ماذا تعرف عن التصوف ؟
ماذا تعرف عن التصوف |
التصوف الصحيح هو عين التوحيد
عبد العزيز القاري
المسلم / الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد : فموضوعي بعنوان "التصوف الصحيح هو عين التوحيد"، وهذه الكلمة ذات شقين أذكرهما بإيجاز، وسيأتي التفصيل إن شاء الله :
أول الشقين : المراد إنصاف التصوف.
والشق الثاني : المراد إصلاح التصوف، وسأفصل هذين القرنين _إن شاء الله_، لكن أبدأ بشيء من التاريخ وبيـان أصول النشأة ونحـو ذلك من غير تطويل فأقول :
التصوف الصحيح بني على الزهد، والزهد أصل من أصول الشريعة، ولذلك عندما كتب المتقدمون في هذا الشأن كتبوا فيه تحت هذا المصطلح " الزهد " كعبد الله بن المبارك المتوفى سنة(181 ) من الهجرة، وكهناد ابن السري، والإمام أحمد ابن حنبل، هؤلاء كتبوا تحت مصطلح "الزهد "
فعندئذ المصدر واضح : الكتاب والسنة والقدوة رسول الله_صلى الله عليه وسلم_ وأصحابه الكرام والتابعون ومن بعدهم من أهل القرون الثلاثة المفضلة، ومن المهم في هذا الشأن ربطه بالرعيل الأول، الصحابة الكرام _رضي الله عنهم أجمعين.
ولذلك فقد أجاد الحافظ المحدث أبو نعيم الأصبهاني في كتابه (حلية الأولياء) إذ ذكر المتقدمين والمتأخرين من أهل العبادة والزهد مبتدأ بأصحاب رسول الله_صلى الله عليه وسلم_، وفعل مثله ابن الجوزي الحنبلي المتوفى سنة (597 ) من الهجرة في كتابه (صفة الصفوة)، وكذلك أبو القاسم التيمي في (سير السلف).
ولكن أكثر من كتب في التصوف أهمل ذكر طريقة الصحابة والتابعين، وبنى على ما روي من أقوال وأحوال وزهد المتأخرين من بعد القرون الثلاثة المفضلة أو من عند إبراهيم بن أدهم، والفضيل بن العياض، وأبي سليمان الداراني ونحوهم، كما فعل أبو القاسم القشيري برسالته القشيرية، وكمـا فعل أبو عبد الـرحمن السلمي فـي (طبقات الصوفية)، وكما فعل أبو بكر الكلاباذي محمد بن إسحاق في كتابه (التعرف لمذهب أهـل التصوف)، وكما فعـل أبو نصر السراج في كتابـه ( اللمع ).
هذه أهم مصادر التصوف.
والكتب السابقة الـتي ذكرناها أعظـم مصادر التصوف (حلية الأولياء) لأبي نعيم و (صفة الصفوة) لابـن الجوزي و (سير السلف) لأبي القاسم. هذه مصادر التصوف على الطريقة الأولى التي تشمل المتقدمين والمتأخرين؛ يبدؤون بأصحاب رسول الله_صلى الله عليه وسلم_، فإذن وضعوا الأمر في نصابه الصحيح
وأصلاً بدأت ظاهرة العباد والزهاد منذ وقت مبكر؛ من وقت التابعين، يعني من تفرغوا للعبادة وللزهد وانقطعوا عن الدنيا، وفي هذا الباب يذكر أبو نعيم أويساً القرني كمثال على هذا الأسلوب "الزهد".
وكان لظهور هذه الفئة من العباد والزهاد تذكيراً للمجتمع وإيقاظاً له، خاصةً أن بوادر الترف في حياة المجتمع كانت قد بدأت تظهر فكان لظهور هؤلاء العباد ولأقوالهم وأحوالهم أثراً تحذيرياً للمجتمع من أن يقع فريسة الترف والغفلة وتذكيراً له بمهمته الأساسية من الذكر والعبادة، وإعلاناً بأن هذه الدنيا لا قيمة لها، فهذا كان له أثر الإيقاظ للمجتمع وبوادر الترف تهجم عليه، ولذلك كانت أقوال هؤلاء العباد تدور حول هذه المعاني وحول محبة الله _عز وجل_ والانقطاع لـه وتقديم محبته والتعلق به على سائر العلائق، وكانوا يوصون مع ذلك بأن يرد كل ما يصدر عنهم إلى الكتاب والسنة.
يقول أبو يزيد البسطامي : " إذا أعطي الرجل من الكرامات حتى يرتقي في الهواء فلا تغتروا بـه حتى تروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة.
والتصوف إذن بهذا المفهوم ليس منفصلاً عن الكتاب والسنة، بل هو مذهب في السلوك مستنبط منهما ومـن أحوال الصحابة الكرام، وآدابه ليست غريبة على الدين.
يقول سهل بن عبد الله التستري : أصول طريقتنا سبعة : التمسك بالكتاب، والاقتداء بالسنة، وأكل الحلال، وكف الأذى، وترك المعاصي، والتوبة، وأداء الحقوق.
فهذه الآداب ليست غريبة على الدين هذا مذهب في السلوك مستنبط من مصدر هذا الدين الكتاب والسنة. وكان هؤلاء الأوائل من أئمة التصوف ملتزمين بذلك.
يقول أبو سليمان الداراني، وهو أحد أئمة التصوف بعد القرون الثلاثة : قد تخطر النكتة من نكت القوم في قلبي أياماً فلا أقبل منه ـ أي من قلبي ـ حتى يأتي بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة.
ومثل هذا الكلام نقل عن الشيخ عبد القادر الجيلاني _رحمه الله_ يقول: " القدر ظلمة ـ أي الحياة المقدرة التي نعيش فيها ظلمة ـ فادخل في الظلمة بالمصباح الذي هو الحكم، والحكم هو كتاب الله وسنة رسوله_صلى الله عليه وسلم_؛ لا تخرج عنهما ".
والشيخ عبد القادر الجيلاني كان عالماً فقيهاً متمسكاً بالكتاب والسنة، وهو من أئمة المتصوفة المتأخرين، ولذلك عني شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله_ بكلامه عناية عظيمة، ونقل بعض عباراته من كتاب " فتوح الغيب " وشرحها، تجد ذلك في جزء السلوك من مجموع الفتاوى، وكانت عباراته إذا احتملت عدة وجوه يحملها على أحسن الوجوه وأحسن المعاني، وكان يثني على أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي الحنبلي، وهذا أيضاً من أئـمة التصوف، صاحب (منازل السائرين)، وهذا كتاب مشهور يعد من أحسن مصادر التصوف الصحيح، وخاصة مع شرحه(مدارج السالكين)، شرحه الحافظ ابن القيم _رحمه الله_ بكتابه (مدارج السالكين)، وهذان الإمامان من أئمة المدرسة السلفية.
شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن القيم يضربان لنا أروع الأمثلة على أخلاق السلف، وعلى معلم مهم من معالم منهج السلف، وهو (الإنصاف)، وهو من أهم أخلاق علماء السلف.
شيخ الإسلام ابن تيمية يمدح الشيخ عبد القادر الجيلاني مدحاً عجيباً، وينقل كلامه كما ذكرت ويفسره بأحسن المعاني ويحمله على أحسن الوجوه حتى ولو احتمل عدة احتمالات، وكـذلك فعـل الحافظ ابـن القيم في (مدارج السالكين) عندما شرح كلام الهروي في (منازل السائرين) كان يحمل كلام الهروي على أحسن المحامل وعلى أحسن المعاني.
ولما نقل شيخ الإسلام ابن تيمية كلام بعض الأئمة في التصوف أو في ذم التصوف، وكان أشد هؤلاء الأئمة الإمام الشافعي : ورد عنه ذم التصوف مطلقاً، وروي عن الإمام مالك أيضاً، بينما كان الإمام أحمد يقرأ كتب الحارث المحاسبي ونقل عنه شيء من عبارات المتصوفة، ولم ينقل عنه ذم التصوف كما نقل عن الإمام الشافعي.الإمام الشافعي كان شديداً على التصوف وعلى الكلام، وورد عنه ذم الكلام مطلقاً، وحتى قال : من اشتغل بعلم الكلام أرى أن يجلد بالسياط ويطاف به على دابة بين الناس، ويقال: هذه عقوبة من يشتغل بالكلام عن كتاب الله وسنة رسوله_ صلى الله عليه وسلم_.
ماذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد هذا النقل؟ يقول : " والتحقيق أن فيه الممدوح والمذموم ـ يعني في مذهب التصوف الممدوح والمذموم ـ والمذموم منه ما يكون اجتهادياً، ومنه غير ذلك، كفقه الرأي فإنه قد ذم فقه الرأي طوائف من الفقهاء والعلماء والعباد ". ثم يقول : " ومـن المتسمين بهذا الاسم ـ أي التصوف ـ من أولياء الله وصفوته وخيار عباده ما لا يعلم عددهم إلا الله، كما أن من أهل الرأي ـ أي من فقهاء الرأي ـ أهل العلم والإيمان طوائف لا يعلم عددهم إلا الله ".
هذا الكلام من إنصاف السلف، ولهذا أخذت معالم التصوف الصحيح أكثر ما أخذته من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وأسلوبه؛ مع أنه من أشد من نقد التصوف وعلم الكلام، ولكن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية ولا يحمل العالم الصحيح على عدم الإنصاف، وعلى الرغم من نقده لمذهب التصوف فقد كان منصفاً في الحكم عليه ودقيقاً في بحث تفاصيله والتفريق بين ممدوحه ومذمومه.
وهذا الممدوح الذي يشير إليه شيخ الإسلام هو ما نعنيه بالتصوف الصحيح فمحاولتنا هذه ذات قرنين أو ذات شقين :
الشق الأول : إنصاف هذا المذهب بالتفريق بين صحيحه وسقيمه، فالتصوف في جذوره الأولى كان تصوفاً صحيحاً كما ضربنا على ذلك الأمثلة وأوردنا الأدلة من كلام أئمته، فمن إنصاف هذا المذهب أن نبرز الوجه الصحيح منه ونميزه عن الوجه المنحرف.
والتصوف مدرسة كبرى في حياة المسلمين لا يمكن إلغاؤها بجرة قلم، بل يجب الإفادة من صوابها وعرض ما سوى ذلك على الكتاب والسنة، كمدرسة الرأي سواءً بسواء، وقد لاحظنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية ضرب المثال بهاتين المدرستين الكبيرتين، مدرسة التصوف في علم السلوك، ومدرسة الرأي في علم الفقه.
هاتان المدرستان كبيرتان لا يمكن إلغاؤهما بجرة قلم، بل يجب احترامهما والإفادة من صوابهما، وأصلاً كل المذاهب والمقالات والأفكار يجب أن تعرض على الكتاب والسنة فما وافقهما قبلناه وما ناقضهما رددناه، وهذه وصية أهل التصوف أنفسهم أبي يزيد البسطامي والشيخ عبد القادر الجيلاني، وبقية أئمة التصوف الصحيح ورموزه.
والشقّ الثاني سأذكره في باب ما دخل من البدع على التصوف وكيفية اصلاحه
الكلمات المفتاحية :
التصوف
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: