معرفة الإسناد العالي والنازل و المشهور و الغريب والعزيز
معرفة الإسناد العالي والنازل و المشهور و الغريب والعزيز
أصل الإسناد أولا: خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنَّة بالغة من السنن المؤكدة.
روينا من غير وجه عن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه أنه قال: الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
وطلب العلو فيه سنة أيضا ولذلك استحبت الرحلة فيه على ما سبق ذكره.
قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف.
وقد روينا: أن يحيى بن معين رضي الله عنه قيل له في مرضه الذي
مات فيه: ما تشتهي ؟ قال: بيت خالي وإسناد عالي.
قلت: العلو يبعد الإسناد من الخلل، لأن كل رجل من رجاله يحتمل أن يقع الخلل من جهته سهوا أو عمدا ففي قلتهم قلة جهات الخلل، وفي كثرتهم كثرة جهات الخلل، وهذا جليِّ واضح.
ثم إن العلو المطلوب في رواية الحديث على أقسام خمسة:
أولها: القرب من رسول الله بإسناد نظيف غير ضعيف، وذلك من أجل أنواع العلو. وقد روينا عن محمد بن أسلم الطوسي الزاهد العالم رضي الله عنه أنه قال: قُرب الإسناد قُرب أو قُربة إلى الله عز وجل. وهذا كما قال، لأن قرب الإسناد قرب إلى رسول الله ، والقرب إليه قرب إلى الله عز وجل.
الثاني: وهو الذي ذكره الحاكم أبو عبد الله الحافظ: القرب من إمام من أئمة الحديث، وإن كثر العدد من ذلك الإمام إلى رسول الله . فإذا وُجد ذلك في إسناد وصف بالعلو، نظرا إلى قربه من ذلك الإمام وإن لم يكن عاليا بالنسبة إلى رسول الله
وكلام الحاكم يوهم أن القرب من رسول الله لا يعد من العلو المطلوب أصلا.
وهذا غلط من قائله، لأن القرب منه - - بإسناد نظيف غير ضعيف أولى بذلك.
ولا ينازع في هذا من له مسك من معرفة، وكأن الحاكم أراد بكلامه ذلك إثبات العلو للإسناد بقربه من إمام، وإن لم يكن قريبا إلى رسول الله ، والإنكار على من يراعي في ذلك مجرد قرب الإسناد إلى رسول الله وإن كان إسنادا ضعيفا، ولهذا مثل ذلك بحديث أبي هُدْبة، ودينار، والأشج، وأشباههم، والله أعلم.
الثالث: العلو بالنسبة إلى رواية الصحيحين أو أحدهما، أو غيرهما من الكتب المعروفة المعتمدة، وذلك ما اشتهر آخرا من الموافقات، والأبدال، والمساواة، والمصافحة. وقد كَثر اعتناء المحدثين المتأخرين بهذا النوع. وممن وجدت هذا النوع في كلامه أبو بكر الخطيب الحافظ وبعض شيوخه، وأبو نصر بن ماكولا، وأبو عبد الله الحميدي، وغيرهم من طبقتهم وممن جاء بعدهم.
أما الموافقة: فهي أن يقع لك الحديث عن شيخ مسلم فيه - مثلا - عاليا، بعدد أقل من العدد الذي يقع لك به ذلك الحديث عن ذلك الشيخ إذا رويته عن مسلم عنه.
وأما البدل: فمثل أن يقع لك هذا العلو عن شيخ غير شيخ مسلم، هو مثل شيخ مسلم في ذلك الحديث.
وقد يرد البدل إلى الموافقة، فيقال فيما ذكرناه: إنه موافقة عالية في شيخ شيخ مسلم، ولو لم يكن ذلك عاليا فهو أيضا موافقة وبدل، لكن لا يطلق عليه اسم الموافقة والبدل لعدم الالتفات إليه.
وأما المساواة: فهي - في أعصارنا - أن يقل العدد في إسنادك لا إلى شيخ مسلم وأمثاله، ولا إلى شيخ شيخه، بل إلى من هو أبعد من ذلك، كالصحابي، أو من قاربه، وربما كان إلى رسول الله بحيث يقع بينك وبين الصحابي -مثلا - من العدد مثل ما وقع من العدد بين مسلم وبين ذلك الصحابي، فتكون بذلك مساويا لمسلم مثلا في قرب الإسناد وعدد رجاله.
وأما المصافحة: فهي أن تقع هذه المساواة التي وصفناها لشيخك لا لك، فيقع ذلك لك مصافحة، إذ تكون كأنك لقيت مسلما في ذلك الحديث وصافحته به لكونك قد لقيت شيخك المساوي لمسلم.
فإن كانت المساواة لشيخ شيخك كانت المصافحة لشيخك، فتقول: كأن شيخي سمع مسلما وصافحه.
وإن كانت المساواة لشيخ شيخ شيخك فالمصافحة لشيخ شيخك، فتقول فيها: كأن شيخ شيخي سمع مسلما وصافحه. ولك أن لا تذكر لك في ذلك نسبة، بل تقول: كأن فلانا سمعه من مسلم، من غير أن تقول فيهشيخي أو شيخ شيخي.
ثم لا يخفى على المتأمل: أن في المساواة والمصافحة الواقعتين لك لا يلتقي إسنادك وإسناد مسلم - أو نحوه - إلا بعيدا عن شيخ مسلم، فيلتقيان في الصحابي أو قريبا منه. فإن كانت المصافحة التي تذكرها ليست لك، بل لمن فوقك من رجال إسنادك، أمكن التقاء الإسنادين فيها في شيخ مسلم أو أشباهه، وداخلت المصافحة حينئذ الموافقة، فإن معنى الموافقة راجع إلى مساواة ومصافحة مخصوصة، إذ حاصلها: أن بعض من تقدم من رواة إسنادك العالي ساوى أو صافح مسلما أو البخاري، لكونه سمع ممن سمع من شيخهما، مع تأخر طبقته عن طبقتهما.
ويوجد في كثير من العوالي المخرجة لمن تكلم أولا في هذا النوع وطبقتهم المصافحات مع الموافقات والأبدال لما ذكرناه.
ثم اعلم: أن هذا النوع من العلو علو تابع لنزول، إذ لولا نزول ذلك الإمام في إسناده لم تعل أنت في إسنادك. وكنت قد قرأت بمروَ على شيخنا المكثر أبي المظفر عبد الرحيم بن الحافظ المصنف أبي سعد السمعاني رحمهما الله، في أربعيأبي البركات الفراوي حديثا ادعى فيه أنه كأنه سمعه هو أو شيخه من البخاري، فقال الشيخ أبو المظفر: ليس لك بعال، ولكنه للبخاري نازل. وهذا حسن لطيف، يخدش وجه هذا النوع من العلو، والله أعلم.
الرابع: من أنواع العلو : العلو المستفاد من تقدم وفاة الراوي.
مثاله ما أرويه عن شيخ، أخبرني به عن واحد، عن البيهقي الحافظ، عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ أعلى من روايتي لذلك عن شيخ، أخبرني به عن واحد، عن أبي بكر بن خلف، عن الحاكم وإن تساوى الإسنادان في العدد، لتقدم وفاة البيهقي على وفاة ابن خلف، لأنالبيهقي مات سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، ومات ابن خلف سنة سبع وثمانين وأربعمائة.
روينا عن أبي يعلى الخليل بن عبد الله الخليلي الحافظ رحمه الله قال: قد يكون الإسناد يعلو على غيره بتقدم موت راويه، وإن كانا متساويين في العدد. ومثل ذلك من حديث نفسه بمثل ما ذكرناه.
ثم إن هذا كلام في العلو المبني على تقدم الوفاة، المستفاد من نسبة شيخ إلى شيخ، وقياس راو براو.
أما العلو المستفاد من مجرد تقدم وفاة شيخك، من غير نظر إلى قياسه براو آخر، فقد حده بعض أهل هذا الشأن بخمسين سنة. وذلك ما رويناه عن أبي علي الحافظ النيسابوري قال: سمعت أحمد بن عمير الدمشقي - وكان من أركان الحديث - يقول: إسناد خمسين سنة من موت الشيخ إسناد علو. وفيما نروي عن أبي عبد الله بن منده الحافظ قال: إذا مر على الإسناد ثلاثون سنة فهو عال. وهذا أوسع من الأول، والله أعلم.
الخامس: العلو المستفاد من تقدم السماع.
أنبئنا عن محمد بن ناصر الحافظ، عن محمد بن طاهر الحافظ قال: من العلو نقدم السماع.
قلت: وكثير من هذا يدخل في النوع المذكور قبله، وفيه ما لا يدخل في ذلك، بل يمتاز عنه. مثل أن يسمع شخصان من شيخ واحد، وسماع أحدهما من ستين سنة مثلا وسماع الآخر من أربعين سنة. فإذا تساوى السند إليهما في العدد: فالإسناد إلى الأول الذي تقدم سماعه أعلى.
فهذه أنواع العلو على الاستقصاء والإيضاح الشافي، ولله سبحانه وتعالى الحمد كله.
وأما ما رويناه عن الحافظ أبي الطاهر السلفي - رحمه الله - من قوله في أبيات له:
بل علو الحديث بين أولي الحفظ والإتقان صحة الإسناد
وما رويناه عنالوزير نظام الملك من قوله:عندي أن الحديث العالي ما صح عن رسول الله وإن بلغت رواته مائة. فهذا ونحوه ليس من قبيل العلو المتعارف إطلاقه بين أهل الحديث، وإنما هو علو من حيث المعنى فحسب، والله أعلم.
فصل وأما النزول فهو ضد العلو. وما من قسم من أقسام العلو الخمسة إلا وضده قسم من أقسام النزول. فهو إذا خمسة أقسام، وتفصيلها يدرك من تفصيل أقسام العلو على نحو ما تقدم شرحه.
وأما قول الحاكم أبي عبد الله: لعل قائلا يقول، النزول ضد العلو، فمن عرف العلو فقد عرف ضده، وليس كذلك، فإن للنزول مراتب لا يعرفها إلا أهل الصنعة... إلى آخر كلامه، فهذا ليس نفيا لكون النزول ضدا للعلو على الوجه الذي ذكرته، بل نفيا لكونه يعرف بمعرفة العلو. وذلك يليق بما ذكره هو في معرفة العلو، فإنه قصر في بيانه وتفصيله، وليس كذلك ما ذكرناه نحن في معرفة العلو، فإنه مفصل تفصيلا مفهما لمراتب النزول، والعلم عند الله تبارك وتعالى.
ثم إن النزول مفضول مرغوب عنه، والفضيلة للعلو على ما تقدم بيانه ودليله.
وحكىابن خلاد عن بعض أهل النظر أنه قال: التنزل في الإسناد أفضل، واحتج له بما معناه أنه يجب الاجتهاد والنظر في تعديل كل راو وتجريحه، فكلما زادوا كان الاجتهاد أكثر.
وهذا مذهب ضعيف ضعيف الحجة. وقد روينا عن علي بن المديني وأبي عمرو المستملي النيسابوري أنهما قالا: النزول شؤم. وهذا ونحوه مما جاء في ذم النزول مخصوص ببعض النزول، فإن النزول إذا تعين - دون العلو - طريقا إلى فائدة راجحة على فائدة العلو فهو مختار غير مرذول، والله أعلم.
النوع الموفي ثلاثين: معرفة المشهور من الحديث
ومعنى الشهرة مفهوم، وهو منقسم إلى: صحيح، كقوله : «إنما الأعمال بالنيات». وأمثاله.
وإلى غير صحيح: كحديث: «طلب العلم فريضة على كل مسلم».
وكما بلغنا عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قال: أربعة أحاديث تدور عن رسول الله في الأسواق ليس لها أصل: من بشرني بخروج آذار بشرته بالجنة، ومن آذى ذميا فأنا خصمه يوم القيامة، ويوم نحركم يوم صومكم، وللسائل حق وإن جاء على فرس.
وينقسم من وجه آخر إلى:
ما هو مشهور بين أهل الحديث وغيرهم، كقوله : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده». وأشباهه.
وإلى ما هو مشهور بين أهل الحديث خاصة دون غيرهم، كالذي رويناه عن محمد بن عبد الله الأنصاري، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن أنس: أن رسول الله قنت شهرا بعد الركوع، يدعو على رعِل وذكوان.
فهذا مشهور بين أهل الحديث، مخرج في الصحيح، وله رواه عن أنس غير أبي مجلز، ورواة عن أبي مجلز غير التيمي، ورواة عن التيمي غير الأنصاري، ولا يعلم ذلك إلا أهل الصنعة. وأما غيرهم فقد يستغربونه من حيث: إن التيمي يروي عن أنس، وهو ههنا يروي عن واحد، عن أنس.
ومن المشهور المتواتر الذي يذكره أهل الفقه وأصوله. وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، وإن كان الحافظ الخطيب قد ذكره، ففي كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث، ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم ولا يكاد يوجد في رواياتهم، فإنه: عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصِّل العلم بصدقه ضرورة، ولا بد في إسناده من استمرار هذا الشرط في رواته من أوله إلى منتهاه.
ومن سُئل عن إبراز مثال لذلك فيما يروى من الحديث أعياه تطلبه.
وحديث: إنما الأعمال بالنيات ليس من ذلك بسبيل، وإن نقله عدد التواتر وزيادة، لأن ذلك طرأ عليه في وسط إسناده، ولم يوجد في أوائله على ما سبق ذكره.
نعم حديث: «من كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» نُراه مثالا لذلك، فإنه نقله من الصحابة رضي الله عنهم العدد الجم، وهو في الصحيحين، مروي عن جماعة منهم.
وذكر أبو بكر البزار الحافظ الجليل في مسنده أنه رواه عن رسول الله ، نحو من أربعين رجلا من الصحابة.
وذكر بعض الحفاظ: أنه رواه عنه اثنان وستون نفسا من الصحابة، وفيهم العشرة المشهود لهم بالجنة.
قال: وليس في الدنيا حديث اجتمع على روايته العشرة غيره، ولا يعرف حديث يُروى عن أكثر من ستين نفسا من الصحابة عن رسول الله ، إلا هذا الحديث الواحد.
قلت: وبلغ بهم بعض أهل الحديث أكثر من هذا العدد، وفي بعض ذلك عدد التواتر. ثم لم يزل عدد رواته في ازدياد وهلم جرا، على التوالي والاستمرار، والله أعلم.
النوع الحادي والثلاثون: معرفة الغريب والعزيز من الحديث
روينا عن أبي عبد الله بن منده الحافظ الأصبهاني، أنه قال: الغريب من الحديث، كحديث الزهري، وقتادة وأشباههما من الأئمة ممن يجمع حديثهم، إذا انفرد الرجل عنهم بالحديث يسمى: غريبا.
فإذا روى عنهم رجلان وثلاثة، واشتركوا في حديث يسمى: عزيزا.
فإذا روى الجماعة عنهم حديثا سمي: مشهورا.
قلت: الحديث الذي يتفرد به بعض الرواة يوصف بالغريب، وكذلك الحديث الذي يتفرد فيه بعضهم بأمر لا يذكره فيه غيره: إما في متنه، وإما في إسناده. وليس كل ما يعد من أنواع الأفراد معدودا من أنواع الغريب، كما في الأفراد المضافة إلى البلاد، على ما سبق شرحه.
ثم إن الغريب ينقسم إلى: صحيح، كالأفراد المخرجة في الصحيح، وإلى غير صحيح، وذلك هو الغالب على الغريب.
روينا عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قال غير مرة: لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرايب، فإنها مناكير، وعامتها عن الضعفاء.
وينقسم الغريب أيضا من وجه آخر:
فمنه ما هو غريب متنا وإسنادا، وهو الحديث الذي تفرد برواية متنه راوٍ واحد.
ومنه ما هو غريب إسنادا لا متنا، كالحديث الذي متنه معروف، مروي عن جماعة من الصحابة، إذا تفرد بعضهم بروايته عن صحابي آخر: كان غريبا من ذلك الوجه، مع أن متنه غير غريب.
ومن ذلك غرائب الشيوخ في أسانيد المتون الصحيحة. وهذا الذي يقول فيه الترمذي: غريب من هذا الوجه.
ولا أرى هذا النوع ينعكس، فلا يوجد إذا ما هو غريب متنا وليس غريبا إسنادا، إلا إذا اشتهر الحديث الفرد عمن تفرد به، فرواه عنه عدد كثيرون، فإنه يصير غريبا مشهورا، وغريبا متنا وغير غريب إسنادا، لكن بالنظر إلى أحد طرفي الإسناد: فإن إسناده متصف بالغرابة في طرفه الأول، متصف بالشهرة في طرفه الآخر، كحديث: إنما الأعمال بالنيات وكسائر الغرائب التي اشتملت عليها التصانيف المشتهرة، والله أعلم
النوع الثاني والثلاثين: معرفة غريب الحديث
وهو عبارة عما وقع في متون الأحاديث من الألفاظ الغامضة، البعيدة من الفهم، لقلة استعمالها.
هذا فن مهم، يقبح جهله بأهل الحديث خاصة، ثم بأهل العلم عامة، والخوض فيه ليس بالهين، والخائض فيه حقيق بالتحري جدير بالتوقي.
روينا عنالميموني قال: سئل أحمد بن حنبل عن حرف من غريب الحديث، فقال: سلوا أصحاب الغريب، فإني أكره أن أتكلم في قول رسول الله بالظن فأخطئ.
وبلغنا عن التاريخي محمد بن عبد الملك قال: حدثني أبو قلابة عبد الملك بن محمد قال: قلت للأصمعي يا أبا سعيد، ما معنى قول رسول الله «الجار أحق بسَقبَه». فقال: أنا لا أفسر حديث رسول الله ولكن العرب تزعم أن السقب اللزيق.
ثم إن غير واحد من العلماء صنفوا في ذلك فأحسنوا. وروينا عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ قال: أول من صنف الغريب في الإسلام النضر بن شميل. ومنهم من خالفه فقال: أول من صنف فيه أبو عبيدة معمر بن المثنى. وكتاباهما صغيران.
وصنف بعد ذلك أبو عبيد القاسم بن سلاّم كتابه المشهور، فجمع وأجاد واستقصى، فوقع من أهل العلم بموقع جليل، وصار قدوة في هذا الشأن.
ثم تتَبع القتيبي ما فات أبا عبيد، فوضع فيه كتابه المشهور.
ثم تتّبع أبو سليمان الخطابي ما فاتهما، فوضع في ذلك كتابه المشهور.
فهذه الكتب الثلاثة أمهات الكتب المؤلفة في ذلك. ووراءها مجامع تشتمل من ذلك على زوائد وفوائد كثيرة، ولا ينبغي أن يقلد منها إلا ما كان مصنفوها أئمة أجلة.
وأقوى ما يعتمد عليه في تفسير غريب الحديث: أن يظفر به مفسرا في بعض روايات الحديث. نحو ما روي في حديث ابن صياد أن النبي قال له: «قد خبأت لك خبيئا، فما هو ؟». قال: الدخ.
فهذا خُفي معناه أعضل، وفسره قوم بما لا يصح. وفي معرفة علوم الحديث للحاكم أنه الدَّخ بمعنى الزَّخ الذي هو الجماع، وهذا تخليط فاحش يغيظ العالم والمؤمن.
وإنما معنى الحديث أن النبي قال له: قد أضمرت لك ضميرا، فما هو ؟ فقال: الدُخ، بضم الدال، يعني الدخان، والدخ هو الدخان في لغة، إذ في بعض روايات الحديث ما نصه: ثم قال رسول الله إني قد خبأت لك خبيئا وخبأ له: «يوم تأتي السماء بدخان مبين». فقال ابن صياد هو الدخ. فقال رسول الله «اخسأ، فلن تعدو قدرك». وهذا ثابت صحيح، خرجه الترمذي وغيره. فأدرك ابن صياد من ذلك هذه الكلمة، فحسب على عادة الكهان في اختطاف بعض الشيء من الشياطين، من غير وقوف على تمام البيان. ولهذا قال له: اخسأ، فلن تعدو قدرك أي فلا مزيد لك على قدر إدراك الكهان، والله أعلم.
أصل الإسناد أولا: خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنَّة بالغة من السنن المؤكدة.
روينا من غير وجه عن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه أنه قال: الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
وطلب العلو فيه سنة أيضا ولذلك استحبت الرحلة فيه على ما سبق ذكره.
قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف.
وقد روينا: أن يحيى بن معين رضي الله عنه قيل له في مرضه الذي
مات فيه: ما تشتهي ؟ قال: بيت خالي وإسناد عالي.
قلت: العلو يبعد الإسناد من الخلل، لأن كل رجل من رجاله يحتمل أن يقع الخلل من جهته سهوا أو عمدا ففي قلتهم قلة جهات الخلل، وفي كثرتهم كثرة جهات الخلل، وهذا جليِّ واضح.
ثم إن العلو المطلوب في رواية الحديث على أقسام خمسة:
أولها: القرب من رسول الله بإسناد نظيف غير ضعيف، وذلك من أجل أنواع العلو. وقد روينا عن محمد بن أسلم الطوسي الزاهد العالم رضي الله عنه أنه قال: قُرب الإسناد قُرب أو قُربة إلى الله عز وجل. وهذا كما قال، لأن قرب الإسناد قرب إلى رسول الله ، والقرب إليه قرب إلى الله عز وجل.
الثاني: وهو الذي ذكره الحاكم أبو عبد الله الحافظ: القرب من إمام من أئمة الحديث، وإن كثر العدد من ذلك الإمام إلى رسول الله . فإذا وُجد ذلك في إسناد وصف بالعلو، نظرا إلى قربه من ذلك الإمام وإن لم يكن عاليا بالنسبة إلى رسول الله
وكلام الحاكم يوهم أن القرب من رسول الله لا يعد من العلو المطلوب أصلا.
وهذا غلط من قائله، لأن القرب منه - - بإسناد نظيف غير ضعيف أولى بذلك.
ولا ينازع في هذا من له مسك من معرفة، وكأن الحاكم أراد بكلامه ذلك إثبات العلو للإسناد بقربه من إمام، وإن لم يكن قريبا إلى رسول الله ، والإنكار على من يراعي في ذلك مجرد قرب الإسناد إلى رسول الله وإن كان إسنادا ضعيفا، ولهذا مثل ذلك بحديث أبي هُدْبة، ودينار، والأشج، وأشباههم، والله أعلم.
الثالث: العلو بالنسبة إلى رواية الصحيحين أو أحدهما، أو غيرهما من الكتب المعروفة المعتمدة، وذلك ما اشتهر آخرا من الموافقات، والأبدال، والمساواة، والمصافحة. وقد كَثر اعتناء المحدثين المتأخرين بهذا النوع. وممن وجدت هذا النوع في كلامه أبو بكر الخطيب الحافظ وبعض شيوخه، وأبو نصر بن ماكولا، وأبو عبد الله الحميدي، وغيرهم من طبقتهم وممن جاء بعدهم.
أما الموافقة: فهي أن يقع لك الحديث عن شيخ مسلم فيه - مثلا - عاليا، بعدد أقل من العدد الذي يقع لك به ذلك الحديث عن ذلك الشيخ إذا رويته عن مسلم عنه.
وأما البدل: فمثل أن يقع لك هذا العلو عن شيخ غير شيخ مسلم، هو مثل شيخ مسلم في ذلك الحديث.
وقد يرد البدل إلى الموافقة، فيقال فيما ذكرناه: إنه موافقة عالية في شيخ شيخ مسلم، ولو لم يكن ذلك عاليا فهو أيضا موافقة وبدل، لكن لا يطلق عليه اسم الموافقة والبدل لعدم الالتفات إليه.
وأما المساواة: فهي - في أعصارنا - أن يقل العدد في إسنادك لا إلى شيخ مسلم وأمثاله، ولا إلى شيخ شيخه، بل إلى من هو أبعد من ذلك، كالصحابي، أو من قاربه، وربما كان إلى رسول الله بحيث يقع بينك وبين الصحابي -مثلا - من العدد مثل ما وقع من العدد بين مسلم وبين ذلك الصحابي، فتكون بذلك مساويا لمسلم مثلا في قرب الإسناد وعدد رجاله.
وأما المصافحة: فهي أن تقع هذه المساواة التي وصفناها لشيخك لا لك، فيقع ذلك لك مصافحة، إذ تكون كأنك لقيت مسلما في ذلك الحديث وصافحته به لكونك قد لقيت شيخك المساوي لمسلم.
فإن كانت المساواة لشيخ شيخك كانت المصافحة لشيخك، فتقول: كأن شيخي سمع مسلما وصافحه.
وإن كانت المساواة لشيخ شيخ شيخك فالمصافحة لشيخ شيخك، فتقول فيها: كأن شيخ شيخي سمع مسلما وصافحه. ولك أن لا تذكر لك في ذلك نسبة، بل تقول: كأن فلانا سمعه من مسلم، من غير أن تقول فيهشيخي أو شيخ شيخي.
ثم لا يخفى على المتأمل: أن في المساواة والمصافحة الواقعتين لك لا يلتقي إسنادك وإسناد مسلم - أو نحوه - إلا بعيدا عن شيخ مسلم، فيلتقيان في الصحابي أو قريبا منه. فإن كانت المصافحة التي تذكرها ليست لك، بل لمن فوقك من رجال إسنادك، أمكن التقاء الإسنادين فيها في شيخ مسلم أو أشباهه، وداخلت المصافحة حينئذ الموافقة، فإن معنى الموافقة راجع إلى مساواة ومصافحة مخصوصة، إذ حاصلها: أن بعض من تقدم من رواة إسنادك العالي ساوى أو صافح مسلما أو البخاري، لكونه سمع ممن سمع من شيخهما، مع تأخر طبقته عن طبقتهما.
ويوجد في كثير من العوالي المخرجة لمن تكلم أولا في هذا النوع وطبقتهم المصافحات مع الموافقات والأبدال لما ذكرناه.
ثم اعلم: أن هذا النوع من العلو علو تابع لنزول، إذ لولا نزول ذلك الإمام في إسناده لم تعل أنت في إسنادك. وكنت قد قرأت بمروَ على شيخنا المكثر أبي المظفر عبد الرحيم بن الحافظ المصنف أبي سعد السمعاني رحمهما الله، في أربعيأبي البركات الفراوي حديثا ادعى فيه أنه كأنه سمعه هو أو شيخه من البخاري، فقال الشيخ أبو المظفر: ليس لك بعال، ولكنه للبخاري نازل. وهذا حسن لطيف، يخدش وجه هذا النوع من العلو، والله أعلم.
الرابع: من أنواع العلو : العلو المستفاد من تقدم وفاة الراوي.
مثاله ما أرويه عن شيخ، أخبرني به عن واحد، عن البيهقي الحافظ، عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ أعلى من روايتي لذلك عن شيخ، أخبرني به عن واحد، عن أبي بكر بن خلف، عن الحاكم وإن تساوى الإسنادان في العدد، لتقدم وفاة البيهقي على وفاة ابن خلف، لأنالبيهقي مات سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، ومات ابن خلف سنة سبع وثمانين وأربعمائة.
روينا عن أبي يعلى الخليل بن عبد الله الخليلي الحافظ رحمه الله قال: قد يكون الإسناد يعلو على غيره بتقدم موت راويه، وإن كانا متساويين في العدد. ومثل ذلك من حديث نفسه بمثل ما ذكرناه.
ثم إن هذا كلام في العلو المبني على تقدم الوفاة، المستفاد من نسبة شيخ إلى شيخ، وقياس راو براو.
أما العلو المستفاد من مجرد تقدم وفاة شيخك، من غير نظر إلى قياسه براو آخر، فقد حده بعض أهل هذا الشأن بخمسين سنة. وذلك ما رويناه عن أبي علي الحافظ النيسابوري قال: سمعت أحمد بن عمير الدمشقي - وكان من أركان الحديث - يقول: إسناد خمسين سنة من موت الشيخ إسناد علو. وفيما نروي عن أبي عبد الله بن منده الحافظ قال: إذا مر على الإسناد ثلاثون سنة فهو عال. وهذا أوسع من الأول، والله أعلم.
الخامس: العلو المستفاد من تقدم السماع.
أنبئنا عن محمد بن ناصر الحافظ، عن محمد بن طاهر الحافظ قال: من العلو نقدم السماع.
قلت: وكثير من هذا يدخل في النوع المذكور قبله، وفيه ما لا يدخل في ذلك، بل يمتاز عنه. مثل أن يسمع شخصان من شيخ واحد، وسماع أحدهما من ستين سنة مثلا وسماع الآخر من أربعين سنة. فإذا تساوى السند إليهما في العدد: فالإسناد إلى الأول الذي تقدم سماعه أعلى.
فهذه أنواع العلو على الاستقصاء والإيضاح الشافي، ولله سبحانه وتعالى الحمد كله.
وأما ما رويناه عن الحافظ أبي الطاهر السلفي - رحمه الله - من قوله في أبيات له:
بل علو الحديث بين أولي الحفظ والإتقان صحة الإسناد
وما رويناه عنالوزير نظام الملك من قوله:عندي أن الحديث العالي ما صح عن رسول الله وإن بلغت رواته مائة. فهذا ونحوه ليس من قبيل العلو المتعارف إطلاقه بين أهل الحديث، وإنما هو علو من حيث المعنى فحسب، والله أعلم.
فصل وأما النزول فهو ضد العلو. وما من قسم من أقسام العلو الخمسة إلا وضده قسم من أقسام النزول. فهو إذا خمسة أقسام، وتفصيلها يدرك من تفصيل أقسام العلو على نحو ما تقدم شرحه.
وأما قول الحاكم أبي عبد الله: لعل قائلا يقول، النزول ضد العلو، فمن عرف العلو فقد عرف ضده، وليس كذلك، فإن للنزول مراتب لا يعرفها إلا أهل الصنعة... إلى آخر كلامه، فهذا ليس نفيا لكون النزول ضدا للعلو على الوجه الذي ذكرته، بل نفيا لكونه يعرف بمعرفة العلو. وذلك يليق بما ذكره هو في معرفة العلو، فإنه قصر في بيانه وتفصيله، وليس كذلك ما ذكرناه نحن في معرفة العلو، فإنه مفصل تفصيلا مفهما لمراتب النزول، والعلم عند الله تبارك وتعالى.
ثم إن النزول مفضول مرغوب عنه، والفضيلة للعلو على ما تقدم بيانه ودليله.
وحكىابن خلاد عن بعض أهل النظر أنه قال: التنزل في الإسناد أفضل، واحتج له بما معناه أنه يجب الاجتهاد والنظر في تعديل كل راو وتجريحه، فكلما زادوا كان الاجتهاد أكثر.
وهذا مذهب ضعيف ضعيف الحجة. وقد روينا عن علي بن المديني وأبي عمرو المستملي النيسابوري أنهما قالا: النزول شؤم. وهذا ونحوه مما جاء في ذم النزول مخصوص ببعض النزول، فإن النزول إذا تعين - دون العلو - طريقا إلى فائدة راجحة على فائدة العلو فهو مختار غير مرذول، والله أعلم.
النوع الموفي ثلاثين: معرفة المشهور من الحديث
ومعنى الشهرة مفهوم، وهو منقسم إلى: صحيح، كقوله : «إنما الأعمال بالنيات». وأمثاله.
وإلى غير صحيح: كحديث: «طلب العلم فريضة على كل مسلم».
وكما بلغنا عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قال: أربعة أحاديث تدور عن رسول الله في الأسواق ليس لها أصل: من بشرني بخروج آذار بشرته بالجنة، ومن آذى ذميا فأنا خصمه يوم القيامة، ويوم نحركم يوم صومكم، وللسائل حق وإن جاء على فرس.
وينقسم من وجه آخر إلى:
ما هو مشهور بين أهل الحديث وغيرهم، كقوله : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده». وأشباهه.
وإلى ما هو مشهور بين أهل الحديث خاصة دون غيرهم، كالذي رويناه عن محمد بن عبد الله الأنصاري، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن أنس: أن رسول الله قنت شهرا بعد الركوع، يدعو على رعِل وذكوان.
فهذا مشهور بين أهل الحديث، مخرج في الصحيح، وله رواه عن أنس غير أبي مجلز، ورواة عن أبي مجلز غير التيمي، ورواة عن التيمي غير الأنصاري، ولا يعلم ذلك إلا أهل الصنعة. وأما غيرهم فقد يستغربونه من حيث: إن التيمي يروي عن أنس، وهو ههنا يروي عن واحد، عن أنس.
ومن المشهور المتواتر الذي يذكره أهل الفقه وأصوله. وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، وإن كان الحافظ الخطيب قد ذكره، ففي كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث، ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم ولا يكاد يوجد في رواياتهم، فإنه: عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصِّل العلم بصدقه ضرورة، ولا بد في إسناده من استمرار هذا الشرط في رواته من أوله إلى منتهاه.
ومن سُئل عن إبراز مثال لذلك فيما يروى من الحديث أعياه تطلبه.
وحديث: إنما الأعمال بالنيات ليس من ذلك بسبيل، وإن نقله عدد التواتر وزيادة، لأن ذلك طرأ عليه في وسط إسناده، ولم يوجد في أوائله على ما سبق ذكره.
نعم حديث: «من كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» نُراه مثالا لذلك، فإنه نقله من الصحابة رضي الله عنهم العدد الجم، وهو في الصحيحين، مروي عن جماعة منهم.
وذكر أبو بكر البزار الحافظ الجليل في مسنده أنه رواه عن رسول الله ، نحو من أربعين رجلا من الصحابة.
وذكر بعض الحفاظ: أنه رواه عنه اثنان وستون نفسا من الصحابة، وفيهم العشرة المشهود لهم بالجنة.
قال: وليس في الدنيا حديث اجتمع على روايته العشرة غيره، ولا يعرف حديث يُروى عن أكثر من ستين نفسا من الصحابة عن رسول الله ، إلا هذا الحديث الواحد.
قلت: وبلغ بهم بعض أهل الحديث أكثر من هذا العدد، وفي بعض ذلك عدد التواتر. ثم لم يزل عدد رواته في ازدياد وهلم جرا، على التوالي والاستمرار، والله أعلم.
النوع الحادي والثلاثون: معرفة الغريب والعزيز من الحديث
روينا عن أبي عبد الله بن منده الحافظ الأصبهاني، أنه قال: الغريب من الحديث، كحديث الزهري، وقتادة وأشباههما من الأئمة ممن يجمع حديثهم، إذا انفرد الرجل عنهم بالحديث يسمى: غريبا.
فإذا روى عنهم رجلان وثلاثة، واشتركوا في حديث يسمى: عزيزا.
فإذا روى الجماعة عنهم حديثا سمي: مشهورا.
قلت: الحديث الذي يتفرد به بعض الرواة يوصف بالغريب، وكذلك الحديث الذي يتفرد فيه بعضهم بأمر لا يذكره فيه غيره: إما في متنه، وإما في إسناده. وليس كل ما يعد من أنواع الأفراد معدودا من أنواع الغريب، كما في الأفراد المضافة إلى البلاد، على ما سبق شرحه.
ثم إن الغريب ينقسم إلى: صحيح، كالأفراد المخرجة في الصحيح، وإلى غير صحيح، وذلك هو الغالب على الغريب.
روينا عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قال غير مرة: لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرايب، فإنها مناكير، وعامتها عن الضعفاء.
وينقسم الغريب أيضا من وجه آخر:
فمنه ما هو غريب متنا وإسنادا، وهو الحديث الذي تفرد برواية متنه راوٍ واحد.
ومنه ما هو غريب إسنادا لا متنا، كالحديث الذي متنه معروف، مروي عن جماعة من الصحابة، إذا تفرد بعضهم بروايته عن صحابي آخر: كان غريبا من ذلك الوجه، مع أن متنه غير غريب.
ومن ذلك غرائب الشيوخ في أسانيد المتون الصحيحة. وهذا الذي يقول فيه الترمذي: غريب من هذا الوجه.
ولا أرى هذا النوع ينعكس، فلا يوجد إذا ما هو غريب متنا وليس غريبا إسنادا، إلا إذا اشتهر الحديث الفرد عمن تفرد به، فرواه عنه عدد كثيرون، فإنه يصير غريبا مشهورا، وغريبا متنا وغير غريب إسنادا، لكن بالنظر إلى أحد طرفي الإسناد: فإن إسناده متصف بالغرابة في طرفه الأول، متصف بالشهرة في طرفه الآخر، كحديث: إنما الأعمال بالنيات وكسائر الغرائب التي اشتملت عليها التصانيف المشتهرة، والله أعلم
النوع الثاني والثلاثين: معرفة غريب الحديث
وهو عبارة عما وقع في متون الأحاديث من الألفاظ الغامضة، البعيدة من الفهم، لقلة استعمالها.
هذا فن مهم، يقبح جهله بأهل الحديث خاصة، ثم بأهل العلم عامة، والخوض فيه ليس بالهين، والخائض فيه حقيق بالتحري جدير بالتوقي.
روينا عنالميموني قال: سئل أحمد بن حنبل عن حرف من غريب الحديث، فقال: سلوا أصحاب الغريب، فإني أكره أن أتكلم في قول رسول الله بالظن فأخطئ.
وبلغنا عن التاريخي محمد بن عبد الملك قال: حدثني أبو قلابة عبد الملك بن محمد قال: قلت للأصمعي يا أبا سعيد، ما معنى قول رسول الله «الجار أحق بسَقبَه». فقال: أنا لا أفسر حديث رسول الله ولكن العرب تزعم أن السقب اللزيق.
ثم إن غير واحد من العلماء صنفوا في ذلك فأحسنوا. وروينا عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ قال: أول من صنف الغريب في الإسلام النضر بن شميل. ومنهم من خالفه فقال: أول من صنف فيه أبو عبيدة معمر بن المثنى. وكتاباهما صغيران.
وصنف بعد ذلك أبو عبيد القاسم بن سلاّم كتابه المشهور، فجمع وأجاد واستقصى، فوقع من أهل العلم بموقع جليل، وصار قدوة في هذا الشأن.
ثم تتَبع القتيبي ما فات أبا عبيد، فوضع فيه كتابه المشهور.
ثم تتّبع أبو سليمان الخطابي ما فاتهما، فوضع في ذلك كتابه المشهور.
فهذه الكتب الثلاثة أمهات الكتب المؤلفة في ذلك. ووراءها مجامع تشتمل من ذلك على زوائد وفوائد كثيرة، ولا ينبغي أن يقلد منها إلا ما كان مصنفوها أئمة أجلة.
وأقوى ما يعتمد عليه في تفسير غريب الحديث: أن يظفر به مفسرا في بعض روايات الحديث. نحو ما روي في حديث ابن صياد أن النبي قال له: «قد خبأت لك خبيئا، فما هو ؟». قال: الدخ.
فهذا خُفي معناه أعضل، وفسره قوم بما لا يصح. وفي معرفة علوم الحديث للحاكم أنه الدَّخ بمعنى الزَّخ الذي هو الجماع، وهذا تخليط فاحش يغيظ العالم والمؤمن.
وإنما معنى الحديث أن النبي قال له: قد أضمرت لك ضميرا، فما هو ؟ فقال: الدُخ، بضم الدال، يعني الدخان، والدخ هو الدخان في لغة، إذ في بعض روايات الحديث ما نصه: ثم قال رسول الله إني قد خبأت لك خبيئا وخبأ له: «يوم تأتي السماء بدخان مبين». فقال ابن صياد هو الدخ. فقال رسول الله «اخسأ، فلن تعدو قدرك». وهذا ثابت صحيح، خرجه الترمذي وغيره. فأدرك ابن صياد من ذلك هذه الكلمة، فحسب على عادة الكهان في اختطاف بعض الشيء من الشياطين، من غير وقوف على تمام البيان. ولهذا قال له: اخسأ، فلن تعدو قدرك أي فلا مزيد لك على قدر إدراك الكهان، والله أعلم.
الكلمات المفتاحية :
اعجاز الحديث النبوي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: