محاسن التعريف في علوم التصريف 5
بسم الله الرحمان الرحيم
فقوله تعالى للملائكة ( إنّي جاعل في الأرض خليفة ) فيه التنبيه على ذكر أصل الخصوصية وأنّها لو لا هذا الإنسان ما
صحّ لها قيام ولما وقع عليها إدراك الكمال , فعلمنا بعد ذلك أنّ تلك الخصوصية لها ارتباط وثيق بأمر لا بدّ منه ليصحّ لها ذلك الكمال وهو أمر العبودية لذا تفطّنت الملائكة إلى هذه اللطيفة للطافتهم فقالوا ( ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ) فأشارت إلى أعلى أوصاف عبوديتها وهو التسبيح والتقديس وفي هذا المقام من التحقيق ورد ( سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح ) وإنّما ذكرت منتهى وصف عبوديتها في مقابلة ذكرها لذنوب هذا الخليفة ومعاصيه مع أنّ المقام يعطي في العموم ذكر صلاحها وطاعتها في مقام الأفعال لأنّه يقابل الإفساد وسفك الدماء في مقام الأفعال .
وإنّما جنحت إلى ذكر وصف منتهى عبوديتها لما يستوجبه مقام الخلافة الذي لا يمكنه أن يكون إلاّ في وصف نقيض الربوبية وهو منتهى العبودية حتّى لا تختلط المراتب وتفسد الحقائق فإنّ بين الحقّ والباطل شعرة دقيقة كالصراط أحدّ من السيف وأدقّ من الشعرة فمن يحسن أن يسير عليه ويقطعه من غير وجود مرشد ووزير أو تقول نبيّ ورسول .
فكان لا بد من اتّباع فمن سار بنفسه هلك لا محالة لذا اشترط المؤاخاة في الدين , فذكرت الملائكة أعلى أوصافها في العبودية المختصّة بها في مقامها وذكرت بإزائها أدنى مراتب الإنسان من الإفساد وسفك الدماء فكان تأويل كشفها منه الصحيح ومنه المشتبه , فالصحيح ما قالته من وجوب الإتّصاف بأعلى أوصاف العبودية في مقام الخلافة وإلاّ فسدت تلك الخلافة وما صحّت لعلمها بالفرق والبرزخ في هذا , والمتشتبه هو كالخطأ في التأويل مثلما تقول الإصابة في بعض تأويل الرؤيا والخطأ في بعضنا كما ورد ذلك عن الصحابة لمّا كان رسول الله يخبر بعضهم في ذلك بأنّه أصاب طرفا منها وأخطأ طرفا آخر .
ثمّ إنّ ذلك الإخبار من الله تعالى لهم في طيّه أنّهم مرادون بذلك أيضا لأنّه لا قيام للخليفة في مقامه إلاّ بهم لأنّهم جنود ربّك فهم أهل التصريف حقيقة لأنّ أهل التصريف هم جنود لا يعصون الله ما أمرهم مثل إبراهيم عليه السلام لمّا أمر بذبح إبنه , وكذلك قال رسول الله عليه الصلاة والسلام ( والله لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها ) فهو مقام القيام بأمر الله ومنه تأتي علوم الولاء والبراء في الإسلام والغضب لله والرضا له وفيه الكثير من العلوم يلزم مجلّدات لشرحها فإنّ علوم الولاء والبراء قد ضلّ فيها أقوام كثيرة فلها علومها المصونة العليا في التحقيق .
فعلمت الملائكة ما يراد لها لذا سجدت لهذا الخليفة بعد أن عجزت عن معرفة علوم أسمائهم فهكذا أنت أيّها العارف أو تقول أيّها الذرّ لمّا علم عجزك عن علوم الأسماء قام بك غيرك فلا يقع في خاطرك شيء إلا منه لتعلم أنّه صاحب علوم الأسماء فهو ينفق عليك منها فلو فهمتها كما فهمتها الملائكة لسجدت لها تعظيما وتقديرا واحتراما ولقمت له اجلالا واكبارا وقدّمته في جميع شؤونك ( وقدّم إماما كنت أنت أمامه ) .
فلمّا قصر تأويلها لمحدودية علمها بجانب علم الله قال لهم ( إنّي أعلم ما لا تعلمون ) فتأدّبت ورجعت إلى وصف العجز عن الفهم والإحاطة في العلم لأنّ العلمي له منحيان :
منحى أوّل :
وهو الترقّي إذ ( فوق كلّ ذي علم عليم ) ومنحى أدنى منه وهو منحى التأويل الذي يكون بحسب المقام فمن كان مقامه نوري كان تأويله نوري ومن كان مقامه في عالم السرّ كان تفسيره سرّي وهكذا من أنواع التفاسير التي تراها وتقرؤها من تفاسير ساداتنا العلماء وجميع أهل الله رضي الله عنهم أجمعين سواء في القرآن أو السنّة , أمّا الكامل فهو من أوتي جوامع الكلم في مختلف التآويل والتفاسير وهو النبيّ صلى الله عليه وسلّم وبقيّة ورثته بحكم الوراثة وفي هذا مناهج شتّى وعلوم تفلق الجبال من أحوال الأنبياء وفي ذكر حضرات علومهم وسلوكياتهم ومناهج سيرهم إلى الله تعالى فليس لنا غير الرشح من ذلك وأين الكأس من الكيزان بل أين الطلّ من الوابل ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ).
ولنا السؤال وأن نتساءل لقوله تعالى ( وإذا سألك عبادي عنّي ) فما أجمل تساؤل الملائكة في قولها ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) فهذه الغيرة المحمودة ومنها تعرف الصادق من الكاذب والمحقّ من المبطل فهو نهاية الصدق بل والصفاء والأدب أمّا من رآه اعتراضا منهم فهو واهم بل لا يخطر الوهم أو السوء على قلوبهم أصلا فما بالك بالعصيان وهم الذين لا يعصون الله طرفة عين ويفعلون ما يؤمرون , وإنّما لجلالة أمر الخليفة وخفائه تعيّن التذكير بهذا المشهد القدسي ليعلمك أيّها الإنسان في محلّ القصص والحكاية أنوارا وعلوما وأسرارا ويعلمك بقدسيتك وطهارة معناك فإذا كنت غوّاصا ماهرا تغوص في بحار الحقائق فأهلا بالحبيب ومرحبا لكن إيّاك أن تقدم الحمى من غير شوق أو البيداء من غير سيف أو الأحباب من غير محبّة فللمجالس شروط لا بدّ منها وإلاّ كنت غريبا يوصد في وجهك الباب ويرفض وجودك في مساجد أولي الألباب .
أمّا إبليس لعنه الله تعالى فما أبعده عن هذه الفهوم وما أحقده على تلك العلوم وصفه وصف جهنّم من الغيظ بعد أن شدّ الجماعة أناملهم من الغيظ لتعلم علوم الحضرات فما في باطنك هو وصفك في جهنّم أو الجنّة فكيفما كنت باطنا فاعلم مستقرّك من الآن , ولمّا كانت أحكام الجنّة وأحكام النّار من عالم الصفات جعل الله تعالى الملائكة جنود هذا الحكم كي ينفّذوه إلا ترى في قولهم ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) شدّة الغيرة فويل لمن مسكوه يوم القيامة فإنّ مالك خازن النار لهم بالمرصاد فاعلم أنّك كيفما كنت اليوم تكون غدا والمرء يحشر على ما مات عليه ويموت على ما عاش عليه , وإنّما لم يأت على ذكر إبليس إلاّ بعد أمره له بالسجود لما تعلّق به الأمر من إقامة الحجّة البالغة فبعد أن قامت الحجّة سأله السجود فقد ظهرت وبانت منزلة آدم .
فلمّا رفض السجود سأله : ( ما منعك أن تسجد ) هذا السؤال يرعب العارفين بالله تعالى ويذيبهم كما يذيب الرصاص , وعليه فهمنا أنّ العالم جميعا على يقين بالحقائق وإنّما الخلل وقع عندهم في الأوامر والنواهي , لذا انقسم العباد إلى قسمين : قسم في الجنّة وهم الذين سمعوا قول الملائكة من الغيرة على جناب التوحيد فعلموا , والقسم الثاني سمعوا قول إبليس فرفضوا مثله السجود فكان عقاب الإنسان أعظم عقاب كما أنّ ثوابه أعظم ثواب , وإنّما يفيد سماع الفريق الشيطاني لإبليس نسيان سماعهم الأوّل في عالم الذرّ وغفلتهم عنه , وسنبيّن بعد هذا مخالفة إبليس ومرتبتها في وجود هذا الخليفة ...
تحميل الموضوع ملف وورد :
فقوله تعالى للملائكة ( إنّي جاعل في الأرض خليفة ) فيه التنبيه على ذكر أصل الخصوصية وأنّها لو لا هذا الإنسان ما
صحّ لها قيام ولما وقع عليها إدراك الكمال , فعلمنا بعد ذلك أنّ تلك الخصوصية لها ارتباط وثيق بأمر لا بدّ منه ليصحّ لها ذلك الكمال وهو أمر العبودية لذا تفطّنت الملائكة إلى هذه اللطيفة للطافتهم فقالوا ( ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ) فأشارت إلى أعلى أوصاف عبوديتها وهو التسبيح والتقديس وفي هذا المقام من التحقيق ورد ( سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح ) وإنّما ذكرت منتهى وصف عبوديتها في مقابلة ذكرها لذنوب هذا الخليفة ومعاصيه مع أنّ المقام يعطي في العموم ذكر صلاحها وطاعتها في مقام الأفعال لأنّه يقابل الإفساد وسفك الدماء في مقام الأفعال .
وإنّما جنحت إلى ذكر وصف منتهى عبوديتها لما يستوجبه مقام الخلافة الذي لا يمكنه أن يكون إلاّ في وصف نقيض الربوبية وهو منتهى العبودية حتّى لا تختلط المراتب وتفسد الحقائق فإنّ بين الحقّ والباطل شعرة دقيقة كالصراط أحدّ من السيف وأدقّ من الشعرة فمن يحسن أن يسير عليه ويقطعه من غير وجود مرشد ووزير أو تقول نبيّ ورسول .
فكان لا بد من اتّباع فمن سار بنفسه هلك لا محالة لذا اشترط المؤاخاة في الدين , فذكرت الملائكة أعلى أوصافها في العبودية المختصّة بها في مقامها وذكرت بإزائها أدنى مراتب الإنسان من الإفساد وسفك الدماء فكان تأويل كشفها منه الصحيح ومنه المشتبه , فالصحيح ما قالته من وجوب الإتّصاف بأعلى أوصاف العبودية في مقام الخلافة وإلاّ فسدت تلك الخلافة وما صحّت لعلمها بالفرق والبرزخ في هذا , والمتشتبه هو كالخطأ في التأويل مثلما تقول الإصابة في بعض تأويل الرؤيا والخطأ في بعضنا كما ورد ذلك عن الصحابة لمّا كان رسول الله يخبر بعضهم في ذلك بأنّه أصاب طرفا منها وأخطأ طرفا آخر .
ثمّ إنّ ذلك الإخبار من الله تعالى لهم في طيّه أنّهم مرادون بذلك أيضا لأنّه لا قيام للخليفة في مقامه إلاّ بهم لأنّهم جنود ربّك فهم أهل التصريف حقيقة لأنّ أهل التصريف هم جنود لا يعصون الله ما أمرهم مثل إبراهيم عليه السلام لمّا أمر بذبح إبنه , وكذلك قال رسول الله عليه الصلاة والسلام ( والله لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها ) فهو مقام القيام بأمر الله ومنه تأتي علوم الولاء والبراء في الإسلام والغضب لله والرضا له وفيه الكثير من العلوم يلزم مجلّدات لشرحها فإنّ علوم الولاء والبراء قد ضلّ فيها أقوام كثيرة فلها علومها المصونة العليا في التحقيق .
فعلمت الملائكة ما يراد لها لذا سجدت لهذا الخليفة بعد أن عجزت عن معرفة علوم أسمائهم فهكذا أنت أيّها العارف أو تقول أيّها الذرّ لمّا علم عجزك عن علوم الأسماء قام بك غيرك فلا يقع في خاطرك شيء إلا منه لتعلم أنّه صاحب علوم الأسماء فهو ينفق عليك منها فلو فهمتها كما فهمتها الملائكة لسجدت لها تعظيما وتقديرا واحتراما ولقمت له اجلالا واكبارا وقدّمته في جميع شؤونك ( وقدّم إماما كنت أنت أمامه ) .
فلمّا قصر تأويلها لمحدودية علمها بجانب علم الله قال لهم ( إنّي أعلم ما لا تعلمون ) فتأدّبت ورجعت إلى وصف العجز عن الفهم والإحاطة في العلم لأنّ العلمي له منحيان :
منحى أوّل :
وهو الترقّي إذ ( فوق كلّ ذي علم عليم ) ومنحى أدنى منه وهو منحى التأويل الذي يكون بحسب المقام فمن كان مقامه نوري كان تأويله نوري ومن كان مقامه في عالم السرّ كان تفسيره سرّي وهكذا من أنواع التفاسير التي تراها وتقرؤها من تفاسير ساداتنا العلماء وجميع أهل الله رضي الله عنهم أجمعين سواء في القرآن أو السنّة , أمّا الكامل فهو من أوتي جوامع الكلم في مختلف التآويل والتفاسير وهو النبيّ صلى الله عليه وسلّم وبقيّة ورثته بحكم الوراثة وفي هذا مناهج شتّى وعلوم تفلق الجبال من أحوال الأنبياء وفي ذكر حضرات علومهم وسلوكياتهم ومناهج سيرهم إلى الله تعالى فليس لنا غير الرشح من ذلك وأين الكأس من الكيزان بل أين الطلّ من الوابل ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ).
ولنا السؤال وأن نتساءل لقوله تعالى ( وإذا سألك عبادي عنّي ) فما أجمل تساؤل الملائكة في قولها ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) فهذه الغيرة المحمودة ومنها تعرف الصادق من الكاذب والمحقّ من المبطل فهو نهاية الصدق بل والصفاء والأدب أمّا من رآه اعتراضا منهم فهو واهم بل لا يخطر الوهم أو السوء على قلوبهم أصلا فما بالك بالعصيان وهم الذين لا يعصون الله طرفة عين ويفعلون ما يؤمرون , وإنّما لجلالة أمر الخليفة وخفائه تعيّن التذكير بهذا المشهد القدسي ليعلمك أيّها الإنسان في محلّ القصص والحكاية أنوارا وعلوما وأسرارا ويعلمك بقدسيتك وطهارة معناك فإذا كنت غوّاصا ماهرا تغوص في بحار الحقائق فأهلا بالحبيب ومرحبا لكن إيّاك أن تقدم الحمى من غير شوق أو البيداء من غير سيف أو الأحباب من غير محبّة فللمجالس شروط لا بدّ منها وإلاّ كنت غريبا يوصد في وجهك الباب ويرفض وجودك في مساجد أولي الألباب .
أمّا إبليس لعنه الله تعالى فما أبعده عن هذه الفهوم وما أحقده على تلك العلوم وصفه وصف جهنّم من الغيظ بعد أن شدّ الجماعة أناملهم من الغيظ لتعلم علوم الحضرات فما في باطنك هو وصفك في جهنّم أو الجنّة فكيفما كنت باطنا فاعلم مستقرّك من الآن , ولمّا كانت أحكام الجنّة وأحكام النّار من عالم الصفات جعل الله تعالى الملائكة جنود هذا الحكم كي ينفّذوه إلا ترى في قولهم ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) شدّة الغيرة فويل لمن مسكوه يوم القيامة فإنّ مالك خازن النار لهم بالمرصاد فاعلم أنّك كيفما كنت اليوم تكون غدا والمرء يحشر على ما مات عليه ويموت على ما عاش عليه , وإنّما لم يأت على ذكر إبليس إلاّ بعد أمره له بالسجود لما تعلّق به الأمر من إقامة الحجّة البالغة فبعد أن قامت الحجّة سأله السجود فقد ظهرت وبانت منزلة آدم .
فلمّا رفض السجود سأله : ( ما منعك أن تسجد ) هذا السؤال يرعب العارفين بالله تعالى ويذيبهم كما يذيب الرصاص , وعليه فهمنا أنّ العالم جميعا على يقين بالحقائق وإنّما الخلل وقع عندهم في الأوامر والنواهي , لذا انقسم العباد إلى قسمين : قسم في الجنّة وهم الذين سمعوا قول الملائكة من الغيرة على جناب التوحيد فعلموا , والقسم الثاني سمعوا قول إبليس فرفضوا مثله السجود فكان عقاب الإنسان أعظم عقاب كما أنّ ثوابه أعظم ثواب , وإنّما يفيد سماع الفريق الشيطاني لإبليس نسيان سماعهم الأوّل في عالم الذرّ وغفلتهم عنه , وسنبيّن بعد هذا مخالفة إبليس ومرتبتها في وجود هذا الخليفة ...
تحميل الموضوع ملف وورد :
الكلمات المفتاحية :
العبودية
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: