الفقه الحنبلي - احكام الصيام

قال ابن عبد البر لا نعلم
أحدا قاله غير عطاء، وذكر أبو الخطاب ذلك رواية عن أحمد قياسا على المسافر إذا قدم.
قال شيخنا رحمه الله ولم نعلم أحدا ذكرها غيره وأظن هذا غلطا فان أحمد نص على ايجاب الكفارة على من وطئ ثم كفر ثم عاد فوطئ في يومه لان حرمة الصوم لم تذهب، فإذا أوجب الكفارة على غير الصائم لحرمة اليوم فكيف يبيح الاكل، ولا يصح قياس هذا على المسافر إذا قدم وهو مفطر وأشباهه لانه كان له الفطر ظاهرا وباطنا وهذا لم يكن له الفطر في الباطن مباحا أشبه من أكل يظن ان الفجر لم يطلع وكان قد طلع (فصل) وكل من أفطر والصوم يجب عليه كالمفطر لغير عذر، ومن ظن ان الفجر لم يطلع وقد طلع، أو ان الشمس قد غابت ولم تغب، والناسي للنية ونحوهم يلزمهم الامساك بغير خلاف بينهم إلا انه يخرج على قول عطاء في المعذور في الفطر اباحة فطر بقية يومه كالمسألة قبلها، وهو قول شاذ لم يعرج عليه العلماء (مسألة) (وان بلغ صبي أو أسلم كافر أو أفاق مجنون فكذلك وعنه لا يلزمهم شئ) إذا بلغ الصبي في أثناء النهار وهو مفطر أو أفاق المجنون أو أسلم الكافر لزمهم الامساك في إحدى الروايتين.
وهذا قول أبي حنيفة والثوري والاوزاعي والحسن بن صالح والعنبري لانه معنى لو وجد قبل الفجر أوجب الصيام فإذا طرأ أوجب الامساك كقيام البينة بالرؤية.
والثانية لا يلزمهم الامساك واليه ذهب مالك والشافعي، وروي عن ابن مسعود انه قال: من أكل أول النهار أكل آخره لانه
أبيح له الفطر أول النهار ظاهرا وباطنا فإذا أفطر كان له استدامة الفطر كما لو دام العذر، وهل يجب عليهم القضاء؟ فيه روايتان: احداهما يجب لانهم أدركوا بعض وقت العبادة فلزمهم القضاء كما لو أدركوا بعض وقت الصلاة وهذا قول اسحاق في الكافر أذا أسلم.
والثانية لا يلزمهم وهو قول مالك وأبي ثور وابن المنذر في الكافر إذا أسلم والاول ظاهر المذهب لانهم لم يدركوا وقتا يكنهم التلبس بالعبادة فيه أشبه ما لو زال عذرهم بعد خروج الوقت (فصل) ويجب على الكافر (1) صوم ما يستقبل من الشهر بغير خلاف ولا يجب قضاء ما مضى
في قول عامة أهل العلم، وقال عطاء عليه القضاء وعن الحسن كالمذهبين.
ولنا انها عبادة انقضت في حال كفره فلم يجب قضاءها كالرمضان الماضي (مسألة) (وان بلغ الصبي صائما أتم ولا قضاء عليه عند القاضي وعند أبي الخطاب عليه القضاء) إذا نوى الصبي الصوم من الليل فبلغ في أثناء النهار بالاحتلام أو السن أتم صومه ولا قضاء عليه قاله القاضي لانه نوى الصوم من الليل فاجزأته كالبالغ، ولا يمتنع أن يكون أول الصوم نفلا وباقيه فرضا كما لو شرع في صوم تطوعا ثم نذر اتمامه، واختار أبو الخطاب وجوب القضاء عليه لانها عبادة بدنية بلغ في أثنائها بعد مضي بعض أركانها فلزمته أعادتها كالصلاة والحج إذا بلغ بعد الوقوف يحقق ذلك انه ببلوغه يلزمه صومه جميعه والماضي قبل بلوغه نفل فلم يجز عن الفرض، ولهذا لو نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم والناذر صائم لزمه القضاء (فصل) فأما ما مضى من الشهر قبل بلوغه فلا يجب عليه قضاؤه سواء كان صامه أو لا في قول عامة أهل العلم، وقال الاوزاعي يقضيه إن كان أفطره وهو مطيق لصيامه، ولنا انه زمن مضى في حال صباه فلم يلزمه قضاء الصوم فيه كما لو بلغ بعد انسلاخ رمضان (مسألة) (وإن طهرت حائض أو نفساء أو قدم مسافر مفطرا فعليهم الفضاء وفي الامساك روايتان) أما وجوب القضاء عليهم فلا خلاف فيه لقوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) والتقدير فافطر ولقول عائشة كنا نحيض على عهد رسول الله (ص) فنؤمر بقضاء الصوم متفق عليه، وكذلك الحكم في المريض إذا صح في أثناء النهار وكان مفطرا وفي وجوب الامساك عليهم روايتان ذكرنا وجههما، والاختلاف في ذلك في مسألة الصبي والكافر أذا أسلم والمجنون أذا أفاق فكذلك الحكم في هؤلاء (مسألة) (ومن عجز عن الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا) الشيخ الكبير والعجوز إذا كان الصوم يجهدهما ويشق عليهما مشقة شديدة فلهما أن يفطرا ويطعما
لكل يوم مسكينا وهذا قول علي وابن عباس وأبي هريرة وأنس رضي الله عنهم وبه قال سعيد بن جبير
وطاوس وأبو حنيفة والثوري والاوزاعي، وقال مالك لا يجب عليه شئ لانه ترك الصوم لعجزه فلم يجب فدية كما لو تركه لمرض اتصل به الموت وللشافعي قولان كالمذهبين ولنا الآية، قال ابن عباس في تفسيرها نزلت رخصة للشيخ الكبير ولان الاداء صوم واجب فجاز أن يسقط إلى الكفارة كالقضاء، وأما المريض فان كان لا يرجى برؤه فهو كمسئلتنا، وان كان يرجى برؤه فانما لم يجب عليه الاطعام لان ذلك يؤدي إلى أن يجب على الميت ابتداءا بخلاف مسئلتنا فان وجوب الاطعام يستند إلى حال الحياة والشيخ الهم له ذمة صحيحة، فان كان عاجزا عن الاطعام فلا شئ عليه ولا يكلف الله نفسا الا وسعها، والمريض الذي لا يرجى برؤه حكمه حكم الشيخ فيما ذكرنا، وذكر السامري انها تبقى في ذمته ولا تسقط كسائر الديون، وكذلك قال فيما يجب على الحامل والمرضع إذا أفرطتا خوفا على ولديهما انه لا يسقط الاطعام عنهما بالعجز عنه لانه في معناه (فصل) قال أحمد رحمه الله فيمن به شهوة الجماع غالبة لا يملك نفسه ويخاف ان تنشق أنثياه " يطعم " أباح له الفطر لانه يخاف على نفسه فهو كالمريض، ومن يخاف على نفسه الهلاك لعطش أو نحوه أوجب الاطعام بدلا من الصيام، وهذا محمول من كلامه على من لا يرجو إمكان القضاء، فان رجى ذلك فلا فدية عليه، والواجب انتظار القضاء وفعله إذا قدر عليه لقوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) وانما يصار إلى الفدية عند اليأس من القضاء، فان أطعم مع إياسه ثم قدر على القضاء احتمل أن لا يلزمه لان ذمته قد برئت بأداء الفدية الواجبة عليه فلم تعد إلى الشغل كالمعضوب إذا اقام من يحج عنه ثم عوفي، واحتمل أن يلزمه القضاء لان الاطعام بدل إياس، وقد بينا ذهاب الاياس فأشبه من اعتدت بالشهور عند اليأس من الحيض فيما إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه ثم حاضت (مسألة) (والمريض إذا خاف الضرر والمسافر استحب لهما الفطر، فان صاما أجزأهما) أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة، والاصل فيه قول الله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) والمريض المبيح للفطر هو الذي يزيد بالصوم أو يخشى تباطؤ برئه.
قيل لاحمد متى يفطر المريض؟ قال إذا لم يستطع.
قيل مثل الحمى؟ قال وأي مرض أشد
من الحمى.
وحكي عن بعض السلف انه أباح بكل مرض حتى من وجع الاصبع والضرس لعموم الآية ولان المسافر يباح له الفطر من غير حاجة إليه فكذلك المريض ولنا انه شاهد للشهر لا يؤذيه الصوم فلزمه كالصحيح، والآية مخصوصة في المسافر والمريض
جميعا بدليل ان المسافر لا يباح له الفطر في السفر القصير، والفرق بين المسافر والمريض ان السفر اعتبرت فيه المظنة وهو السفر الطويل حيث لم يمكن اعتبار الحكمة بنفسها، فان قليل المشقة لا يبيح وكثيرها لا ضابط له في نفسه فاعتبرت بمظنتها وهو السفر الطويل فدار الحكم مع المظنة وجودا وعدما والمرض لا ضابط له فان الامراض تختلف منها ما يضر صاحبه الصوم ومنها ما لا أثر للصوم فيه كوجع الضرس وجرح في الاصبع والدمل والجرب وأشباه ذلك فلم يصلح المرض ضابطا وأمكن اعتبار الحكمة وهو ما يخاف منه الضرر فوجب اعتباره بذلك، إذا ثبت هذا فان تحمل المريض وصام مع هذا فقد فعل مكروها لما يتضمنه من الاضرار بنفسه وتركه تخفيف الله وقبول رخصته، ويصح صومه ويجزئه لانه عزيمة أبيح تركها رخصة، فإذا تحمله أجزأه كالمريض الذي يباح له ترك الجمعة إذا حضرها (فصل) والصحيح الذي يخشى المرض بالصيام كالمريض الذي يخاف زيادة المرض في اباحة الفطر لان المريض انما أبيح له الفطر خوفا مما يتجدد بصيامه من زيادة المرض وتطاوله والخوف من تجدد المرض في معناه.
قال أحمد فيمن به شهوة غالبة للجماع يخاف أن تنشق أنثياه فله الفطر، وقال في الجارية تصوم إذا حاضت فان جهدها الصوم فلتفطر ولتقض يعني إذا حاضت وهي صغيرة قال القاضي هذا إذا كانت تخاف المرض بالصيام يباح لها وإلا فلا (فصل) ومن أبيح له الفطر لشدة شبقه إن أمكنه استدفاع الشهوة بغير الجماع كالاستمناء بيده أو يد امرأته أو جاريته لم يجز له الجماع لانه أفطر للضرورة فلم يبح له الزيادة على ما تندفع به الضرورة كأكل الميتة عند الضرورة (1) فان جامع فعليه الكفارة، وكذلك إن أمكنه دفعها بما لا يفسد صوم غيره كوطئ زوجته، أو أمته الصغيرة أو الكتابية، أو المباشرة للكبيرة المسلمة دون الفرج أو الاستمناء بيدها أو بيده لم يبح له افساد صوم غيره لان الضرورة إذا اندفعت لم يبح ما وراءها كالشبع
من الميتة إذا اندفعت الضرورة بسد الرمق، وإن لم تندفع الضرورة إلا بافساد صوم غيره أبيح ذلك لانه مما تدعو الضرورة إليه فابيح كفطره وكالحامل والمرضع يفطران خوفا على ولديهما، فان كان له أمرأتان حائض وطاهر صائمة ودعته الضرورة إلى وطئ احداهما احتمل وجهين (أحدهما) وطئ الصائمة أولى لان الله تعالى نص على النهي عن وطئ الحائض في كتابه (والثاني) يتخير لان وطئ الصائمة يفسد صومها فتتعارض المفسدتان ويتساويان (فصل) وحكم المسافر حكم المريض في أباحة الفطر وكراهية الصوم واجزائه إذا فعل، وإباحة الفطر للمسافر ثابتة بالنص والاجماع وأكثر أهل العلم على أنه إن صام أجزأه، وروي عن أبي هريرة انه لا يصح صوم المسافر، قال أحمد: عمر وأبو هريرة يأمرانه بالاعادة وروي الزهري عن أبي سلمة عن أبيه عبد الرحمن بن عوف أنه قال: الصائم في السفر كالمفطر
في الحضر وهو قول بعض أهل الظاهر لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس من البر الصوم في السفر " متفق عليه، ولانه عليه السلام أفطر في السفر فلما بلغه أن قوما صاموا قال " أولئك العصاة " وروى أبن ماجه باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الصائم في رمضان في السفر كالمفطر في الحضر " وعامة أهل العلم على خلاف هذا القول.
قال ابن عبد البر هذا قول يروى عن عبد الرحمن بن عوف هجره الفقهاء كلهم والسنة ترده، وحجتهم ما روى حمزة عن عمرو الاسلمي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام قال " إن شئت فصم وإن شئت فأفطر " متفق عليه، وفي لفظ رواه النسائي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أجد قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ قال " هي رخصة فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه " وقال أنس كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، متفق عليه، وأحاديثهم محمولة على تفضيل الفطر على الصيام (فصل) والفطر في السفر أفضل وهو مذهب ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي والاوزاعي، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي الصوم أفضل لمن قوي عليه، يروي ذلك عن أنس
وعثمان بن أبي العاص لما روي سلمة بن المحبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من كانت له حمولة تأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه " رواه أبو داود، ولان من خير بين الصوم والفطر كان الصوم أفضل كالتطوع، وقال عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة أفضل الامرين أيسرهما لقول الله تعالى " يريد الله بكم اليسر " ولما روى أبودواد عن حمزة بن عمرو قال: قلت يا رسول الله أني صاحب ظهر أعالجه وأسافر عليه وأكريه وإنه ربما صادفني هذا الشهر يعني رمضان وأنا أجد القوة وأنا شاب وأجدني أن أصوم يا رسول الله أهون علي من أن أوخر فيكون دينا علي أفأصوم يارسول الله أعظم لاجري أو أفطر؟ قال " أي ذلك شئت يا حمزة " ولنا ما تقدم من الاخبار في الفصل الذي قبله، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " خيركم الذي يفطر في السفر ويقصر " ولان فيه خروجا من الخلاف فكان أفضل كالقصر وقياسهم ينتفض بالمريض وبصوم الايام المكروه صومها (فصل) وانما يباح الفطر في السفر الطويل الذي يبيح القصر وقد ذكرنا ذلك فيما مضى في الصلاة ثم لا يخلو المسافر من ثلاث أحوال (أحدها) أن يدخل عليه شهر رمضان في السفر فلا خلاف في إباحة الفطر له فيما نعلم (الثاني) أن يسافر في أثناء الشهر ليلا فله الفطر في صبيحة الليلة التي يخرج فيها وما بعدها في قول عامة أهل العلم، وقال عبيدة السلماني وأبو مجاز وسويد بن غفلة: لا يفطر من سافر بعد دخول
الشهر لقوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وهذا شاهد ولنا قوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) وروى ابن عباس قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في شهر رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس متفق عليه، ولانه مسافر فابيح له الفطر كما لو سافر قبل الشهر والآية محمولة على من شهد الشهر كله وهذا لم يشهده كله (1) (الثالث) أن يسافر في اثناء يوم من رمضان وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله
(مسألة) (ولا يجوز أن يصوما في رمضان عن غيره) لا يجوز للمريض ولا المسافر سفرا طويلا أن يصوم في رمضان عن نذر ولا قضاء ولا غيرهما لان الفطر أبيح رخصة وتخفيفا، فإذا لم يرد التخفيف عن نفسه لزمه أن يأتي بالاصل، فان نوى صوما غير رمضان لم يصح صومه عن رمضان ولا عما نواه في الصحيح من المذهب وهو قول أكثر العلماء.
وقال أبو حنيفة في المسافر: يقع ما نواه إذا كان واجبا لانه زمن أبيح له فطره فكان له صومه عن واجب عليه كغير شهر رمضان ولنا أنه أبيح له الفطر للعذر فلم يجز أن يصومه عن غير رمضان كالمريض وبهذا ينتقض ما ذكروه وينتقض أيضا بصوم التطوع، قال صالح قيل لابي من صام شهر رمضان وهو ينوي به تطوعا يجزئه؟ فقال أو يفعل هذا مسلم؟ (فصل) ومن نوى الصوم في سفره فله الفطر واختلف قول الشافعي فيه فقال مرة لا يجوز له الفطر وقال مرة إن صح حديث الكديد لم ار به بأسا، قال مالك إن أفطر فعليه القضاء والكفارة ولنا حديث ابن عباس وهو صحيح متفق عليه، وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه فقيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون فأفطر بعضهم وصام بعضهم فبلغه أن ناسا صاموا فقال " اولئك العصاة " (2) رواه مسلم وهذا نص صريح لا يعرج على ما خالفه (مسألة) (وإن نوى الحاضر صوم يوم ثم سافر في أثنائه فله الفطر وعنه لا يباح) إذا سافر في أثناء يوم من رمضان فهل له فطر ذلك اليوم فيه روايتان أصحهما جواز الفطر وهو قول عمرو بن شرحبيل والشعبي واسحاق وداود وابن المنذر (والثانية) لا يباح له فطر ذلك اليوم وهو قول مكحول والزهري ويحيى الانصاري ومالك والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي لان الصوم عبادة تختلف بالحضر والسفر فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة
ولنا ماروى عبيد بن جبير قال ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع ثم قرب غداه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة ثم قال: اقترب، قلت ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ رواه أبو داود، ولانه أحد الامرين المنصوص عليهما في إباحة الفطر فإذا وجد في أثناء النهار أباحة كالمرض، وقياسهم على الصلاة لا يصح فان الصوم لا يفارق الصلاة لان الصلاة يلزم اتمامها بنيتها بخلاف الصوم.
إذا ثبت هذا فانه لا يباح له الفطر حتى يخلف البيوت وراء ظهره ويخرج من بين بنيانها، وقال الحسن يفطر في بيته إن شاء يوم يريد الخروج، وروي نحوه عن عطاء قال ابن عبد البر قول الحسن شاذ، وقد روي عنه خلافه ووجهه ماروى محمد بن كعب قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرا وقد رحلت له راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل فقلت له سنة؟ فقال سنة، ثم ركب.
رواه الترمذي وقال حديث حسن ولنا قوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وهذا شاهد ولا يوصف بكونه مسافرا حتى يخرج من البلد ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين ولذلك لا يقصر الصلاة، فأما أنس فيحتمل أنه كان برز من البلد خارجا منه فأتاه محمد بن كعب في ذلك المنزل (مسألة) (والحامل والمرضع إذا خافتا الضرر على أنفسهما أفطرتا وقضتا وان خافتا على ولديدهما افطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا) وجملة ذلك أن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما إذا صامتا فلهما الفطر وعليهما القضاء لا غير لا نعلم فيه خلافا لانهما يمنزلة المريض الخائف على نفسه وان خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء واطعام مسكين لكل يوم، روي ذلك عن ابن عمر وهو المشهور من مذهب الشافعي وقال الليث الكفارة عن المرضع دون الحامل وهو إحدى الروايتين عن مالك لان المرضع يمكنها أن تسترضع لولدها بخلاف الحامل ولان الحمل متصل بالحامل والخوف عليه كالخوف عليه بعض اعضائها وقال الحسن وعطاء والزهري وسعيد بن جبير والنخعي وأبو حنيفة لا كفارة عليهما لما روى أنس بن مالك رجل من بني كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ان الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن
الحامل والمرضع الصوم أو الصيام " والله لقد قالهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما أو كليهما رواه النسائي والترمذي (1) وقال حديث حسن ولم يأمر بكفارة ولانه فطر أبيح لعذر فلم يجب به كفارة كالفطر للمرض ولنا قول الله تعالى (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) وهما داخلتان في عموم الآية قال ابن عباس كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا أو يطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا واطعمتا رواه أبو داود، وروي ذلك
عن ابن عمر ولا مخالف لهما في الصحابة ولانه فطر بسبب نفس عاجزة من طريق الخلقة فوجبت به الكفارة كالشيخ الهم وخبرهم لم يتعرض للكفارة فكانت موقوفة على الدليل كالقضاء فان الحديث لم يتعرض له والمريض أخف حالا من هاتين لانه يفطر بسبب نفسه، إذا ثبت هذا فان الواجب في طعام المسكين مد بر أو نصف صاع شعير والخلاف فيه كالخلاف في اطعام المساكين في كفارة الجماع على ما يذكر في موضعه (فصل) ويجب عليهما القضاء مع الاطعام وقال ابن عمر وابن عباس لا قضاء عليهما لان الآية تناولتهما وليس فيها الا الاطعام ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " ان الله وضع عن الحامل والمرضع الصوم " ولنا أنهما يطيقان فلزمهما كالحائض والنفساء والآية أوجبت الاطعام ولم تتعرض للقضاء وأخذناه من دليل آخر والمراد بوضع الصوم وضعه في مدة عذرهما كما جاء في حديث عمرو أبن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم " ان الله وضع عن المسافر الصوم " ولا يشبهان الشيخ الهم لانه عاجز عن القضاء وهما يقدران عليه قال أحمد اذهب إلى حديث أبي هريرة يعني ولا أقول بقول ابن عمر وابن عباس في منع القضاء (فصل) فان عجزتا عن الاطعام سقط عنهما بالعجز ككفارة الوطئ بل السقوط ههنا أولى لوجود العذر ذكره شيخنا في الكافي وقيل لا يسقط وقد ذكرناه، وقال صاحب المحرر يسقط ههنا ولا يسقط عن الكبير العاجز والمريض الذي لا يرجى برؤه لانها بدل عن نفس الصوم وتلك جبران لنقص الصوم والله أعلم (مسألة) (ومن نوى قبل الفجر ثم جن أو أغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه وان
أفاق جزءا منه صح صومه) متى نوى الصوم قبل الفجر ثم جن أو أغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة يصح لان النية قد صحت وزوال الاستشعار بعد ذلك لا يمنع صحة الصوم كالنوم ولنا أن الصوم هو الامساك مع النية قال النبي صلى الله عليه وسلم " يقول تعالى كل عمل ابن آدم له الا الصيام فانه لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه من أجلي " فاضاف ترك الطعام والشراب إليه والمجنون والمغمى عليه لا يضاف الامساك إليه فلم يجزئه ولان النية احد ركني الصوم فلم تجزي وحدها كالامساك وحده أما النوم فانه عادة ولا يزيل الاحساس بالكلية ومتى نبه أنتبه (فصل) ومتى أفاق المغمى عليه في جزء من النهار صح صومه سواء كان في أوله أو في آخره وقال الشافعي في أحد قوليه تعتبر الافاقة في أول النهار ليحصل حكم النية في أوله ولنا أن الافاقة حصلت جزأ من النهار فأجزأ كما لو وجدت في أوله وما ذكروه لا يصح فان النية قد حصلت من الليل فيستغنى عن ذكرها في النهار كما لو نام أو غفل عن الصوم ولو كانت النية
انما تحصل بالافاقة في أول النهار لما صح منه صوم الفرض بالافاقة لانه لا يجزي بنية من النهار وحكم المجنون حكم المغمى عليه في ذلك وقال الشافعي إذا وجد الجنون في جزء من النهار أفسد الصوم لانه معنى يمنع وجوب الصوم فأفسده وجوده في بعضه كالحيض ولنا أنه زوال عقل في بعض النهار فلم يمنع صحة الصوم كالاغماء ويفارق الحيض فان الحيض لا يمنع الوجوب وانما يمنع الصحة ويحرم فعل الصوم ويتعلق به وجوب الغسل وتحريم الصلاة والقراءة واللبث في المسجد والوطئ فلا يصح القياس عليه (مسألة) (وإن نام جميع النهار صح صومه) لا نعلم فيه خلافا لانه عادة ولا يزيل الاحساس بالكلية (مسألة) (ويلزم المغمى عليه القضاء دون الجنون) لا نعلم خلافا في وجوب القضاء على المغمى عليه لان مدته لا تتطاول غالبا ولا تثبت الولاية على صاحبه فلم يلزم به التكليف كالنوم فأما الجنون فلا يلزمه قضاء ما مضى وبه قال أبو ثور والشافعي في
الجديد وقال مالك يقضي وان مضى عليه سنون وعن أحمد مثله وهو قول الشافعي في القديم لانه معنى يزيل العقل فلم يمنع وجوب الصوم كالاغماء، وقال أبو حنيفة ان جن جميع الشهر فلا قضاء عليه وان أفاق في أثنائه قضى ما مضى لان الجنون لا ينافي الصوم بدليل أنه لوجن في أثناء الصوم لم يفسد فإذا وجد في بعض الشهر وجب القضاء كالاغماء ولانه أدرك جزءا من رمضان وهو عاقل فلزمه صيامه كما لو أفاق في جزء من اليوم ولنا أنه معنى يزيل التكليف فلم يجب القضاء في زمانه كالصغر والكفر وتخص أبا حنيفة بانه معنى لو وجد في جميع الشهر أسقط القضاء فإذا وجد في بعضه أسقطه كالصبى والكفر فاما إذا أفاق في بعض اليوم فلنا فيه منع وإن سلمناه فلانه قد أدرك بعض وقت العبادة فلزمته كالصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم في بعض النهار وكما لو أردك بعض وقت الصلاة (فصل) قال ولا يصح صوم واجب ألا أن ينويه من الليل معينا وعنه لا يجب تعيين النية لرمضان لا يصح صوم الا بنية بالاجماع فرضا كان أو تطوعا لانه عبادة محضة فافتقر إلى النية كالصلاة فان كان فرضا كصيام رمضان في أدائه أو قضائه والنذر والكفارة أشترط أن ينويه من الليل وهذا مذهب مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يجزي صيام رمضان وكل صوم متعين بنيته من النهار لان النبي صلى الله عليه وسلم
أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الانصار التي حول المدينة " من كان أصبح صائما فليتم صومه ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم " متفق عليه وكان صوما واجبا متعينا ولانه غير ثابت في الذمة فهو كالتطوع ولنا ما روى ابن جريج وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له " وفي لفظ ابن حزم من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وروى الدارقطني باسناده عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له " وقال اسناده كلهم ثقات وقال حديث حفصة رفعه عبد الله بن أبي بكر عن الزهري
وهو من الثقات ولانه صوم فرض فافتقر إلى النية من الليل كالقضاء فاما صوم عاشوراء فلم يثبت وجوبه فان معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر " ممتفق عليه، وانما سمي الامساك صياما تجوزا كما روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أن أذن في الناس أن من كان أكل فليصم بقية يومه وامساك بقية اليوم بعد الاكل ليس بصيام شرعي فسماه صياما تجوزا ثم لو ثبت أنه صيام فالفرق
بين ذلك وبين رمضان أن وجوب الصيام تجدد في أثناء النهار فأجزأته النية حين تجدد الوجوب كمن كان صائما تطوعا فنذر في أثناء النهار صوم بقية يومه فانه تجزئه نيته عند نذره بخلاف ما إذا كان النذر متقدما والفرق بين التطوع والفرض من وجهين (أحدهما) أن التطوع يمكن الاتيان به في بعض النهار بشرط عدم المفطرات في أوله بدليل قوله عليه السلام في حديث عاشوراء " فليصم بقية يومه " فإذا نوى صوم التطوع من النهار كان صائما بقية النهار دون أوله والفرض يجب في جميع النهار ولا يكون صائما بغير نية (والثاني) أن التطوع سومح في نيته من الليل تكثيرا له فانه قد يبدو له الصوم في النهار فاشتراط النية في الليل يمنع ذلك فسامح الشرع فيها كمسامحته في ترك الصلاة في صلاة التطوع بخلاف الفرض إذا ثبت هذا ففي أي جزء من الليل نوى أجزأه وسواء فعل بعد النية ما ينافي الصوم من الاكل والشرب والجماع أو لم يفعل واشترط بعض أصحاب الشافعي أن لا يأتي بعد النية بما ينافي الصوم واشترط بعضهم وجود النية في النصف الاخير من الليل كاذان الصبح والدفع من مزدلفة ولنا مفهوم قوله عليه السلام " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " من غير تفصيل ولانه نوى من الليل فصح صومه كما نوى في النصف الاخير وكما لو لم يفعل ما ينافي الصوم ولان تخصيص النية بالنصف الاخير يفضي إلى تفويت الصوم لانه وقت النوم وكثير من الناس لا ينتبه فيه ولا يذكر الصوم والشارع انما رخص في تقديم النية على ابتدائه لحرج اعتبارها عنده فلا يخصها بمحل لا تندفع
المشقة بتخصيصها به ولان تخصيصها بالنصف الاخير تحكم من غير دليل واعتبار الصوم بالاذان والدفع من مزدلفة لا يصح لانهما يجوزان بعد الفجر فلا يفضي منعهما في النصف الاول إلى فواتهما بخلاف نية الصوم ولان اختصاصهما بالنصف الاخير بمعنى تجويزهما فيه واشتراط النية بمعنى الايجاب والتحتم وفوات الصوم بفواتها فيه وهذا فيه مشقة ومضرة بخلاف التجويز فاما إن فسخ النية مثل إن نوى الفطر بعد نية الصيام لم تجزئه تلك النية المفسوخة لانها زالت حكما وحقيقة (فصل) وإن نوى من النهار صوم الغد لم يجزئه ألا أن يستصحب النية إلى جزء من الليل وقد روي ابن منصور عن احمد من نوى الصوم عن قضاء رمضان بالنهار ولم ينو من الليل فلا بأس الا أن يكون فسخ النية بعد ذلك فظاهر هذا حصول الاجزاء بنية النهار إلا أن القاضي قال هذا محمول على أنه استصحب النية إلى الليل وهذا صحيح لظاهر قوله عليه السلام " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " ولانه لم ينو عند ابتداء العبادة ولا قريبا منها فلا يصح كما لو نوى من الليل صوم بعد الغد (فصل) وتعتبر النية لكل يوم وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وابن المنذر وعن أحمد أنه تجزئه نية واحدة لجميع الشهر إذا نوى صوم جميعه وهو مذهب مالك وإسحاق لانه نوى في زمن يصلح جنسه لنية الصوم فجاز كما لو نوى كل يوم في ليلته
ولنا أنه صوم واجب فوجب أن ينوي كل يوم من ليلته كالقضاء ولان هذه الايام عبادات لا يفسد بعضها بفساد بعض ويتخللها ما ينافيها أشبهت القضاء وبهذا فارقت اليوم الاول وعلى قياس رمضان إذا نذر صوم شهر بعينه خرج فيه مثل ما ذكرنا في رمضان (فصل) ومعنى النية القصد وهو اعتقاد القلب فعل شئ وعزمه عليه من غير تردد فمتى خطر بقلبه في الليل أن غدا من رمضان وانه صائم فيه فقد نوى وان شك في أنه من رمضان ولم يكن له أصل يبني عليه مثل ليلة الثلاثين من شعبان ولم يحل دون مطلع الهلال غيم ولا قتر فعزم أن يصوم غدا من رمضان لم تصح النية ولم يجزئه صيام ذلك اليوم لان النية قصد يتبع العلم وما لا يعلمه ولا دليل على وجوده لا يصح قصده وبهذا قال حماد وربيعة ومالك وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المنذر
وقال الثوري والاوزاعي يصح إذا نواه من الليل كاليوم الثاني وعن الشافعي كالمذهبين ولنا انه لم يجزم النية بصومه من رمضان فلم يصح كما لو لم يعلم الا بعد خروجه وكذلك إن بنى على قول المنجمين وأهل الحساب فوافق الصواب لم يصح صومه وان كثرت اصابتهم لانه ليس بدليل شرعي يجوز البناء عليه ولا العمل به فكان وجوده كعدمه قال النبي صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته " وفي رواية " لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه " فأما ليلة الثلاثين
من رمضان فتصح نيته وان احتمل أن يكون من شوال لان الاصل بقاء رمضان ولما ذكرنا من الحديث فان قال إن كان غدا من رمضان فأنا صائم، وان كان من شوال فأنا مفطر، فقال ابن عقيل لا يصح صومه لانه لم يجزم بنية الصوم والنية اعتقاد جازم، ويحتمل أن يصح لان هذا شرط واقع والاصل بقاء رمضان (فصل) ويجب تعيين النية في كل صوم واجب فيعتقد انه يصوم غدا من رمضان أو من قضائه أو من كفارته أو نذر نص عليه في رواية الاثرم فانه قال يا أبا عبد الله أسير صائم في أرض الروم شهر رمضان ولا يعلم انه رمضان فنوى التطوع قال لا يجزئه إلا بعزيمة انه من رمضان، وبهذا قال مالك والشافعي، وعن أحمد رواية أخرى انه لا يجب تعيين النية لرمضان، قال المروذي روي عن أحمد انه قال يكون يوم الشك يوم غيم إذا أجمعنا على اننا نصبح صياما يجزينا من رمضان، وان لم نعتقد انه من رمضان؟ قال: نعم.
فقلت قول النبي صلى الله عليه وسلم " انما الاعمال بالنية " أليس يريد أن ينوي انه من رمضان؟ قال لا، إذا نوى من الليل انه صائم أجزأه وحكى أبو حفص العكبري عن بعض أصحابنا انه قال: ولو نوى أن يصوم تطوعا ليلة الثلاثين من رمضان فوافق رمضان أجزأه.
قال القاضي وجدت هذا الكلام اختيارا لابي القاسم ذكره في
شرحه، وقال أبو حفص لا يجزئه إلا أن يعتقد من الليل بلا شك ولا تلوم، فعلى القول الثاني لو نوى في رمضان الصوم مطلقا أو نوى نفلا وقع عن رمضان وصح صومه، وهذا قول أبي حنيفة إذا كان
مقيما لانه فرض مستحق في زمن بعينه فلا يجب تعيين النية له كطواف الزيارة ولنا انه صوم واجب فوجب تعيين النية له كالقضاء، وطواف الزيارة عندنا كهذه المسألة في افتقاره إلى التعيين، فلو نوى طواف الوداع أو طوافا مطلقا لم يجزه عن طواف الزيارة، ثم الحج مخالف للصوم ولهذا ينعقد مطلقا وينصرف إلى الفرض، ولو حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه وقع عن نفسه ولو نوى الاحرام بمثل ما أحرم به فلان صح وينعقد فاسدا بخلاف الصوم (مسألة) (ولا يحتاج إلى نية الفرضية، وقال ابن حامد يجب ذلك) إذا عين النية عن صوم رمضان أو قضائه أو نذره أو كفارة لم يحتج أن ينوي انه فرض لان التعيين يجزئ عن نية الفرضية، وقال ابن حامد يجب ذلك، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الصلاة (مسألة) (ولو نوى إن كان غدا من رمضان فهو فرضي وإلا فهو نفل لم يجزئه على الرواية المشهورة لانه لم يعين الصوم من رمضان جزما وعنه يجزيه لانه قد نوى الصوم ولو كان عليه صوم من سنة خمس فنوى انه يصوم عن سنة ست أو نوى الصوم عن يوم الاحد وكان غيره أو ظن ان غدا الاحد فنواه وكان الاثنين صح صومه لان نية الصوم لم تختل انما أخطأ في الوقت (مسألة) (ومن نوى الافطار أفطر)
إذا نوى الافطار في صوم الفرض أفطر وفسد صومه هذا ظاهر المذهب وقول الشافعي وأبي ثور وقال أصحاب الرأي إن عاد فنوى قبل أن ينتصف النهار أجزأه بناء على أصلهم ان الصوم المعين يجزئ بنية من النهار، وحكي عن ابن حامد ان الصوم لا يفسد بذلك لانها عبادة يلزم المضي في فاسدها فلم تفسد بنية الخروج منها كالحج ولنا انها عبادة من شرطها النية ففسدت بنية الخروج منها كالصلاة ولان اعتبار النية في جيمع أجزاء العبادة، لكن لما شق اعتبار حقيقتها اعتبر بقاء حكمها وهو أن لا ينوي قطعها، فإذا نواه زالت حقيقة وحكما ففسد الصوم لزوال شرطه، وما ذكره ابن حامد لا يطرد في غير رمضان ولا يصح القياس على الحج فانه يصح بنية مطلقة وسبهمة وبالنية عن غيره إذا لم يكن حج عن نفسه فافترقا
(فصل) فأما صوم النفل فان نوى الفطر ثم لم ينو الصوم بعد ذلك لم يصح صومه لان النية انقطعت ولم توجد نية غيرها أشبه من لم ينو أصلا، وان عاد فنوى الصوم صح كما لو أصبح غير ناو للصوم لان نية الفطر انما أبطلت الفرض لقطعها النية المشترطة في جميع النهار حكما وخلو بعض أجزاء النهار عنها، والنفل بخلاف ذلك فلم يمنع صحة الصوم نية الفطر في زمن لا يشترط وجود نية الصوم فيه لان نية الفطر لا تزيد على عدم النية في ذلك الوقت وعدمها لا يمنع صحة الصوم إذا نوى بعد ذلك فكذلك إذا نوى الفطر ثم نوى الصوم بعده، وقد روي عن أحمد أنه قال: إذا أصبح صائما ثم عزم على الفطر فلم يفطر حتى بدا له ثم قال لابل أتم صومي من الواجب لم يجزئه حتى يكون عازما على الصوم يومه كله، ولو كان تطوعا كان أسهل وظاهر هذا موافق لما ذكرناه.
وقد دل على صحته ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل أهله هل من غداء؟ فان قالوا لا.
قال: " إني إذا صائم " (فصل) فان نوى انه سيفطر ساعة أخرى فقال ابن عقيل هو كنية الفطر في وقته وإن تردد في الفطر فعلى وجهين كما ذكرنا في الصلاة، وان نوى انني ان وجدت طعاما أفطرت وإلا أتممت صومي خرج فيه وجهان (أحدهما) يفطر لانه لم يبق جازما بنية الصوم ولذلك لا يصح ابتداء النية بمثل هذا (الثاني) لا يفطر لانه لم ينو الفطر نية صحيحة، لان النية لا يصح تعليقها على شرط، ولذلك لا ينعقد الصوم بمثل هذه النية (فصل) ومن ارتد عن الاسلام أفطر بغير خلاف نعلمه إذا ارتد في أثناء الصوم فعليه قضاء ذلك اليوم إذا عاد إلى الاسلام سواء أسلم في أثناء اليوم أو بعد انقضائه، وسواء كانت ردته باعتقاد ما يكفر به أو شكه أو النطق بكلمة الكفر مستهزئا أو غير مستهزئ لانها عبادة من شرطها النية أشبهت الصلاة والحج (مسألة) (ويصح صوم النفل بنية من النهار قبل الزوال وبعده، وقال القاضي لا يجزي بعد الزوال)
يصح صوم التطوع بنية من النهار وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وروي ذلك عن أبي الدرداء وأبي طلحة وابن مسعود وحذيفة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والنخعي، وقال مالك وداود
لا يجوز إلا بنية من الليل لقوله عليه السلام " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " ولان الصلاة يتفق نية نفلها وفرضها فكذلك الصوم ولنا ماروت عائشة رضي الله عنها قال: دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال " هل عندكم شي؟ " قلنا لا.
قال " فاني إذا صائم " أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي ويدل عليه أيضا حديث عاشوراء ولان الصلاة يخفف نفلها عن فرضها في سقوط القيام وجوازها في السفر على الراحلة إلى غير القبلة فكذلك الصيام، وحديثهم نخصه بحديثنا ولو تعارضا قدم حديثنا لانه أصح من حديثهم فانه من رواية ابن لهيعة ويحيى بن أيوب.
قال الميموني سألت أحمد عنه فقال أخبرك ماله عندي ذاك الاسناد إلا انه عن ابن عمر وحفصة إسنادان جيدان، والصلاة يتفق وقتها وقت النية لنفلها وفرضها لان اشتراط النية في أول الصلاة لا يفضي إلى تقليلها بخلاف الصوم فانه يعين له الصوم من النهار فعفي عنه كما جوزنا التنفل قاعدا لهذه العلة إذا ثبت ذلك فأي وقت من النهار نوى أجزأه، هذا ظاهر كلام أحمد والخرقي وهو ظاهر قول ابن مسعود ويروى عن سعيد ابن المسيب، واختار القاضي في المجرد انه
لا تجزئه النية بعد الزوال وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من قولي الشافعي لان معظم النهار مضى بغير نية بخلاف الناوي قبل الزوال فانه قد أدرك معظم العبادة ولهذا تأثير في الاصول بدليل أن من أدرك الامام في الركوع أدرك الركعة لادراكه معظمها، ولو أدركه بعد الرفع لم يكن مدركا لها، وكذلك من أدرك ركعة من الجمعة يكون مدركا لها لانها لا تزيد بالتشهد شيئا ولا يدركها بدون الركعة لذلك ولنا انه نوى في جزء من النهار أشبه مالو نوى في أوله ولان جميع الليل وقت النية الفرض فكذلك جميع النهار وقت لنية النفل ولان صوم النفل انما جوزناه بنية من النهار طلبا لتكثيره وهذا أبلغ في التكثير (فصل) وانما يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية في المنصوص عن أحمد فانه قال: من نوى في التطوع من النهار كتب له بقية يومه، وأذا أجمع من الليل كان له يومه، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وقال أبو الخطاب في الهداية يحكم بذلك من أول النهار وهو قول بعض
الشافعية لان الصوم لا يتبعض في اليوم بدليل ما لو أكل في بعضه لم يجزه صيام باقيه، فإذا وجد في بعض اليوم دل على انه صائم من أوله، ولا يمتنع الحكم بالصوم من غير نية حقيقية كما لو نسي الصوم بعد نيته أو غفل عنه، ولانه لو أدرك بعض الركعة أو بعض الجماعة كان مدركا لجميعها ولنا ان ما قبل النية لم ينو صيامه فلا يحصل له صيامه لقوله عليه السلام " انما الاعمال بالنيات وانما لكل أمرئ ما نوى " ولان الصوم عبادة محضة فلا يوجد بغير نية كسائر العبادات المحضة، ودعوى
ان الصوم لا يتبعض دعوى محل النزاع وانما يشترط لصوم البعض أن لا توجد المفطرات في شئ من اليوم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عاشوراء " فليصم بقية يومه " وأما إذا نسي النية بعد وجودها فانه يكون مستصحبا لحكمها بخلاف ما قبلها فانها لم توجد حكما ولا حقيقة، ولهذا لو نوى الفرض من الليل ونسيه في النهار صح صومه، ولو لم ينو من الليل لم يصح صومه.
وأما ادراك الركعة والجماعة فانما معناه انه لا يحتاج إلى قضاء ركعة وينوي انه مأموم وليس هذا مستحيلا، أما أن يكون ما صلى
الامام قبله من الركعات محسوبا له بحيث يجزئه عن فعله فكلا ولان مدرك الركوع مدرك لجميع أركان الركعة لان القيام وجد حين كبر وفعل سائر الاركان مع الامام، وأما الصوم فان النية شرط له
أو ركن فيه فلا يتصور وجوده بدون شرطه وركنه (فصل) وانما يصوم الصوم بنية من النهار بشرط أن يكون طعم قبل النية ولا فعل ما يفطره
فان فعل شيئا من ذلك لم يجزه الصيام بغير خلاف نعلمه والله عزوجل أعلم (باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة) ومن أكل أو شرب أو استعط أو احتقن أو داوى الجائفة بما يصل إلى جوفه أو كتحل بما يصل إلى حلقه أو داوى المأمومة أو قطر في أذنه ما يصل إلى دماغه أو أدخل في جوفه شيئا من
أي موضع كان أو استقاء أو استمنى أو قبل أو لمس فأمنى أو أمذى أو كرر النظر فانزل أو حجم أو احتجم عامدا ذاكرا لصومه فسد صومه وان كان مكرها أو ناسيا لم يفسد.
أجمع أهل العلم على الافطار بالاكل والشرب لما يتغذى به، وقد دل عليه قوله تعالى (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) مدة إباحة الاكل والشرب إلى تبين الفجر ثم أمر بالصيام عنهما، وفي الحديث " لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي " فأما أكل ما لا يتغذى به فيحصل به الفطر في قول عامة أهل العلم، وقال الحسن بن صالح لا يفطر بما ليس بطعام ولا شراب وحكي عن أبي طلحة الانصاري أنه كان يأكل البرد في الصوم ويقول ليس بطعام ولا شراب ولعل من يذهب إلى ذلك يحتج بأن الكتاب والسنة انما حرما الاكل والشرب المعتاد فما عداهما يبقى على أصل الاباحة.
ولنا دلالة الكتاب والسنة على تحريم الاكل والشرب على العموم فيدخل فيه محل النزاع ولم يثبت عندنا ما نقل عن أبي طلحة فلا يعد خلافا (فصل) ويفطر بكل ما أدخله إلى جوفه أو مجوف في جسده كدماغه وحلقه ونحو ذلك مما ينفد إلى معدته إذا وصل باختياره وكان مما يمكن التحرز منه سواء وصل من الفم على العادة أو غيرها كالوجور واللدود أو من الانف كالسعوط أو ما يدخل من الاذان إلى الدماغ أو ما يدخل من العين إلى الحلق كالكحل أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة أو ما يصل من مداواة الجائفة أو من دواء المأمومة، وكذلك ان جرح نفسه أو جرحه غيره باذنة فوصل إلى جوفه سواء استقر في جوفه أو عاد فخرج منه لانه واصل إلى الجوف باختياره فاشبه الاكل وبهذا كله قال الشافعي الا في الكحل وقال مالك لا يفطر بالسعوط الا أن ينزل إلى حلقه ولا يفطر إذا داوى المأمومة والجائفة واختلف عنه
في الحقنة واحتج بانه لم يصل إلى الحلق منه شئ أشبه ما لم يصل إلى الدماغ ولا الجوف ولنا أنه واصل إلى جوف الصائم باختياره فيفطره كالواصل إلى الحلق ولان الدماغ جوف والواصل إليه يغذيه فيفطر كجوف البدن (فصل) فاما الكحل فان وجد طعمه في حلقه أو علم وصوله إليه فطره والا لم يفطره نص عليه أحمد وقال ابن أبي موسى ان اكتحل بما يجد طعمه كالذرور والصبر والقطور افطر وان اكتحل باليسير من الاثمد غير المطيب لم يفطر نص عليه أحمد وقال ابن عقيل ان كان الكحل حادا فطره والا فلا ونحو ما ذكرناه قال أصحاب مالك عن ابن أبي ليلى وابن شبرمه أن الكحل يفطر الصائم، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يفطر لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اكتحل في رمضان وهو صائم ولان العين ليست منفذا فلم يفطر بالداخل منها كما لو دهن رأسه ولنا أنه أوصل إلى حلقه ما هو ممنوع من تناوله بفيه فأفطر به كما لو أوصله من أنفه وما رووه لم يصح، قال الترمذي لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في باب الكحل للصائم شئ ثم نحمله أنه اكتحل بما لا يصل، وقولهم ليست العين منفذا لا يصح فانه يوجد طعمه في الحلق ويكتحل بالاثمد فيتنخعه.
قال أحمد: حدثني انسان أنه اكتحل بالليل فتنخعه بالنهار ثم لا يعتبر في الواصل أن يكون من منفذ بدليل ما لو جرح نفسه جائفة فانه يفطر (مسألة) (أو استقاء أو استمنى) معنى استقاء استدعى القئ ويفطر به في قول عامة أهل العلم، قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على
ابطال صوم من استقاء عامدا، وحكي عن ابن مسعود وابن عباس أن القئ لا يفطر، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثلاث لا يفطرن الصائم الحجامة والقئ والاحتلام " ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من استقاء عمدا فليقض " قال الترمذي هذا حديث حسن، ورواه أبو داود وحديثهم غير محفوظ يرويه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف قال الترمذي (فصل) وقليل القئ وكثيره سواء في ظاهر المذهب وفيه رواية ثانية لا يفطر إلا بمل ء الفم لانه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ولكن دسعه تملا الفم ولان اليسير لا ينقض الوضوء فلا يفطر كالبلغم، وفيه رواية
ثالثة: أنه نصف الفم لانه ينقض الوضوء فأفطر به كالكثير، والاولى أولى لظاهر الحديث الذي رويناه، ولان سائر المفطرات لا فرق بين قليلها وكثيرها كذلك، هذا وحديث الرواية الثانية لا نعرف له أصلا ولا فرق بين كون القئ طعاما، أو مرارا، أو بلغما، أو دما، أو غيره لان لجميع داخل في الحديث (فصل) ولو استمنى بيده فقد فعل محرما ولا يفسد صومه بمجرده، فان أنزل فسد صومه لانه في معنى القبلة في اثارة الشهوة، وكذلك إن مذي به في قياس المذهب قياسا على القبلة، فأما إن أنزل لغير شهوة كالذي يخرج منه المني أو المذي لمرض فلا شئ عليه لانه خارج لغير شهوة أشبه البول، ولانه يخرج من غير اختيار منه ولا بسبب أشبه الاحتلام، ولو جامع بالليل فأنزل بعدما أصبح لم يفطر لانه لم يتسبب إليه في النهار فأشبه مالو أكل شيئا في الليل فذرعه القئ في النهار (مسألة) (قال أو قبل أو لمس فأمنى أو مذى) إذا قبل أو لمس لم يخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن لا ينزل ولا يمذي فلا يفسد صومه بذلك بغير خلاف علمناه لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم وكان أملككم لاربه، رواه البخاري وروي بتحريك الراء وسكونها، قال الخطابي معنى ذلك حاجة النفس ووطرها وقيل بالتسكين العضو وبالتحريك الحاجة، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: هششت فقبلت وأنا صائم فقلت يارسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم، قال " أرأيت لو تمضمضت من أناء وأنت صائم " قلت لا بأس به، قال " فمه " رواه أبو داود، شبه القبلة بالمضمضة من حيث إنها من مقدمات الشهوة فان المضمضة إذا لم يكن معها نزول الماء لم تفطر وإن كان معها نزوله أفطر إلا أن أحمد ضعف هذا الحديث وقال: هذا ريح ليس من هذا شئ (الحال الثاني) أن يمني فيفطر بغير خلاف نعلمه لما ذكرناه من إيماء الخبرين ولانه انزل بمباشرة أشبه الانزال بجماع دون الفرج (الحال الثالث) أن يمذي فيفطر وهو قول مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يفطر وروي ذلك عن الحسن والشعبي والاوزاعي لانه خارج لا يوجب الغسل أشبه البول
ولنا أنه خارج تخلله الشهوة خرج بالمباشرة أشبه المني وبهذا فارق البول (مسألة) (أو كرر النظر فأنزل) لتكرار النظر ثلاثة أحوال أيضا (أحدها) أن لا يقترن به أنزال فلا يفسد الصوم بغير اختلاف (الثاني) أن ينزل المني به فيفسد الصوم، وبه قال عطاء والحسن ومالك وقال جابر بن زيد والثوري وأبو حنيفة والشافعي وابن المنذر لا يفسد لانه عن غير مباشرة أشبه الانزال بالفكر ولنا أنه انزال بفعل يتلذذ به يمكن التحرز منه أشبه الانزال باللمس.
والفكر لا يمكن التحرز منه (1) بخلاف تكرار النظر (الثالث) مذى بذلك فظاهر كلام احمد أنه لا يفطر به لانه لا نص في الفطر به ولا يصح قياسه على انزال المني لمخالفته إباه في الاحكام فيبقى على الاصل وفيه قول آخر أنه يفطر لانه خارج بسبب الشهوة أشبه المني ولان السبب الضعيف إذا تكرر تنزل بمنزلة السبب القوي فان من أعاد الضرب بعصا صغيرة فقتل وجب عليه القصاص كالضرب بالعصا الكبيرة والاول ظاهر المذهب (فصل) فأما إن صرف نظره لم يفسد صومه أنزل أو لم ينزل، وقال مالك يفسد صومه إن أنزل كما لو كرره ولنا أن النظرة الاولى لا يمكن التحرز منها فلا يفسد الصوم ما أفضت إليه كالفكرة وعليه يخرج التكرار (مسألة) (قال أو حجم أو أحتجم) الحجامة يفطر بعها الحاجم والمحجوم وبه قال اسحاق وابن المنذر ومحمد بن اسحق وابن خريمة وعطاء وعبد الرحمن بن مهدي وكان مسروق والحسن وابن سيرين لا يرون للصائم أن يحتجم وكان جماعة من الصحابة يحتجمون ليلا في الصوم منهم ابن عمر وابن عباس وأبو موسى وأنس بن مالك ورخص فيها أبو سعيد الخدري وابن مسعود وأم سلمة والحسين بن علي وعروة وسعيد بن جبير وقال مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي يجوز للصائم أن يحتجم ولا يفطر لما روي البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم ولانه دم خارج من البدن أشبه الفصد ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أفطر الحاجم والمحجوم " رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر نفسا قال أحمد
حديث شداد بن أوس من أصح حديث يروى في هذا الباب واسناد حديث رافع اسناد جيد وقال حديث ثوبان وشداد صحيحان وقال علي بن المديني أصح شئ في هذا الباب حديث شداد وثوبان.
وحديثهم منسوخ بحديثنا بدليل ما روى ابن عباس أنه قال احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقاحة بقرن وناب وهو محرم صائم فوجد لذلك ضعفا شديدا فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتجم الصائم رواه أبو اسحاق الجوزجاني في المترجم وعن الحكم قال احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فضعف ثم كرهت الحجامة
للصائم وكان ابن عباس وهو راوي حديثهم يعد الحجام والمحاجم فإذا غابت الشمس احتجم كذلك رواه الجوزجاني وهذا يدل على أنه علم نسخ الحديث الذي رواه (1) ويحتمل أنه احتجم فافطر كما روي عنه عليه السلام أنه قاء فافطر فان قيل فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي الحاجم والمحتجم يغتابان فقال ذلك قلنا لم تثبت صحة هذه الرواية مع أن اللفظ أعم من السبب فيجب الاخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب على اننا قد ذكرنا الحديث الذي فيه بيان علة النهي عن الحجامة وهي الخوف من الضعف فيبطل التعليل بما سواه أو تكون كل واحدة منهما علة مستقلة على أن الغيبة لا تفطر الصائم اجماعا فلا يصح حمل الحديث عليها قال أحمد لان يكون الحديث على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم " افطر الحاجم والمحجوم " أحب الينا من أن يكون من الغيبة لان من أراد أن يمتنع من الحجامة أمتنع وهذا أشد على الناس من يسلم من الغيبة؟ فان قيل إذا كانت علة النهي ضعف الصائم بها فلا يقتضي ذلك الفطر انما يقتضي الكراهة ومعنى قوله " افطر الحاجم والمحجوم " أي قربا من الفطر قلنا هذا تأويل يحتاج إلى دليل مع أنه لا يصح في حق الحاجم لانه لا يضعفه (فصل) وانما يفطر بما ذكرنا إذا فعله عامدا ذاكرا لصومه وان فعل شيئا من ذلك ناسيا لم يفسد صومه روي عن علي رضي الله عنه لا شئ على من أكل ناسيا وهو قول ابي هريرة وابن عمر وعطاء وطاوس وابن أبي ذئب والاوزاعي والثوري وأبي حنيفة واسحاق وقال ربيعة ومالك يفطر لان مالا يصح الصوم مع شئ من جنسه عمدا لا يجوز مع سهوه كالجماع وترك النية ولنا ما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أكل أحدكم أو شرب ناسيا فليتم صومه
فانما أطعمه الله وسقاه " متفق عليه وفي لفظ " من أكل أو شرب ناسيا فانما هو رزق رزقه الله " ولانها عبادة ذات تحليل وتحريم فكان في محظوراتها ما يختلف عمده وسهوه كالصلاة والحج فأما النية فليس تركها فعلا ولانها شرط والشروط لا تسقط بالسهو بخلاف المبطلات والجماع حكمه أغلظ ويمكن التحرز عنه (مسألة) (فان فكر فأنزل لم يفسد صومه) وحكي عن أبي حفص البرمكي أنه يفسد واختاره ابن عقيل لان الفكرة تستحضر فتدخل تحت الاختيار لان الله تعالى مدح الذين يتفكرون في خلق السموات والارض ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفكر في ذات الله ولو كانت غير مقدور عليها لم يتعلق بها ذلك كالاحتلام فأما أن خطر بقلبه صورة ذلك الفعل فأنزل لم يفسد صومه كالاحتلام ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " عفي لامتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به " ولانه لا نص في الفطر به ولا اجماع، ولا يمكن قياسه على تكرار النظر لانه دونه في استدعاء الشهوة وأفضائه
إلى الانزال ويخالفه في التحريم إذا تعلق، إذا ثبت ذلك في الاكل والشرب ثبت في سائر ما ذكرنا قياسا عليه، ولنا في الجماع منع (فصل) وإن فعل شيئا من ذلك وهو نائم لم يفسد صومه لانه لا قصد له ولا علم بالصوم فهو أعذر من الناسي فان فعله جاهلا بتحريمه فذكر أبو الخطاب أنه لا يفطره كالناسي (قال شيخنا) ولم أره عن غيره، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " أفطر الحاجم والمحجوم " في حق الرجلين اللذين رآهما يحجم أحدهما صاحبه من جهلهما بتحريمه يدل على أن الجهل لا يعذر به، ولانه نوع جهل فلم يمنع الفطر كالجهل بالوقت في حق من أكل يظن أن الفجر لم يطلع وتبين بخلافه (فصل) فان فعله مكرها بالوعيد فقال ابن عقيل قال أصحابنا لا يفطر به لقول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " قال ويحتمل عندي أن يفطر لانه فعل المفطر لدفع الضرر عن نفسه أشبه المريض ومن شرب لدفع العطش، فأما الملجأ فلا يفطر لانه خرج بذلك عن حيز الفعل ولذلك لا يضاف إليه، ولذلك افترقا فيما إذا أكره على قتل آدمي فقتله أو ألقي عليه
(مسألة) (وإن طار إلى حلقه ذباب، أو غبار، أو قطر في احليله، أو فكر فأنزل، أو احتلم، أو ذرعه القئ، أو أصبح وفي فيه طعام فلفظه، أو اغتسل، أو تمضمض، أو استنشق فدخل الماء حلقه لم يفسد صومه، وإن زاد على الثلاث أو بالغ فيهما فعلى وجهين) إذا دخل حلقه غبار من غير قصد كغبار الطريق ونخل الدقيق، أو الذبابة تدخل حلقه أو يرش عليه الماء فيدخل مسامعه أو حلقه، أو يلقى في ماء فيصل إلى جوفه، أو يدخل حلقه بغير اختياره، أو يداوي جائفته أو مأمومته بغير اختياره، أو يحجم كرها، أو تقبله امرأة بغير اختياره فينزل وما أشبه ذلك لا يفسد صومه، لا نعلم فيه خلافا لانه لا يمكن التحرز منه أشبه مالو دخل حلقه شئ وهو نائم، وكذلك الاحتلام لانه من غير اختيار منه فأشبه ما ذكرنا، وفي معنى ذلك إذا ذرعه القئ لانه بغير اختياره كالاحتلام بأجنبية أو الكراهة إن كان في زوجة فبقي على الاصل (فصل) فان قطر في احليله دهنا لم يفطر به سواء وصل إلى المثانة أم لا، وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي يفطر لانه أوصل الدهن إلى جوف في جسده فأفطر كما لو داوى الجائفة، ولان المني يخرج من الذكر فيفطره وما أفطر بالخارج منه جاز أن يفطر بالداخل منه كالفم ولنا أنه ليس بين باطن الذكر والجوف منفذ، وانما يخرج البول رشحا فالذي يتركه فيه لا يصل إلى الجوف فلا يفطره كالذي يتركه في فيه ولا يبلعه (مسألة) (قال أو أصبح وفي فيه طعام فلفظه) إذا أصبح في فيه الطعام لم يخل من حالين (أحدهما) أن يكون يسيرا لا يمكنه لفظه فيزدرده
فانه لا يفطر به لانه لا يمكن التحرز منه أشبه الريق، قال ابن المنذر أجمع على ذلك أهل العلم (الثاني) أن يكون كثيرا يمكنه لفظه فان لفظه فلا شئ عليه وكذلك ان دخل حلقه بغير اختياره لمشقة الاحتراز منه وان ابتلعه عامدا فسد صومه وهو قول الاكثرين وقال أبو حنيفة لا يفسد لانه لابد أن يبقى بين أسنانه شئ مما يأكله فلم يفطر بابتلاعه كالريق ولنا أنه بلع طعاما يمكنه لفظه باختياره ذاكرا لصومه فافطر به كما لو ابتلع ابتداء من خارج
ويخالف ما يجري به الريق فانه لا يمكنه لفظه فان قيل يمكنه أن يبصق قلنا لا يخرج جميع الريق ببصاقه وان منع من ابتلاع ريقه كله لم يمكنه
(مسألة) قال (أو اغتسل أو تمضمض أو استنشق فدخل الماء حلقه لم يفسد صومه) المضمضة والاستنشاق لا يفطر بغير خلاف سواء كان في طهارة أو غيرها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ان عمر سأله عن القبلة للصائم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أرأيت لو تمضمضت من اناء وأنت صائم " قلت لا بأس قال " فمه " ولان الفم في حكم الظاهر فلا يبطل الصوم بالواصل إليه كالانف والعين فان تمضمض أو أستنشق في الطهارة فسبق الماء إلى حلقه من غير قصد ولا إسراف فلا شئ عليه، وهذا قول الاوزاعي وإسحاق والشافعي في أحد قوليه وروي ذلك عن ابن عباس وقال مالك وأبو حنيفة يفطر لانه أوصل الماء إلى حلقه ذاكرا لصومه فأفطر كما لو تعمد شربه ولنا أنه وصل إلى حلقه من غير قصد ولا إسراف أشبه مالو طارت ذبابة إلى حلقه وبهذا فارق المتعمد (فصل) فأما إن زاد على الثلاث وبالغ في الاستنشاق والمضمضة فقد فعل مكروها لقول النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة " وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما " فان دخل الماء حلقه فقال أحمد يعجبني أن يعيد الصوم وفيه وجهان أحدهما يفطر لانه فعل مكروها تعرض به إلى إيصال الماء إلى حلقه أشبه من أنزل بالمباشرة ولان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المبالغة حفظا للصوم فدل على أنه يفطر به ولانه وصل بفعل منهي عنه أشبه العمد والثاني لا يفطره لانه وصل من غير قصد أشبه غبار الدقيق إذا دخل حلقه وقت نخله فأما المضمضة لغير طهارة فان كانت لحاجة كغسل فمه عند الحاجة إليه ونحوه فحكمه حكم المضمضة للطهارة
وان كان عبثا أو تمضمض من أجل العطش كره وسئل أحمد عن الصائم يعطش فيمضمض ثم يمجه قال يرش على صدره أحب إلي فان فعل فوصل الماء إلى حلقه أو ترك الماء في فيه عابثا أو للتبرد فالحكم فيه كالحكم في الزائد على الثلاث لانه مكروه
(فصل) ولا بأس أن يصب الماء على رأسه من الحر والعطش لما روي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال " لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر " رواه أبو داود (فصل) ولا بأس أن يغتسل الصائم فان عائشة وأم سلمة قالتا: نشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ان كان ليصبح جنبا من غير احتلام ثم يغتسل ثم يصوم متفق عليه وروى أبو بكر باسناده أن ابن عباس دخل الحمام وهو صائم هو واصحاب له في شهر رمضان فاما الغوص في الماء فقال أحمد في الصائم يغتمس في الماء إذا لم يخف أن يدخل في مسامعه وكره الحسن والشعبي أن ينغمس في الماء خوفا أن يدخل في مسامعه فان دخل إلى مسامعه في الغسل المشروع من غير قصد ولا اسراف لم يفطر كالمضمضة في الوضوء وان غاص في الماء أو اسرف أو كان عابثا فحكمه حكم الداخل إلى الحلق من المبالغة والزيادة على الثلاث على ما ذكرنا من الخلاف
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: