيخ فاضل البرزنجي بأن قبر الغزالي موجود في بغداد وليس في طوس، بينما يؤكد أستاذ التاريخ بجامعة بغداد الدكتور حميد مجيد هدو، بالإضافة للوقف السني في العراق بأن قبره في طوس.
الكلمات المفتاحية :
عقيدة الاشاعرة
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
بارك الله فيكم ونفع الله بكم
ردحذفبارك الله فيكم ونفع الله بكم
ردحذفو اياكم اخي الكريم
حذف