الفقه الحنبلي - البيوع

فيؤذيه دخول صاحبه عليه فيجوز ان يشتريها منه، واحتجوا بأن العرية في اللغة هبة ثمرة النخيل عاما قال أبو عبيد الاعراء ان يجعل الرجل للرجل ثمرة نخله عامها ذلك قال شاعر الانصار: ليست بسنهاء ولا رجبية * ولكن عرايا في السنين الجوائح يقول انا نعريها الناس، فتعين صرف اللفظ إلى موضوعه لغة ومقتضاه في العربية ما لم يوجد ما يصرفه عن ذلك.
ولنا حديث زيد بن ثابت وهو حجة على مالك في تصريحه بجواز بيعها من غير الواهب ولانه لو كان لحاجة الواهب لما اختص بخمسة أوسق لعدم اختصاص الحاجة بها ولم يجز بيعها بالتمر لان لان الظاهر من حال صاحب الحائط الذي له النخل الكثير يعريه الناس أنه لا يعجز عن أداء ثمن العرية.
وفيه حجة على من اشترط كونها موهوبة لبائعها لان علة الرخصة حاجة المشتري إلى أكل الرطب ولا ثمن معه سوى التمر فمتى وجد ذلك جاز البيع، ولان اشتراط كونها موهوبة مع اشتراط حاجة المشتري إلى أكلها رطبا ولا ثمن معه يفضي إلى سقوط الرخصة إذ لا يكاد يتفق ذلك، ولان ما جاز بيعه لواهبه إذا كان موهوبا جاز وان لم يكن موهوبا كسائر الاموال وما جاز بيعه لواهبه جاز لغيره كسائر الاموال وانما سمي عرية لتعريه عن غيره وافراده بالبيع { مسألة } (ولا يجوز في سائر الثمار في أحد الوجهين) لا يجوز بيع العرية في غير النخيل اختاره أبو حامد وهو قول الليث إلا تكون ثمرته مما لا يجري فيه الربا فيجوز بيع رطبها بيابسها لعدم جريان الربا فيها، وقال القاضي يجوز في سائر الثمار وهو قول مالك والاوزاعي قياسا على ثمرة النخيل، ويحتمل أن يجوز في العنب دون غيرهما وهو قول الشافعي لان العنب كالرطب في وجوب الزكاة فيه وجواز خرصه وتوسيقه وكثرة يابسه واقتنائه في بعض البلدان والحاجة إلى أكل رطبه، والتنصيص على الشئ يوجب ثبوت الحكم في مثله ولايجوز في غيرهما لاختلافهما في أكثر هذه المعاني فانه لا يمكن خرصها لتفرقها في الاغصان واستتارها بالاوراق ولا يقتات يابسها فلا يحتاج إلى الشراء به، ووجه الاولى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة التمر بالثمرة إلا أصحاب العرايا فانه أذن لهم، وعن بيع العنب بالزبيب وكل ثمر بخرصه وهذا حديث حسن رواه
الترمذي وهو يدل على تخصيص العرية بالتمر فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أرخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غير ذلك، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلا وعن كل ثمر بخرصه ولان الاصل يقتضي تحريم بيع العرية وانما جازت في ثمرة النخيل رخصة ولا يصح قياس غيرها عليها لوجهين (أحدهما) أن غيرها لا يساويها في كثرة الاقتيات بها وسهولة خرصها وكون الرخصة في الاصل لاهل المدينة، وانما كانت حاجتهم إلى الرطب دون غيره (الثاني) أن القياس لا يعمل به إذا خالف نصا وقياسهم يخالف نصوصا غير مخصوصة، وانما يجوز التخصيص بالقياس على المحل المخصوص ونهى عن بيع العنب بالزبيب لم يدل على تخصيص فيقاس عليه وكذلك سائر الثمار { مسألة } (ولا يجوز بيع جنس فيه الربا بعضه ببعض ومع أحدهما أو معهما من غير جنسهما
كمد عجوة ودرهم بمدين أو بدرهمين أو بمد ودرهم وعنه يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه) هذه المسألة تسمى مسألة مد عجوة وظاهر المذهب أن ذلك لا يجوز نص عليه أحمد في مواضع كثيرة قال ابن أبي موسى في السيف المحلى والمنطقة والمراكب المحلاة تباع بجنس ما عليها لا يجوز قولا واحدا، وروي هذا عن سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وشريح وابن سيرين وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو ثور، وعن أحمد انه يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه: قال حرب قلت لاحمد دفعت دينارا كوفيا ودرهما وأخذت دينار ا شاميا وزنهما سواء؟ قال لا يجوز إلا أن ينقص الدينار فيعطيه بحسابه فضة، وكذلك روي عن محمد ابن أبي حرب الجرجرائي قال أبو داود سمعت أحمد يسئل عن الدراهم المسيبية بعضها صفر وبعضها فضة بالدراهم فقال لا أقول فيه شيئا، قال أبو بكر روى هذه المسألة عن أحمد خمسة عشر نفسا كلهم اتفقوا على أنه لا يجوز حتى يفصل إلا الميموني، وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة يجوز ذلك بما ذكرنا من الشرط، وقال الحسن لا بأس ببيع السيف المحلى بالفضة بالدراهم وبه قال الشعبي والنخعي
واحتجوا بأن العقد إذا أمكن حمله على الصحة لم يحمل على الفساد لانه لو اشترى لحما من قصاب جاز مع احتمال كونه ميتة لكن يجب حمله على أنه مذكى تصحيحا، وقد أمكن تصحيح العقد ههنا بجعل
الجنس في مقابلة غير الجنس أو جعل غير الجنس في مقابلة الزائد على المثل ولنا ما روى فضالة بن عبيد قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو سبعة دنانير فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا، حتى تميز بينهما " قال فرده حتى ميز بينهما رواه أبو داود وفي لفظ رواه مسلم قال أمر رسول الله صلى الله عليه بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب وزنا بوزن " ولان العقد إذا جمع عوضين مختلفي الجنس وجب أن ينقسم أحدهما على الآخر على قدر قيمة الآخر في نفسه، فإذا اختلفت القيمة اختلف ما يأخذه من العوض.
بيانه إذا اشترى عبدين قيمة أحدهما مثل نصف قيمة الآخر بعشرة كان ثمن أحدهما ثلثي العشرة والآخر ثلثها فلو رد أحدهما بعيب رده بقسطه من الثمن، وكذلك إذا اشترى شقصا وسيفا بثمن أخذ الشفيع الشقص بقسطه من الثمن، فإذا فعلنا هذا فيمن باع درهما ومدا قيمته درهمان بمدين قيمتهما ثلاثة حصل الدرهم في مقابلة ثلثي مد، والمد الذي مع الدرهم في مقابلة مد وثلث هذا إذا تفاوتت القيم ومع التساوي يجهل ذلك لان التقويم ظن وتخمين، والجهل بالتساوي كالعلم بعدمه في باب الربا ولذلك لم يجز بيع صبرة بصبرة بالظن والخرص، وقولهم يجب تصحيح العقد ممنوع بل يحمل على ما يقتضيه من صحة وفساد، كذلك لو باع بثمن وأطلق وفي البلد نقود بطل العقد ولم يحمل على نقد أقرب البلاد إليه، أما إذا اشترى من انسان شيئا فانه يصح لان الظاهر انه ملكه لان اليد دليل الملك، وإذا باع لحما فالظاهر انه مذكى لان المسلم في الظاهر لا يبيع الميتة
{ مسألة } (وان باع نوعي جنس بنوع واحد منه كدينار قراضة وصحيح بصحيحين أو حنطة حمراء وسمراء ببيضاء أو تمرا برنيا ومعقليا بابرحيمي فان ذلك يصح قاله أبو بكر وأومأ إليه أحمد واختار القاضي ان الحكم فيها كالتي قبلها)
وهو مذهب مالك والشافعي لان العقد يقتضي انقسام الثمن على عوضه على حسب اختلافه في قيمته كما ذكرنا وروي عن احمد منع ذلك في النقد وتجويزه في الثمن نقله احمد بن القاسم لان الانواع في غير الاثمان يكثر اختلاطها ويشق تمييزها فعفي عنها بخلاف الاثمان ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب مثلا بمثل والفضة بالفضة مثلا بمثل " الحديث وهذا يدل على إباحة البيع عند وجود المماثلة المرعية هي في الموزون وزنا وفي المكيل كيلا ولان الجودة ساقطة في باب الربويات فيما قوبل بجنسه فيما إذا اتحد النوع في كل واحد من الطرفين فكذلك إذا اختلفا واختلاف القيمة ينبني على الجودة والرداءة ولانه باع ذهبا بذهب متساويا في الوزن فصح كما لو اتفق النوع، وانما يقسم العوض على المعوض فيما يشتمل على جنسين أو في غير الربويات بدليل مالو باع نوعا بنوع يشتمل على جيد وردئ { مسألة } (ولايجوز بيع تمر منزوع النوى بما نواه فيه لاشتمال أحدهما على ما ليس من جنسه دون الآخر، وإن نزع النوى ثم باع النوى والتمر بنوى وتمر لم يجز لان التبعية زالت بنزعه فصار كمسألة مد عجوة بخلاف ما إذا كان في كل واحد نواه، وان باع تمرا منزوع النوى بتمر منزوع النوى
جاز كما لو باع تمرا فيه النوى بعضه ببعض، وقال أصحاب الشافعي لا يجوز في أحد الوجهين لانهما لم يتساويا في حال الكمال ولانه يتجافى في المكيال ولنا قول النبي صلى الله وعليه وسلم " التمر بالتمر مدا بمد " ولانهما تساويا في حال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان فجاز كما لو كان في كل واحد نواه، ويجوز بيع النوى بالنوى كيلا كذلك { مسألة } (وفي بيع النوى بتمر فيه النوى، واللبن بشاة ذات لبن والصوف بنعجة عليها صوف روايتان) إذا باع النوى بتمر نواه فيه فعلى روايتين (أحداهما) لا يجوز رواه عنه مهنا وابن القاسم لانه كمسألة مدعجوة وكما لو باع تمرا فيه نواه بتمر منزوع النوى (والثانية) يجوز رواها ابن منصور لان النوى في التمر غير مقصود فجاز كما لو باع دارا مموها سقفها بذهب، فعلى هذا يجوز بيعه متفاضلا ومتساويا لان النوى الذي في التمر لا عبرة به فصار كبيع النوى بتمر منزوع النوى (فصل) وان باع شاة ذات لبن بلبن أو شاة عليها صوف بصوف أو باع لبونا بلبون أو ذات
صوف بمثلها خرج فيه الروايتان كالتي قبلها (إحداهما) الجواز اختاره ابن حامد وهو قول أبي حنيفة وسواء كانت الشاة حية أو مذكاة لان ما فيه الربا غير مقصود (والثاني) المنع وهو مذهب الشافعي لانه باع مال الربا بأصله الذي فيه منه أشبه بيع اللحم بالحيوان والاول أولى، والفرق بينهما ان اللحم والحيوان مقصود بخلاف اللبن والصوف، ولو كانت الشاة محلوبة اللبن جاز بيعها بمثلها وباللبن وجها واحدا لان اللبن لا أثر له ولا يقابله شئ من الثمن فأشبه الملح في الشيرج والخبز والجبن وحبات الشعير في الحنطة ولا نعلم فيه خلافا، وكذلك لو كان اللبن المنفرد من غير جنس لبن الشاة جاز بكل حال، ويحتمل أن لا يجوز على قولنا إن اللبن جنس واحد، ولو باع نخلة عليها ثمر بثمر أو بنخلة عليها ثمر ففيه أيضا وجهان (أحدهما) الجواز اختاره أبو بكر لان الثمر غير مقصود بالبيع (والثاني) لا يجوز ووجه الوجهين ما ذكرنا في المسألة قبلها، واختار القاضي المنع وفرق بينها وبين الشاة ذات اللبن بكون الثمرة يصح افرادها بالبيع وهي معلومة بخلاف اللبن في الشاة، وهذ الفرق غير مؤثر فان ما يمنع إذا جاز
افراده يمنع وإن لم يجز افراده كالسيف المحلى يباع بجنس حليته وما لا يمنع لا يمنع وإن جاز افراده كمال العبد (فصل) وان باع دارا سقفها مموه بذهب أو دارا بدار مموه سقف كل واحدة منهما جاز لان ما فيه الربا غير مقصود بالبيع فوجوده كعدمه، وكذلك لو اشترى عبدا له مال فاشترط ماله وهو من جنس الثمن جاز إذا كان المال غير مقصود فهو كالسقف المموه، ولو اشترى عبدا بعبد واشترط كل واحد منهما مال العبد جاز أيضا إذا كان المال غير مقصود (فصل) وإن باع جنسا فيه الربا بجنسه ومع كل واحد من غير جنسه غير مقصود فهو على أقسام (أحدها) أن يكون غير المقصود يسيرا لا يؤثر في كيل ولا وزن كالملح فيما يعمل فيه وحبات الشعير في الحنطة فلا يمنع لانه يسير لا يخل بالتماثل، وكذلك لو وجد في أحدهما دون الآخر لم يمنع لذلك ولو باع ذلك بجنس غير المقصود الذي معه كبيع الخبز بالملح جاز لان وجود ذلك كعدمه (الثاني) أن يكون غير المقصود كثيرا إلا أنه لمصلحة المقصود كالماء في خل التمر والزبيب ودبس التمر فيجوز بيعه بمثله ويتنزل خلطه بمنزلة رطوبته لكونه من مصلحته فلم يمنع من بيعه بما يماثله كالرطب بالرطب
ولا يجوز بيعه بما ليس فيه خلط كبيع خل العنب بخل الزبيب لافضائه إلى التفاضل فجرى مجرى بيع التمر بالرطب، ومنع الشافعي ذلك كله إلا بيع الشيرج بالشيرج لكون الماء لا يظهر في الشيرج (الثالث) أن يكون غير المقصود كثيرا وليس من مصلحته كاللبن المشوب بالماء بمثله والاثمان المغشوشة بغيرها فلا يجوز بيع بعضها ببعض لان خلطه ليس من مصلحته وهو يخل بالتماثل المقصود فيه، وإن باعه بجنس غير المقصود كبيعه الدينار المغشوش بالفضة بالدراهم احتمل الجواز لانه يبيعه بجنس غير مقصود فيه فأشبه بيع اللبن بشاة فيها لبن، ويحتمل المنع بناء على الوجه الآخر في
الاصل وان باع دينارا مغشوشا بمثله والغش فيهما متفاوت أو غير معلوم المقدار لم يجز لانه يخل بالتماثل المقصود، وإن علم التساوي في الذهب والغش الذي فيهما خرج على وجهين أولاهما الجواز لانهما تماثلا في المقصود وفي غيره ولا يفضي إلى التفاضل بالتوزيع بالقيمة لكون الغش غير مقصود فكأنه لا قيمة له (فصل) ولو دفع إلى انسان درهما وقال أعطني بنصف هذا الدرهم نصف درهم وبنصفه فلوسا أو حاجة أخرى جاز لانه اشترى نصفا بنصف وهما متساويان فصح كما لو دفع إليه درهمين فقال بعني بهذا الدرهم فلوسا واعطني بالآخر نصفين، وان قال اعطني بهذا الدرهم نصفا وفلوسا جاز أيضا لان معناه ذلك ولان ذلك لا يفضي إلى التفاضل بالتوزيع بالقيمة فان قيمة النصف الذي في الدرهم كقيمة النصف الذي مع الفلوس يقينا وقيمة الفلوس كقيمة النصف الآخر سواء { مسألة } (والمرجع في الكيل والوزن إلى عرف أهل الحجاز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وما لا عرف لهم فيه ففيه وجهان) (أحدهما) يعتبر عرفه في موضعه ولا يرد إلى أقرب الاشياء شبها به بالحجاز ونحو هذا مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة الاعتبار في كل بلد بعادته، ولنا ما روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة " والنبي صلى الله عليه وسلم انما يحمل كلامه على بيان الاحكام ولان ما كان مكيلا بالحجاز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف إليه التحريم في تفاضل الكيل فلا يجوز أن يتغير بعد ذلك وهكذا الوزن، فأما مالا عرف له في الحجاز ففيه وجهان (أحدهما) يرد إلى أقرب الاشياء
شبها به بالحجاز كما ان الحوادث ترد إلى أشبه المنصوص عليه بها وهو القياس (والثاني) يعتبر عرفه في موضعه لان ما لم يكن له في الشرع حد يرجع فيه إلى العرف كالقبض الحرز والتفرق، وعلى هذا
إن اختلفت البلاد فالاعتبار بالغالب فان لم يكن غالب تعين الوجه الاول ومذهب الشافعي كهذين الوجهين (فصل) والبر والشعير مكيلان منصوص عليهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم " البر بالبر كيلا بكيل والشعير بالشعير كيلا بكيل " وكذلك سائر الحبوب والا بازير والاشنان والجص والنورة وما أشبهها والتمر مكيل وهو من المنصوص عليه وكذلك سائر ثمرة النخل من الرطب والبسر وغيرهما، وسائر ما تجب فيه الزكاة من الثمار مثل الزبيب والفستق والبندق واللوز والعناب والمشمش والزيتون والبطم والملح مكيل وهو من المنصوص عليه بقوله عليه السلام " الملح بالملح مدا بمد " والذهب والفضة موزونان بقوله عليه السلام " الذهب بالذهب والفضة بالفضة وزنا بوزن " وكذلك ما أشبههما من جواهر الارض كالحديد والرصاص والصفر والنحاس والزجاج والزئبق وكذلك الابريسم والقطن والكتان والصوف وغزل ذلك وما أشبهه، ومنه الخبز واللحم والشحم والجبن والزبد والشمع والزعفران والورس والعصفر وما أشبه ذلك (فصل) والدقيق والسويق مكيلان لان أصلهما مكيل ولم يوجد ما ينقلهما عنه ولانهما يشبهان ما يكال وذكر القاضي في الدقيق أنه يجوز بيع بعضه ببعض وزنا ولا يمنع أن يكون موزونا وأصله مكيل كالخبز.
ولنا ما ذكرناه ولانه يقدر بالصاع بدليل أنه يخرج في الفطر صاع من دقيق، وقد جاء ذلك في الحديث والصاع انما يقدر به المكيلات، وعلى هذا يكون الاقط مكيلا لان في حديث صدقة الفطر صاع من أقط.
فاما اللبن وغيره من المائعات كالادهان من الزيت والشيرج والعسل والدبس والخل ونحو ذلك، فالظاهر أنها مكيلة.
قال القاضي في الادهان هي مكيلة وفي اللبن يصح السلم فيه كيلا، وقال أصحاب الشافعي لا يباع اللبن بعضه ببعض الا كيلا، وقد روي عن احمد رحمه الله تعالى أنه سئل عن السلف في اللبن فقال نعم كيلا أو وزنا وذلك لان الماء يقدر بالصاع، ولذلك قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع ويغتسل هو وزوجته من الفرق وهذه مكاييل قدر بها الماء، وكذلك
سائر المائعات، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع ما في ضروع الانعام إلا بكيل رواه ابن ماجه، وأما غير المكيل والموزون فما لم يكن له أصل بالحجاز في كيل ولا وزن ولا يشبه ما جرى فيه عرف بذلك كالنبات والحبوب والمعدودات من الجوز والبيض والرمان والقثاء والخيار وسائر الخضر
والبقول والسفرجل والتفاح والكمثرى والخوخ ونحوها، فهذه إذا اعتبرنا التماثل فيها فانه يعتبر في الوزن لانه أخصر ذكره القاضي في الفواكه الرطبة وهو أحد الوجهين لاصحاب الشافعي، والآخر قالوا يعتبر ما أمكن كيله بالكيل لان الاصل الاعيان الاربعة وهي مكيلة، ومن شأن الفرع أن يرد إلى أصله بحكمه، والاصل حكمه تحريم التفاضل بالكيل فكذلك يكون حكم فروعه ولنا أن الوزن أخصر فوجب اعتباره في غير المكيل والموزون كالذي لا يمكن كيله، وانما اعتبر الكيل في المنصوص لانه يقدر به في العادة وهذا بخلافه (فصل) قال رضي الله عنه (وأما ربا النسيئة فكل شيئين ليس أحدهما ثمنا علة ربا الفضل فيهما واحدة كالمكيل بالمكيل والموزون بالموزون لا يجوز النساء فيهما وان تفرقا قبل التقابض بطل العقد) متى كان أحد العوضين ثمنا والآخر مثمنا جاز النساء بينهما بغير خلاف لان الشرع أرخص في السلم والاصل في رأس مال السلم الدراهم والدنانير فلو حرم النساء ههنا لا نسد باب السلم في الموزونات في الغالب وان لم يكن أحدهما ثمنا، فكل شيئين يجري فيهما الربا بعلة واحدة كالمكيل بالمكيل والموزون بالموزون والمطعوم بالمطعوم عند من يعلل به يحرم بيع أحدهما بالآخر نسيئة بغير خلاف نعلمه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإذا اختلفت هذه الاصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد " وفي لفظ " لا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدا بيد وأما النسيئه فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير - والشعير أكثرهما - يدا بيد وأما النسيئة فلا " رواه أبو داود (فصل) وان تفرقا قبل التقابض بطل العقد، وبه قال الشافعي رحمه الله تعالى، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يشترط التقابض في غير النقدين لان ما عداهما ليس بأثمان.
فلم يشترط التقابض فيهما كغير أموال الربا كبيع ذلك بأحد النقدين، وأما قوله عليه السلام " فإذا اختلفت هذه الاصناف
فبيعوا كيف شئتم يدا بيد " فالمراد به القبض، ولانهما مالان من اموال الربا علتهما واحدة فحرم التفرق بينهما قبل القبض كالذهب بالفضة { مسألة } (وان باع مكيلا بموزون كاللحم بالبر جاز التفرق قبل القبض وفي التساوي روايتان) وهذا ذكره أبو الخطاب وقال هو رواية واحدة لان علتهما مختلفة فجاز التفرق قبل القبض كالثمن بالثمن، ويحتمل كلام الخرقي وجوب التقابض لانه قال: وما كان من جنسين فجائز التفاضل فيه يدا بيد
وهل يجوز النساء؟ فيه روايتان (إحداهما) لا يجوز ذكرها الخرقي لانهما مالان من أموال الربا فلم يجز النساء فيهما كالمكيل بالمكيل (والثانية) يجوز وهو قول النخعي لانهما لم يجتمعا في أحد وصفي علة ربا الفضل فجاز النساء فيهما كالثياب بالحيوان وعند من يعلل بالطعم لا يجيزه ههنا وجها واحدا { مسألة } (وما لا يدخله ربا الفضل كالثياب والحيوان يجوز النساء فيهما، وعنه لا يجوز وعنه لا يجوز في الجنس الواحد كالحيوان بالحيوان ويجوز في الجنسين كالثياب بالحيوان) فيه أربع روايات (احداهن) لا يحرم النساء فيه سواء بيع بجنسه أو بغيره متساويا أو متفاضلا، وقال القاضي ان كان مطعوما حرم النساء فيه وان لم يكن مكيلا ولا موزونا، وهذا مبني على أن العلة الطعم وهو مذهب الشافعي، ووجه جواز النساء ما روى أبو داود عن عبد الله بن عمر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الابل فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى ابل الصدقة، وروى سعيد في سننه عن أبي معشر عن صالح بن كيسان عن الحسن بن محمد بن علي أن عليا باع بعيرا له يقال له عصيفير بأربعة أبعرة إلى أجل ولانهما مالان لا يجري فيهما ربا الفضل فجاز النساء فيهما كالعرض بالدينار، ولان النساء أحد نوعي الربا فلم يجز في الاموال كلها كالنوع الاخر فعلى هذه الرواية علة تحريم النساء الوصف الذي مع الجنس.
أما الكيل أو الوزن أو الطعم عند من يعلل به فيختص تحريم النساء بالمكيل والموزون عند من يعلل به اختاره القاضي (والرواية الثانية) يحرم النساء في كل مال بيع بمال آخر سواء كان من جنسه أو لا لما روى سمرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.
قال الترمذي حديث صحيح ولم يفرق بين الجنس
والجنسين، ولانه بيع عرض بعرض فحرم النساء بينهما كالجنسين من أموال الربا فيكون علة النساء بينهما المالية على هذه الرواية.
قال القاضي فعلى هذا لو باع عرضا بعرض ومع أحدهما دراهم العروض نقدا والدراهم نسئية جاز وإن كان بالعكس لم يجز لانه يفضي إلى النسئية في العروض (قال شيخنا) وهذه الرواية ضعيفة جدا لانه اثبات حكم يخالف الاصل بغير نص.
ولا اجماع ولا قياس صحيح فان للمحل المجمع عليه أو المنصوص عليه أو صافا لها أثر في تحريم الفضل فلا يجوز حذفها عن درجة الاعتبار، وما هذا سبيله لا يجوز اثبات الحكم فيه وان لم يخالف أصلا فكيف مع مخالفة الاصل في حل البيع؟ فأما حديث سمرة فهو من رواية الحسن عن سمرة، وأبو عبد الله لا يصحح سماع الحسن من سمرة قاله الاثرم (والرواية الثالثة) يحرم النساء في كل ما بيع بجنسه كالحيوان بالحيوان والثياب بالثياب ولا يحرم
في غير ذلك وهذا مذهب أبي حنيفة ويروى كراهة بيع الحيوان بالحيوان نساء عن ابن الحنفية وعبد الله ابن عبيد بن عمير وعكرمة بن خالد وابن سيرين والثوري والحسن وروي ذلك عن عمار وابن عمر لحديث سمرة ولان الجنس أحد وصفي علة ربا الفضل فحرم النساء كالكيل والوزن (والرواية الرابعة) لا يحرم النساء الا فيما بيع بجنسه متفاضلا لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الحيوان اثنين بواحد لا يصلح نساء ولا بأس به يدا بيد " قال الترمذي حديث حسن، وروى الامام أحمد باسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا قال يا رسول الله أرأيت الرجل يبيع الفرس بالافراس والنجيبة بالابل؟ فقال لا بأس إذا كان يدا بيد " وهذا يدل بمفهومه على إباحة النساء مع التماثل والرواية الاولى أصح لموافقتها الاصل، والاحاديث المخالفة لها قد قال أحمد ليس فيها حديث يعتمد عليه ويعجبني أن يتوقاه وذكر له حديث ابن عباس وابن عمر في هذا فقال هما مرسلان، وحديث سمرة قد أجبنا عنه وحديث جابر قال أبو عبد الله هذا حجاج زاد فيه نساء، وليث بن سعيد قال يعقوب بن شيبة هو واهي الحديث وهو صدوق، وان كان أحد المبيعين مما لا ربا فيه والآخر فيه ربا كالمكيل بالمعدود ففي تحريم النساء فيهما روايتان { مسألة } (ولا يجوز بيع الكالئ بالكالئ وهو بيع الدين بالدين) لان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع
الكالئ بالكالئ رواه أبو عبيد في الغريب (فصل) قال رحمه الله تعالى (ومتى افترق المتصارفان قبل التقابض أو افترقا عن مجلس السلم قبل قبض رأس ماله بطل العقد) أما إذا افترقا عن مجلس السلم قبل قبض رأس المال فسيذكر في بابه ان شاء الله تعالى، وأما الصرف فهو بيع الاثمان بعضها ببعض، والقبض في المجلس شرط لصحته بغير خلاف.
قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد لقول النبي صلى الله عليه وسلم " اذهب بالورق ربا الا هاء وهاء " وقوله عليه السلام " بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد " ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا ونهى أن يباع غائب منها بناجز وكلها أحاديث صحاح.
ويجزئ القبض في المجلس وان طال، ولو تماشيا مصطحبين إلى منزل احدهما أو إلى الصراف فتقابضاه عنده جاز، وبه قال أبو حنيفة واصحابه، وقال مالك لاخير في ذلك لانهما فارقا مجلسهما ولنا أنهما لم يتفارقا قبل التقابض فأشبه مالو كانا في سفينة تسير بهما أو راكبين على دابة واحدة تمشي بهما وقد دل على ذلك حديث أبي برزة الاسلمي رضي الله عنه في قوله للذين مشيا إليه من جانب العسكر: وما اراكما افترقتما.
وان تفرقا قبل التقابض بطل العقد لفوات شرطه
{ مسألة } وان قبض البعض ثم افترقا بطل في الجميع في احد الوجهين، وفي الآخر يبطل فيما لم يقبض بناء على تفريق الصفقة، ولو وكل احدهما وكيلا في القبض فقبض الوكيل قبل تفرقهما جاز وقام قبض وكيله مقام قبضه سواء فارق الوكيل المجلس قبل القبض أو لم يفارقه، وان افترقا قبل قبض الوكيل بطل لان القبض في المجلس شرط وقد فات، وان تخايرا قبل القبض في المجلس لم يبطل العقد بذلك لانهما لم يتفرقا قبل القبض، ويحتمل ان يبطل إذا قلنا بلزوم العقد وهو مذهب الشافعي لان العقد لم يبق فيه خيار قبل القبض اشبه ما لو افترقا، والصحيح الاول فان الشرط التقابض في المجلس وقد وجد واشتراط التقابض قبل اللزوم تحكم بغير دليل ثم يبطل بما إذا تخايرا قبل الصرف ثم اصطرفا
فان الصرف يقع لازما صحيحا قبل القبض ثم يشترط القبض في المجلس (فصل) ولو صارف رجلا دينارا بعشرة دراهم وليس معه الا خمسة لم يجز أن يتفرقا بل قبض العشرة، فان قبض الخمسة وافترقا فهل يبطل في الجميع أو في نصف الدينار؟ ينبني على تفريق الصفقة فان ارادا صحة العقد فسخا الصرف في النصف الذي ليس معه عوضه أو يفسخان العقد كله ثم يشتري منه نصف الدينار بخمسة ويدفعها إليه ثم يأخذ الدينار كله فيكون نصفه له والباقي امانة في يده ويتفرقان ثم إذا صارفه بعد ذلك بالباقي له من الدينار أو اشترى به منه شيئا أو جعله سلما في شئ أو وهبه إياه جاز، ولو اشترى فضة بدينار ونصف ودفع إلى البائع دينارين وقال أنت وكيلي في نصف الدينار الزائد صح، ولو صارفه عشرة دراهم بدينار فأعطاه أكثر من دينار ليزن له حقه في وقت آخر جاز وان طال ويكون الزائد أمانة في يده لا شئ عليه في تلفه نص أحمد على أكثر هذه المسائل، فان لم يكن مع أحدهما إلا خمسة دراهم فاشترى بها نصف دينار وقبض دينارا كاملا ودفع إليه الدراهم ثم اقترضها منه واشترى بها النصف الباقي أو اشترى الدينار منه بعشرة ابتداء ودفع إليه الخمسة ثم اقترضها منه ودفع إليه عوضا عن النصف الآخر على غير وجه الحيلة فلا بأس { مسألة } (وان تقابضا ثم افترقا فوجدا أحدهما ما قبضه رديئا فرده بطل العقد في إحدى الروايتين) هذا إن كان فيه عيب من غير جنسه لانهما تفرقا قبل قبض المعقود عليه فيما يشترط قبضه اختاره القاضي، والآخر لا يبطل لان قبض عوضه في مجلس الرد يقوم مقام قبضه في المجلس وان رد بعضه وقلنا يبطل في المردود فهل يبطل في الباقي؟ على روايتين بناء على تفريق الصفقة، وإن كان العيب من جنسه فسنذكره إن شاء الله تعالى (فصل) فإذا باع مدي تمر ردئ بدرهم ثم اشترى بالدرهم تمرا جيدا أو اشترى من رجل دينارا صحيحا بدراهم وتقابضا ثم اشترى منه بالدراهم قراضة عن غير مواطأة ولا حيلة فلا بأس به، وقال ابن أبي موسى لا يجوز إلا أن يمضي إلى غيره ليبتاع منه فلا يستقيم له فيجوز أن يرجع إلى البائع
فيبتاع منه، وقال أحمد في رواية الاثرم يبيعها من غيره أحب إلي، قلت له فان لم يعلمه أنه يريد أن يبيعها
منه، فقال يبيعها من غيره فهو أطيب لنفسه وأحرى أن يستوفي الذهب منه فانه إذا ردها إليه لعله أن لا يوفيه الذهب ولا يحكم الوزن ولا يستقصي، يقول هي ترجع إليه، قيل لابي عبد الله فذهب ليشتري الدراهم بالذهب الذي أخذها منه من غيره (قوله فذهب الخرقي العبارة تعقيد واضطراب فتراجع في مظنتها من المغني) فلم يجدها فرجع إليه، فقال إذا كان لا يبالي اشترى منه أو من غيره فنعم، فظاهر هذا أنه على وجه الاستحباب لا الايجاب ولعل احمد انما أراد اجتناب المواطأة على هذا ولهذا قال إذا كان لا يبالي اشترى منه أو من غيره فنعم، وقال مالك إن فعل ذلك مرة جاز وإن فعله أكثر من مرة لم يجز لانه يضارع الربا ولنا ما روى أبو سعيد رضي الله عنه قال: جاء بلال رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " من أين هذا؟ " قال بلال كان عندنا تمر ردئ فبعت صاعين بصاع ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أوه عين الربا عين الربا لا تفعل، ولكن إذا اردت ان تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتربه " وروى أبو سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاء بتمر جنيب فقال " أكل تمر خيبر وهكذا؟ " فقال لا والله انا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تفعل بع التمر بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا " متفق عليهما ولم يأمره أن يبيعه من غير من يشتري منه، ولو كان ذلك محرما لبينه له وعرفه إياه، ولانه باع الجنس بغيره من غير شرط ولا مواطأة فجاز كما لو باعه من غيره، ولان ما جاز من البياعات مرة جاز على الاطلاق كسائر البياعات، فان تواطأ على ذلك لم يجز وكان حيلة محرمة، وبه قال مالك وقال أبو حنيفة والشافعي يجوز ما لم يكن مشروطا في العقد.
ولنا أنه إذا كان عن مواطأة كان حيلة والحيل محرمة على ما سنذكره (فصل) والصرف ينقسم إلى قسمين (أحدهما) أن يبيع عينا بعين وهو أن يقول بعتك هذا الدينار بهذه الدراهم (والثاني) أن يقع العقد على موصوف نحو أن يقول بعتك دينارا مصريا بعشرة دراهم ناصرية وقد يكون أحد العوضين معينا دون الآخر وكل ذلك جائز، وظاهر المذهب أن النقود تتعين بالتعيين في العقود فيثبت الملك في أعيانها، فان تبايعا عينا بعين ثم تقابضا فوجد أحدهما عيبا فيما قبضه فذلك قسمان (عبارة المغني في الصفحة السابقة.
لم يخل من قسمين.
وهو جواب الشرط.
وما هنا لا يصلح جوابا بل هو معطوف على ما قبله) (أحدهما) أن يكون العيب غشا من غير جنس المبيع كالنحاس في الدراهم والمس
في الذهب فالصرف باطل وهو قول الشافعي، وذكر أبو بكر فيها ثلاث روايات (احداهن) البيع باطل (والثانية) صحيح وللمشتري الخيار والترك وأخذ البدل (والثالثة) يلزمه العقد وليس له رد ولا بدل.
ولنا أنه باعه غير ما سمى له فلم يصح كما لو قال بعتك هذه البغلة فإذا هو حمار، أو هذا الثوب القز وإذا هو كتان، وأما القول بأنه يلزمه البيع فلا يصح لانه اشترى معيبا لم يعلم عيبه فلم يلزمه ذلك بغير أرش كسائر البياعات (القسم الثاني) أن يكون العيب من جنسه كالسواد في الفضة والخشونة
كونها تتفطر (لعل أصله ككونها تتفطر وانظر عبارة المغني في اوائل هذه الصفحة فهي أصرح وأفصح) عند الضرب أوان سكتها مخالفة لسكة السلطان فيصح العقد ويخير المشتري بين الامساك والترك ولا بدل له لان العقد وقع على معين فإذا أخذ غيره أخذ ما لم يشتره، وإن قلنا إن النقد لا يتعين بالتعيين في العقد فله أخذ البدل ولا يبطل العقد لان الذي قبضه ليس هو المعقود عليه فأشبه المسلم إذا قبضه فوجد به عيبا ومذهب الشافعي في هذا الفصل على ما ذكرناه (فصل) ولو أرادا أخذ أرش العيب والعوضان في الصرف من جنس واحد لم يجز لحصول الزيادة في أحد العوضين وفوات المماثلة المشترطة في الجنس الواحد، وخرج القاضي وجها لجواز أخذ الارش في المجس لان الزيادة طرأت بعد العقد وليس لذلك وجه فان أرش العيب من العوض يجبر به في المرابحة ويرد به إذا رد المبيع بفسخ أو اقالة ولو لم يكن من العوض فبأي شئ استحقه المشتري فانه ليس بهبة، على ان الزيادة في المجلس من العوض وإن لم يكن أرشا فالارش أولى، وإن كان الصرف بغير جنسه فله أخذ الارش في المجلس لان المماثلة غير معتبرة، وتختلف قبض بعض العوض عن بعض لا يضر ماداما في المجلس فجاز كما في سائر المبيع، وإن كان بعد التفرق لم يجز لانه يفضي إلى حصول التفرق قبل قبض أحد العوضين إلا أن يجعلا الارش من غير جنس الثمن كأنه أخذ أرش عيب الفضة حنطة فيجوز، وكذلك الحكم في سائر أموال الربا فيما بيع بجنسه أو بغير جنسه مما يشترط فيه القبض، فإذا كان مما لا يشترط قبضه كمن باع قفيز حنطة بقفيزي شعير فوجد أحدهما عيبا فأخذ أرشه درهما جاز وإن كان بعد التفرق لانه لم يحصل التفرق قبل قبض ما يشترط فيه القبض
(فصل) وإن تلف العوض في الصرف بعد القبض ثم علم عيبه فسخ العقد ويرد الموجود وتبقى قيمة العيب في ذمة من تلف في يده فيرد مثلها أو عوضها إن اتفقا عليه سواء كان الصرف بجنسه أو بغير جنسه ذكره ابن عقيل وهو قول الشافعي، قال ابن عقيل وقد روي عن أحمد جواز أخذ الارش والاول أولى إلا أن يكونا في المجلس والعوضان من جنسين (القسم الثاني) أن يصطرفا في الذمة فيصح
سواء كانت الدراهم والدنانير عندهما أولا إذا تقابضا قبل الافتراق وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي.
وحكي عن مالك لا يجوز الصرف إلا أن تكون العينان حاضرتين وعنه لا يجوز حتى تظهر إحدى العينين وتعين وعن زفر مثله لان النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تبيعوا غائبا منها بناجز " ولانه إذا لم يعين أحد العوضين كان بيع دين بدين.
ولنا انهما تقابضا في المجلس فصح كما لو كانا حاضرين، والحديث يراد به أن لا يباع عاجل بآجل أو مقبوض بغير مقبوض بدليل ما لو غير أحدهما فانه يصح وإن كان الآخر غائبا ولان القبض في المجلس جرى مجرى القبض حالة العقد ألا ترى إلى قوله عينا بعين يدا بيد، والقبض يجري في المجلس كذا التعيين.
إذا ثبت هذا فلا بد من تعينها بالتقابض في المجلس ومتى تقابضا فوجد أحدهما بما قبضه عيبا قبل التفرق فله المطالبة بالبدل سواء كان العيب من جنسه أو من غير جنسه لان العقد وقع على مطلق لاعيب فيه فكان له المطالبة بما وقع عليه العقد كالمسلم فيه وإن رضيه بعيبه والعيب من جنسه جاز كما لو رضي بالمسلم فيه معيبا، وإن اختار أخذ أرشه وكان العوضان من جنسين جاز وإن كانا من جنس لم يجز وقد ذكرناه، وإن تقابضا ثم افترقا ثم وجد العيب من جنسه فله ابداله في احدى الروايتين اختارها الخلال والخرقي وروى ذلك عن الحسن وقتادة وبه قال أبو يوسف ومحمد وهو أحد قولي الشافعي لان ما جاز ابداله قبل التفرق جاز بعد التفرق كالمسلم فيه (والثانية) ليس له ذلك اختارها أبو بكر وهو مذهب أبي حنيفة.
والقول الثاني للشافعي لانه يقبضه بعد التفرق ولايجوز ذلك في الصرف، ومن نصر الرواية الاولى قال قبض الاول صح
به العقد وقبض الثاني بدل عن الاول، ويشترط أن يأخذ البدل في مجلس الرد فان لم يأخذه فيه بطل
العقد، وان وجد البعض رديئا فرده فعلى الرواية الاولى له البدل وعلى الثانية يبطل في المردود وهل يصح فيما لم يرد على وجهين بناء على تفريق الصفقة ولافرق بين كون المبيع من جنس أو من جنسين وقال مالك ان وجد درهما زيفا فرضي به جاز وان رده انتقض الصرف في دينار وان رد أحد عشر درهما انتقض في دينارين وكلما زاد على دينار انتقض الصرف في دينار آخر ولنا أن ما لا عيب فيه لم يرد فلم ينتقض الصرف فيما يقابله كسائر العوض، وان اختار واجد العيب الفسخ فعلى قولنا له البدل ليس له الفسخ إذا أبدل له لانه يمكنه أخذ حقه غير معيب، وعلى الرواية الاخرى له الفسخ أو الامساك في الجميع لانه تعذر عليه الوصول إلى ما عقد عليه مع ابقاء العقد وان اختار أخذ أرش العيب بعد التفرق لم يكن له ذلك لانه عوض يقبضه بعد التفرق عن الصرف ويجوز على الرواية الاخرى (فصل) ومن شرط المصارفة في الذمة أن يكون العوضان معلومين إما بصفة يتميزان بها أو يكون للبلد نقد معلوم أو غالب فينصرف الاطلاق إليه، فلو قال بعتك دينارا مصريا بعشرين درهما من نقد عشرة بدينار لم يصح إلا أن لا يكون في البلد نقد عشرة بدينار إلا نوع واحد فتنصرف الصفة إليه وكذلك الحكم في البيع (فصل) وإذا كان لرجل في ذمة رجل ذهب وللآخر عليه دراهم فاصطرفا بما في ذمتهما لم يصح وبهذا قال الليث والشافعي، وحكى ابن عبد البر عن مالك وأبي حنيفة جوازه لان الذمة الحاضرة كالعين
الحاضرة ولذلك جاز أن يشتري الدراهم بدينار من غير تعيين ولنا أنه بيع دين بدين وقد قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز، وقال أحمد انما هو أجماع وقد روى أبو عبيد في الغريب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ وفسره بالدين بالدين إلا أن الاثرم روى أن احمد سئل أيصح هذا الحديث؟ قال لا.
فأما الصرف فانما صح بغير تعيين بشرط أن يتقابضا في المجلس فجرى القبض والتعيين في المجلس مجرى وجوده حالة العقد، ولو كان لرجل على رجل دنانير فقضاه دراهم شيئا بعد شئ فان كان يعطيه كل درهم
بحسابه من الدنانير صح نص عليه، فان لم يفعل ذلك ثم تحاسبا بعد فصارفه بها وقت المحاسبة لم يجز نص عليه لان الدنانير دين والدراهم قد صارت دينا فيصير بيع دين بدين، وإن قبض أحدهما من الآخر ماله عليه ثم صارفه بعين وذمة صح، وإذا أعطاه الدراهم شيئا بعد شئ ولم يقبضه إياها وقت دفعها إليه ثم أحضرها وقوماها قانه يحتسب بقيمتها يوم القضاء لايوم دفعها إليه لانه قبل ذلك لم تصر في ملكه إنما هي وديعة في يده، وان تلفت أو نقصت فهي من ضمان مالكها ويحتمل أن تكون من ضمان القابض إذا قبضها بنية الاستيفاء لانها مقبوضة على أنها عوض ووفاء، والمقبوض في عقد فاسد كالمقبوض في عقد صحيح فيما يرجع إلى الضمان وعدمه، ولو كان لرجل عند صيرفي دنانير فأخذ منه دراهم أدرارا لتكون هذه بهذه لم يكن كذلك بل كل واحد منهما في ذمة من قبضه، فإذا أرادا التصارف أحضرا أحدهما واصطرفا بعين وذمة (فصل) ويجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر ويكون صرفا بعين وذمة في قول الاكثرين ومنع
منه ابن عباس وأبو سلمة بن عبد الرحمن وابن شبرمة، وروي عن ابن مسعود لان القبض شرط وقد يختلف ولنا ان ابن عمر قال: كنت أبيع الابل فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فاتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فقلت يارسول الله رويدك أسألك إني ابيع الابل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه واعطي هذه من هذه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا بأس ان تأخذها بسعر يومها ما لم تفرقا وليس بينكما شئ " رواه أبو داود والاثرم قال احمد انما يقضيه إياها بالسعر لم يختلفوا إلا ما قال اصحاب الرأي أنه يقضيه مكانها ذهبا على التراضي لانه بيع في الحال فجاز ما تراضيا عليه إذا اختلف الجنس كما لو كان العوض عرضا ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا بأس أن تأخذها بسعر يومها " فشرط أخذها بالسعر وروي أن بكر ابن عبد الله ومسروقا العجلي سألا ابن عمر عن كري لهما له عليهما دراهم وليس معهما الا دنانير فقال ابن عمر اعطوه بسعر السوق.
ولان هذا جرى مجرى القضاء فيقيد بالمثل كالقضاء من الجنس والتماثل
ههنا بالقيمة لتعذر التماثل بالصورة، قيل لابي عبد الله فان أهل السوق يتغابنون بينهم بالدانق في الدينار وما أشبهه فقال ان كان مما يتغابن الناس به فسهل ما لم يكن حيلة (فصل) فان كان المقضي الذي في الذمة مؤجلا فقد توقف احمد فيه، وقال القاضي يحتمل وجهين (أحدهما) المنع وهو قول مالك ومشهور قولي الشافعي لان ما في الذمة غير مستحق القبض فكان
القبض ناجزا في أحدهما والناجز يأخذ قسطا من الثمن (الثاني) الجواز وهو قول أبي حنيفة لانه ثابت في الذمة وما في الذمة بمنزلة المقبوض فكأنه رضي بتعجيل المؤجل، وهذا هو الصحيح إذا قضاه بسعر يومها ولم يجعل للمقتضي فضلا لاجل تأجيل ما في الذمة لانه ان لم ينقض عن سعرها شيئا فقد رضي بتعجيل ما في الذمة بغير عوض فأشبه مالو قضاه من جنس الدين، ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر حين سأله، ولو افترق الحال لسأل واستفصل.
هذا اختيار شيخنا (فصل) قال احمد لو كان لرجل على رجل عشرة دراهم فدفع إليه دينارا وقال استوف حقك منه فاستوفاه بعد التفرق جاز، ولو كان عليه دنانير فوكل غريمه في بيع داره واستيفاء دينه من ثمنها فباعها بدراهم لم يجز أن يأخذ منها بقدر حقه لانه لم يأذن له في مصارفة نفسه ولانة متهم نص أحمد على ذلك (فصل) ولو كان له عند رجل دينار وديعة فصارفه به وهو معلوم بقاؤه أو مظنون صح الصرف وان ظن عدمه لم يصح لان حكمه حكم المعدوم، وان شك فيه فقال ابن عقيل يصح وهو قول بعض الشافعية، وقال القاضي لا يصح لانه غير معلوم البقاء وهو منصوص الشافعي.
ووجه الاول أن الاصل بقاؤه فصح البناء عليه عند الشك لان الشك لا يزيل اليقين، ولذلك صح بيع الحيوان المشكوك في حياته فان تبين أنه كان تالفا حين العقد تبينا أن العقد وقع باطلا (فصل) وإذا عرف المصطرفان وزن العرضين جاز أن يتبايعا بغير وزن، وكذلك لو أخبر أحدهما الآخر بوزن ما معه فصدقه فإذا باع دينارا بدينار كذلك وافترقا فوجد أحدهما ما قبضه ناقصا بطل الصرف لانهما تبايعا ذهبا بذهب متفاضلا، فان وجد أحدهما فيما قبضه زيادة على الدينار فان كان قال بعتك هذا الدينار بهذا فالعقد باطل لوجود التفاضل وان قال بعتك دينارا بدينار ثم تقابضا كان
الزائد في يد القابض مشاعا مضمونا لمالكه لانه قبضه على أنه غوض ولم يفسد العقد لانه أنما باع
دينارا بمثله وانما وقع القبض للزيادة على المعقود عليه، فان أراد دفع عوض الزائد جاز سواء كان من جنسه أو من غيره لانها معاوضة مبتدأة، وإن أراد أحدهما الفسخ فله ذلك لان آخذ الزائد وجد المبيع مختلطا بغيره معيبا بعيب الشركة ودافعه لا يلزمه أخذ عوضه إلا أن يكونا في المجلس فيرد الزائد أو يدفع بدله، ولو كان لرجل على رجل عشرة دنانير فوفاه عشرة عددا فوجدها أحد عشر كان هذا الدينار زائدا في يد القابض مشاعا مضمونا لمالكه لانه قبضه على أنه عوض عما له فكان مضمونا بهذا القبض ولمالكه التصرف فيه كيف شاء { مسألة } (والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد في أظهر الروايتين فلا يجوز ابدالها، وان خرجت مغصوبة بطل العقد) وبه قال مالك والشافعي وعن أحمد أنها لا تتعين بالعقد فيجوز إبدالها ولا يبطل العقد بخروجها مغصوبة، وهذا مذهب أبي حنيفة لانه يجوز اطلاقها في العقد فلم تتعين بالتعيين كالمكيال والصنجة.
ولنا أنه عوض في عقد فيتعين بالتعيين كسائر الاعواض ولانه أحد العوضين فيتعين بالتعيين كالآخر ويفارق ما ذكروه فانه ليس بعوض وانما يراد لتقدير المعقود عليه وتعريف قدره ولا يثبت فيها الملك بحال بخلاف مسئلتنا، وإنما جاز اطلاقها لان لها عرفا ينصرف إليه يقوم في بابها مقام الصفة، فعلى هذا إن وجدها معيبة خير بين الامساك والرد كالعوض الآخر، ويتخرج أن يمسك ويطالب بالارش لانه مبيع أشبه سائر المبيعات، وان كان ذلك في الصرف فقد ذكرناه.
هذا إن كان العيب من جنس النقود وإن كان من غير جنسها كالنحاس في الفضة والفضة في الذهب وكان في جميعها بطل العقد وان كان في بعضها بطل فيه، وفي الباقي وجهان بناء على تفريق الصفقة وان قلنا لا يتعين انعكست هذه الاحكام
(فصل) في انفاق المغشوش من النقود وفيه روايتان أظهرهما الجواز نقل صالح عنه في دراهم يقال لها المسيبية عامتها نحاس الا شيئا فيها فضة فقال إذا كان شيئا اصطلحوا عليه مثل الفلوس اصطلحوا
عليها فأرجوا أن لا يكون بها بأس (والثانية) التحريم نقل حنبل في دراهم يخلط فيها مس ونحاس يشتري بها ويباع فلا يجوز أن يبتاع بها أحد، كل ما وقع عليه اسم الغش فالشراء به والبيع حرام، وقال أصحاب الشافعي ان كان الغش مما لا قيمة له جاز الشراء بها، وان كان مما له قيمة ففي جواز انفاقها وجهان.
واحتج من منع المغشوشة بقول النبي صلى الله عليه وسلم " من غشنا فليس منا " وبان عمر نهى عن بيع نفاية بيت المال ولان المقصود فيه مجهول اشبه تراب الصاغة، والاولى ان يحمل كلام احمد في الجواز على الخصوص فيما ظهر عيبه واصطلح عليه فان المعاملة به جائزة إذ ليس فيه اكثر من اشتماله على جنسين لا غرر فيهما فلا يمنع من بيعهما كما لو كانا متميزين ولان هذا مستفيض في الاعصار جار بينهم من غير نكير وفي تحريمه مشقة وضرر وليس شراؤه بها غشا للمسلمين ولا تغريرا لهم والمقصود منها ظاهر مرئي معلوم بخلاف تراب الصاغة، ورواية المنع محمولة على ما يخفى غشه ويقع اللبس به فان ذلك يفضي إلى التغرير بالمسلمين، وقد أشار أحمد إلى هذا فقال في رجل اجتمعت عنده دراهم زيوف ما يصنع بها؟ قال يسبكها.
قيل له فيبيعها بدينار؟ قال لا، قيل يبيعها بفلوس؟ قال لا إني أخاف أن يغربها مسلما قيل لابي عبد الله فيتصدق بها؟ قال: اني أخاف ان يغربها مسلما، وقال ما ينبغي له أن يغربها المسلمين ولا أقول انه حرام لانه على تأويل وذلك انما كرهته لانه يغربها مسلما.
فقد صرح بانه انما كرهه لما فيه من التغرير بالمسلمين وعلى هذا يحمل منع عمر بيع نفاية بيت المال لما فيه من التغرير
فان مشتريها ربما خلطها بدراهم جيدة واشترى بها ممن لا يعرف حالها ولو كانت مما اصطلحوا على انفاقه لم تكن نفاية، فان قيل روي عن عمر انه قال من زافت عليه دراهمه فليخرج بها إلى البقيع فليشتر بها سحق الثياب، وهذا دليل على جواز انفاق المغشوشة التي لم يصطلح عليها قلنا قد قال احمد معنى زافت عليه دراهمه اي نفيت ليس انها زيوف ويتعين حمله على هذا جمعا بين الروايتين عنه ويحتمل انه اراد ما ظهر غشه وبان زيفه بحيث لا يخفى على احد ولا يحصل بها تغرير، وان تعذر تأويلها تعارضت الروايتان عنه ويرجع إلى ما ذكرنا من المعنى ولا فرق بين ما كان غشه يبقى كالنحاس والرصاص وما لا ثبات له كالزرنيخية والاندرانية وهو زرنيخ ونورة يطلى عليه فضة فإذا دخل
النار استهلك الغش وذهب.
(فصل) ولايجوز بيع تراب الصاغة والمعدن بشئ من جنسه لانه مال ربا بيع بجنسه على وجه لا تعلم المماثلة بينهما فلم يصح كبيع الصبرة بالصبرة وان بيع بغير جنسه، وحكى ابن المنذر عن أحمد كراهة بيع تراب المعادن وهو قول عطاء والشعبي والشافعي والثوري واسحاق لانه مجهول، وقال ابن ابي موسى في
الارشاد يجوز وهو قول مالك، وروي ذلك عن الحسن والنخعي وربيعة والليث قالوا فان اختلط واشكل فليبعه يعرض ولا يبيعه بعين ولا ورق لانه باعه بما لاربا فيه فجاز كما لو اشترى ثوبا بدينار ودرهم (فصل) والحيل كلها محرمة لا تجوز في شئ من الدين وهو ان يظهر عقدا مباحا يريد به محرما مخادعة وتوسلا إلى فعل ما حرم الله عزوجل واستباحة محظوراته أو اسقاط واجب أو دفع حق ونحو ذلك قال ايوب السختياني رحمه الله انهم ليخادعون الله سبحانه كما يخادعون صبيا، لو كانوا يأتون الامر على وجهه كان اسهل علي.
فمن ذلك ما لو كان لرجل عشرة صحاح ومع آخر خمسة عشر مكسرة فاقترض كل واحد منهما ما مع صاحبه ثم تباريا توصلا إلى بيع الصحاح بالمكسرة متفاضلا أو باعه الصحاح بمثلها من المكسرة ثم وهبه الخمسة الزائدة أو اشترى منه بها اوقية صابون ونحوها مما يأخذه بأقل من قيمته أو اشترى منه بعشرة إلا حبة من الصحيح بمثلها من المكسرة واشترى منه بالحبة الباقية ثوبا قيمته خمسة دنانير، وهكذا لو اقرضه شيئا وباعه سلعة باكثر من قيمتها أو اشترى منه سلعة بأقل من قيمتها توصلا إلى اخذ عوض عن القرض فكل ما كان من هذا على وجه الحيلة فهو خبيث محرم وبهذا قال مالك، وقال أبو حنيفة هذا كله واشباهه جائز ان لم يكن مشروطا في العقد، وقال بعض اصحاب الشافعي يكره ان يدخلا في البيع على ذلك لان كل ما لا يجوز شرطه في العقد يكره ان يدخلا عليه
ولنا ان الله تعالى عذب امة بحيلة احتالوها فمسخهم قردة وسماهم معتدين وجعل ذلك نكالا وموعظة للمتعين ليتعظوا بهم ويمتنعوا من مثل أفعالهم، قال بعض المفسرين في قوله تعالى (وموعظة للمتقين)
اي لامة محمد صلى الله عليه وسلم فروي انهم كانوا ينصبون شباكهم يوم الجمعة ويتركونها إلى يوم الاحد ومنهم من كان يحفر حفائر ويجعل إليها مجاري فيفتحها يوم الجمعة فإذا جاء السمك يوم السبت جرى مع الماء في المجاري فيقع في الحفائر فيدعها إلى يوم الاحد ثم يأخذها ويقول ما اصطدت يوم السبت ولا اعتديت فيه وهذا حيلة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من ادخل فرسا بين فرسين وقد أمن ان يسبق فهو قمار " رواه أبو داود فجعله قمارا مع ادخاله الفرس الثالث لكونه لايمنع معنى القمار وهو كون كل واحد من المتسابقين لا ينفك عن كونه أخذا أو مأخوذا منه وإنما دخل صورة تحيلا على إباحة محرم وسائر الحيل مثل ذلك، ولان الله تعالى انما حرم المحرمات لمفسدتها والضرر الحاصل منها ولا تزول مفسدتها مع بقاء معناها باظهارهما صورة غير صورتها فوجب ان لا يزول التحريم كما لو سمى الخمر بغير اسمها لم يبح ذلك شربها، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " ليستحلن قوم من امتي الخمر يسمونها بغير اسمها " ومن الحيل في غير الربا أنهم يتوصلون إلى بيع المنهي عنه بأن يستأجروا بياض أرض البستان بأمثال أجرته ثم يساقيه على ثمر شجره بجزء من ألف جزء للمالك وتسعمائة وتسعة وتسعون للعامل ولا يأخذ منه المالك شيئا ولا يريد ذلك، وانما قصده بيع الثمرة قبل وجودها بما سماه أجرة والعامل لا يقصد أيضا سوى ذلك وربما لا ينتفع بالارض التي سمى الاجرة في مقابلتها ومتى لم يخرج الثمر أو أصابته
جائحة جاء المستأجر يطلب الجائحة ويعتقد أنه انما بذل ماله في مقابلة الثمرة لاغير ورب الارض يعلم ذلك (فصل) وإن اشترى شيئا بمكسرة لم يجز أن يعطيه صحيحا أقل منها، قال أحمد هذا هو الربا المحض وذلك لانه يأخذ عوض الفضة أقل منها فيحصل التفاضل، ولو اشتراه بصحيح لم يجز أن يعطيه مكسرة أكثر منها كذلك، فان تفاسخا البيع ثم عقدا بالصحاح أو بالمكسرة جاز، ولو اشترى ثوبا بنصف دينار لزمه نصف دينار شق، فان عاد فاشترى شيئا آخر بنصف لزمه نصف شق أيضا فان وفاء دينارا صحيحا بطل العقد الثاني لانه تضمن اشتراط زيادة ثمن العقد الاول، وإن كان ذلك قبل لزوم العقد الاول بطل أيضا لانه وجد ما يفسده قبل انبرامه، وان كان بعد لزومه لم يؤثر ذلك فيه ولا يلزمه أكثر من ثمنه الذي عقد البيع به ومذهب الشافعي في هذا كما ذكرنا
{ مسألة } (ويحرم الربا بين المسلم والحربي) وبين المسلمين في دار الحرب كما يحرم بين المسلمين في دار الاسلام وبذلك قال مالك والاوزاعي
وأبو يوسف والشافعي واسحاق، وقال أبو حنيفة لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب، وعنه في مسلمين أسلما في دار الحرب لا ربا بينهما لما روى مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لاربا بين
المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب " لان أموالهم مباحة وانما حظرها الامان في دار الاسلام فما لم يكن كذلك كان مباحا.
ولنا قول الله تعالى (وحرم الربا الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم
الذي يتخبطه الشيطان من المس) وقوله تعالى (اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا) وعموم الاخبار يقتضي تحريم التفاضل، وقوله " من زاد أو ازداد فقد أربى " عام ولان ما كان محرما في دار الاسلام كان محرما في دار الحرب كالربا بين المسلمين وخبرهم مرسل لا تعرف صحته (استدلوا أيضا بان مالهم مباح في دارهم فبأي طريق أخذه المسلم حل وأما المستأمن منهم بدارنا فماله محرم بعقد الامان لان أخذه غدر محرم وفي فتح القدير اشتراط أن يكون الربح للمسلم) ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك ولايجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة بخبر مجهول ولم يرو في صحيح ولا
مسند ولا كتاب موثوق به وما ذكروه من الاباحة منتقض بالحربي إذا دخل دار الاسلام فان ماله مباح إلا ما حظره الامان { باب بيع الاصول والثمار } ومن باع دارا تناول البيع أرضها وبناءها وما يتصل بها لمصلحتها كالسلاليم والرفوف المسمرة والابواب المنصوبة والخوابي المدفونة والرحى المنصوبة وأشباه ذلك لانه متصل بها لمصلحتها أشبه حيطانها { مسألة } (ولا يدخل ما هو مودع فيها من الكنز والاحجار المدفونة)
لان ذلك مودع فيها للنقل عنها فأشبه الفرش والستور، ولا يدخل ما هو منفصل عنها لا يختص بمصلحتها كالحبل والدلو والبكرة والقفل والفرش، وكذلك الرفوف الموضوعة على الاوتاد بغير تسمير
ولا غرز في الحائط، وحجر الرحى إن لم يكن منصوبا والخوابي الموضوعة من غير أن يطين عليها لانه منفصل عنها لا تختص بمصلحتها أشبه الثياب والطعام { مسألة } (فأما ما كان من مصالحها لكنه منفصل عنها كالمفتاح وحجر الرحا الفوقاني إذا كان السفلاني منصوبا ففيه وجهان) (أحدهما) يدخل في البيع لانه لمصلحتها فأشبه المنصوب فيها (والثاني) لايدخل لانه منفصل عنها فأشبه القفل والدلو ونحو ذلك وهذا مذهب الشافعي { مسألة } وما كان في الارض من الحجارة المخلوقة فيها أو مبني فيها كأساسات الحيطان المهدمة فهو للمشتري لانه من أجزائها فهو كترابها) والمعادن الجامدة فيها والآجر كالحجارة في هذا، وإذا كان المشتري عالما بذلك فلا خيار له وان لم يعلم وكان يضر بالارض وينقصها كالصخر المضر بعروق الشجر فهو عيب حكمه حكم سائر العيوب فان كانت الحجارة والآجر مودعا فيها فهو للبائع كالكنز ويلزمه نقلها وتسوية الارض واصلاح الحفر لانه ضرر لحق لاستصلاح ملكه فكان عليه إزالته وإن كان قلعها يضربا بالارض أو تتطاول مدته فهو عيب، وإن لم يكن في نقلها ضرر وكان يمكن نقلها في أيام يسيرة كالثلاثة فما دون فليس بعيب وله مطالبة البائع لانه لاعرف في تبقيتها بخلاف الزرع، ومتى كان عالما بالحال فلا أجرة له في الزمان الذي نقلت فيه لانه علم بذلك ورضي به فهو كما لو اشترى أرضا فيها زرع، وإن لم يعلم فاختار امساك المبيع فهل له اجرة لزمان النقل على وجهين (أحدهما) له ذلك لان المنافع مضمونة على المتلف فكان عليه بدلها كالاجر (والثاني) لا يجب لانه لما رضي بامساك المبيع رضي بتلف المنفعة في زمان النقل، فان لم يختر الامساك فقال البائع أنا أدع ذلك لك وكان مما لا ضرر في بقائه لم يكن له خيار لزوال الضرر عنه (فصل) فان كان في الارض معادن جامدة كمعادن الذهب والفضة ونحوهما دخلت في البيع وملكت بملك الارض التي هي فيها لانها من أجزائها فهي كأحجارها ولكن لا يباع معدن الذهب
بذهب، ويجوز بيعها بغير جنسها وان ظهر في الارض معدن لم يعلم به البائع فله الخيار لانه زيادة لم يعلم بها فأشبه ما لو باعه ثوبا على أنه عشرة أذرع فبان أحد عشر، هذا إذا كان قد ملك الارض باحياء أو إقطاع، وقد روي أن ولد بلال بن الحارث باعوا عمر بن عبد العزيز أرضا فظهر فيها معدن فقالوا انما بعنا الارض ولم نبع المعدن وأتوا عمر بالكتاب الذي فيه قطيعة النبي صلى الله عليه وسلم لابيهم فأخذه فقبله ورد عليهم المعدن.
وان كان البائع ملك الارض بالبيع احتمل أن لا يثبت له خيار لان الحق لغيره وهو المالك الاول، واحتمل أن يثبت له الخيار كما لو اشترى معيبا ثم باعه ولم يعلم عيبه فانه يستحق الرد وان كان قد باعه مثل ما اشتراه، وروى أبو طالب عن أحمد إذا ظهر المعدن في ملكه ملكه وظاهر هذا أنه لم يجعله للبائع ولا جعل له خيارا لانه من أجزاء الارض فأشبه ما لو ظهر فيها حجارة ولها قيمة كبيرة (فصل) فان كان فيها بئر أو عين مستنبطة فنفس البئر وأرض العين مملوكة لمالك الارض والماء الذي فيها غير مملوك في أصح الروايتين، ولاصحاب الشافعي وجهان كالروايتين وفي معنى الماء المعادن
الجارية في الاملاك كالقار والنفط والموميا والملح وكذلك ما ينبت في الارض من الكلا والشوك ففي هذا كله روايتان، فان قلنا هي مملوكة دخلت في البيع والا لم تدخل
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: