الطريقة القادرية
الطريقة القادرية
نسب الطريقة
وليس نسب الشيخ عبد القادر :
محمد صلي الله عليه وسلم
|
علي بن أبي طالب
-------------------------------------
| | | |
كامل إمام حسين إمام حسن حسن البصري
| |
زين العابدين حبيب العجمي
| |
محمد الباقر سليمان داوؤد
| |
جعفر الصادق |
| |
موسى الكاظم |
| |
علي الرضا |
| |
---------------------------
|
معروف الكرخي
|
سري السقطي
|
جنيد البغدادي
|
أبو بكر عبد الله شبلي
|
عبد الواحد التميمي
|
أبو الفرج الطرسوسي
|
أبو الحسن علي الهكاري
|
أبو سعيد علي المخزومي
|
عبد القادر الجيلاني [1]
نسب الشيخ عبد القادر الجيلاني المولد الحسني النسب :
سلطان الأولياء والعارفين، أبو صالح السيد محيي الدين عبد القادر ابن السيد أبي صالح موسى جنكي دوست ابن السيد عبد الله ابن السيد يحيى الزاهد ابن السيد محمد بن السيد داود ابن السيد موسى ابن السيد عبد الله أبي المكارم ابن السيد الإمام موسى الجون رضي الله عنه ابن السيد الإمام عبد الله الكامل المحض رضي الله عنه ابن السيد الإمام الحسن المثنى رضي الله عنه ابن السيد الإمام الحسن السبط رضي الله عنه ابن أمير المؤمنين سيدنا ومولانا علي ابن أبي طالب زوج السيدة البتول فاطمة الزهراء بضعة رسول الله r رضي الله عنهما
ونسبه من جهة السيدة والدته :
فأمه هي السيدة الشريفة والدرة المنيفة الحسينية أم الخير أمَةُ الجبار فاطمة رضي الله عنها بنت السيد عبد الله الصومعي الزاهد ابن السيد أبي جمال الدين محمد ابن السيد محمود ابن السيد أبي العطا عبد الله ابن السيد كمال الدين عيسى ابن السيد الإمام أبي علاء الدين محمد الجواد رضي الله عنه ابن السيد الإمام علي الرضا رضي الله عنه ابن السيد الإمام موسى الكاظم رضي الله عنه ابن السيد الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه ابن السيد الإمام محمد الباقر رضي الله عنه ابن السيد الإمام علي زين العابدين رضي الله عنه ابن السيد الإمام الهمام سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين رضي الله عنه ابن أمير المؤمنين سيدنا ومولانا علي ابن أبي طالب زوج السيدة البتول فاطمة الزهراء بضعة رسول الله r رضي الله عنهما.
ولادته ونشأته رضي الله عنه
ولد رضي الله عنه في بلاد جيلان، أو كيلان ويقال لها أيضا بلاد الديلم، وهي ولاية من القسم الشمالي الغربي من بلاد فارس، يحدها شمالاً ناحية تاليس الروسية, ومن الجنوب الغربي سلسلة جبال الرز الفاصلة بينها وبين أذربيجان وعراق العجم, ومن الجنوب الشرقي مازندران، ومن الشمال الشرقي بحر قزوين, وهي تعد من أجمل ولايات فارس([1]).
وكانت ولادته رضي الله عنه في التاسع من شهر ربيع الثاني من سنة 470 هجري على أصح الأقوال وأرجحها، ونشأ وترعرع فيها وكان آخر أولاد أبيه لأنه عاش يتيماً فقد توفي أبوه بعد ولادته بقليل فعاش في كنف جده لأمه السيد عبد الله الصومعي وكان آخر أولاد امة لأنها حملت به في سن متأخرة في سن اليأس، حتى قيل أنها حملت به وهي في الستين من عمرها وذلك معروف عن القرشيات، أنهن يحملن في هذه السن كما ذكر ذلك التاذفي في قلائد الجواهر، وورد أنه كان له أخ واحد وقد قسمت أمة المال بينه وبين أخيه عندما خرج إلى بغداد، ويقول ابن العماد الحنبلي في(شذرات الذهب)ج4/199 إن أخاه كان اسمه عبد الله وكان أصغر منه وكان رجلاً صالحاً عاش في جيلان وتوفي فيها وهو شاب ولكن الراجح أن أخاه كان أكبر منه.
نشأ الشيخ عبد القادر في ظل رعاية أمه وكانت صالحةً تقيةً سليلةَ أئمةٍ أطهارٍ ورجالٍ أبرارٍ، وكان جده عبد الله الصومعي رجلاً صالحاً زاهداً عابداً حتى لقب الصومعي وكان أبوه صالحاً فنالته بركته وتربى في كنف أمه التقية وجده الصالح فربي على التقوى ونشأ عليها، فكان منذ صغر سنه زاهداً في الدنيا مقبلاً على الآخرة طموحاً إلى معرفة الشريعة وفروعها ومداخلها ومخارجها، فظهرت عليه علامات الولاية منذ الصغر بل في أيام رضاعته، فقد ذكر صاحب قلائد الجواهر وغيره أنه كان لا يرضع في أيام رمضان حتى غروب الشمس فخافت علية أمه فحملته إلى والدها السيد عبد الله الصومعي فقال لها لا تخافي إن ابنك هذا سيكون له شأن عظيم في الولاية، وعاش طفولته في جيلان ولكنه لم يجد ما يروي طموحه في هذه البلدة ولا ما يروي ظمأه من العلوم والمعارف، فأخذت نفسه تحدثه بالسفر إلى بغداد حاضرة الدنيا في ذلك العصر.
وذكر صاحب قلائد الجواهر أنه كان يسير ويركض وراء بقرة مع مجموعة من الصبية في عمره فالتفتت إليه البقرة وكلمته وقالت: (( ما خلقت لهذا يا عبد القادر )) فرجع باكيا إلى أمه وحدثها بالأمر، وهنا بدأ يحث أمه على السماح له بالسفر إلى بغداد.
وعندما رأت الأم الصالحة أم الخير إصرار ابنها الشاب على السفر، وكم يعز عليها فراقه، أخذت تجهز ابنها وهي تكفكف دموعها وتدفع لوعة قلبها، وهي تعلم أنها لن تراه وقد ناهزت السبعين أو أكثر لكنها تأمل أن تجتمع وإياه تحت لواء جدهما رسول الله r وسلم فجهزته وأعطته أربعين دينار وخبأتها في ثيابه وأوصته قائلة: (( يا بني إياك أن تكذب فإن المؤمن لا يكذب، يا بني كن صادقاً ابدأ، يا بني كن صادقاً أبداً كما ربيتك فهذا هو أملي فيك )).
وسارت القافلة متوجهة من جيلان إلى بغداد وفي الطريق اعترضهم قطاع طرق فنهبوا القافلة وفتشوها فرداً فرداً فلما وصلوا للشيخ عبد القادر رأوه يرتدي ثياباً بسيطة لا يظهر عليه أثر الغنى فقال أحدهم: هل معك شيء يا غلام. فقال: نعم. فتعجب الرجل وأعاد السؤال مرة أخرى، فقال: نعم فأعاد الثالثة، فقال: نعم معي أربعين ديناراً فأخرجها لهم، فقال له: لماذا اعترفت وكنت قادراً على إخفائها، فقال: لقد سألتني عن المال وإن أمي أوصتني أن لا اكذب فتحرك الإيمان في قلب رئيس الجماعة وبكى، وبكى أصحابه تأثراً بهذا الموقف العظيم.
فكان صدق الشيخ عبد القادر سببا لتوبة قطاع الطريق عن معصيتهم، وكان هذا أول امتحان للشيخ رضي الله عنه ونجح في هذا الامتحان، وكان امتحان لشخصيته وتقواه وتغلبه على هواه، وثبوت إيمانه وكان نجاحه كبير وبدت ملامح مستقبل الفتى الجيلي تلوح بالأفق مشرقة.
دخوله رضي الله عنه إلى بغداد وطلبه للعلم
دخل رضي الله عنه بغداد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة بقصد طلب العلم، وكان له من العمر ثماني عشرة سنة, وكانت بغداد في أوج عظمتها واتساعها وغناها, وابْتُلِىَ الشيخ رضي الله عنه في أول حياته في بغداد، وامتحن امتحاناً قاسياً وتعرض للفتن والفقر والجوع والحرمان، حتى كان يقتات من حواشي الأنهار ويمشي على الشوك حافياً، وينام في البراري والخرب، ولبس المرقع والرخيص من الثياب حتى لقب بالمجنون، وطالما حدثته نفسه بترك بغداد ويرجع إلى أهله لكن الله ثبته وتابع طريقه الصعب الذي ملئ بالأهوال والصعاب.
ولكن عزيمته وهمته ساعدته لبلوغ مقصده فأخذ رضي الله عنه علم الظاهر بسائر فنونه على جماعة من الأعيان وبرع في جميع العلوم حتى كاد يعد للمناظرة في ثلاثة عشر فناً من العلوم, وتأثر كثيراً بحجة الإسلام الإمام الغزالي رضي الله عنه وتقفا منهجه وزاد عليه وسمع رضي الله عنه الحديث على أيدي كثير من مشاهير عصره من الحفاظ وقرأ الفقه والأدب واللغة وألم بعلوم الشريعة من كل نواحيها وفاق جميع علماء عصره وصارت إليه الفتوى وخضع له كل علماء عصره واعترفوا بفضله عليهم، وذاع صيته في البلاد.
ثم صحب بعد ذلك جماعة من أرباب القلوب وأكابر أهل الحقيقة فأخذ عنهم علم الطريقة وكان عمدته الشيخ أبو حماد الدباس لازمه نيفاً وعشرين سنة وتربى على يديه وتأدب إلى أن صار من المحبوبين وتكلم ولا يبالي ولما تمكن وتهذب في العرفان، وكذلك أخذ عن قاضي القضاة أبو سعيد المبارك المخرمي أو المخزومي، وأخذ طريق التصوف بجد وعزم وأقبل على المجاهدات والرياضات والخلوات بدون هوادة، حتى صار من أكبر أرباب الأحوال، وصار من كبار الأولياء والتف حوله المريدون والتلاميذ حتى لقب بسلطان الأولياء والعارفين وخضع له المتصوفة وأرباب السلوك واعترفوا بفضلة عليهم وصار مرجعاً لكل المتصوفة في زمانه لأنه غير منهج التصوف تغييراً كبيراً واستطاع أن يخضع التصوف للكتاب والسنة، ورسم منهجاً جديداً للتصوف مبنياً على الكتاب والسنة المطهرة، ومع كل هذا كان زاهداً في الدنيا وشهواتها مقبلاً على الآخرة ونعيمها.
واستمرت فترة التحصيل العلمي للشيخ ثلاثاً وثلاثين سنة، قضاها على قدم وساق يحصل العلم والعمل والتصوف والسلوك وبدأ مرحلة جديدة من حياته وهي مرحلة تصدره للوعظ والتربية والتدريس وصارت مدرسته من أشهر وأكبر المدارس في البلاد الإسلامية بدون منافس وهنا بدأت مرحلة جديدة من حياة الشيخ .
شيوخه رضي الله عنه
لقد تميز العصر الذي نشأ فيه سيدنا الشيخ رضي الله عنه بكثرة العلماء والدعاة، وتميز بكثرة المؤلفات في مختلف العلوم، وقد ساعد هذا الشيخ عبد القادر رضي الله عنه في كسب أكبر قدر من هذه العلوم ودرس اثنا عشر علماً وبرع فيها.
فسمع الحديث من أبي غالب الباقلاني, وأبي بكر احمد ابن المظفر, وأبي القاسم علي بن بيان الرزاز, وأبي محمد جعفر ابن أحمد السراج, وأبي طالب عبد القادر ابن محمد، وأبي سعد محمد ابن عبد الكريم البغدادي, وأبي البركات هبة الله بن المبارك بن موسى البغدادي السقطي, وأبي العز محمد ابن المختار الهاشمي العباسي .
وأخذ الفقه عن شيخ الحنابلة القاضي أبي سيعد المبارك المخرمي أو المخزومي البغدادي, والشيخ علي أبي الوفا بن عقيل الحنبلي البغدادي الظفري, والشيخ أبي الخطاب محفوظ بن أحمد بن حسن بن حسن العراقي الكلواذاني.
وأخذ الأدب واللغة عن إمام اللغة الشيخ أبي زكريا يحيى بن علي بن محمد بن حسن بن بسطام الشيباني الخطيب التبريزي.
وأخذ علم التصوف والسلوك عن الشيخ حماد بن مسلم الدباس, وعن الشيخ أبي محمد جعفر بن أحمد السراج، وعن القاضي الشيخ أبي سعيد المبارك المخرمي أو المخزومي، وأخذ الطريقة عنة ولبس الخرقة من يديه وأجازه وخلفه في مدرسته.
وأخذ القرآن وعلومه وقراءاته وتفسيره عن الشيخ علي أبي الوفا بن عقيل الحنبلي البغدادي الظفري, والشيخ أبي الخطاب محفوظ بن أحمد بن حسن بن حسن العراقي الكلواذاني.
هؤلاء هم أهم الشيوخ والعلماء الذين أخذ منهم سيدنا الشيخ رضي الله عنه كما أخذ عن غيرهم فكان نعم الآخذ، حتى برع في الأصول والفروع وأنواع الخلاف وعلوم القرآن والبلاغة والأدب, والمذهب الحنبلي ودام على ذلك ثلاثا وثلاثين عاماً.
تصدره للوعظ والإرشاد وتضلعه بالكتاب والسنة
وجلس رضي الله عنه للوعظ في شوال سنة 521 هجري، في مدرسة الشيخ أبي سعيد المبارك المخرمي قاضي القضاة بباب الأزج، وظهر له صيت كبير في الزهد, فوضت إليه مدرسة شيخه المخرمي رضي الله عنه, وأقام فيها يدرس ويعظ الناس إلى أن ضاقت بالناس, الذين قُدِر عددهم بسبعين ألف إنسان.
وقد أظهر الله الحكمة من قلبه على لسانه, حتى صار أحد أشهر الأولياء الذين وقع الإجماع على ولايتهم عند جميع أفراد الأمة المحمدية، وتتلمذ على يديه عدد كبير من الفقهاء والعلماء والمحدثين وأرباب الأحوال أمثال: شيخ العراق الزاهد الحسن بن مسلم الفارسي العراقي، وأمثال قاضي الديار المصرية عبد الملك بن عيسى المارانَّي الكردي الشافعي، وسيدي شعيب أبو مدين, وأبو عبد الله محمد بن أبي المعالي, والإمام الحافظ الأثري أبو محمد عبد الغني المقدسي الحنبلي، والشيخ بن قدامه المقدسي الحنبلي, وغيرهم الكثير رضي الله عنهم أجمعين، كما تصدر للتدريس والفتوى والتربية والوعظ وسلم إلية قلم الفتوى في زمانه .
وبسند صاحب البهجة إلى أبي قاسم البزار أنه قال: كانت الفتوى تأتي الشيخ عبد القادر وما رأيته يبيت عنده فتوى ليطالع عليها، بل يكتب عليها عقب قراءتها، وكان يفتي على مذهب الإمام أحمد والشافعي، وتُعرض فتواه على علماء العراق فما كان تعجبهم من صوابه أشد من تعجبهم من سرعة جوابه.
ومما اشتهر عن سيدنا الشيخ عبد القادر رحمه الله تعالى مما يدل على فقهه وثبات قدمه في العلم ما حكاه عنه ابنه موسى كما قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى: سمعت والدي يقول: خرجت في بعض سياحتي إلى البرية، ومكثت أياماً لا أجد ماء فاشتد بي العطش، فأظلَّتني سحابة نزل علي منها شيء يشبه الندى, فترويت منه, ثم رأيت نوراً أضاء به الأفق، وبدت لي صورة, ونوديت منها: يا عبد القادر أنا ربك وقد أحللت لك المحرمات, أو قال: ما حرمت على غيرك , فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم خسأ يا لعين, فإذا ذلك النور ظلام, وتلك الصورة دخان، ثم خاطبني وقال: يا عبد القادر نجوت مني بعلمك بحكم ربك وفقهك في أحوال منازلاتك, ولقد أضللت بمثل هذا الواقعة سبعين من أهل الطريق فقلت: لربي لفضل والمنَّة, قال: فقيل له: كيف علمت أنَّه شيطان؟ قال بقوله: وقد أحللت لك المحرمات.
ومما يدل على تمكنه في الفقه وبراعته فيه ماحكاه عنه ابنه عبد الرزاق قال: جاءت فتوى من العجم إلى علماء بغداد لم يتضح لأحد فيها جواب شافي وصورتها: ما يقول السادة العلماء في رجل حلف بالطلاق الثلاث. أنَّه لابد أن يعبد الله عز وجل عبادة ينفرد بها دون جميع الناس في وقت تلبسه بها فما يفعل من العبادات؟ قال: فأتي بها إلى والدي فكتب عليها على الفور: يأتي مكة, ويخلي له المطاف, ويطوف أسبوعاً وحده وتنحل يمينه, قال: فما بات المستفتي ببغداد.
هكذا كانت حياته العلمية ووعظه وإرشاده، كان علماً وعالماً عاملاً وقدوةً وداعياً، واعترف بفضله القاصي والداني والعرب والعجم وانتشر فضله حتى عمَّ جميع البقاع، وقصده الوافدون من كل البلاد، والتف حوله الفقراء والمساكين، فكان بغية كل الطالبين في جميع العلوم، وكان بغية الناس فيما يحتاجون، فكان نوراً يشع على دولة الإسلام فرضي الله عنه ونفعنا ببركته.
قال شيخ الإسلام الشيخ محي الدين النووي رحمه الله تعالى: ما علمنا فيما بلغنا من التفات الناقلين وكرامات الأولياء أكثر مما وصل إلينا من كرامات القطب شيخ بغداد محيي الدين عبد القادر الجيلي رضي الله عنه, كان شيخ السادة الشافعية والسادة الحنابلة ببغداد، وانتهت إليه رياسة العلم في وقته, وتخرج بصحبته غير واحد من الأكابر، وانتهى إليه أكثر أعيان مشايخ العراق، وتتلمذ له خلق لا يحصون عدداً من أرباب المقامات الرفيعة, وانعقد علية إجماع المشايخ والعلماء رضي الله عنهم بالتبجيل والإعظام, والرجوع إلى قولة والمصير إلى حكمه, وأُهرع إليه أهل السلوك من كل فج عميق، وكان جميل الصفات شريف الأخلاق. كامل الأدب والمروءة، كثير التواضع، دائم البشر، وافر العلم والعقل، شديد الاقتفاء لكلام الشرع وأحكامه، معظما لأهل العلم، مُكرِّماً لأرباب الدين والسنة, مبغضاً لأهل البدع والأهواء، محباً لمريدي الحق مع دوام المجاهدة ولزوم المراقبة إلى الموت، وكان له كلام عالٍ في علوم المعارف، شديد الغضب إذا انتهكت محارم الله سبحانه وتعالى، سخي الكف كريم النفس على أجمل طريقة، وبالجملة لم يكن في زمنه مثله رضي الله عنه ([1]).
وذكره الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه رجال الفكر والدعوة فقال: ولم يمنعه اشتغاله بالوعظ والإرشاد وتربية النفوس من الاشتغال بالتدريس, ونشر العلم ونصر السنة والعقيدة الصحيحة, ومحاربة البدع, وقد كان في العقيدة والفروع متبعا للإمام أحمد والمحدثين والسلف. قال ابن رجب الحنبلي: كان متمسكاً في مسائل الصفات والقدر ونحوهما بالسنة, مبالغاً في الرد على من خالفها. وقد كان قوي الاشتغال بالتدريس, عالماً مثقفاً, قالوا: كان يتكلم في ثلاثة عشر علماً وكانوا يقرءون عليه في مدرسته درساً من التفسير, ودرساً من الحديث, و درساً من المذهب, و الخلاف وكانوا يقرءون عليه طرفي النهار التفسير وعلوم الحديث, والمذهب والخلاف, والأصول, والنحو.
وكان رضي الله عنه يقرأ القران بالقراءات بعد الظهر, وكان يفتي على مذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهما, وكانت فتواه تعرض على العلماء بالعراق, فتعجبهم أشد الإعجاب.
ويتابع الشيخ أبو الحسن قائلاً: عني الشيخ عبد القادر بعدما أتم دراسته العلمية والروحية بالإصلاح وإرشاد الخلق إلى الحق, وجمع بين الرئاسة الدينية والرئاسة العلمية, وكان أبو سعيد قد بني مدرسة لطيفة بباب الأزج ففوضت إليه وتكلم مع الناس بلسان الوعظ وظهر له صيت, فضاقت مدرسته بالناس من ازدحامهم على مجلسه: فجلس للناس عند السور أياماً, ثم وسعت بما أضيف إليها من المنازل والأمكنة التي حولها, وبذل الأغنياء في عمارتها أموالهم, وعمل الفقراء فيها بأنفسهم, واكتملت المدرسة في سنة ثمان وعشرين وخمسمائة, وصارت منسوبة إليه, وتصدر بها للتدريس والفتوى والوعظ مع الاجتهاد في العلم والعمل, وجمع الله قلوب عباده على حبه, والهج ألسنتهم بالثناء عليه, وانتهت إليه رئاسة العلم والتربية والإصلاح والإرشاد والدعوة إلى الله بالعراق، وقصده الناس من الأفاق, ورزقه الله من الوجاهة والقبول ما أزرى بوجاهة الملوك والسلاطين, وهابه الخلفاء والملوك والوزراء فمن دونهم .
قال الشيخ موفق ابن قدامه صاحب المغني: لم أر أحداً يُعَظَّمُ من أجلْ الدين أكثر منه، وكان يحضر مجالسه في بعض الأحيان الخليفة والملوك والوزراء فيجلسون متأدبين خاشعين. أما العلماء والفقهاء فلا يأتي عليهم حصر, وقد عد في بعض مجالسه أربعمائة محبرة. ويقول : وكان لمجالسه تأثير عظيم ونفع كثير .
يقول الشيخ عمر الكيساني: لم تكن مجالس سيدنا الشيخ عبد القادر رضي الله عنه تخلو ممن يُسْلِم من اليهود والنصارى, ولا ممن يتوب من قطاع الطريق وقاتلي النفس وغير ذلك من الفساق، ولا ممن يرجع عن معتقدٍ سيء, وقد كان يشعر بذلك ويحمد الله عليه, ويفضله على ما كان يهواه من الخلوة بالله والانقطاع عن الخلق والاشتغال بالعبادات.
قال الجبائي: قال لي سيدنا الشيخ أتمنى أن أكون في الصحاري والبراري كما كنت في الأول, لا أرى الخلق ولا يرونني, ثم قال: أراد الله عز وجل منِّي منفعة الخلق فأنه قد أسلم على يدي أكثر من خمسة آلاف من اليهود والنصارى, وتاب على يدي من العيارين والمسالحة, أكثر من مائة ألف وهذا خير كثير.
هكذا كانت سيرة سيدنا الشيخ عبد القادر الجيلاني, عاش حياته للناس كالمطر للأرض وكالقمر يضئ لهم طريقهم إلى الله، به يهتدون ومعه يسيرون، فرضي الله تعالى عنه وأمدنا بمدده ونفَّعنا بعلمه وأفاض علينا من بركته وسلك بنا مسلكه.
وكان سيدنا الشيخ عبد القادر في طليعة الداعين إلى التوسع في فهم القران الكريم والأحاديث النبوية، والتفهم على استنباط الدلائل المتعلقة بالعقائد والأحكام الفقهية منها، ولذا كان على جانب كبير من المعرفة في علوم القران وعلوم الحديث حتى أنه فاق علماء عصره في هذه العلوم الشريفة، ومما يدل على سعة معرفة الشيخ بالكتاب الكريم، ما أخبر به الشيخ يوسف بن الإمام أبي الفرج الجوزي العلامة البغدادي الشهير فقال:قال لي الحافظ أحمد البندلجي حضرت ووالدك رحمه الله تعالى يوماً مجلس عبد القادر، فقرأ القارئ آية، فذكر الشيخ في تفسيرها وجهاً فقلت لوالدك أتعلم هذا الوجه ؟
قال: نعم، ثم ذكر الشيخ وجها آخر. فقلت: لوالدك أتعلم هذا الوجه ؟
قال: نعم، فذكر الشيخ فيها أحد عشر وجها، وأنا أقول لوالدك أتعلم هذا الوجه ؟وهو يقول: نعم. ثم ذكر الشيخ وجها آخر. فقلت لوالدك أتعلم هذا الوجه ؟قال: لا حتى ذكر فيها كمال أربعين وجها يعزو كل وجه إلى قائله ووالدك.يقول: لا أعرف هذا الوجه واشتد تعجبه من سعة علم الشيخ.
قال: نعم، ثم ذكر الشيخ وجها آخر. فقلت: لوالدك أتعلم هذا الوجه ؟
قال: نعم، فذكر الشيخ فيها أحد عشر وجها، وأنا أقول لوالدك أتعلم هذا الوجه ؟وهو يقول: نعم. ثم ذكر الشيخ وجها آخر. فقلت لوالدك أتعلم هذا الوجه ؟قال: لا حتى ذكر فيها كمال أربعين وجها يعزو كل وجه إلى قائله ووالدك.يقول: لا أعرف هذا الوجه واشتد تعجبه من سعة علم الشيخ.
وكان سيدنا الشيخ عبد القادر لا يروي في كتبه وخطبه غير الأحاديث الصحيحة، وكان له باع طويل في نقد الحديث، وكان يشرح الحديث في معناه اللغوي، ثم ينتقل إلى شرح مغزاه، ثم ينتقل إلى استنباط المعاني الروحية منه، وهكذا كان قد جمع بين ظاهرية المحدثين وروحاني الصوفية.
وكان سيدنا الشيخ عبد القادر لا يشجع طلابه على دراسة الفلسفة أو علم الكلام، لأنه يرى أنهما ليسا من العلوم الموصلة إلى الله تعالى، ثم إنه يخشى أن ينصرف طلابه إليهما فيقعوا في مهاوي الآراء الفلسفية أو الكلامية البعيدة عن العقيدة الشرعية.
يقول الشيخ منصور بن المبارك الواسطي الواعظ: دخلت وأنا شاب على الشيخ عبد القادر رضي الله عنه ومعي كتاب يشتمل على شيء من الفلسفة وعلوم الروحانيات فقال لي: من دون الجماعة وقبل أن ينظر إلى كتاب أو يسألني عنه: يا منصور بئس الرفيق كتابك قم فاغسله وناولني بدله كتاب فضائل القرآن لمحمد بن العريس.
ولقد روى ابن تيمية عن الشيخ أحمد الفاروقي أنه سمع الشيخ شهاب الدين عمر السهروردي يقول: كنت قد عزمت أن أقرأ شيئاً من علم الكلام وأنا مـتردد هل أقرأ كتاب الإرشاد لإمام الحرمين أو نهاية الإقدام للشهرستاني أو كتاب آخر، فذهبت مع خالي أبي النجيب وكان يصلي بجنب الشيخ عبد القادر فالتفت إلي الشيخ عبد القادر وقال: يا عمر ما هو من زاد القبر? فعلمت أنه يشير إلى دراسة علم الكلام فرجعت عنه.
مؤلفاته رضي الله عنه
صنف سيدنا الشيخ رضي الله عنه مصنفاتٍ كثيرةٍ في الأصول والفروع وفي أهل الأحوال والحقائق منها ما هو مطبوع ومنها مخطوط ومنها مصور ونذكر منها التي عرفت:
1. إغاثة العارفين وغاية منى الواصلين: ( المستدرك على معجم المؤلفين / ص 401عمر كحالة ).
2. أوراد الجيلاني : ( المستدرك على معجم المؤلفين / ص 401عمر كحالة ).
3. آداب السلوك والتوصل إلى منازل السلوك: ( معجم المؤلفين /ج 5/ ص 307عمر كحالة ).
4. تحفة المتقين وسبيل العارفين : ( إيضاح المكنون ج 1/ ص257 أمير سليم ).
5. جلاء الخاطر في الباطن والظاهر: وهو عبارة عن مجموعة مجالس للشيخ في الوعظ ( كشف الظنون ص 592 ) .
6. حزب الرجاء والانتهاء للشيخ عبد القادر الجيلاني: ( كشف الظنون ص 663).
7. الحزب الكبير: ( المستدرك على معجم المؤلفين / ص 401 عمر كحالة ).
8. دعاء البسملة: ( المستدرك على معجم المؤلفين / ص 401 عمر كحالة ).
9. الرسالة الغوثية: موجود منها نسخة في مكتبة الأوقاف ببغداد ( صاحب كشف الظنون ص 879).
10. رسالة في الأسماء العظيمة للطريق إلى الله: ( المستدرك على معجم المؤلفين /ص 401 عمر كحالة ).
11. الغُنية لطالبي طريق الحق: وهو من أشهر كتب الشيخ في التصوف والأخلاق والآداب الإسلامية وهو جزءان.
12. الفتح الرباني والفيض الرحماني: وهو عبارة عن مجالس للشيوخ في الوعظ والإرشاد، وهو كتاب مطبوع ومشهور في البلاد الإسلامية.
13. فتوح العيب: وهو عبارة عن مقالات للشيخ في العقائد والتصوف والإرشاد ويتألف 78مقالة وهو كتاب مطبوع ومشهور في البلاد الإسلامية.
14. الفيوضات الربانية: وهكذا الكتاب ليس للشيخ ولكنة يحتوي الكثير من أوراد وأدعية وأحزاب الشيخ رضي الله عنه وهو كتاب مطبوع ومشهور في البلاد الإسلامية.
15. معراج لطيف المعاني: ( كشف الظنون ج 2/ ص 1738).
16. يواقيت الحكم : ( كشف الظنون ج 2ب/ ص 2053).
17. سر الأسرار في التصوف: وهو كتاب معروف وتوجد نسخة منه في المكتبة القادرية ببغداد وفي مكتبة جامعة اسطنبول وهو كتاب مطبوع ومشهور في البلاد الإسلامية.
18. الطريق إلى الله: كتاب عن الخلوة والبيعة والأسماء السبعة، وهو كتاب مطبوع ومشهور في البلاد الإسلامية.
19. رسائل الشيخ عبد القادر:وهو عبارة عن 15 رسالة بالفارسية يوجد نسخة في مكتبة جامعة اسطنبول ( كتاب محمد العيني ص 246 ) .
20. المواهب الرحمانية: ذكره صاحب روضات الجنات (كتاب محمد العيني ص 245 ).
21. حزب عبد القادر الجيلاني : مخطوط توجد نسخة منه في مكتبة الأوقاف ببغداد.
22. تنبيه الغبي إلى رؤية النبي r: نسخة مخطوطة بمكتبة الفاتيكان بروما ( كتاب الشيخ عبد القادر اليونس السامرائي ص 15 ).
23. الرد على الرافضة: نسخة مخطوطة في المكتبة القادرية ببغداد ( كتاب الشيخ عبد القادر ليونس السامرائي ص 16 ).
24. وصايا الشيخ عبد القادر: موجود في مكتبة فيض الله الشيخ مراد تحت رقم 251 ( كتاب محمد العيني ص 245).
25. بهجة الأسرار : مواعظ للشيخ جمعها الشيخ نور الدين أبو الحسن علي بن يوسف اللقمي ( كتاب محمد العيني ص 246).
26. تفسير القران الكريم: في مكتبة الشيخ رشيد كرامي في طرابلس الشام ( كتاب الشيخ عبد القادر ليونس السامرائي ص 15)، وقد طبع هذا التفسير في اسطنبول.
27. الدلائل القادرية .
28. الحديقة المصطفوية: مطبوعة بالفارسية والأردية.
29. الحجة البيضاء .
30. عمدة الصالحين في ترجمة غنية الصالحين- بالتركية.
31. بشائر الخيرات.
32. ورد الشيخ عبد القادر الجيلاني.
33. كيمياء السعادة لمن أراد الحسنى وزيادة.
34. المختصر في علم الدين - نسخة مصورة بالفوتوغراف.
35. مجموعة خطب.
36. تفسير القرآن بخط يده: كشف الظنون.
37. تحفة المتقين وسبيل العارفين: كشف الظنون.
38. الكبريت الأحمر في الصلاة على النبي r: كشف الظنون.
39. مراتب الوجود: كشف الظنون.
40. مواقيت الحكم: كشف الظنون.
41. الطقوس اللاهوتية: كشف الظنون.
طريقته ومنهجه رضي الله عنه في التربية والسلوك
جاء الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس الله سره إلى بغداد في سنة (488) هـ لطلب العلم وتعلم الفقه وبدأ بطلب العلم وشمر عن ساعد الجد عندما علم أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة فاجتهد بهذا الطريق وكان يدرس اثنا عشر علما حتى قال:
درست العلم حتى صرت قطباً ونلت السعد من مولى الموالي
وصار سلطان العلماء ويفتي على المذهبين الحنبلي والشافعي وتصدر للتدريس في مدرسة شيخه أبو سعيد المخزومي في باب الأزج حتى ضاقت المدرسة بالوافدين فخرج من بغداد إلى أطرافها ليتسع للناس حيث وصل عدد الذين يجلسون في مجلسه إلى سبعين ألف طالب وعالم ومتصوف وروى عنه أيضا انه قضى عدة سنوات على ضفاف دجلة يتعبد ويعتكف لعبادة الله تعالى وتوجه إلى علم التصوف والسلوك والتربية فأخذ هذا العلم عن قاضي القضاة أبو سعيد المخزومي وعن الشيخ حماد الدباس وعن الشيخ عبد الله الصومعي حتى شهد الكل له بالصلاح والولاية وذاع صيته في بغداد واستطاع رضي الله عنه أن يجمع بين الفقه والعلم والتصوف والسلوك والتربية وعندما رأى ضلال بعض الفرق الصوفية وخروجها عن الكتاب والسنة راح يحاربها ويبين زيفها وزيغها وبدعها وسعى جاهدا ليخضع الطريقة للشريعة لكي لا تضل ولا تزيغ بل قدم الشريعة على الطريقة لأنها الأصل الذي تبنى عليه الطريقة وكان يكثر من قوله: ( اتبعوا ولا تبتدعوا ) وكان يقول: (تفقه ثم اعتزل وكل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي زندقة) . وخضع له كل العلماء والأولياء في زمنه لما رأوا فضله عليهم وبذلك أعاد ربط السلوك والتصوف بالفقه والشرع كما كان الزهد والتعبد على عهد رسول الله r وكان للشيخ عبد القادر رضي الله عنه باعاً طويلاً بالتأليف والتصنيف وخاصة بالتصوف والسلوك مثل كتاب: (الفتح الرباني – فتوح الغيب – الغنية – سر الأسرار – الطريق إلى الله – آداب السلوك) وكل هذا من أجل أن يضع لطريقته منهاجاً قويماً قائم على الكتاب والسنة من أجل أن ينير الدرب لمريديه من بعده حتى لا يضلوا وينغمسوا في البدع والضلال وهكذا كان منهج سيدي الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه وهكذا استطاع أن يوفق بين الفقه والتصوف وآخى بين الفقهاء والمتصوفة واخضع الحقيقة للشريعة وصفى التصوف من البدع والضلالات التي دخلت عليه فدان له العلماء ووقف ببابه الأولياء. وقد وضح طريقته رضي الله عنه فقال: (( لا يرى غير مولاه ولا يسمع ولا يعقل، بنعمته تنعم، وبقربه أُسعد وتزين وتشرف، وبوعده طاب وسكن وبه اطمئن، وبحديثه أنس وعن غيره استوحش ونفر، وإلى ذكره التجأ وركن، وبه عز وجل وثق، وعليه توكل وبنور معرفته اهتدى وتقمص وتسربل )) .
قال عنه الشيخ عقيل المنبجي رحمه الله تعالى: هذا هو الباز الأشهب هذا هو سلطان الأولياء والعارفين. وقال عنه الإمام الشعراني رضي الله عنه: طريقته التوحيد وصفاً وحكماً وحالاً وتحقيقه الشرع ظاهراً وباطناً. وقال عنه الشيخ عدي بن مسافر رحمه الله تعالى: طريقته الذبول تحت مجاري الأقدار بموافقة القلب والروح واتحاد الباطن والظاهر وانسلاخه من صفات النفس. وقال عنه الشيخ بقا بن بطو رحمه الله تعالى: كانت قوة الشيخ عبد القادر الجيلاني في طريقته إلى ربه كقوى جميع أهل الطريق شدة ولزوماً وكانت طريقته التوحيد وصفاً وحكماً وحالاً. ويقول عنه الشيخ علي بن الهيتي رحمه الله تعالى: كان قدمه التفويض والموافقة مع التبرىء من الحول والقوة وكانت طريقته تجريد التوحيد وتوحيد التفريد مع الحضور في موقف العبودية لا بشيء ولا لشيء.هكذا كانت طريقة ومسيرة سيدي الباز الأشهب والغوث الأعظم الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه وعلى هذا سار في منهج التربية مع تلاميذه وكان معروفاً بين المشايخ بشدته وحزمه في التربية ولا يتهاون في الشريعة وحدودها وكان يعتمد في تربية المريدين أولاً على الحلم بهم ومن ثم العلم والفقه والحديث ثم على الزهد والتقشف والرياضات والخلوات والمجاهدات وعلى الأذكار والأدعية فقام رضي الله عنه بوضع الأوراد وقسمها على الأيام والليالي والأوقات فكانت خبرته في التربية ليس له مثيل في عصره حتى انتهت إليه رئاسة العلم والتربية في زمنه فلذلك اشتهر بين العوام والخواص وشهدت له كل الملل والنحل حتى أن اليهود والنصارى كانوا يحضرون مجالسه ولم يطعن أحد بسيرته ومنهجه بل شهد بفضله كبار علماء الأمة وصالحيها ممن عاصروه وممن جاءوا من بعده فمن العلماء كالعز ابن عبد السلام والإمام النووي وابن كثير والذهبي وابن تيمية وابن القيم والسيوطي وابن حجر رحمهم الله ومن الصالحين كالإمام الرفاعي والشيخ عقيل المنبجي والسهروردي ومحي الدين العربي وعدي ابن مسافر والشيخ رسلان الدمشقي وحياة ابن قيس الحراني وأبو مدين وأبو الحسن الشاذلي والشعراني رحمهم الله أجمعين .
أخي السالك:
هكذا كان منهج الشيخ الجليل الذي عاش قدوة للناس ومنارة لمن جاء من بعده وهاهي طريقته القادرية العلية ثمان قرون ونيف والناس تقتدي به وتثني عليه و تتبع منهجه القويم فإذا أردت أن تكون من أتباع الطريقة القادرية بحق فلن يستقيم لك ذلك إلا بإتباع منهجه وطريقته على أصلها الصحيح الذي اقتبسه رضي الله عنه من بحر الشريعة ومن نور النبوة المحمدي وتحذي حذوه دون مخالفة ودون شطط عن منهجه وطريقته واجعل الكتاب عن يمينك والسنة عن شمالك واجعلهما جناحيك تطير بهما إلى الله جل وعلا . وتقرب بهما إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . فرضي الله عن سيدي الشيخ عبد القادر ونفعنا ببركته آمين .آمين .
أقوال العلماء في الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه
من خلال ما مرَّ معنا تبين لنا أنَّ شخصية سيدنا الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه كانت شخصية عظيمة بل وفريدة من نوعها، جمع كافة العلوم وأتقن كافة الفنون وكان بحراً لا سواحل له حتى دان له العلماء وخضع له الأولياء وأجمع على علمه وولياته العلماء, وثنا عليه الكثير من علماء الأمة الصالحون والعارفون والَّفت فيه المئات من الكتب والرسائل والتصانيف، بل لا تكاد تجد رجل من العلماء ألف في سيرته مثل الذي ألف في سيرة الشيخ، وقيل فيه العديد من القصائد والأشعار, وإليك بعض ما قيل في حق هذا الرجل القدوة العارف بالله العظيم:
يقول شيخ الإسـلام الشيخ محيي الدين يحيى بن شرف النووي رحمه الله تعالى: ما علمنا فيما بلغنا من الثقات الناقلين وكرامات الأولياء أكثر مما وصل إلينا من كرامات القطب شيخ بغداد محيي الدين عبد القادر الجيلي رضي الله عنه, كان شيخ السادة الشافعية والسادة الحنابلة ببغداد، وانتهت إليه رياسة العلم في وقته, وتخرج بصحبته غير واحد من الأكابر، وانتهى إليه أكثر أعيان مشايخ العراق، وتتلمذ له خلق لا يحصون عدداً من أرباب المقامات الرفيعة, وانعقد علية إجماع المشايخ والعلماء رضي الله عنهم بالتبجيل والإعظام, والرجوع إلى قولة والمصير إلى حكمه, وأُهرع إليه أهل السلوك من كل فج عميق، وكان جميل الصفات شريف الأخلاق. كامل الأدب والمروءة، كثير التواضع، دائم البشر، وافر العلم والعقل، شديد الاقتفاء لكلام الشرع وأحكامه، معظما لأهل العلم، مُكرِّماً لأرباب الدين والسنة, مبغضاً لأهل البدع والأهواء، محباً لمريدي الحق مع دوام المجاهدة ولزوم المراقبة إلى الموت، وكان له كلام عالٍ في علوم المعارف، شديد الغضب إذا انتهكت محارم الله سبحانه وتعالى، سخي الكف كريم النفس على أجمل طريقة، وبالجملة لم يكن في زمنه مثله رضي الله عنه([1]).
ويقول شيخ الإسلام سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام رحمة الله: إنه لم تتواتر كرامات أحدٍ من المشايخ إلا الشيخ عبد القادر فإن كراماته نقلت بالتواتر([2]).
ويقول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة الشيخ: الشيخ عبد القادر الشيخ الإمام العالم الزاهد العارف القدوة شيخ الإسلام علم الأولياء محيي الدين أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح عبد الله بن جنكي دوست الجيلي الحنبلي شيخ بغداد.
ويقول شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى في فتاويه: وَلِهَذَا يَقُولُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- كَثِيرٌ مِنْ الرِّجَالِ إذَا وَصَلُوا إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَمْسَكُوا وَأَنَا انْفَتَحَتْ لِي فِيهِ رَوْزَنَةٌ فَنَازَعْتُ أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ وَالرَّجُلُ مَنْ يَكُونُ مُنَازِعًا لِقَدَرِ لَا مُوَافِقًا لَهُ وَهُوَ - رضي الله عنه - كَانَ يُعَظِّمُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَيُوصِي بِاتِّبَاعِ ذَلِكَ وَيَنْهَى عَنْ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ([3]).
ويقول أيضاً: وأما أئمة الصوفية والمشايخ المشهورين من القدماء مثل الجنيد بن محمد وأتباعه ومثل الشيخ عبد القادر وأمثاله، فهؤلاء من أعظم الناس لزوماً للأمر والنهي وتوصية بإتباع ذلك وتحذيراً من المشي مع القدر كما مشى أصحابهم أولئك. و هذا هو الفرق الثاني الذي تكلم فيه الجنيد مع أصحابه, والشيخ عبد القادر كلامه كله يدور على إتباع المأمور و ترك المحظور والصبر على المقدور ولا يثبت طريقاً تخالف ذلك أصلا, لا هو ولا عامة المشايخ المقبولين عند المسلمين و يحذر عن ملاحظة القدر المحض بدون إتباع الأمر و النهي([4]).
يقول الشيخ أبو أسعد عبد الكريم السمعاني: كان عبد القادر أبو محمد من أهل جيلان إمام الحنابلة وشيخهم في عصره، فقيهٌ صالحٌ دينٌ خيرٌ كثيرُ الذكرِ دائمُ الفكرِ سريعُ الدمعةِ، تفقه على المخرمي وصحب الشيخ حماداً الدباس، وكان يسكن باب الأزج في مدرسة بنيت له، مضينا لزيارته فخرج وقعد بين أصحابه وختموا القرءان فألقى درساً ما فهمت منة شيئاً وأعجب من ذا أن أصحابه قاموا وعادوا الدرس فلعلهم فهموا لإلفهم بكلماته وعبارته وقال: هو إمام الحنابلة وشيخهم في عصره، فقيه صالح كثير الذكر دائم الفكر,وهو شديد الخشية, مجاب الدعوة أقرب الناس للحق ولا يرد سائلاً ولو بأحد ثوبيه.
ويقول شيخ الإسلام شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني رحمة الله تعالى: كان الشيخ عبد القادر متمسكاً بقوانين الشريعة, يدعو إليها وينفر عن مخالفتها، ويشغل الناس فيها مع تمسكه بالعبادة والمجاهدة، ومزج ذلك بمخالطة الشاغل عنها غالباً كالأزواج والأولاد, ومن كان هذا سبيله كان أكمل من غيره لأنها صفة صاحب الشريعة r ([5]).
ويقول موفق الدين ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى: دخلنا بغداد سنة إحدى وستين وخمسمائة فإذا الشيخ عبد القادر بها انتهت إليه بها علما وعملا وحالا واستفتاء , وكان يكفي طالب العلم عن قصد غيره من كثرة ما اجتمع فيه من العلوم والصبر على المشتغلين وسعة الصدر، كان ملئ العين وجمع الله فيه أوصافاً جميلة وأحوالاً عزيزة ,وما رأيت بعده مثله، ولم اسمع عن أحد يحكى عنه من الكرامات أكثر مما يحكى عنه, ولا رأيت أحداً يعظمه الناس من أجل الدين أكثر منه([6]).
ويقول الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف البرزالي الاشبيلي: عبد القادر الجيلاني فقيه الحنابلة والشافعية ببغداد وشيخ جماعتها, له القبول التام عند الفقهاء والفقراء والعوام, وهو أحد أركان الإسلام، انتفع به الخاص والعام، كان مجاب الدعوة سريع الدمعة دائم الذكر كثير الفكر رقيق القلب دائم البشر كريم النفس سخي اليد غزير العلم شريف الأخلاق طيب الأعراف، مع قدم راسخ في العبادة والاجتهاد([7]).
ويقول مفتي العراق محيي الدين أبو عبد الله محمد بن حامد البغدادي: في وصف السيد عبد القادر الجيلاني بأنه سريع الدمعة شديد الخشية كثير الهيبة مجاب الدعوة كريم الأخلاق طيب الأعراق أبعد الناس عن الفحش اقرب الناس إلى الحق شديد البأس إذا انتهكت محارم الله وكان التوفيق رأيه والتأييد صناعته والذكر وزيره والفكر سميره وآداب الشريعة ظاهره وأوصاف الحقيقة سرائره.
ويقول سيدي أبو العباس القطب الكبير الشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه: الشيخ عبد القادر من يستطيع وصف مناقبه , ومن يبلغ مبلغة , ذاك رجل بحر الشريعة عن يمينه ,وبحر الحقيقة عن يساره من أيهما شاء اقترف ,لا ثاني له في وقتنا هذا ([8]).
ويقول محب الدين عبد الله بن النجار في تاريخه: عبد القادر الجيلاني ابن أبي صالح جنكي دوست من أهل جيلان أحد الأئمة الأعلام, صاحب الكرامات الظاهرة,كان من الأولياء المجتهدين, والمشايخ المرجوع إليهم في أمور الدين، واحد أئمة الإسلام العالمين العاملين ([9]).
ويقول ابن رجب الحنبلي رحمة الله تعالى في طبقاته: عبد القادر بن أبي صالح الجيلي ثم البغدادي, الزاهد شيخ العصر وقدوة العارفين، وسلطان المشايخ وسيد أهل الطريقة, محيي الدين ظهر للناس, وحصل له القبول التام, وانتصر أهل السنة الشريفة بظهوره, وانخذل أهل البدع والأهواء, واشتهرت أحواله وأقواله وكراماته ومكاشفاته, وجاءته الفتاوى من سائر الأقطار, وهابه الخلفاء والوزراء والملوك فمن دونهم.
ويقول الإمام الحافظ بن كثير رحمة الله تعالى في البداية والنهاية: الشيخ عبد القادر الجيلي بن أبي صالح أبو محمد الجيلي، ولد سنة سبعين وأربعمائة ودخل بغداد فسمع الحديث وتفقه على أبي سيعد المخرمي الحنبلي، وقد كان بنا مدرسة ففوضها إلى الشيخ عبد القادر فكان يتكلم على الناس بها ويعظهم، وانتفع به الناس انتفاعاً كثيراً، وكان له سمت حسن وصمت، غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان فيه تزهد كثير، وله أحوال صالحة ومكاشفات، ولأتباعه وأصحابه فيه مقالات ويذكرون عنه أقوالا وأفعالا ومكاشفات أكثرها مغالاة وقد كان صالحا ورعاً.
ويقول الإمام العلامة اليافعي اليمني المكي الشافعي رحمة الله تعالى: قطب الأولياء الكرام, شيخ المسلمين والإسلام ركن الشرعة وعلم الطريقة, شيخ الشيوخ ,قدوة الأولياء العارفين الأكابر أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي قدس سره ونور ضريحه, تحلى رضي الله عنه بحلي العلوم الشرعية وتجمل بتيجان الفنون الدينية ,وتزود بأحسن الآداب واشرف الأخلاق, قام بنص بالكتاب والسنة خطيبا على الأشهاد ,ودعا الخلق إلى الله سبحانه وتعالى فأسرعوا إلى الانقياد, وابرز جواهر التوحيد من بحار علوم تلاطمت أمواجها, وابرأ النفوس من أسقامها وشفى الخواطر من أوهامها وكم رد إلى الله عاصياً, تتلمذ له خلق كثير من الفقهاء([10]).
ويقول عنة الإمام عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه: طريقته التوحيد وصفاً وحكما وحالا وتحقيقه الشرع ظاهرا وباطناً ([11]).
ويقول عنه الشيخ عدي بن مسافر رحمة الله تعالى: طريقته الذبول تحت مجاري الأقدار موافقة القلب والروح وإتحاد الباطن والظاهر وانسلاخه من صفات النفس([12]).
ويقول الشيخ حسن قضيب البان شيخ الموصل رحمة الله: الشيخ عبد القادر رحمه الله تعالى قائد ركب المحبين وقدوة السالكين, وإمام الصديقين، وحجة العارفين, وصدر المقربين, في هذا الوقت ([13]).
ويقول عنه الشيخ بقا بن بطو رحمه الله تعالى: كانت قوة الشيخ عبد القادر الجيلاني في طريقته إلى ربة كقوى جميع أهل الطريق شدة ولزوما وكانت طريقته التوحيد وصفا وحكما وحالاً ([14]).
ويقول عنه الشيخ علي بن الهيتي رحمه الله تعالى وهو من أشهر خلفاءه: كان قدمه التفويض والموافقة مع التبرؤ من الحول والقوة وكانت طريقته تجريد التوحيد وتوحيد التفريد مع الحضور في موقف العبودية لا بشيء ولا لشيء ([15]).
يقول عنه الإمام العليمي الحنبلي: الشيخ الإمام العالم السيد الكبير الزاهد، شيخ العصر وقدوة العارفين وسلطان المشايخ وسيد أهل الطريقة في وقته، محيي الدين أبو محمد، صاحب المقامات، والمواهب والكرامات، والخوارق الباهرات، والعلوم والمعارف والأحوال المشهورة
وفاته رضي الله عنه
كانت وفاة الشيخ رضي الله تعالى عنه ليلة السبت في العاشر من شهر ربيع الثاني سنة 561 للهجرة فرغ من تجهيزه ليلا وصلى عليه ولده عبد الوهاب في جماعة من حضر من أولاده وأصحابه، ثم دفن في رواق مدرسته، ولم يفتح باب المدرسة حتى علا النهار وأهرع الناس للصلاة على قبره وزيارته وكان يوما مشهوداً، وبلغ تسعين سنة من عمره.
الكلمات المفتاحية :
الطرق الصوفية
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: