الفقه الحنبلي - الزنى - القذف
(مسألة) (وان أتت المرأة المرأة فلا حد عليهما) إذا تدالكت امرأتان فهما ملعونتان لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان) ولاحد عليهما لان لا يتضمن إيلاجا فأشبه المباشرة دون الفرج وعليهما التعزير لانه زنا لا حد
فيه فأشبه مباشرة الرجل المرأة من غير جماع.
(فصل) ولو وجد رجل مع امرأة يقبل كل واحد منهما صاحبه ولم يعلم هل وطئها أولا فلا حد عليهما، وفان قالا نحن زوجان واتفقا على ذلك فالقول قولهما، وبه قال الحكم وحماد والشافعي
وأصحاب الرأي، فان شهد عليهما بالزنا فقالا نحن زوجان فقيل عليهما الحد ان لم تكن بينة بالنكاح وبه قال أبو ثور وابن المنذر لان الشهادة بالزنا تنفى كونهما زوجين فلا تبطل بمجرد قولهما ويحتمل ان لا يجب الحد إذا لم يعلم كونها أجنبية منه لان ما ادعياه محتمل فيكون ذلك شبهة كما لو شهد عليه بالسرقة فادعى أن المسروق ملكه.
(فصل) الثاني انتفاء الشبهة فان وطئ (جارية) ولده أو جارية له فيها شرك أو لولده فلا حد عليه، وجملة ذلك أن من وطئ جارية ولده فانه لا حد عليه في قول أكثر اهل العلم منهم مالك وأهل المدينة والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وقال ابو ثور وابن المنذر عليه الحد إلا ان يمنع منه اجماع لانه وطئ في غير ملك اشبه وطئ جارية ابيه
ولنا انه وطئ تمكنت الشبهة منه فلا يجب به الحد كوطئ الامة المشتركة، والدليل على تمكن الشبهة قول النبي صلى الله عليه وسلم (انت ومالك لابيك) فأضاف مال ولده إليه وجعله له فإذا لم تثبت حقيقة الملك فلا اقل من جعله شبهة دارئة للحد الذي يندرئ بالشبهات ولان القائلين بانتفاء الحد في عصر مالك والاوزاعي ومن وافقهما قد اشتهر قولهم ولم يعرف لهم مخالف فكان ذلك إجماعا وكذلك ان كان لولده فيها شرك لما ذكرنا ولا حد على الجارية لان الحد انتفى عن الواطئ لشبهة الملك فينتفي عن الموطوءة كوطئ الجارية المشتركة ولان الملك من قبيل المتضايفات إذا ثبت في احد المتضايفين ثبت في الآخر فكذلك شبهته ولا يصح القياس على وطئ جارية الاب لانه لاملك للولد فيها ولا شبهة ملك بخلاف مسئلتنا وحكي عن ابن ابي موسى قول في وطئ جارية الاب والام انه لا يحد لانه لا يقطع بسرقة ماله اشبه الاب والاول اصح وعليه عامة اهل العلم فيما علمنا (فصل) ولا يجب الحد بوطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وقال ابو ثور يجب.
ولنا انه فرج له فيه ملك فلا يجد بوطئه كالمكاتبة والمرهونة (مسألة) (أو وجد امرأة نائمة على فراشه ظنها امرأته أو جاريته، أو (دعا) الضرير امرأته أو جاريته فأجابه غيرها فوطئها فلا حد عليه)
وجملة ذلك ان من زفت إليه غير زوجته وقيل له هذه زوجتك فوطئها يعتقدها زوجته فلا حد عليه لا نعلم فيه خلافا.
وان لم يقل له هذه زوجتك أو وجد على فراشه امرأة ظنها امرأته أو جاريته فوطئها أو دعا زوجته فجاءته غيرها فوطئها يظنها المدعوة أو اشتبه عليه ذلك لعماه يعتقدها زوجته فلا حد عليه وبه قال الشافعي، وحكي عن ابي حنيفة ان عليه الحد لانه وطئ في محل لا ملك له فيه ولنا انه وطئ اعتقد إباحته بما تعذر مثله فيه فأشبه مالو قيل له هذه زوجتك ولان الحدود تدرأ بالشبهات وهذه من أعظمها، فأما ان دعا محرمة عليه فأجابه غيرها فوطئها يظنها المدعوة فعليه الحد سواء كانت المدعوة ممن له شبهة كالجارية المشتركة أو لم يكن لانه لا يعذر بهذا فأشبه ما لو قتل رجلا يظنه ابنه فبان اجنبيا.
(مسألة) (أو وطئ في نكاح مختلف في صحته أو وطئ امرأته في دبرها أو حيضها أو نفاسها) لا يجب الحد بالوطئ في نكاح مختلف في صحته كنكاح المتعة والشغار والنكاح بلا ولي والتحليل والنكاح بغير شهود ونكاح الاخت في عدة اختها والخامسة في عدة الرابعة والبائن: ونكاح المجوسية وهذا قول اكثر اهل العلم لان الاختلاف في إباحة الوطئ فيه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات وحكي عن ابن حامد وجوب الحد بالوطئ في النكاح بلا ولي والمذهب الاول قال ابن المنذر اجمع
كل من نحفظ عنه من اهل العلم ان الحدود تدرأ بالشبهات وكذلك ان وطئ امرأته في دبرها أو جاريته فهو محرم ولا يجب به الحد لان المرأة محل للوطئ في الجملة، وقد ذهب بعض العلماء إلى حله فكان ذلك شبهة مانعة من الحد والوطئ في الحيض والنفاس صادف ملكا فكان شبهة (مسألة) (ولا حد على من لم يعلم بتحريم الزنا) قال عمر وعلي وعثمان لا حد إلا على من علمه وهو قول عامة اهل العلم فان ادعى الجهل بالتحريم وكان يحتمل ان يجهله كحديث العهد بالاسلام والناشئ ببادية قبل منه لانه يجوز ان يكون صادقا وان كان ممن لا يخفى عليه ذلك كالمسلم الناشئ بين المسلمين واهل العلم لم يقبل لان تحريم الزنا لا يخفى
على من هو كذلك فقد علم كذبه فان ادعى الجهل بفساد نكاح باطل قبل قوله لان عمر قبل قول المدعي الجهل بتحريم النكاح في العدة ولان مثل هذا يجهل كثيرا ويخفى على غير اهل العلم.
(مسألة) (أو اكره على الزنا فلا حد عليه وقال اصحابنا إن اكره الرجل فزنى حد) لا يجب الحد على مكرهة على الزنا في قول عامة أهل العلم روي ذلك عن عمر والزهري وقتادة والثوري والشافعي واصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه النسائي وعن عبد الجبار بن وائل عن ابيه ان امرأة استكرهت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها الحد رواه الاثرم قال واتي عمر باماء من اماء
الامارة استكرههن غلمان من غلمان الامارة فضرب الغلمان ولم يضرب الاماء، وروى سعيد باسناده عن طارق بن شهاب قال: اتي عمر بامرأة قد زنت قالت اني كنت نائمة فلم استيقظ الا برجل قد جثم علي فخلى سبيلها ولم يضربها ولان هذه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات ولا فرق بين الاكراه بالالجاء وهو أن يغلبها على نفسها وبين الاكراه بالتهديد بالقتل ونحوه نص عليه احمد في راع جاءته امرأة قد عطشت فسألته ان يسقيها فقال لها امكنيني من نفسك قال هذه مضطرة، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ان امرأة استسقت راعيا فأبى ان يسقيها الا ان تمكنه من نفسها ففعلت فرفع ذلك إلى عمر فقال لعلي ما ترى فيها؟ قال انها مضطرة فأعطاها عمر شيئا وتركها، فان اكره الرجل فزنى فقال اصحابنا عليه الحد وبه قال محمد بن الحسن وابو ثور لان الوطئ لا يكون الا بالانتشار والاكراه ينافيه فإذا وجد الانتشار انتفى الاكراه فيلزمه الحد كما لو اكره على غير الزنا فزنى، وقال ابو حنيفة ان اكرهه السلطان فلا حد عليه وان اكرهه غيره حد استحسانا، وقال الشافعي وابن المنذر لا حد عليه لعموم الخبر ولان الحدود تدرأ بالشبهات والاكراه شبهة فيمنع الحد كما لو كانت امرأة، يحققه ان الاكراه إذا كان بالتخويف أو بمنع ما تفوت حياته بمنعه كان الرجل فيه كالمرأة فإذا لم يجب عليها الحد لم يجب عليه، وقولهم ان التخويف ينافي الانتشار لا يصح لان التخويف بترك الفعل والفعل لا يخاف منه فلا يمنع ذلك وهذا أصح الاقوال ان شاء الله تعالى
(مسألة) (وان وطئ ميتة أو ملك امة أو اخته من الرضاع فوطئها فهل يحد أو يعزر؟ على وجهين)
إذا وطئ ميتة فعليه الحد في أحد الوجهين وهو قول الاوزاعي لانه وطئ في فرج آدمية أشبه وطئ الحية ولانه اعظم ذنبا واكثر اثما لانه انضم إلى فاحشته هتك حرمة الميتة (الثاني) لا حد عليه وهو قول الحسن، قال ابو بكر وبهذا اقول لان الوطئ في الميتة كلا وطئ لانه عوض مستهلك ولانها لا يشتهى مثلها وتعافها النفس فلا حاجة إلى تسرع (شرع) الزاجر عنها، واما إذا ملك أمة (أمه) أو أخته من الرضاع فوطئها فذكر القاضي عن أصحابنا ان عليه الحد لانه فرج لا يستباح بحال فوجب الحد بالوطئ فيه كفرج الغلام وقال بعض أصحابنا لا حد فيه وهو قول اصحاب الرأي، الشافعي لانه وطئ في فرج مملوك له يملك المعاوضة عنه وأخذ صداقه فلم يجب الحد عليه كالوط في الجارية المشتركة فاما ان اشترى ذات محرمه من النسب ممن يعتق عليه ووطئها فعليه الحد لا نعلم فيه خلافا لان الملك لا يثبت فيها فلم توجد الشبهة (مسألة) (وإن وطئ في نكاح مجمع على بطلانه كنكاح المزوجة والمعتدة والخامسة وذوات المحارم من النسب والرضاع فعليه الحد) إذا تزوج ذات محرمه فالنكاح باطل بالاجماع فان وطئها فعليه الحد في قول اكثر أهل العلم منهم الحسن وجابر بن زيد ومالك والشافعي وابو يوسف ومحمد واسحاق، وقال ابو حنيفة والثوري لا حد عليه لانه وطئ تمكنت الشبهة منه فلم يوجب الحد كما لو اشترى أخته من الرضاع ثم وطئها وبيان الشبهة انه قد وجدت صورة المبيح وهو عقد النكاح الذي هو سبب للاباحة فإذا لم يثبت
حكمه وهو الاباحة بقيت صورته دارئة للحد الذي يندرئ بالشبهات.
ولنا انه وطئ في فرج امرأة مجمع على تحريمه من غير ملك ولا شبهة ملك والواطئ من أهل الحد عالم بالتحريم فلزمه الحد كما لو لم يوجد العقد، وصورة المبيح انما تكون شبهة إذا كانت صحيحة والعقد ههنا باطل محرم وفعله جناية تقتضي العقوبة انضمت إلى الزنا فلم تكن شبهة كما لو اكرهها
وعاقبها ثم زنى بها ثم يبطل بالاستيلاء عليها فان الاستيلاء سبب للملك في المباحات وليس بشبهة، وأما إذا اشترى أخته من الرضاع فهو ممنوع وإن سلمناه فان الملك المقتضي للاباحة صحيح ثابت وانما تخلفت الاباحة لمعارض بخلاف مسئلتنا فان المبيح غير موجود فان عقد النكاح باطل والملك به غير ثابت فالمقتضي معدوم فهو كما لو اشترى خمرا فشربه، إذا ثبت هذا فاختلف في الحد فروي عن احمد انه يقتل على كل حال وبهذا قال جابر بن زيد واسحاق وابو أيوب وابن أبي خيثمة، وروى اسماعيل بن سعيد عن احمد في رجل تزوج امرأة ابيه فقال يقتل ويؤخذ ماله إلى بيت المال (والرواية (الثانية) حده حد الزنا وبه قال الحسن ومالك والشافعي لعموم الآية والخبر، ووجه الاولى ما روى البراء قال: لقيت عمي ومعه الراية فقلت إلى أين تريد؟ فقال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة ابيه من بعده ان ضرب عنقه وآخذ ماله رواه ابو داود والجوزاني والترمذي، وقال حديث حسن وسمى الجوزجاني عمه الحارث بن عمرو، وروى الجوزجاني وابن ماجه باسنادهما إلى ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من وقع على ذات محرم فاقتلوه) ورفع إلى الحجاج رجل اغتصب اخته على نفسها فقال احبسوه وسلوا من ههنا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا عبد الله ابن ابي مطرف فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من تخطى المؤمنين فخطوا رأسه بالسيف) وهذه
الاحاديث مما ورد في الزنا فتقدم، والقول فيمن زنى بذات محرمه من غير عقد كالقول فيمن وطئها بعد العقد (فصل) وكل عقد اجمع على بطلانه كنكاح الخامسة أو مزوجة أو معتدة أو نكاح المطلقة ثلاثا إذا وطئ فيه عالما بالتحريم فهو زنا موجب للحد المشروع فيه قبل العقد، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة وصاحباه لا حد فيه لما ذكروه فيما إذا عقد على ذوات محارمه.
وقال النخعي يجلد مائة ولا ينفى ولنا ما ذكرناه فيما مضى وروى ابو نصر المروزي باسناده عن عبيد بن نضيلة قال: رفع إلى عمر بن الخطاب امرأة تزوجت في عدتها فقال هل علمتها؟ قالا لا قال لو علمتما لرجمتكما فجلده اسواطا ثم فرق بينهما، وروى ابو بكر باسناده قال: رفع إلى علي عليه السلام أمرأة تزوجت ولها زوج كتمته فرجمها وجلد زوجها الاخير مائة جلدة، فان لم يعلم تحريم ذلك فلا حد عليه لعذر الجهل ولذلك
درأ عمر عنهما الحد لجهلهما.
(مسألة) (أو استأجر امرأة للزنا أو لغيره فزنى بها أو زني بامرأة له عليها القصاص أو بصغيرة أو مجنونة أو بامرأة ثم تزوجها أو بأمة ثم اشتراها أو امكنت العاقلة البالغة من نفسها مجنونا أو صغيرا فوطئها فعليهم الحد) إذا استأجر امرأة لعمل شئ فزنى بها أو استأجرها ليزني بها وفعل ذلك أو زنى بامرأة ثم تزوجها أو بأمة ثم اشتراها فعليهما الحد، وبه قال أكثر أهل العلم وقال ابو حنيفة لا حد عليهما في هذه المواضع إلا إذا استأجرها لعمل شئ لان ملكه لمنفعتها شبهة دارئة للحد ولا يحد بوطئ امزأة هو مالك لها.
ولنا عموم الآية والاخبار ووجود المعنى المقتضى لوجوب الحد، وقوله ان ملكه لمنفعتها شبهة لا يصح فانه إذا لم يسقط عنه الحد ببذلها نفسها له ومطاوعتها إياه فلان لا يسقط بملك محل آخر اولى وأما إذا استأجر امرأة للزنا لم تصح الاجارة فوجود ذلك كعدمه فأشبه وطئ من لم يستأجرها، وأما إذا زنى بامرأة له عليها قصاص فعليه الحد لانه وطئ في غير ملك ولا شبهة ملك أشبه ما لو لم يكن له عليها قصاص وكما لو كان له عليها دين، واما إذا زنى بامرأة ثم تزوجها أو بأمة ثم اشتراها فانه ما وجب عليه الحد بوطئ مملوكته ولا زوجته وإنما وجب بوطئ اجنبية فتغير حالها لا يسقطه كما لو ماتت، وأما إذا أمكنت المكلفة من نفسها صغيرا أو مجنونا فوطئها أو استدخلت ذكر نائم فعليها الحد دونه، وقال ابو حنيفة لا حد عليها لان فعل الصبي والمجنون ليس زنا فلم يجب عليها الحد إذا أمكنته منه كما لو أمكنته من ادخال أصبعه في فرجها.
ولنا أن سقوط الحد عن احد الواطئين لمعنى يخصه لا يوجب سقوطه عن الآخر كما لو زنى المستأمن بمسلمة أو زنى بمجنونة أو نائمة، وقولهم ليس بزنا لا يصح لانه لا يلحق به النسب وانما لم يجب الحد عليه لعذره وزوال تكليفه، وكذلك الحكم في الرجل يظن ان المرأة زوجته فيطؤها وهي تعلم أنه أجنبي وفي المرأة تظنه زوجها وهو يعلم أنها أجنبية
(فصل) فأما الصغيرة فان كانت ممن يمكن وطؤها فهو زنا يوجب الحد لانها كالكبيرة في ذلك وان كانت ممن لا تصلح للوطئ ففيها وجهان كالميتة على ما ذكرنا، وقال القاضي لا حد على من وطئ صغيرة لم تبلغ تسعا لانها لا ينتهي مثلها أشبه ما لو أدخل اصبعه في فرجها، وكذلك لو استدخلت المرأة ذكر صبي لم يبلغ عشرا فلا حد عليها.
قال شيخنا والصحيح انه متى وطئ من امكن وطؤها
أو امكنت المرأة من يمكنه الوطئ فوطئها أن الحد يجب على المكلف منهما ولا يصح تحديد ذلك بتسع ولا عشر لان التحديد انما يكون بالتوقيف ولا توقيف في هذا، وكون التسع وقتا لامكان الاستمتاع غالبا لايمنع وجوده قبله كما ان البلوغ يوجد في خمس عشرة عاما غالبا ولا يمنع من وجوده قبله (فصل) الثالث ان يثبت الزنا ولا يثبت الا بأحد شيئين (أحدهما) ان يقر اربع مرات في مجلس أو مجالس وهو بالغ عاقل ويصرح بذكر حقيقة الوطئ ولا ينزع عن اقراره حتى يتم الحد، لا يثبت الزنا الا باقرار أو بينة فان ثبت باقرار اعتبر اقرار اربع مرات وبهذا قال الحكم وابن ابي ليلى واصحاب الرأي، وقال الحسن وحماد ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر يحد باقراره مرة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها) واعتراف مرة اعتراف وقد أوجب عليها الرجم به ورجم الجهنية وانما اعترفت مرة، وقال عمران الرجم حق واجب على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ولانه حق فثبت باعتراف مرة كالاقرار بالقتل ولنا ما روى أبو هريرة قال اتى رجل من الاسلميين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال يا رسول الله اني زنيت فأعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه فقال يا رسول الله اني زنيت فأعرض عنه حتى ثنى ذلك أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أبك جنون - قال لا - قال هل أحصنت؟ - قال نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ارجموه) متفق عليه
ولو وجب الحد بمرة لم يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لانه لا يجوز ترك حد وجب لله تعالى، وروى نعيم بن هزال حديثه وفيه حتى قالها أربع مرات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (انك قد قلتها أربع مرات
فبمن؟) قال بفلانة رواه ابو داود وهذا تعليل منه يدل على أن اقرار الاربع هو الموجب، وروى ابو برزة الاسلمي ان ابا بكر الصديق قال له عند النبي صلى الله عليه وسلم ان أقررت اربعا رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يدل من وجهين (أحدهما) أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على هذا ولم ينكره فكان بمنزلة قوله لانه لا يقر على الخطأ (الثاني) أنه قد علم هذا من حكم النبي صلى الله عليه وسلم لولا ذلك ما تجاسر على قوله بين يديه، فأما أحاديثهم فان الاعتراف لفظ للمصدر يقع على القليل والكثير وحديثنا يفسره ويبين أن الاعتراف الذي يثبت به كان أربعا (فصل) وسواء كان في مجلس واحد أو مجالس متفرقة، قال الاثرم سمعت ابا عبد الله يسأل عن الزاني يردد أربع مرات؟ قال نعم على حديث ماعز هو احوط، قلت له في مجلس واحد أو في مجالس شتى؟ قال اما الاحاديث فليست تدل إلا على مجلس واحد إلا على ذلك الشيخ بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه وذلك عندي منكر الحديث، وقال أبو حنيفة لا يثبت إلا باربع اقرارات في أربعة مجالس لان ماعزا أقر في أربعة مجالس ولنا ان الحديث الصحيح انما يدل أنه اقر أربعا في مجلس واحد وقد ذكرنا الحديث ولانه أحد حجتي الزنا فاكتفي به في مجلس واحد كالبينة (فصل) ويعتبر في صحة الاقرار ان يذكر حقيقة الفعل لتزول الشبهة، لان الزنا يعبر به عن ما ليس بموجب للحد وقد روى ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز (لعلك قبلت أو غمزت؟) قال لا قال
(افنكتها؟) قال نعم قال (حتى غاب ذاك منك في ذاك منها؟) قال نعم قال (كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟) قال نعم قال (أتدري ما الزنا؟) قال نعم اتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا وذكر الحديث رواه أبو داود (فصل) وان اقر أنه زني بامرأة فكذبته فعليه الحد دونها وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا حد عليه لانا صدقناها في انكارها فصار محكوما بكذبه ولنا ماروى أبو داود باسناده عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم ان رجلا اتاه فاقر عنده أنه
زنى بامرأة فسماها له فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك فانكرت ان تكون زنت فجلده الحد وتركها، ولان انتفاء ثبوته في حقها لا يبطل قراره كما لو سكتت أو كما لو لم تسأل ولان عموم الخبر يقتضي وجوب الحد عليه باعترافه وهو قول عمر إذا كان الحبل أو الاعتراف، وقولهم انا صدقناها في انكارها غير صحيح فانا لم نحكم بصدقها وانتفاء الحد انما كان لعدم المقتضى وهو الاقرار أو البينة لا لوجود التصديق بدليل مالو سكتت أو لم تكمل البينة.
إذا ثبت هذا فان الحر والعبد والبكر والثيب في الاقرار سواء لانه أحد حجتي الزنا فاستوى الكل فيه كالبينة (فصل) ويشترط ان يكون المقر بالغا عاقلا ولا خلاف في اعتبار ذلك في وجوب الحد وصحة الاقرار لان الصي والمجنون قد رفع القلم عنهما ولا حكم لكلامهما لما روى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن (فصل) والنائم مرفوع عنه القلم، فلو زنى بنائمة أو استدخلت امرأة ذكر نائم أو وجد منه
الزنى حال نومه فلا حد عليه لان القلم مرفوع عنه، ولو أقر في حال نومه لم يلتفت إلى اقراره لان كلامه غير معتبر ولا يدل على صحة مدلوله: واما السكران ونحوه فعليه حد الزنى والسرقة والشرب والقذف إذا فعله في حال سكره لان الصحابة رضي الله عنهم اوجبوا عليه حد الفرية لكون السكر مظنة لها ولانه تسبب إلى هذه المحرمات بسبب لا يعذر فيه فاشبه من لا عذر له، وفيه وجه آخر لا يجب عليه الحد لانه غير عاقل فيكون ذلك شبهة في درء ما يندري بالشبهات ولان طلاقه لا يقع في رواية فاشبه النائم، والاول اولى لان اسقاط الحد عنه يفضي إلى ان من أراد فعل هذه المحرمات شرب الخمر وفعل ما احب فلا يلزمه شئ ولان السكر مظنة لفعل المحارم وسبب إليه فقد تسبب إلى فعلها حال صحوه فاما ان اقر بالزنا وهو سكران لم يعتبر اقراره لانه لا يدري ما يقول ولا يدل قوله على صحة خبره فاشبه قول النائم والمجنون وقد روى بريدة ان النبي صلى الله عليه وسلم استنكه ماعزا، رواه ابو داود وانما فعل ذلك ليعلم هل هو سكران أو لا ولو كان السكران مقبول الاقرار لما احتيج إلى تعرف براءته منه
(فصل) واما الاخرس فان لم تفهم اشارته فلا يتصور منه اقرار وان فهمت اشارته فقال القاضي عليه الحد وهو قول الشافعي وابن القاسم صاحب مالك وأبو ثور وابن المنذر لان من صح اقراره بغير الزنا صح اقراره به كالناطق وقال أصحاب أبي حنيفة لا يحد باقرار ولا بينة لان الاشارة تحتمل ما فهم منها وغيره فيكون ذلك شبهة في درء الحد لكونه مما يندرئ بالشبهات ولا يجب بالبينة لاحتمال ان يكون له شبهة لم يمكنه التعبير عنها ولم يعرف كونها شبهة ويحتمل كلام الخرقي ان لا يلزمه الحد باقراره لانه شرط ان يكون صحيحا وهذا غير صحيح ولان الحد لا يجب بالشبهة فاما الاشارة فلا تنتفي معها الشبهات وأما البينة فيجب عليه بها الحد لان قوله معها غير معتبر
(فصل) ولا يصح الاقرار من المكره فلو ضرب الرجل ليقر بالزنى لم يجب عليه الحد ولم يثبت عليه الزنى ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في ان اقرار المكره لا يجب به حد، وروي عن عمر رضي الله عنه قال ليس الرجل مأمونا على نفسه إذا جوعته أو ضربته أو أوثقته رواه سعيد وقال ابن شهاب في رجل اعترف بعد جلده ليس عليه حد ولان الاقرار انما يثبت به المقر به لوجود الداعي إلى الصدق وانتفاء التهمة عنه فان العاقل لايتهم بقصد الاضرار بنفسه ومع الاكراه يغلب على الظن ان اقراره لدفع ضرر الاكراه فانتفى ظن الصدق عنه فلم يقبل (فصل) وان اقر بوطئ امرأة وادعى أنها امرأته فانكرت المرأة الزوجية نظرنا فان لم تقر المرأة بوطئه اياها فلا حد عليه لانه لم يقر بالزنى ولا مهر لها لانها لا تدعيه، وان اعترفت بوطئه اياها أو اعترفت بانه زنى بها مطاوعة فلا مهر عليه أيضا ولا حد على واحد منهما الا ان يقر اربع مرات لان الحد لا يجب بدون اقرار اربع، وان ادعت أنه أكرهها عليه أو اشتبه عليه فعليه المهر لانه اقر بسببه وقد روى منها عن أحمد انه سأله عن رجل وطئ امرأة وزعم أنها زوجته وأنكرت هي ان يكون زوجها واقرت بالوطئ فقال هذه قد أقرت على نفسها بالزنا ولكن يدرأ عنه الحد بقوله انها امرأته ولا مهر عليه وادرأ عنها الحد حتى تعترف مرارا، قال احمد وأهل المدينة يرون عليها الحد يذهبون إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم (واغد يا انيس إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها) وقد تقدم الجواب عن قولهم
(فصل) ولا ينزع عن اقراره حتى يتم الحد لان من شروط اقامة الحد بالاقرار البقاء عليه على تمام الحد فان رجع عن اقراره أو هرب كف عنه وبهذا قال عطاء ويحيى بن يعمر والزهري وحماد ومالك والشافعي والثوري وإسحاق وابو حنيفة وابو يوسف وقال الحسن وسعيد بن جبير وابن
ابي ليلى يقام الحد ولا يترك لان ماعزا هرب فقتلوه وروي انه قال ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فان قومي هم غروني من نفسي واخبروني ان النبي صلى الله عليه وسلم غير قاتلي فلم ينزعوا عنه حتى قتلوه رواه ابو داود وقد ذكرنا ذلك في كتاب الحدود (مسألة) (ومتى رجع المقر بالحد عن اقراره قبل منه) وقد ذكرنا الخلاف فيه والله اعلم (الثاني) ان يشهد عليه اربعة رجال احرار عدول يصفون الزنا ويجيئون في مجلس واحد سواء جاءوا مجتمعين أو متفرقين يشترط في شهود الزنا سبعة شروط ذكرها الخرقي (احدها) ان يكونوا اربعة وهذا اجماع ليس فيه اختلاف بين اهل العلم لقول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا باربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) وقال تعالى (لولا جاءوا عليه باربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فاولئك عند الله هم الكاذبون) وقال سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارأيت لو وجدت مع امرأتي رجلا امهله حتى آتى باربعة شهداء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (نعم) رواه مالك في الموطأ وابو داود (الشرط الثاني) ان يكونوا رجالا كلهم ولا تقبل فيه شهادة النساء بحال ولا نعلم فيه خلافا إلا شيئا يروى عن عطاء وحماد انه يقبل فيه ثلاثة رجال وامرأتان وهو قول شاذ لا يعول عليه لان لفظ الاربعة اسم لعدد المذكورين ويقتضي ان يكتفى فيه باربعة ولا خلاف في ان الاربعة إذا كان بعضهم نساء انه لا يكتفى بهم وان اقل ما يجزئ خمسة وهذا خلاف النص ولان في شهادتهن شبهة لتطرق الضلال اليهن قال الله تعالى (ان تضل احداهما فتذكر احداهما الاخرى) والحدود تدرأ بالشبهات (الشرط الثالث) الحرية فلا تقبل شهادة العبيد ولا نعلم في ذلك خلافا الا رواية حكيت عن
احمد وهو قول ابي ثور لعموم النصوص فيه ولانه عدل مسلم ذكر فتقبل شهادته كالحر ولنا أنه مختلف في شهادته في سائر الحقوق فيكون ذلك شبهة تمنع من قبول شهادته في الحد لانه يندرئ بالشبهات (الشرط الرابع) العدالة ولا خلاف في اشتراطها فانها تشترط في سائر الشهادات فههنا مع مزيد الاحتياط فيها اولى فلا تقبل شهادة الفاسق ولا مستور الحال الذي لا تعلم عدالته لجواز ان يكون فاسقا (الشرط الخامس) ان يكونوا مسلمين فلا تقبل شهادة أهل الذمة فيه سواء كانت الشهادة على مسلم أو ذمي لان أهل الذمة كفار لا تتحقق العدالة فيهم فلا تقبل روايتهم ولا أخبارهم الدينية ولا تقبل شهادتهم كعبدة الاوثان (الشرط السادس) ان يصفوا الزنى فيقولوا رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة والرشاء في البئر وهذا قول معاوية بن أبي سفيان والزهري والشافعي وأبي ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي لما روينا في قصة ماعز أنه لما اقر عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنى فقال (انكتها؟ - فقال نعم قال - حتى غاب ذلك منك في ذلك منها كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟) قال نعم وإذا اعتبر التصريح في الاقرار كان اعتباره في الشهادة اولى وروى أبو داود باسناده عن جابر قال جاءت اليهود برجل منهم وامرأة زنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ائتوني باعلم رجلين منكم) فأتوه بابني صوريا فنشدهما (كيف تجدان امر هذين في التوراة؟) قالا إذا شهد أربعة انهم راوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما قال (فما يمنعكم ان ترجموهما؟) قالوا ذهب سلطاننا وكرهنا القتل فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود (فجاؤا له)
أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما ولانهم إذا لم يصفوا الزنا أحتمل أن يكون المشهود به لا يوجب الحد فاعتبر كشفه قال بعض أهل العلم يجوز للشهود ان ينظروا إلى ذلك منهما لاقامة الشهادة عليهما فيحصل الردع بالحد فان شهدوا انهم رأوا ذكره قد غيبه في فرجها كفى والتشبيه تأكيد (فصل) فأما تعيين المزني بها إن كانت الشهادة على رجل أو الزاني إن كانت الشهادة على امرأة
ومكان الزنا فذكر القاضي أنه يشترط لئلا تكون المرأة ممن اختلف في إباحتها ويعتبر ذكر المكان لئلا تكون شهادة أحدهم على غير الفعل الذي شهد به الآخر ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم (إنك أقررت أربعا فبمن؟) وقال ابن حامد لا يعتبر ذكر هذين لانه لا يعتبر ذكرهما في الاقرار ولم يأت ذكرهما في الحديث الصحيح وليس في حديث الشهادة في رجم اليهوديين ذكر المكان ولان ما لا يشترط فيه ذكر الزمان لا يشترط فيه ذكر المكان كالنكاح ويبطل ما ذكروه بالزمان (الشرط السابع) مجئ الشهود كلهم في مجلس واحد ذكره الخرقي فقال: وإن جاءوا أربعة متفرقين والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم قبل شهادتهم وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة وعليهم الحد وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشافعي والبتي وابن المنذر لا يشترط ذلك لقول الله تعالى (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء) ولم يذكر المجلس، وقال تعالى (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فان شهدوا فامسكوهن في البيوت) ولان كل شهادة مقبولة إذا اتفقت (وغير) مقبولة إذا افترقت في مجالس كسائر الشهادات ولنا أن أبا بكرة ونافعا وسهل بن معبد شهدوا عند عمر على المغيرة بن شعبة بالزنا ولم يشهد
زياد فحد الثلاثة ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر ولانه لو شهد ثلاثة فحدهم ثم جاء رابع فشهد لم تقبل شهادته ولولا اشتراط المجلس لكملت شهادتهم وبهذا فارق سائر الشهادات، وأما الآية فانها لم تتعرض للشروط ولهذا لم يذكروا العدالة وصفة الزنا ولان قوله (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم) لا يخلو من أن يكون مطلقا في الزمان كله أو مقيدا لا يجوز أن يكون مطلقا لانه يمنع من جواز جلدهم لانه ما من زمن إلا يجوز أن يأتي فيه بأربعة شهداء أو بكمالهم ان كان قد شهد بعضهم فيمتنع جلدهم المأمور به فيكون متناقضا، وإذا ثبت أنه مقيد بالمجلس لان المجلس كله بمنزلة الحالة الواحدة ولهذا ثبت فيه خيار المجلس واكتفي فيه بالقبض فيما يعتبر القبض فيه إذا ثبت هذا فانه لا يشترط اجتماعهم حال مجيئهم ولو جاءوا متفرقين واحدا بعد واحد في مجلس واحد قبل شهادتهم وقال مالك وأبو حنيفة إن جاءوا متفرقين فهم قذفة لانهم لم يجتمعوا
في مجيئهم فلم تقبل شهادتهم كالذين لم يشهدوا في مجلس واحد ولنا قصة المغيرة فان الشهود جاءوا واحدا بعد واحد وسمعت شهادتهم وانما حدوا لعدم كمالها في المجلس وفي حديثه أن أبا بكرة قال أرأيت لو جاء آخر يشهد أكنت ترجمه؟ قال عمر: اي والذي نفسي بيده ولانهم اجتمعوا في مجلس واحد أشبه مالو جاءوا مجتمعين ولان المجلس كله بمنزلة ابتدائه لما ذكرنا وإذا تفرقوا في مجالس فعليهم الحد لان من شهد بالزنا ولم تكمل الشهادة يلزمه الحد لقول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) (مسألة) (وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم أو شهد ثلاثة وامتنع الرابع من الشهادة
أو لم يكملها فهم قذفه وعليهم الحد) إذا لم يكمل شهود الزنا فعليهم الحد في قول أكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي وذكر أبو الخطاب فيهم روايتين وحكي عن الشافعي فيهم قولان (أحدهما) لا حد عليهم لانهم شهود فلم يجب عليهم الحد كما لو كانوا أربعة أحدهم فاسق ولنا قول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) وهذا يوجب الجلد على كل رام لم يشهد بما قال أربعة ولانه إجماع الصحابة فان عمر جلد أبا بكرة وأصحابه حين لم يكمل الرابع شهادته بمحضر من الصحابة فلم ينكره احد وروى صالح باسناده عن ابي عثمان النهدي قال جاء رجل إلى عمر فشهد على المغيرة بن شعبة فتغير لون عمر ثم جاء آخر فشهد فتغير لون عمر ثم جاء آخر فشهد فاستنكر ذلك عمر ثم جاء شاب يخطر بيديه فقال عمر ما عندك يا سلح العقاب؟ وصاح به عمر صيحة فقال أبو عثمان: والله لقد كدت يغشى علي فقال يا أمير المؤمنين: رأيت أمرا قبيحا فقال الحمد لله الذي لم يشمت الشيطان بأصحاب محمد قال فأمر بأولئك النفر فجلدوا، وفي رواية أن عمر لما شهد عنده على المغيرة شهد ثلاثة وبقي زياد فقال عمر ارى شابا حسنا وارجو الا يفضح الله على لسانه رجلا من اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال: يا امير المؤمنين رأيت استا تنبو ونفسا يعلو ورأيت رجليها فوق عنقه كأنهما أذنا حمار ولا ادري
ما وراء ذلك فقال عمر: الله اكبر الله اكبر وامر بالثلاثة فضربوا، وقول عمر يا سلح العقاب معناه انه يشبه سلح العقاب الذي يحرق كل شئ اصابه كذلك هو يوقع العقوبة بأحد الفريقين لا محالة، إن كملت شهادته حد المشهود عليه وإن لم تكمل حد اصحابه، فان قيل فقد خالفهم ابو بكرة واصحابه الذين شهدوا قلنا لم يخالفوا في وجوب الحد عليهم إنما خالفوهم في صحة ما شهدوا به ولانه
رام بالزنا لم يأت بأربعة شهداء فيجب عليه الحد كما لو لم يأت بأحد (مسألة) (وان كانوا افساقا أو عميانا أو بعضهم فعليهم الحد وعنه انه لاحد عليهم) إذا كانوا اربعة غير مرضيين كالعبيد والفساق والعميان ففيهم ثلاث روايات (احداهن) عليهم الحد وهو قول مالك قال القاضي وهو الصحيح لانها شهادة لم تكمل فوجب الحد على الشهود كما لو لم يكمل العدد (والثانية) لا حد عليهم وهو قال الحسن والشعبي وابي حنيفة ومحمد لان هؤلاء قد جاءوا بأربعة شهداء فدخلوا في عموم الآية ولان عددهم قد كمل ورد الشهادة لمعنى غير تفريطهم فأشبه ما لو شهد أربعة مستورون ولم تثبت عدالتهم ولا فسقهم (الثالث) إن كانوا عميانا أو بعضهم جلدوا وإن كانوا عبيدا أو فساقا فلا حد عليهم وهو قول الثوري واسحاق لان العميان معلوم كذبهم لكونهم شهدوا بما لم يروه يقينا والآخرون يجوز صدقهم وقد كمل عددهم فاشبهوا مستوري الحال.
وقال أصحاب الشافعي إن كان رد الشهادة لمعنى ظاهر كالعمى والرق والفسق الظاهر ففيهم قولان وإن كان لمعنى خفي فلا حد عليهم لان ما يخفى يخفى على الشهود فلا يكون ذلك تفريطا منهم بخلاف ما يظهر، فان شهد ثلاثة رجال وامرأتان حد الجميع لان شهادة النساء في هذا الباب كعدمها وبهذا قال الثوري وأصحاب الرأي وهذا يقوي رواية ايجاب الحد على الاولين وينبه على ايجاب الحد فيما إذا كانوا عميانا أو بعضهم لان المرأتين يحتمل صدقهما وهما من أهل الشهادة في الجملة والاعمى كاذب يقينا وليس من أهل الشهادة على الافعال فوجوب الحد عليهم وعلى من معهم أولى
(مسألة) (وإن كان أحدهم زوجا حد لثلاثة ولاعن الزوج ان شاء) لان الزوج لا تقبل شهادته على امرأته لانه بشهادته مقر بعداونه لها فلا تقبل شهادته عليها فيبقى الشهود ثلاثة فيحدون كما يحد شهود المغيرة بن شعبة ولان الله سبحانه قال (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) (مسألة) (وإن شهد اثنان انه زنى بها في بيت أو بلد واثنان أنه زنا بها في بيت أو بلد آخر فهم فذفة وعليهم الحد وعنه يحد المشهود عليه وهو بعيد) وجملة ذلك أنه إذا شهد اثنان أنه زنا بها في هذا البيت واثنان انه زنا بها في بيت آخر وشهد كل اثنين عليه بالزنا في بلد غير البلد الذي شهد صاحباهما أو اختلفوا في اليوم فالجميع قذفة وعليهم الحد وبهذا قال مالك والشافعي، واختار أبو بكر: أنه لا حد عليهم وبه قال النخعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لانهم كملوا أربعة ولنا انه لم يكمل اربعة على زنا واحد فوجب عليهم الحد كما لو انفرد بالشهادة اثنان واما المشهود عليه فلا حد عليه في قولهم جميعا، وقال أبو بكر عليه الحد، وحكاه قولا لاحمد وهو بعيد لانه لم يثبت زنا واحد بشهادة اربعة فلم يجب الحد ولان جميع ما يعتبر له البينة يعتبر كمالها في حق واحد فالموجب للحد اول لانه مما يحتاط له ويدرء بالشبهات وقد قال ابو بكر انه لو شهد اثنان انه زنى بامرأة بيضاء وشهد اثنان انه زنا بسوداء فهم قذفة ذكره القاضي وهذا ينقض قوله (مسألة) وإن شهد اثنان انه زنى بها في زاوية بيت وشهد اثنان انه زنى بها في زواية منه اخرى كملت شهادتهم ان كانت الزاويتان متقاربتين وحد المشهود عليه)
وبه قال ابو حنيفة وقال الشافعي لا حد عليه لان شهادتهم لم تكمل ولانهم اختلفو في المكان اشبه ما لو اختلفا في البيتين، فأما ان كانت الزاويتان متباعدتين فالقول فيهما كالقول في البيتين وعلى قول ابي بكر تكمل الشهادة سواء تقاربت الزاويتان أو تباعدتا
ولنا أنهما إذا تقاربتا أمكن صدق الشهود بان يكون ابتداء الفعل في إحداهما وتمامه في الاخرى أو ينسبه كل اثنين إلى احدى الزوايتين لقربه منها فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا بخلاف ما إذا كانتا متباعدتين فانه لا يمكن كون المشهود به فعلا واحدا، فان قيل فقد يمكن أن يكون المشهود به فعلين فلم أوجبتهم الحد مع الاحتمال والحد يدرأ بالشبهات، قلنا ليس هذا شبهة بدليل ما لو اتفقوا على موضع واحد فان هذا يحتمل فيه والحد واجب والقول في الزمان كالقول في هذا متى كان بينهما زمن متباعد لا يمكن وجود الفعل الواحد في جميعه كطرفي النهار لم تكمل شهادتهم ومتى تقاربا كملت شهادتهم.
(مسألة) (وان شهد اثنان أنه زنى بها في قميص أبيض وشهد آخران أنه زنى بها في قميص أحمر كملت شهادتهم ويحتمل أن لا تكمل كما لو شهد كل اثنان أنه زنى بها في بيت غير الذي شهد به صاحباهما) وكذلك ان شهد اثنان انه زنى بها في قميص كتان أو شهد اثنان أنه زنى بها في قميص خز تكمل الشهادة، وقال الشافعي لا تكمل لتنافي الشهادتين.
ولنا انه لا تنافي بينهما فانه يمكن أن يكون عليه قميصان فذكر كل اثنين واحدا وتركا ذكر الآخر ويمكن أن يكون عليه قميص أبيض وعليها قميص أحمر وإذا أمكن التصديق لم يجز التكذيب.
(مسألة) (وان شهد أنه زنى بها مطاوعة وشهد آخران أنه زنى بها مكرهة فلا حد عليها اجماعا، لان الشهادة لم تكمل على فعل موجب للحد وفي الرجل وجهان.
(أحدهما) لا حد عليه وهو قول أبي بكر والقاضي وأكثر الاصحاب وهو قول أبي حنيفة واحد الوجهين لاصحاب الشافعي، لان البينة لا تكمل على فعل واحد فان فعل المطاوعة غير فعل المكرهة ولم يتم العدد على كل واحد من الفعلين ولان كل شاهدين منهما يكذبان الآخرين وذلك يمنع قبول الشهادة أو يكون شبهة في درء الحد ولا يخرج عن ان يكون كل واحد منهما مكذبا للآخر إلا بتقدير فعلين تكون مطاوعة في احدهما ومكرهة في الآخر وهذا يمنع كون الشهادة كاملة على فعل واحد، ولان شاهدي المطاوعة قاذفان لها ولا تكمل البينة عليها فلا تقبل شهادتهم على غيرها والوجه الثاني يجب الحد على الرجل اختاره أبو الخطاب وهو قول أبي يوسف ومحمد ووجه ثان
للشافعي، لان الشهادة كملت على وجود الزنا منه واختلافهما إنما هو في فعلها لا في فعله فلا يمنع كمال الشهادة عليه.
(مسألة) (وهل يحد الجميع أو شاهد المطاوعة؟ على وجهين) في الشهود ثلاثة أوجه (أحدها) لا حد عليهم وهو قول من أوجب الحد على الرجل بشهادتهم (والثاني) عليهم الحد لانهم شهدوا بالزنا فلم تكمل شهادتهم فلزمهم الحد كما لو لم يكمل عددهم (والثالث) يجب الحد على شاهدي المطاوعة لانهما قذفا المرأة بالزنا فلم تكمل شهادتهما عليها ولا يجب على شاهدي الاكراه لانهما لم يقذفا المرأة وقد كملت شهادتهم على الرجل وانما انتفى عنه الحد للشبهة وعند أبي الخطاب يحد الزاني المشهود علية دون المرأة والشهود وقد ذكرناه.
(مسألة) (وان شهد أربعة فرجع أحدهم فلا شئ على الراجع ويحد الثلاثة وان كان رجوعه بعد الحد فلا حد على الثلاثة ويغرم الرابع ربع ما أتلفوه).
وجملة ذلك أن الشهود إذا رجعوا عن الشهادة أو واحد منهم ففيهم روايتان (احداهما) يجب الحد على الجميع لانه نقص عدد الشهود فلزمهم الحد كما كانوا ثلاثة وان رجعوا كلهم فعليهم الحد لانهم يقرون انهم قذفة، وهو قول أبي حنيفة (والثانية) يحد الثلاثة دون الراجع اختارها ابو بكر وابن حامد لانه إذا رجع قبل الحد فهو كالتائب قبل تنفيذ الحكم بقوله فيسقط عنه الحد لان في درء الحد عنه تمكينا له من الرجوع الذي يحصل به مصلحة الشهود وفي إيجاب الحد عليه زجر له عن الرجوع خوفا من الحد فتفوت تلك المصلحة وتتحقق المفسدة فناسب ذلك نفي الحد عنه، وقال الشافعي يحد الراجع دون الثلاثة لانه أقر على نفسه بالكذب في قذفه واما الثلاثة فقد وجب الحد بشهادتهم وانما سقط بعد وجوبه برجوع الرابع ومن وجب الحد بشهادته لم يكن قاذفا فلم يحد كما لو لم يرجع احد.
ولنا انه نقص العدد بالرجوع قبل إقامة الحد فلزمهم الحد كما لو شهد ثلاثة وامتنع الرابع من الشهادة وقولهم وجب الحد بشهادتهم يبطل بما إذا رجعوا كلهم وبالراجع وحده فان الحد وجب ثم
سقط ووجب الحد بسقوطه ولان الحد إذا وجب على الراجع مع المصلحة في رجوعه باسقاط الحد عن المشهود عليه بعد وجوبه واحيائه المشهود عليه بعد اشرافه على التلف فعلى غيره أولى فاما ان كان رجوعه بعد الحد فلا حد على الثلاثة لان إقامة الحد كحكم الحاكم الحاكم لا تسقط برجوع الشاهد بعده وعلى الراجع ربع ما تلف بشهادتهم ويذكر ذلك في الرجوع عن الشهادة ان شاء الله تعالى.
(فصل) وإذا ثبتت الشهادة بالزنا فصدقهم المشهود عليه لم يسقط الحد وقال ابو حنيفة يسقط لان صحة البينة يشترط لها الانكار وما كمل بالاقرار.
ولنا قول الله (فان شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا)
وبين النبي صلى الله عليه وسلم (السبيل بالحد فتجب إقامته ولان البينة تمت عليه فوجب الحد كما لو لم يعترف ولان البينة احد حجتي الزنا فلم تبطل بوجود الحجة الاخرى وبعضها كالاقرار يحققه ان وجود الاقرار يؤكد البينة ويوافقها ولا ينافيها فلا يقدح فيها كتزكية الشهود والثناء عليهم ولا نسلم اشتراط الانكار وانما يكتفى بالاقرار في غير الحد إذا وجد بكماله وههنا لم يكمل فلم يجب الاكتفاء به ووجب سماع البينة والعمل بها وعلى هذا لو أقر مره أو دون الاربع لم يمنع ذلك سماع البينة عليه ولو تمت البينة وأقر على نفسه اقرارا تاما ثم رجع عن اقراره لم يسقط عنه الحد برجوعه وقوله يقتصي خلاف ذلك (فصل) فان شهد شاهدان واعترف هو مرتين لم تكمل البينة ولم يجب الحد لا نعلم في ذلك خلافا بين من اعتبر اقرار اربع مرات وهو قول أصحاب الرأي لان احدى الحجتين لم تكمل ولا تلفق أحداهما بالاخرى كاقرار بعض مرة.
(فصل) فان كملت البينة ثم مات الشهود أو غابوا جاز الحكم بها وإقامة الحد، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يقام الحد لجواز أن يكونوا رجعوا وهذا شبهة تدرأ الحد ولنا أن كل شهادة جاز الحكم بها مع حضور الشهود جاز الحكم مع غيبتهم كسائر الشهادات واحتمال رجوعهم ليس بشبهة كما لو حكم بشادتهم.
(فصل) وإن شهدوا بزنا قديم أو أقر به وجب الحد، وبهذا قال مالك والاوزاعي والثوري
واسحاق وأبو ثور وقال ابو حنيفة لا أقبل بينة على زنا قديم واحده بالاقرار به وهذا قول ابن حامد وذكره ابن موسى مذهبا لاحمد لما روي عن عمر انه قال ايما شهود شهدوا بحد لم يشهدوا بحضرته فانما هم شهود ضغن ولان تأخيره للشهادة إلى هذا الوقت يدل على التهمة فيدرأ ذلك الحد ولنا عموم الآية وانه حق ثبت على الفور فيثبت بالبينة بعد تطاول الزمان كسائر الحقوق والحديث
مرسل رواه الحسن ومراسيل الحسن ليست بالقوية والتأخير يجوز أن يكون لعذر أو غيبة والحد لا يسقط بمجرد الاحتمال فانه لو سقط بكل احتمال لم يجب حد أصلا.
(فصل) وتجوز الشهادة بالحد من غير مدع لا نعلم فيه اختلافا ونص عليه احمد واحتج بقصة أبي بكرة حيث شهد هو وأصحابه على المغيرة من غير تقدم دعوى وشهد الجارود وصاحبه على قدامة بن مظعون بشرب الخمر ولم يتقدمه دعوى، ولان الحد حق لله تعالى لم تفتقر الشهادة به إلى تقدم دعوى كسائر العبادات يبينه أن الدعوى في سائر الحقوق إنما تكون من المستحقين وهذا لا حق فيه لاحد من الآدميين فيدعيه فلو وقفت الشهادة به على الدعوى لامتنع اقامتها (مسألة) (وان شهد أربعة بالزنا بامرأة فشهد ثقات من النساء أنها عذراء فلا حد عليها ولا الشهود نص عليه) وبهذا قال الشعبي والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال مالك عليها الحد، لان شهادة النساء لا مدخل لها في الحدود فلا يسقط بشهادتهن ولنا ان البكارة تثبت بشهادة النساء ووجودها يمنع من الزنا ظاهرا لان الزنا لا يحصل بدون الايلاچ في الفرج ولا يتصور ذلك مع بقاء البكارة لان البكر هي التي لم توطأ في قبلها وإذا انتفى الزنا لم يجب الحد كما لو قامت البينة بان المشهود عليه بالزنا مجبوب وانما لم يجب الحد على الشهود لكمال عدتهم مع احتمال صدقهم بانه يحتمل ان يكون وطئها ثم عادت عذرتها فيكون ذلك شبهة في درء الحد عنهم غير موجب له عليها فان الحد لا يجب بالشهات ويكتفي بشهادة امرأة واحدة لان شهادتها مقبولة فيما لا يطلع عليه الرجال فأما ان شهدت بأنها رتقاء أو ثبت ان الرجل المشهود عليه
مجبوب فينبغي أن يجب الحد على الشهود لانه يتيقن كذبهم في شهادتهم بامر لا يعلمه كثير من الناس فوجب عليهم الحد.
(مسألة) (وان شهد اربعة انه زنى بامرأة وشهد أربعة آخرون أنهم هم الزناة بها لم يحد المشهود عليه وهل يحد الشهود الاولون حد الزنا؟ على روايتين) (إحداهما) لا يجب الحد على واحد منهم، وهذا قول أبي حنيفة لان الاولين قد جرحهم الآخرون بشهادتهم عليهم والآخرون تتطرق إليهم التهمة (والثانية) يجب الحد على الشهود الاولين اختارها أبو الخطاب لان شهادة الآخرين صحيحة فيجب الحكم بها، وهذا قول أبي يوسف وذكر أبو الخطاب في صدر المسألة كلاما معناه لا يحد احد منهم حد الزنا وهل يحد الاولون حدالقذف؟ على وجهين بناء على القاذف إذا جاء مجئ الشاهد هل يحد على روايتين (فصل) وكل زنا أوجب الحد لا يقبل فيه إلا أربعة شهود باتفاق العلماء لتناول النص له بقوله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا باربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) ويدخل فيه اللواط ووطئ المرأة في دبرها لانه زنا وعند أبي حنيفة يثبت بشهاهدين بناء على أصله بانه لا يوجب الحد وقد بينا وجوب الحد به ويخص هذا بان الوطئ في الدبر فاحشة بدليل قوله تعالى (أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من احد من العالمين؟ وقال تعالى (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعه منكم) فإذا وطئت في الدبر دخلت في عموم الآية.
واما وطئ البهيمة إن قلنا بوجوب الحد به لم يثبت الا بشهود أربعة، وإن قلنا لا يوجب الا التعزير ففيه وجهان: (احدهما) يثبت بشاهدين لانه لا يوجب الحد فيثبت بشاهدين كسائر الحقوق (والثاني) لا يثبت الا باربعة وهو قول القاضي لانه فاحشة ولانه ايلاج في فرج محرم فأشبه الزنا وعلى قياس هذا كل وطئ يوجب التعزير ولا يوجب الحد كوطئ الامة المشتركة وامته المزوجة فان لم يكن وطئا كالمباشرة دون الفرج ونحوها ثبت بشاهدين وجها واحدا لانه ليس بوطئ اشبه سائر الحقوق
(مسألة) (وان حملت امرة لا زوج لها ولا سيد لم تحد بذلك بمجرده لكنها تسأل فان ادعت انها اكرهت ووطئت بشبهة أو لم تعرف بالزنا لم تحد) وهذا قول ابي حنيفة والشافعي، وقال مالك عليها الحد إذا كانت مقيمة غير غريبة الا أن تظهر امارات الاكراه بأن تأتي مستغيثة أو صارخة لقول عمر رضي الله عنه والرجم واجب على كل من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصنا إذا قلعت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، وروي ان عثمان اتى بامرأة ولدت لستة أشهر فامر بها عثمان ان ترجم فقال علي ليس لك عليها سبيل.
قال الله تعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) وهذا يدل على انه كان يرجمها بحملها، وعن عمر نحو من هذا وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال أيها الناس إن الزنا زناآن زنا سر وزنا علانية فزنا السر ان يشهد الشهود فيكون الشهود اول من يرمي وزنا العلانية أن يظهر الحبل أو الاعتراف فيكون الامام أول من يرمي، وهذا قول سادة الصحابة لم يظهر لهم في عصرهم مخالف فيكون اجماعا ولنا أنه يحتمل انه من وطئ اكراه أو شبهة والحد يسقط بالشبهات وقد قيل ان المرأة تحمل من غير وطئ بأن يدخل ماء الرجل في فرجها اما بفعلها أو فعل غيرها ولهذا تصور حمل البكر وقد وجد ذلك، واما قول الصحابة فقد اختلفت الرواية عنهم فروى سعيد ثنا خلف بن خليفة ثنا أبو هشام ان امرأة رفعت إلى عمر رضي الله عنه ليس لها زوج وقد حملت فسألها عمر فقالت إني امرأة ثقيلة الرأس وقع علي رجل وأنا نائمة فما استيقظت حتى فرغ فدرأ عنها الحد، وروى النوال بن سبرة عن عمر انه أتي بامرأة حامل فادعت أنها اكرهت فقال خل سبيلها وكتب إلى امراء الاجناد أن لا يقتل أحد الا باذنه، وروي عن علي وابن عباس انهما قالا إذا كان في الحد لعل وعسى فهو معطل وروى الدارقطني باسناده عن عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وعقبة بن عامر أنهم
قالوا إذا اشتبه عليك الحد فادرأ ما استطعت ولا خلاف ان الحد يدرأ بالشبهات وهي متحققه ههنا (فصل) ويستحب للامام أو الحاكم الذي يثبت عنده الحد بالاقرار التعريض له بالرجوع إذا تم والوقوف عن اتمامه إذا لم يتم كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه اعرض عن ماعز حين اقر عنده ثم
جاءه من الناحية الاخرى فاعرض عنه حتى تمم اقراره أربعا ثم قال (لعلك قبلت لعلك لمست) وروي أنه قال للذي أقر بالسرقة (ما اخالك فعلت) رواه سعيد عن سفيان عن يزيد بن خصفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ثنا هشيم عن الحكم بن عتبة عن يزيد بن أبي كبشة عن ابي الدرداء انه اتي بجارية سوداء سرقت فقال لها اسرقت قولي لا فقالت لا فخلى سبيلها، ولا بأس ان يعرض بعض الحاضرين بالرجوع أو بان لا يقر وروينا عن الاحنف انه كان جالسا عند معاوية فاتي بسارق فقال له معاوية اسرقت؟ فقال له بعض الشرطة اصدق الامير فقال الاحنف الصدق في كل المواطن معجزة فعرض له بترك الاقرار وروي عن بعض السلف انه قال: لا يقطع ظريف يعني أنه إذا قامت عليه بينة ادعى شبهة فدفع عنه القطع فلا يقطع، ويكره لمن علم حاله أن يحثه على الاقرار لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال لهزال وقد كان قال لماعز بادر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ان ينزل فيك قرآن (ألا سترته بثوبك كان خيرا لك؟) رواه سعيد وروى باسناده أيضا عن سعيد بن المسيب قال جاء ماعز بن مالك إلى عمر بن الخطاب فقال له إنه أصاب فاحشة فقال له أخبرت بهذا أحدا قبلي؟ قال لا قال فاستر يستر الله وتب إلى الله فان الناس يعيرون ولا يغيرون والله يغير ولا يعير فتب إلى الله ولا تخبر به أحدا فانطلق إلى ابي بكر فقال له مثل ما قال عمر فلم تقره نفسه حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك
(باب القذف) وهو الرمي بالزنا وهو محرم باجماع الامة والاصل في تحريمه الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا باربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون) وقال سبحانه (ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم) وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم (اجتنبوا السبع الموبقات) قالوا: وما هن يارسول الله؟ قال (الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله واكل الرابا واكل
مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقدف المحصنات الغافلات المؤمنات) متفق عليه.
(مسألة) (ومن قذف حرا محصنا فعليه جلد ثمانين جلدة ان كان القاذف حرا واربعين ان كان عبدا وقذف غير المحصن يوجب التعزير) المحصنات في القرآن جاءت بأربعة معان (احدها) العفائف وهو المراد ههنا.
(الثاني) بمعنى المزوجات كقوله تعالى (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) وقوله تعالى (ومحصنات غير مسافحات).
(والثالث) بمعنى الحرائر كقوله تعالى (فمن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات المؤمنات) وقوله تعالى (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) وقوله [ فعليهن نصف ما على المحصنات ] (والرابع) بمعنى الاسلام كقوله (فإذا أحصن) قال ابن مسعود إحصانها إسلامها.
وأجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف محصنا إذا كان القاذف مكلفا
(مسألة) (والمحصن هو الحر المسلم العاقل العفيف الذي يجامع مثله، وهل يشترط البلوغ؟ على روايتين) فهذه الخمسة شروط الاحصان وبه يقول جماعة الفقهاء قديما وحديثا سوى ماروي عن داود انه أوجب الحد على قاذف العبد.
وقال ابن أبي موسى إذا قذف أم ولد رجل وله منها ولد حد.
وعن ابن المسيب وابن أبي ليلى قالوا إذا قذف ذمية لها ولد مسلم يحد، وقال ابن أبي موسى إذا قذف مسلم ذمية تحت مسلم أو لها منه ولد حد في إحدى الروايتين، والاول أولى لان ما لا يحد قاذفه إذا لم يكن له ولد لا يحد وله ولد كالمجنونة واختلفت الرواية عن أحمد في اشتراط البلوغ فروي عنه انه شرط وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لانه احد شرطي التكليف فأشبه العقل، ولان زنا الصبي لا يوجب عليه الحد فلا يجب الحد بالقذف به كزنا المجنون (والثانية) لا يشترط لانه حر عاقل عفيف يتعير بهذا القول الممكن صدقه فأشبه الكبير وهذا قول مالك واسحاق، فعلى هذه الرواية لابد أن يكون كبيرا يجامع مثله وأدناه
أن يكون للغلام عشر وللجارية سبع (فصل) ويجب بقذف المحصن ثمانون جلدة إذا كان القاذف حرا وأربعون ان كان عبدا كما ذكره وقد أجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف محصنا وأن حده ثمانون ان كان حرا وقد دل عليه قوله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) وان كان القاذف عبدا فحده أربعون جلدة، وأجمعوا على وجوب الحد على العبد إذا قذف محصنا لدخوله في
عموم الآية وحده اربعون في قول اكثر العلماء فروي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة انه قال: ادركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك إذا قذف الا اربعين.
وروى خلاس ان عليا قال في عبد قذف حرا عليه نصف الحد، وجلد أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عبدا قذف حرا ثمانين وبه قال قبيصة وعمر بن عبد العزيز عملا بعموم الآية، والصحيح الاول للاجماع المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم ولانه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من حد الحر كحد الزنا وهذا يخص عموم الآية وقد عيب على ابي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم جلده العبد ثمانين فقال عبد الله بن عامر بن ربيعة ما رأيت أحدا جلد العبد ثمانين قبله وقال سعيد ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال حضرت عمر بن عبد العزيز جلد عبدا في فرية ثمانين فأنكر ذلك من حضره من الناس وغيرهم من الفقهاء فقال لي عبد الله بن عامر بن ربيعة اني رأيت والله عمر بن الخطاب فما رأيت احدا جلد عبدا في فرية فوق اربعين قال الخرقي ويكون بدون السوط الذي يجلد به الحر لانه لما خفف في عدده خفف في سوطه كما أن الحدود في نفسها كلما قل منها كان سوطه أخف، وظاهر ما ذكره شيخنا انه يكون بسوط الحر فيتساووا في الجلد ليتحقق التنصيف لانه انما يتحقق بذلك
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: