الفقه الحنبلي - الزكاة - الصيام

وان قلنا ان الغنى يحصل بخمسين درهما جاز أن يأخذ له ولعائلته حتى يصير لكل واحد منهم خمسون قال أحمد في رواية أبى داود فيمن يعطى الزكاة وله عيال يعطي كل واحد من عياله خمسين خمسين * (مسألة) * (ويعطى العامل قدر أجرته) لان الذي يأخذه بسبب العمل فوجب أن يكون بمقداره (والمؤلف ما يحصل به التأليف لانه المقصود) " مسألة " (والغارم والمكاتب ما يقضيان به دينهما) لان حاجتهما انما تندفع بذلك " مسألة " (والغازي ما يحتاج إليه لغزوه وإن كثر) فيدفع إليه قدر كفايته وشراء السلاح والفرس ان كان فارسا وحمولته ودرعه وسائر ما يحتاج إليه لغزوه وان كثر لان الغزو انما يحصل بذلك، ومتى ادعى انه يريد الغزو قبل قوله لانه لا يمكن اقامة البينة على نيته ويدفع إليه دفعا مراعى، فان لم يغز رده لانه أخذه لذلك، وان مضى إلى الغزو فرجع من الطريق أو لم يتم الغزو الذي دفع إليه من أجله رد ما فضل معه لان الذي أخذ لاجله لم يفعله كله " مسألة " (ولا يزاد أحد منهم على ذلك لما ذكرنا) ولان الدفع لحاجة فوجب أن يتقيد بها، وان اجتمع في واحد سببان كالغارم الفقير دفع إليه لهما لان كل واحد منهما سبب للاخذ فوجب أن يثبت حكمه حيث وجد
" مسألة " (ومن كان ذا عيال أخذ ما يكفيهم لما ذكرنا) " مسألة " (ولا يعطي أحد منهم مع الغنى إلا أربعة: العامل والمؤلف والغارم لاصلاح ذات البين والغازي) يجوز للعامل الاخذ مع الغنى بغير خلاف علمناه لانه يأخذ أجر عمله ولان الله تعالى جعل العامل صنفا غير الفقراء والمساكين فلا يشترط وجود معناهما فيه كما لا يشترط وجود معناه فيهما، وكذلك المؤلف يعطى مع الغنى لظاهر الآية ولانه يأخذ لحاجتنا إليه أشبه العامل ولانهم انما أعطوا لاجل التأليف وذلك يوجد مع الغنى.
والغارم لاصلاح ذات البين والغازي يجوز الدفع إليهم مع الغنى وبهذا قال مالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر.
وقال أبو حنيفة وصاحباه لا يدفع إلا إلى الفقير لعموم قوله عليه السلام " أعلمهم ان عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم " فظاهر هذا انها كلها ترد في الفقراء.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تحل الصدقة إلا لخمسة.
لغاز في سبيل الله أو لغارم " وذكر بقيتهم، ولان الله تعالى جعل الفقراء والمساكين صنفين وعد بعدهما ستة أصناف لم يشترط فيهم الفقر فيجوز لهم الاخذ مع الغنى بظاهر الآية ولان هذا يأخذ لحاجتنا إليه أشبه العامل والمؤلف ولان الغارم لاصلاح ذات البين انما يوثق بضمانه ويقبل إذا كان مليئا ولا ملاءة مع الفقر، فان أدى الغرم من ماله لم يكن له الاخذ من الزكاة لانه لم يبق غارما، وإن استدان وأداها جاز له الاخذ لبقاء الغرم (فصل) وخمسة لا يأخذون إلا مع الحاجة وهم الفقراء والمساكين والمكاتب والغارم لمصلحة نفسه في مباح وابن السبيل لانهم يأخذون لحاجتهم لا لحاجتنا إليهم إلا أن ابن السبيل انما تعتبر حاجته في مكانه وان كان له مال في بلده لانه الآن كالمعدوم، وإذا كان الرجل غنيا وعليه دين لمصلحة لا يطيق قضاءه جاز أن يدفع إليه ما يتم به قضاءه مع ما زاد عن حد الغنى، فإذا قلنا الغنى يحصل بخمسين درهما وله مائة وعليه مائة جاز أن يعطى خمسين ليتم قضاء المائة من غير أن ينقص غناؤه.
قال أحمد لا يعطى من عنده خمسون درهما أو حسابها من الذهب إلا مدينا فيعطى دينه، ومتى أمكنه قضاء الدين من غير نقص من الغنى لم يعط شيئا، وان قلنا ان الغنى لا يحصل إلا بالكفاية
وكان عليه دين إذا قضاه لم يبق له ما يكفيه أعطي ما يتم به قضاء دينه بحيث يبقى له قدر كفايته بعد قضاء الدين على ما ذكرنا، وان قدر على قضائه مع بقاء الكفاية لم يدفع إليه شئ.
وقد روي عن أحمد انه قال إذا كان له مائتان وعليه مثلها لا يعطى من الزكاة لان الغنى خمسون درهما وهذا يدل على انه اعتبر في الدفع إلى الغارم كونه فقيرا، وإذا أعطي للغرم وجب صرفه إلى قضاء الدين، وان أعطي للفقر جاز أن يقضي به دينه
(فصل) وإذا أراد الرجل دفع زكاته إلى الغارم فله أن يسلمها إليه ليدفعها إلى غريمه فان دفعها إلى الغريم قضاء الدين ففيه عن أحمد روايتان: احداهما يجوز ذلك نص عليه أحمد في ما نقل عنه أبو الحرث قال قلت لاحمد رجل عليه ألف وكان على رجل زكاة ماله ألف فأداها عن هذا الذي عليه الدين يجوز هذا من زكاته؟ قال نعم ما أرى بذلك بأسا لانه دفع الزكاة في قضاء دين المدين أشبه ما لو دفعها إليه فقضى بها دينه.
والثانية لا يجوز، قال أحمد أحب الي أن يدفعه إليه حتى يقضي هو عن نفسه، قيل هو محتاج يخاف أن يدفعه إليه فيأكله ولا يقضي دينه قال فقل له يوكله حتى يقضيه.
وظاهر هذا انه لا يدفعها إلى الغريم الا بوكالة الغارم لان الدين انما هو على الغارم فلا يصح قضاؤه الا بتوكيله، ويحتمل أن يحمل هذا على الاستحباب ويكون قضاؤه عنه جائزا، وان كان دافع الزكاة الامام جاز أن يقضيها عنه من غير توكيله لان للامام ولاية عليه في ايفاء الدين ولهذا يجبره عليه إذا امتنع منه " مسألة " (وان فضل مع المكاتب والغارم والغازي وابن السبيل شئ بعد حاجتهم لزمهم رده والباقون يأخذون أخذا مسنقرا فلا يردون شيئا، وظاهر كلام الخرقي ان المكاتب يأخذ أخذا مستقرا) أصناف الزكاة قسمان: قسم يأخذون أخذا مستقرا فلا يراعى حالهم بعد الدفع وهم الفقراء والمساكين والعاملون والمؤلفة فمتى أخذوها ملكوها ملكا مستقرا لا يجب عليهم ردها بحال.
وقسم يأخذون أخذا مراعى وهم أربعة المكاتبون والغارمون والغراة وابن السبيل فان صرفوه في الجهة التي استحقوا لاخذ لاجلها والا استرجع منهم، والفرق بين هذا القسم والذي قبله ان هؤلاء أخذوا لمعنى لم يحصل بأخذهم للزكاة، والقسم الاول صحل المقصود بأخذهم وهو غنى الفقراء
والمساكين وتأليف المؤلفين وأداء أجر العاملين، وان قضى المذكورون في القسم الثاني حاجتهم وفضل معهم فضل ردوا الفضل لانهم أخذوه للحاجة وقد زالت، وذكر الخرقي في غير هذا الباب ان الغازي إذا فضل معه شئ بعد غزوه فهو له لاننا دفعنا إليه قدر الكفاية وانما ضيق على نفسه.
وظاهر قول الخرقي في المكاتب انه يأخذ أخذا مستقرا فلا يرد ما فضل لانه قال وإذا عجز المكاتب ورد في الرق وكان قد تصدق عليه بشئ فهو لسيده ونص عليه أحمد في رواية المروذي والكوسج ونقل عنه حنبل إذا عجز يرد ما في يديه في المكاتبين.
وقال أبو بكر عبد العزيز إن كان باقيا بعينه استرجع منه لانه انما دفع إليه ليعتق به ولم يقع.
وقال القاضي كلام الخرقي محمول على ان الذي بقي في يده لم يكن عين الزكاة وانما نصرف فيها وحصل عوضها وفائدتها، ولو تلف المال الذي في يد هؤلاء بغير تفريط لم يرجع عليهم بشئ
* (مسألة) * (وإن ادعى الفقر من عرف بالغنى لم يقبل قوله إلا ببينة) لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أن المسألة لا تحل لاحد إلا لثلاثة: رجل أصحابته فاقه حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، أو سدادا من عيش " رواه مسلم، ولان الاصل بقاء الغنى فلم يقبل قوله بمجرده فيما يخالف الاصل، وهل يعتبر في البينة على الفقر ثلاثة أو يكتفي باثنين فيه وجهان (أحدهما) لا يكتفي إلا بثلاثة لظاهر الخبر (والثاني) يقبل اثنين لان قولهما يقبل في الفقر بالنسبة في حقوق الآدميين المبنية على الشح والضيق ففي حق الله تعالى أولى والخبر انما ورد في حل المسألة فيقتصر عليه * (مسألة) * (وإن ادعى أنه مكاتب، أو غارم، أو ابن سبيل لم يقبل قوله إلا ببينة) لان الاصل عدم ما يدعيه وبراءة الذمة، فان كان يدعي الغرم من جهة اصلاح ذات البين فالامر فيه ظاهر لا يكاد يخفى ويكفى اشتهار ذلك فان خفي لم يقبل إلا بينة * (مسألة) * (فان صدق المكاتب سيده أو الغارم غريمه فعلى وجهين) (أحدهما) يقبل لان الحق في العبد لسيده، فإذا أقر بانتقال حقه عنه قبل، ولان الغريم إذا
صدق الغارم قبت عليه ما أقر به (والثاني) لا يقبل لانه متهم في أن يواطئه ليأخذ المال به * (مسألة) * (وإن ادعى الفقر من لم يعرف بالغنى قبل قوله لان الاصل عدم الغنى) فان رآه جلدا وذكر أنه لا كسب له أعطاه من غير يمين بعد أن يخبره أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب.
إذا كان الرجل صحيحا جلدا وذكر أنه لا كسب له أعطى من الزكاة وقبل قوله بغير يمين إذا لم يعلم كذبه لان النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الرجلين الذين سألاه ولم يحلفهما، وفي بعض رواياته أنه قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فسألناه من الصدقة فصعد فينا النظر فرآنا جلدين فقال " إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " رواه أبو داود (فصل) وإن رآه متجملا قبل قوله ايضا.
لانه لا يلزم من ذلك الغنى بدليل قوله سبحانه (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) لكن ينبغي أن يخبره أنها زكاة لئلا يكون ممن لا تحل له، وإن رآه ظاهر المسكنة أعطاه منها ولم يحتج أن يبين له شرط جواز الاخذ، ولا أن ما يدفعه إليه زكاة.
قال احمد رحمه الله وقد سئل عن الرجل يدفع زكاته إلى رجل هل يقول له هذه زكاة؟ فقال: يعطيه ويسكت ولا يقرعه فاكتفى بظاهر حاله عن السؤال * (مسألة) * (وإن ادعى أن له عيالا قلد وأعطى) ذكره القاضي وأبو الخطاب كما يقلد في دعوى حاجته، ويحتمل أن لا يقبل إلا ببينة اختاره ابن
عقيل لان الاصل عدمهم، ولا يتعذر اقامة البينة عليه وفارق ما إذا ادعى أنه لا كسب له لانه يدعي ما يوافق الاصل، ولان الاصل عدم الكسب والمال ويتعذر اقامة البينة عليه * (مسألة) * (ومن سافر أو غرم في معصية لم يدفع إليه شئ فان تاب فعلى وجهين) من غرم في معصية كالخمر والزنا والقمار والغناء ونحوه لم يدفع إليه شئ قبل التوبة لانه اعانة على المعصية، وكذلك إذا سافر في معصية فأراد الرجوع إلى بلده لا يدفع إليه شئ قبل التوبة لما ذكرنا، فان تاب من المعصية فقال القاضي وابن عقيل: يدفع إليه لان بقاء الدين في الذمة ليس من المعصية بل يجب تفريغها والاعانة على الواجب قربة لا معصية فأشبه من أتلف ماله في المعاصي حتى افتقر فانه
يدفع إليه من سهم الفقراء (والوجه الثاني) لا يدفع إليه لانه استدانه للمعصية فلم يدفع إليه كما لو لم يتب ولانه لا يؤمن أن يعود إلى الاستدانة للمعاصي ثقة منه بأن دينه يقضى بخلاف من أتلف في المعاصي فانه يعطى لفقره لا لمعصيته، وكذلك من سافر إلى معصية ثم تاب أو أراد الرجوع إلى بلده يجوز الدفع إليه في أحد الوجهين لان رجوعه ليس بمعصية أشبه غيره، بل ربما كان رجوعه إلى بلده تركا للمعصية واقلاعا عنها كالعاق يريد الرجوع إلى أبوية (والوجه الثاني) لا يدفع إليه لان سبب ذلك المعصية أشبه الغارم في المعصية * (مسألة) * (ويستحب صرفها في الاصناف كلها فان اقتصر على انسان واحد اجزأه، وعنه لا يجزئه إلا ثلاثة من كل صنف إلا العامل فانه يجوز أن يكون واحدا) يستحب صرف الزكاة إلى جميع الاصناف، أو إلى من أمكن منهم لانه يخرج بذلك من الخلاف ويحصل الاجزاء يقينا، فان اقتصر على انسان واحد اجزأه وهذا قول عمر وحذيفة وابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير والحسن وعطاء، واليه ذهب الثوري وأبو عبيد وأصحاب الرأي، وروي عن النخعي إن كان المال كثيرا يحتمل الاصناف قسمه عليهم، وإن كان قليلا جاز وضعه في صنف واحد وقال مالك: يتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الاولى فالاولى: وقال عكرمة والشافعي: يجب أن يقسم زكاة كل صنف من ماله على الموجودين من الاصناف الستة الذين سهمانهم ثابتة قسمة على السواء ثم حصة كل صنف منهم لا تصرف إلى أقل من ثلاثة أو أكثر، فان لم يجد إلا واحدا صرف حصة ذلك الصنف إليه.
وروى الاثرم ذلك عن احمد اختاره أبو بكر لان الله تعالى جعل الصدقة لجميعهم وشرك بينهم فيها فلم يجز الاقتصار على بعضهم كأهل الخمس ولنا قول الله تعالى (إن تبدوا الصدقات فنعما هي، وان تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن " اعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم " متفق
عليه، فلم يذكر في الآية والخبر إلا صنفا واحدا (1)، وأمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر وقال لقبيصة " أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها " ولو وجب صرفها إلى جميع الاصناف
لم يجز صرفها إلى واحد، ولانه لا يجب صرفها إلى جميع الاصناف إذا فرقها الساعي فكذلك المالك ولانه لا يجب عليهم تعميم أهل كل صنف بها فجاز الاقتصار على واحد كما لو وصى لجماعة لا يمكن حصرهم ويخرج على هذين المعنيين الخمس فانه يجب على الامام تفريقه على جميع مستحقيه بخلاف الزكاة، وهذا الذي اخترناه هو اللائق بحكمة الشرع وحسنه، إذ غير جائز أن يكلف الله سبحانه وتعالى من وجبت عليه شاة أو صاع من البر أو نصف مثقال دفعه إلى ثمانية عشر نفسا، أو أحد وعشرين نفسا، أو أربعة وعشرين من ثمانية أصناف لكل ثلاثة منهم ثمنها، الغالب تعذر وجودهم في الاقليم العظيم، فكيف يكلف الله تعالى كل من وجبت عليه زكاة جمعهم وإعطاؤهم وهو سبحانه القائل (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وقال (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وأظن من قال بوجوب دفعها على هذا الوجه انما يقوله بلسانه ولا يفعله، ولا يقدر على فعله، وما بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا في صدقة من الصدقات، ولا أحد من خلفائه، ولا من صحابته ولا غيرهم، ولو كان هذا هو الواجب في الشريعة المطهرة لما أغفلوه ولو فعلوه مع مشقته لنقل ولما أهمل، إذ لا يجوز على أهل التواتر اهمال نقل ما تدعو الحاجة إلى نقله لاسيما من كثرة من تجب عليهم الزكاة ووجود ذلك في كل زمان في كل عصر وبلد، وهذا أمر ظاهر ان شاء الله تعالى، والآية انما سيقت لبيان من يجوز الصرف إليه لا لايجاب الصرف إلى الجميع بدليل أنه لا يجب تعميم كل صنف بها، فأما العامل فانه يجوز أن يكون واحدا لانه انما يأخذ أجر عمله فلم تجز الزيادة عليه مع الغناء عنه، ولان الرجل إذا تولى اخراجها بنفسه سقط سهم العامل لعدم الحاجة إليه، فإذا جاز تركهم بالكلية جاز الاقتصار على بعضهم بطريق الاولى (فصل) وقد ذكرنا أنه يستحب تفريقها على من أمكن من الاصناف وتعميمهم بها، فان كان المتولي لتفريقها الساعي استحب احصاء أهل السهمان من عمله حتى يكون فراغه من قبض الصدقات بعد تناهي أسمائهم وانسابهم وحاجاتهم وقدر كفاياتهم ليكون تفريقه عقيب جمع الصدقة، ويبدأ باعطاء العامل لانه يأخذ على وجه المعاوضة فكان استحقاقه أولى، ولذلك إذا عجزت الصدقة عن أجره تمم من بيت المال ولان ما يأخذه أجر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " أعطوا الاجير أجره قبل أن يجف عرقه " ثم الاهم فالاهم، وأهمهم أشدهم حاجة، ويعطى كل صنف قدر كفايته على ما ذكرنا، فان فضلت
عن كفايتهم نقل الفاضل إلى أقرب البلاد إليه وإن نقصت أعطى كل انسان منهم ما يرى * (مسألة) * (ويستحب صرفها إلى أقاربه الذين لا تلزمه مؤنتهم وتفريقها فيهم على قدر حاجتهم
__________
" 1 " لم يقل أحد من المسلمين بجواز دفع جميع الزكاة إلى الفقراء وحدهم مع وجود غيرهم من الاصناف معهم، ولا يتفق مع أصول أحد من أئمة الفقه ان يكون حديث معاذ ناسخا لآية (انما الصدقات) الخ وكذا ما بعده من الاحاديث التى يجب حملها على أحوال أو وقائع لا تنافى الآية.
ولم يقل عكرمة والشافعي ولا احمد في الرواية الاخرى عنه انه يجب على من عليه صاع من زكاة الفطر ان يتكلف البحث في البلد أو القطر 24 حاصلة من ضرب 3 في 8 فيدفعه إليهم كما ذكره الشارح بعبارة كالتهكم أو التجهيل، وانما يقولون بوجوب ما اعتمد هو انه مستحب عند امكانه
إذا تولى الرجل تفريق زكاته استحب أن يبدأ بأقاربه الذين يجوز الدفع إليهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " صدقتك على ذي القرابة صدقة وصلة " رواه الترمذي والنسائي ويخص ذوي الحاجة لانهم أحق، فان استووا في الحاحة فأولاهم أقربهم نسبا * (مسألة) * (ويجوز للسيد دفع زكاته إلى مكاتبه والى غريمه) يجوز للسيد دفع زكاته إلى مكاتبه في الصحيح من المذهب لانه صار معه في باب المعاملة كالاجنبي يجري بينهما الربا فهو كالغريم يدفع زكاته إلى غريمه، ويجوز للمكاتب ردها إلى سيد بحكم الوفاء أشبه إيفاء الغريم دينه بها.
قال ابن عقيل: ويجوز دفع الزكاة إلى سيد المكاتب وفاء عن دين الكتابة وهو الاولى لانه أعجل لعتقه وأوصل إلى المقصود الذي كان الدفع من أجله لانه إذا أخذه المكاتب قد يدفعه وقد لا يدفعه: ونقل حنبل عن احمد أنه قال: قال سفيان لا تعط مكاتبا لك من الزكاة.
قال وسمعت أبا عبد الله يقول: وأنا أرى مثل ذلك.
قال الاثرم: وسمعت أبا عبد الله يسئل: يعطى المكاتب من الزكاة؟ قال المكاتب بمنزلة العبد وكيف يعطى، ومعناه والله أعلم لا يعطي مكاتبه من
الزكاة لانه عبده وماله يرجع إليه إن عجز وإن عتق، وله ولاؤه، ولانه لا تقبل شهادته لمكاتبه ولا شهادة مكاتبه له فلم يعط من زكاته كولده، وكذلك يجوز للرجل دفع زكاته إلى غريمه لانه من جملة الغارمين فان رده إليه الغارم فله أخذه.
نص عليه احمد في رواية مهنا لان الغريم قد ملكه بالاخذ أشبه ما لو وفاه من مال آخر، وإن سقط الدين عن الغريم وحسبه زكاة لم تسقط عنه الزكاة لانه مأمور بادائها وهذا اسقاط.
قال مهنا: سألت أبا عبد الله عن رجل له على رجل دين برهن وليس عنده قضاؤه ولهذا الرجل زكاة مال يريد أن يفرقها على المساكين فيدفع إليه رهنه ويقول له: الدين الذي عليك هو لك: يحسبه من زكاة ماله؟ قال لا يجزئه ذلك.
فقلت له فيدفع إليه زكاته، فان رده إليه قضاء من ماله له أخذه؟ قال نعم.
وقال في موضع آخر: وقيل له فان أعطاه ثم رده إليه؟ قال إذا كان بحيلة فلا يعجبني، قبل له فان استقرض الذي عليه الدين دراهم فقضاه اياها ثم ردها عليه وحسبها من الزكاة قال إذا أراد بهذا احياء ماله فلا يجوز.
فحصل من كلامه أن دفع الزكاة إلى الغريم جائز سواء دفعها ابتداء أو استوفى حقه ثم دفع ما استوفاه إليه، إلا أنه متى قصد بالدفع احياء ماله واستيفاء دينه لم يجز لان الزكاة لحق الله تعالى فلا يجوز صرفها إلى نفعه والله أعلم (فصل) قال رحمه الله: (ولا يجوز دفعها إلى كافر ولا عبد، ولا فقيرة لها زوج غني) قال الشيخ رحمه الله لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن زكاة المال لا تعطى لكافر ولا لمملوك.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الاموال شيئا، وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ " اعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم " فخصهم بصرفها إلى فقرائهم كما خصهم بوجوبها على أغنيائهم، ولان المملوك لا يملك ما يدفع إليه، وانما يملكه سيده فكأنه دفع إلى السيد، ولانه تجب نفقته على السيد فهو غني بغناه (فصل) إلا أن يكون الكافر مؤلفا قلبه فيجوز الدفع إليه، وكذلك إن كان عاملا على احدى الروايتين وقد ذكرنا الخلاف فيه، وكذلك العبد إذا كان عاملا يجوز أن يعطى من الزكاة أجر عمله وقد مضى ذكر ذلك
(فصل) والفقيرة إذا كان لها زوج غني ينفق عليها لم يجز دفع الزكاة إليها لان الكفاية حاصلة لها بما يصلها من النفقة الواجبة فأشبهت من له عقار يستغنى بأجرته، وإن لم ينفق عليها وتعذر ذلك جاز الدفع إليها كما تعطلت منفعة العقار وقد نص احمد على هذا * (مسألة) * (ولا إلى الوالدين وإن علوا، ولا إلى الولد وإن سفل) قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا يجوز دفعها إلى الولدين في الحال التي يجبر الدافع إليهم على النفقة عليهم، ولان دفع زكاته إليهم تغنيهم عن نفقته ويسقطها عنه فيعود نفعها إليه فكأنه دفعها إلى نفسه فلم يجز كما لو قضى بها دينه، وأراد المصنف بالوالدين الاب والام، وقوله وإن علوا يعني آباءهما وأمهاتهما وإن ارتفعت درجتهم من الدافع، كأبوي الاب وأبوي الام من يرث منهم ومن لا يرث، وقوله ولا إلى الولد وإن سفل، يعني وإن نزلت درجته من أولاد البنين وأولاد البنات الوارث وغيره.
نص عليه احمد فقال: لا يعطى الوالدين من الزكاة، ولا الولد، ولا ولد الولد، ولا الجد ولا الجدة، ولا ولد البنت، قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن ابني هذا سيد " يعني الحسن فجعله ابنه لانه من عمودي نسبه فأشبه الوارث، ولان بينهما قرابة جزئية وبعضية بخلاف غيرهما * (مسألة) * قال (ولا إلى الزوجة) وذلك اجماع.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة، وذلك لان نفقتها واجبة عليه فتستغني بها عن أخذ الزكاة، فلم يجز دفعها إليها كما لو دفعها إليها على سبيل الانفاق عليها * (مسألة) * (ولا بني هاشم ولا مواليهم) لا نعلم خلافا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد انما هي أوساخ الناس " أخرجه مسلم، وعن أبي هريرة قال: أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " كخ كخ " ليطرحها وقال " أما شعرت انا لا نأكل الصدقة " متفق عليه، وسواء
أعطوا من خمس الخمس أو لم يعطوا لعموم النصوص، ولان منعهم من الزكاة لشرفهم وشرفهم باق
فيبقى المنع، فان أعطوا منها لغزو أو حمالة جاز ذلك ذكره شيخنا، وإن كان الهاشمي عاملا، أو غارما لم يجزئه الاخذ في أظهر الوجهين وقد ذكرنا ذلك (فصل) وحكم مواليهم حكمهم عند احمد رحمه الله.
وقال أكثر أهل العلم: يجوز الدفع إليهم لانهم ليسوا بقرابة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمنعوا الصدقة كسائر الناس ولنا ما روى أبو رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة فقال لابي رافع اصحبني كيما تصيب منها، فقال لا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال " إنا لا تحل لنا الصدقة، وإن موالي القوم منهم " أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح، ولانهم ممن يرثه بنو هاشم بالتعصيب فلم يجز دفع الصدقة إليهم كبني هاشم وقولهم انهم ليسوا بقرابة، قلنا هم بمنزلة القرابة بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " الولاء لحمة كلحمة النسب " ويثبت فيهم حكم القرابة من الارث والعقل والنفقة فلا يمتنع ثبوت حكم تحريم الصدقة فيهم (فصل) وروى الخلال باسناده عن أبي مليكة أن خالد بن سعيد بن العاص بعث إلى عائشة سفرة من صدقة فردتها وقالت: انا آل محمد لا تحل لنا الصدقة.
وهذا يدل على تحريمها على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم * (مسألة) * (ويجوز لبني هاشم الاخذ من صدقة التطوع، ووصايا الفقراء، والنذور وفي الكفارة وجهان) قال احمد رحمه الله في رواية ابن القاسم انما لا يعطون من الصدقة المفروضة فأما التطوع فلا، وعن احمد رواية أخرى أنهم يمنعون من صدقة التطوع أيضا لعموم قوله عليه السلام " انا لا تحل لنا الصدقة " والاول أظهر، فان النبي صلى الله عليه وسلم قال " المعروف كله صدقة " متفق عليه، وقال الله تعالى (فمن تصدق به فهو كفارة له) وقال تعالى (فنطرة إلي ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم) ولا خلاف في اباحة إيصال المعروف إلى الهاشمي والعفو عنه وانظاره.
وقال أخوة يوسف (وتصدق علينا) والخبر أريد به صدقة الفرض لان الطلب كان لها والالف واللام تعود إلى المعهود، وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، فقلت له أتشرب من الصدقة!
فقال انما حرمت علينا الصدقة المفروضة (1)، ويجوز أن يأخذوا من الوصايا للفقراء ومن النذور لانهما تطوع فأشبه ما لو وصى لهم، وفي الكفارة وجهان (أحدهما) يجوز لانها ليست بزكاة ولا هي أوساخ الناس فأشبهت صدقة التطوع (والثاني) لا يجوز لانها واجبة لايجابه على نفسه أشبهت الزكاة
__________
" 1 " بقي ان تعليل تحريم الصدقة عليهم بأنها من أوساخ أظهر في صدقة التطوع لما فيها من المنة بكونها اختيارية.
وزكاة مال حق في النصاب.
وتسمية المعروف صدقة مجاز واخوة يوسف لم تكن الصدقة محرمة عليهم.
وتقدم مثل هذا في حواشي المغني
ولو أهدى المسكين مما تصدق به عليه إلى الهاشمي حل له لان النبي صلى الله عليه وسلم أكل مما تصدق به على أم عطية وقال " انها بلغت محلها " متفق عليه (فصل) وكل من حرم صدقة الفرض من الاغنياء وقرابة المتصدق ولكافر وغيرهم يجوز دفع صدقة التطوع إليهم ولهم أخذها، قال الله تعالى (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) ولم يكن الاسير يومئذ الا كافرا، وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة فقلت يا رسول الله: ان أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال " نعم صلي أمك " وكسا عمر أخا له مشركا حلة كان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه اياها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد " ان نفقتك على أهلك صدقة، وأن ما تأكل امرأتك صدقة " متفق عليه (1) (فصل) فأما النبي صلى الله عليه وسلم فالظاهر أن الصدقة جميعها كانت محرمة عليه فرضها ونقلها لان اجتنابها كان من دلائل نبوته فلم يكن ليحل بذلك بدليل أن في حديث سلمان الفارسي أن الذي أخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه له قال: انه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة.
وقال أبو هريرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه، فان قيل صدقة قال لاصحابه " كلوا " ولم يأكل، وان قيل هدية ضرب بيديه وأكل معهم أخرجه البخاري.
وقال في لحم تصدق به على بريرة " هو عليها صدقة وهو لينا هدية " ولان النبي صلى الله عليه وسلم كان أشرف الخلق وكان له من المغانم خمس الخمس والصفي فحرم نوعي الصدقة فرضها ونفلها، وآله دونه في الشرف ولهم خمس الخمس وحده فحرموا أحد نوعيها وهو الفرض، وقد روي عن احمد أن صدقة التطوع لم تكن محرمة عليه والصحيح الاول ان شاء الله تعالى لما ذكرنا من
الادلة والله تعالى أعلم * (مسألة) * (وهل يجوز دفعها إلى سائر من تلزمه مؤنته من أقاربه أو إلى الزوج أو بني المطلب على روايتين) الاقارب غير الوالدين قسمان: من لا يرث منهم دفع الزكاة إليه سواء كان انتفاء الارث لانتفاء سببه لكونه بعيد القرابة ليس من أهل الميراث في حال أو كان لمانع مثل أن يكون محجوبا عن الميراث كالاخ المحجوب بالابن والعم المحجوب بالاخ وابنه فيجوز دفع الزكاة إليه لانه لا قرابة جزئية بينهما ولا ميراث فأشبها الاجانب.
والثاني من يرث كالاخوين اللذين يرث كل واحد منهما الآخر ففيه روايتان: إحداهما يجوز لكل واحد منهما دفع زكاته إلى الاخر وهي الظاهرة عنه رواها عنه الجماعة قال في رواية إسحق بن ابراهيم واسحق بن منصور وقد سأله يعطى الاخ والاخت والخالة من الزكاة؟ قال يعطى كل القرابة إلا الابوين والولد وهذا قول أكثر أهل العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الصدقة على المسكين صدقة وهي لذي الرحم اثنتان صدقة وصلة " فلم يشترط نافلة ولا
__________
" 1 " وحديث أسماء متفق عليه أيضا وقال سفيان بن عيينة احد رواته عند البخاري: فأنزل الله فيها (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين)
فريضة ولم يفرق بين الوارث وغيره ولانه ليس من عمودي نسبه فأشبه الاجنبي (والرواية الثانية) لا يجوز دفعها إلى الموروث وهو ظاهر قول الخرقي لان على الوارث مؤنة الموروث فإذا دفع إليه الزكاة أغناه عن مؤنته فيعود نفع زكاته إليه فلم يجز كدفعها إلى والده أو قضاء دينه بها، والحديث يحتمل صدقة التطوع فيحمل عليها.
فعلى هذا إن كان أحدهما يرث الآخر ولا يرثه الآخر كالعمة مع ابن أخيها والعتيق مع معتقه فعلى الوارث منهما نفقة موروثة وليس له دفع زكاته إليه على هذه الرواية وليس على الموروث منهما نفقة وارثة ولا يمنع من دفع الزكاة إليه لانتفاء المقتضي للمنع، ولو كان أخوان لاحدهما ابن والآخر لا ولد له فعلى أبي الابن نفقة أخيه وليس له دفع زكاته إليه وللذي لا ولد له دفع زكاته إلى أخيه ولا تلزمه نفقته لانه محجوب عن ميرائه، ونحو هذا قول الثوري.
فأما ذوو الارحام في الحال يرثون فيها فيجوز دفعها إليهم في ظاهر المذهب لان قرابتهم ضعيفة لا يرث بها مع عصبة ولا ذي فرض غير أحد الزوجين فلم يمنع دفع الزكاة كقرابة سائر المسلمين فان ماله
بصير إليهم عند عدم الوارث (فصل) فان كان في عائلته من لا يجب عليه الانفاق عليه كيتيم أجنبي، فظاهر كلام أحمد انه لا يجوز دفع زكاته إليه لانه ينتفع بدفعها إليه لاغنائه بها عن مؤنته.
والصحيح ان شاء الله جواز دفعها إليه لانه داخل في الاصناف المستحقين للزكاة ولم يرد في منعه نص ولا اجماع ولا قياس صحيح فلم يجز اخراجه عن عموم النص بغير دليل.
وقد روى البخاري ان امرأة عبد الله سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن بني أخ لها أيتام في حجرها فتعطيهم زكاتها؟ قال " نعم " فان قيل فهو ينتفع بدفعها إليه قلنا قد لا ينتفع به لامكان صرفها في مصالحه التي لا يقوم بها الدافع، وان قدر الانتفاع به فانه نفع لا يسقط به واجبا عليه ولا يجتلب به مالا إليه فلم يمنع ذلك الدفع كما لو لم يكن من عائلته (فصل) ويجوز أن يعطي الانسان ذا قرابته من الزكاة لكونه غارما أو مؤلفا أو عاملا أو غارما لاصلاح ذات البين ولا يعطى لغير ذلك (فصل) وفي دفع الزكاة إلى الزوج روايتان: احداهما لا يجوز دفعها إليه اختارها أبو بكر وهو مذهب أبو حنيفة لانه أحد الزوجين فلم يجز دفع الزكاة إليه كالآخر ولانها تنتفع بدفعها إليه لانه ان كان عاجزا عن الانفاق عليها تمكن بأخذ الزكاة من الانفاق فيلزمه وان لم يكن عاجزا لكنه أيسر بها فلزمته نفقة الموسرين فينتفع بها في الحالين فلم يجز لها ذلك كما لو دفعتها في أجرة دار أو نفقة رقيقها أو بهائمها، فان قيل فيلزم على هذا الغريم فانه يجوز له دفع زكاته إلى غريمه ويلزم
الاخذ بذلك وفاء دينه، قلنا الفرق بينهما من وجهين: أحدهما لن حق الزوجة في النفقة آكد من حق الغريم بدليل ان نفقة المرأة مقدمة في مال المفلس على وفاء دينه وانها تملك أخذها من ماله بغير علمه إذا امتنع من أدائها.
والثاني ان المرأة تنبسط في مال زوجها بحكم العادة ويعد مال كل واحد منهما مالا للآخر.
ولهذا قال ابن مسعود في عبد سرق مرآة امرأة سيده: عبدكم سرق مالكم، ولم يقطعه وروى ذلك عن عمر.
والرواية الثانية يجوز للمرأة دفع زكاتها إلى زوجها وهو مذهب الشافعي وابن المنذر وطائفة من أهل العلم لان زينب امرأة عبد الله بن مسعود
قالت يا رسول الله انك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حلي لي فأردت أن أتصدق به فزعم ابن مسعود انه هو وولده أحق من تصدقت عليهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم " رواه البخاري ولانه لا تجب نفقته فلم يمنع دفع الزكاة إليه كالأجنبي، وبهذا فارق الزوجة فان نفقتها واجبة عليه ولان الاصل جواز الدفع إلى الزوج لدخوله في عموم الاصناف المسمين في الزكاة وليس في المنع نص ولا اجماع وقياسه على من يثبت المنع في حقه لا يصح لوضوح الفرق بينهما فيبقى جواز الدفع ثابتا والاستدلال بهذا أقوى من الاستدلال بحديث ابن مسعود لانه في صدقة التطوع لقولها أردت أن أتصدق بحلي لي ولا تجب الصدقة بالحلي وقول النبي صلى الله عليه وسلم " زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم " والولد لا تدفع إليه الزكاة (فصل) وهل يجوز دفع الزكاة إلى بني المطلب على روايتين: احداهما ليس لهم ذلك نقلها عنه عبد الله بن أحمد وغيره لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا اسلام انما نحن وهم شئ واحد " وفي لفظ رواه الشافعي في مسنده " انما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد " وشبك بين أصابعه ولانهم يستحقون من خمس الخمس فمنعوا من الزكاة كبني هاشم.
وقد أكد ذلك ما روي ان النبي صلى الله عليه وسلم علل منعهم من الصدقة باستغنائهم عنها بخمس الخمس فقال " أليس في خمس الخمس ما يغنيكم " والرواية الثانية لهم الاخذ منها وهو قول أبي حنيفة لدخولهم في عموم الصدقات لكن خرج بنو هاشم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ان الصدقة لا تنبغي لآل محمد " فوجب أن يختص المنع بهم ولا يصح قياسهم على بني هاشم لان بني هاشم أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأشرف وهم آل النبي صلى الله عليه وسلم ومشاركة بني المطلب لهم في خمس الخمس ما استحقوه بمجرد القرابة بدليل ان بني عبد شمس وبنى نوفل يساوونهم في القرابة ولم يعطوا شيئا وانما شاركوهم بالنصرة أو بهما جميعا والنصرة لا تقتضي منع الزكاة
* (مسألة) * (وان دفعها إلى من لا يستحقها وهو لا يعلم ثم علم لم يجزه إلا الغني إذا ظنه فقيرا في احدي الروايتين)
إذا دفع الزكاة إلى من لا يستحقها جاهلا بحاله كالعبد والكافر والهاشمي وقرابة المعطي ممن لا يجوز دفعها إليه لم يجزئه رواية واحدة لانه ليس بمستحق ولا يخفى حاله غالبا فلم يجزئه الدفع إليه كديون الآدميين.
فأما ان أعطى من يظنه فقيرا فبان غنيا ففيه روايتان: احداهما يجزئه اختارها أبو بكر وهو قول الحسن وأبي عبيد وأبي حنيفة لان النبي صلى الله عليه وسلم اعطى الرجلين الجلدين وقال " إن شئتما أعطيتكما منها ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " وقال للرجل الذي سأله من الصدقة " إن كنت من تلك الاجزاء أعطيتك حقك " ولو اعتبر حقيقة الغنى لما اكتفى بقولهم.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " قال رجل لاتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني، فأتي فقيل له: أما صدقتك فقد تقبلت لعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله " رواه النسائي.
والرواية الثانية لا يجزيه لانه دفع الواجب إلى غير مستحقه فلم يخرج من عهدته كما لو دفعها إلى كافر أو ذي قرابة وكديون الآدميين.
وهذا قول الثوري وأبي يوسف وابن المنذر، وللشافعي قولان كالروايتين والاول أولى ان شاء الله تعالى لان الفقر والغنى يعسر الاطلاع عليه والمعرفة بحقيقته قال الله تعالى: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم) فاكتفى بظهور الفقر ودعواه بخلاف غيره والله أعلم.
(فصل) وصدقة التطوع مستحبة في جميع الاوقات لقول الله تعالى (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) وأمر بالصدقة في آيات كثيرة وحث عليها ورغب فيها، وروى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا طيب فان الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل " متفق عليه.
وصدقة السر أفضل من العلانية لقول الله تعالى (إن تبدو الصدقات فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " ذكر منهم رجلا " تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " متفق عليه.
وروي عنه عليه الصلاة والسلام انه قال " صدقة السر تطفئ غضب الرب " رواه الترمذي * (مسألة) * (وأفضل ما تكون في شهر رمضان وأوقات الحاجات)
لقول الله تعالى (أو اطعام في يوم ذي مسغبة) ولان الحسنات تضاعف في شهر رمضان وفيها
اعانة على أداء الصوم المفروض، ومن فطر صائما كان له مثل أجره.
وتستحب الصدقة على ذي القرابة لقوله سبحانه (يتيما ذا مقربة) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة " وهو حديث حسن، وسألت زينب امرأة ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يسعها أن تضع صدقتها في زوجها وبني أخ لها يتامى قال " نعم لها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة " رواه النسائي.
ويستحب أن يخص بالصدقة من اشتدت حاجته لقول الله تعالى (أو مسكينا ذا متربة) * (مسألة) * (وتستحب الصدقة بالفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه على الدوام) لقول النبي صلى الله عليه وسلم " خير الصدقة ما كان عن ظهر غني وابدأ بمن تعول " متفق عليه فان تصدق بما ينقص مؤنة من تلزمه مؤنته اثم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " كفى بالمرء اثما أن يضيع من يقوت " وروى أبو هريرة قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة فقام رجل فقال: يا رسول الله عندي دينار، فقال " تصدق به على نفسك " فقال عندي آخر، قال " تصدق به على ولدك " قال عندي آخر، قال " تصدق به على زوجك " قال عندي آخر، قال " تصدق به على خادمك " قال عندي آخر، قال " أنت أبصر " رواهما أبو داود، فان وافقه عياله على الايثار فهو أفضل لقوله بعالى (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أفضل الصدقة جهد من مقل إلى فقير في السر " * (مسألة) * (ومن أراد الصدقة بماله كله وهو يعلم من نفسه حسن التوكل والصبر عن المسألة فله ذلك وإن لم يثق من نفسه بذلك كره له) من أراد الصدقة بجميع ماله وكان وحده أو كان لمن يمونه كفايتهم وكان مكتسبا أو واثقا من نفسه بحسن التوكل والصبر على الفقر والتعفف عن المسألة فله ذلك لما ذكرنا من الآية والخبر في المسألة قبلها، ولما روى عمر رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أبقيت لاهلك " قلت أبقيت لهم مثله، فأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال له " ما أبقيت لاهلك " قال أبقيت
لهم الله ورسوله، فقلت لا أسابقك إلى شئ أبدا، فكان هذا فضيلة في حق الصديق رضي الله عنه لقوة يقينه وكمال إيمانه وكان تاجرا ذا مكسب، فانه قال حين ولي: قد علم الناس أن مكسبي لم يكن ليعجز عن مؤنة عيالي، وإن لم يوجد في المتصدق أحد هذين كره له لما روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إد جاء رجل بمثل بيضة من ذهب فقال يا رسول الله: أصبت هذه من معدن خذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الايمن فقال مثل ذلك فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الايسر فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم
أتاه من خلفه فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها فلو أصابته لعقرته أو لاوجعته، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يستكف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غني " فقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على المعنى الذي كره الصدقة بجميع ماله وهو " أن يستكف الناس " أي يتعرض للصدقة فيأخذها ببطن كفه، يقال تكفف واستكف إذا فعل ذلك وروى النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجلا ثوبين من الصدقة، ثم حث على الصدقة فطرح الرجل أحد ثوبيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألم تروا إلى هذا دخل بهيئة بذة فأعطيته ثوبين ثم قلت تصدقوا فطرح أحد ثوبيه " خذ ثوبك وانتهره، ولان الانسان إذا أخرج جميع ماله لا يأمن فتنة الفقر وشدة نزاع النفس إلى ما خرج منه فيندم فيذهب ماله ويبطل أجره ويصير كلا على الناس * (مسألة) * (ويكره لمن لا صبر له على الضيق أن ينقص نفسه من الكفاية التامة) والله أعلم * (تم طبع الجزء الثاني) * من كتاب المغني وهو الذي في أعلى الصحائف وكتاب الشرح الكبير للمقنع وهو الذي في أدناها وكان ذلك في أواخر شهر رجب من سنة 1345 ه ويليه الجزء الثالث وأوله في الكتابين (كتاب الصيام)
الشرح الكبير - عبدالرحمن بن قدامه ج 3
الشرح الكبير
عبدالرحمن بن قدامه ج 3
الشرح الكبير على متن المقنع تأليف الشيخ الامام (شمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد ابن قدامة المقدسي) المتوفى سنة 682 ه.
على مذهب امام الائمة (أبي عبد الله أحمد بن محمد ابن حنبل الشيباني) مع بيان الخلاف سائر الائمة وأدلتهم رضي الله عنهم الجزء الثالث دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين (كتاب الصيام) الصيام في اللغة عبار عن الامساك يقال صام النهار إذا وقف سير الشمس، وقال سبحانه وتعالى حكاية عن مريم (إني نذرت للرحمن صوما) أي إمساكا عن الكلام وقال الشاعر خيل صيام وخيل غير صائمة * تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما يعنى بالصائمة الممسكة عن الصهيل، وهو في الشرع عبارة عن الامساك عن أشياء مخصوصة في وقت مخصوص يأتي بيانه إن شاء الله.
وصوم رمضان واجب والاصل في وجوبه الكتاب والسنة والاجماع، اما الكتاب فقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) إلى قوله (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم " بني الاسلام على خمس " وذكر منها صوم رمضان، وعن طلحة بن عبيد الله أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال يارسول الله أخبرني ما ذا فرض الله علي من الصيام؟ فقال " شهر رمضان " فقال هل علي غيره؟ فقال " لا، إلا أن تتطوع شيئا "
قال فاخبرني ماذا فرض علي من الزكاة؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الاسلام فقال والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفلح ان صدق
أو دخل الجنة إن صدق " متفق عليهما، وأجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان (فصل) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة " متفق عليه وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " لا تقولوا جاء رمضان فان رمضان اسم من أسماء الله تعالى " فيتعين حمل هذا على انه لا يقال ذلك غير مقترن بما يدل على إرادة الشهر لئلا يخالف الاحاديث الصحيحة.
والمستحب مع ذلك أن تقول شهر رمضان كما قال تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) واختلف في المعنى الذي سمي لاجله رمضان، فروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " انما سمي رمضان لانه يحرق الذنوب " فيحتمل إنه أراد انه شرع صومه دون غيره ليوافق اسمه معناه، وقيل هو اسم موضوع لغير معنى كسائر الشهور وقيل غير ذلك (فصل) والصوم المشروع هو الامساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس روي معنى ذلك عن عمر وابن عباس وبه قال عطاء وعوام أهل العلم، وروي عن علي رضي الله عنه انه لما صلى الفجر قال: الآن حين تبين الخيط الابيض من الخيط الاسود، وعن ابن مسعود نحوه وقال مسروق لم يكونوا يعدون الفجر فجركم انما كانوا يعدون الفجر الذي يملا البيوت والطرق وهذا قول الاعمش
ولنا قول الله تعالى (حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر) يعنى بياض النهار من سواد الليل وهذا يحصل بطلوع الفجر.
قال ابن عبد البر: قول النبي صلى الله عليه وسلم ان بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " دليل على ان الخيط الابيض هو الصباح وان السحور لا يكون إلا قبل الفجر وهذا إجماع لم يخالف فيه إلا الاعمش وحده فشذ ولم يعرج أحد على قوله، والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال هذا قول جماعة من علماء المسلمين (مسألة) قال (ويجب صوم رمضان برؤية الهلال فان لم ير مع الصحو أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ثم صاموا، فان حال دون منظره غيم أو قتر ليلة الثلاثين وجب صيامه بنية رمضان في ظاهر المذهب وعنه لا يجب وعنه الناس تبع الامام فان صام صاموا) وجملة من ذلك أن صوم رمضان يجب بأحد ثلاثة أشياء (أحدها) رؤية هلال رمضان يجب به
الصوم إجماعا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته " متفق عليه (الثاني) كمال شعبان ثلاثين يوما يجب به الصوم لانه يتيقن به دخول شهر رمضان ولا نعلم فيه خلافا، ويستحب للناس
ترائى الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ليحتاطوا لصيامهم ويسلموا من الاختلاف.
وقد روى الترمذي عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " أحصوا هلال شعبان لرمضان " (فصل) ويستحب لمن رأى الهلال أن يقول ماروى ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال " الله اكبر، اللهم أهله علينا بالامن والايمان والسلامة والاسلام والتوفيق لما تحب وترضى، ربي وربك الله " رواه الاثرم (الثالث) أن يحول دون منظره ليلة الثلاثين من شعبان غيم أو قتر فيجب صيامه في ظاهر المذهب ويجزيه إن كان من شهر رمضان اختارها الخرقي وأكثر شيوخ اصحابنا وهو مذهب عمر وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة وأنس ومعاوية وعائشة وأسماء أبنتي أبي بكر وبه قال بكر بن عبد الله المزني وأبو عثمان النهدي وأبن أبي مريم ومطرف وميمون بن مهران وطاوس ومجاهد وعن أحمد رواية ثانية لا يجب صومه ولا يجزيه عن رمضان إن صامه وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وكثير من أهل العلم لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فان غمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما " رواه البخاري وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان غمي عليكم فاقدروا له ثلاثين " رواه مسلم، وقد صح ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الشك وهذا يوم شك ولان الاصل بقاء شعبان فلا ينتقل بالشك وعنه رواية ثالثة ان الناس تبع للامام فان صام صاموا وإن أفطر أفطروا وهو قول الحسن وابن سيرين لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والاضحى يوم تضحون " قيل معناه ان الصوم والفطر مع الجماعة ومعظم الناس قال الترمذي حديث حسن غريب ووجه الرواية الاولى ماروى نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " انما الشهر تسع وعشرون
فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فان غم عليكم فاقدروا له " قال نافع كان عبد الله
ابن عمر إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما يبعث من ينظر له الهلال فان رؤي فذاك وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا، وان حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما ومعنى أقدروا له أي ضيقوا له من قوله تعالى (ومن قدر عليه رزقه) أي ضيق عليه وقوله (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) والتضييق له أن يجعل شعبان تسعة وعشرون يوما، وقد فسره أبن عمر بفعله وهو رواية وأعلم بمعناه فيجب الرجوع إلى تفسيره كما رجع إليه في تفسير التفرق في خيار المتبايعين ولانه شك في أحد طرفي الشهر لم يظهر فيه انه من غير رمضان فوجب الصوم كالطرف الآخر، قال علي وأبو هريرة وعائشة: لان أصوم يوما من شعبان أحب الي من أن أفطر يوما من رمضان، ولان الصوم يحتاط له ولذلك وجب الصوم بخبر واحد ولم يفطروا إلا بشهادة اثنين.
فأما خبر أبي هريرة الذي احتجوا به فانه يرويه محمد بن زياد وقد خالفه سعيد بن المسيب فرواه عن أبي هريرة " فان غم عليكم فصوموا ثلاثين " وروايته أولى لامامته واشتهار ثقته وعدالته وموافقته لرأي أبي هريرة ومذهبه ولخبر أبن عمر الذي رويناه ويمكن حمله على ما إذا غم في طرفي الشهر ورواية ابن عمر " فاقدروا له ثلاثين " مخالفة للرواية الصحيحة المتفق عليها ولمذهب ابن عمر، ورواية النهي عن صوم يوم الشك محمول على حال الصحو جمعا بينه وبين ما ذكرنا (مسألة) (وإذا رأى الهلال نهارا قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المقبلة) المشهور عن أحمد ان الهلال إذا رؤي نهارا قبل الزوال أو بعده وكان ذلك في آخر رمضان لم يفطروا برؤيته وهذا قول عمر وابن مسعود وابن عمر وأنس والاوزاعي ومالك والليث وأبي حنيفة والشافعي وإسحاق، وحكي عن أحمد انه إن رؤي قبل الزوال فهو للماضية وإن كان بعده فهو لليلة المقبلة، وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه رواه سعيد وبه قال الثوري وأبو يوسف لان النبي صلى الله عليه وسلم قال " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " وقد رأوه فيجب الصوم والفطر ولان ما قبل الزوال أقرب إلى الماضية ولنا ما روى أبو وائل قال جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين ان الاهلة بعضها أقرب من بعض فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى تمسوا أو يشهد رجلان انهما رأياه بالامس عشية ولانه قول من سمينا من الصحابة، وخبرهم محمول على ما إذا رؤي عشية بدليل ما لو رؤي بعد الزوال، ثم ان
الخبر انما يقتضي الصوم والفطر من الغد بدليل ما لو رآه عشية، فأما ان كانت الرؤية في أول رمضان فالصحيح أيضا أنها لليلة المقبلة وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وعن أحمد رواية اخرى انه للماضية، فعلى هذا يلزم قضاء ذلك اليوم وامساك بقيته احتياطا للعبادة لان ما كان لليلة المقبلة في آخره فهو لها في أوله كما لو رؤي بعد العصر
(مسألة) (وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم) هذا قول الليث وبعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم ان كان بين البلدين مسافة قريبة لا تختلف المطالع لاجلها كبغداد والبصرة لزم أهلها الصوم برؤية الهلال في أحدهما، وان كان بينهما بعد كالحجاز والعراق والشام فلكل أهل بلد رؤيتهم، وروي عن عكرمة انه قال لكل أهل بلد رؤيتهم وهو مذهب القاسم وسالم وإسحاق لما روى كريب قال قدمت الشام واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال؟ فقلت رأيناه ليلة الجمعة، فقال أنت رأيته ليلة الجمعة؟ فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية.
فقال لكن رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه.
فقلت ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم ولنا قول الله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وقول النبي صلى الله عليه وسلم للاعرابي لما قال له: الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال نعم.
وأجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان وقد ثبت ان هذا اليوم من شهر رمضان بشهادة الثقاة فوجب صومه على جميع المسلمين ولان شهر رمضان ما بين الهلالين وقد ثبت انه هذا اليوم منه في سائر الاحكام من حلول الدين ووقوع الطلاق والعتاق ووجوب
النذر وغير ذلك من الاحكام فيجب صيامه بالنص والاجماع ولان البينة العادلة شهدت برؤية الهلال فيجب الصوم كما لو تقاربت البلدان.
فأما حديث كريب فانما دل على انهم لا يفطرون بقول كريب وحده ونحن نقول به وانما محل الخلاف وجوب قضاء اليوم الاول وليس في الحديث
فان قيل فقد قلتم إن الناس إذا صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوما أفطروا في أحد الوجهين قلنا الجواب عنه من وجهين: أحدهما أننا انما قلنا يفطرون إذا صاموا بشهادته فيكون فطرهم مبنيا على صومهم بشهادته وهاهنا لم يصوموا بقوله فلم يوجد ما يجوز بناء الفطر عليه.
الثاني ان الحديث دل على صحة الوجه الآخر (مسألة) (ويقبل في هلال رمضان قول عدل واحد ولا يقبل في سائر الشهور إلا عدلان) المشهور عن أحمد انه يقبل في هلال رمضان قول عدل واحد ويلزم الناس الصوم بقوله وهو قول عمر وعلى وابن عمر وابن المبارك والشافعي في الصحيح عنه، وروي عن أحمد انه قال اثنين أعجب إلي، وقال أبو بكر إن رآه وحده ثم قدم المصر صام الناس بقوله على ما روي في الحديث، وان كان الواحد في جماعة الناس فذكر انه رآه دونهم لم يقبل ألا قول اثنين لانهم يعاينون ما عاين وروي عن عثمان رضي الله عنه لا يقبل إلا شهادة اثنين وهو قول مالك والليث والاوزاعي وإسحاق
لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب انه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم وانهم حدثوني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته وانسكوا لها، فان غم عليكم فأتموا ثلاثين، وان شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وافطروا " رواه النسائي ولان هذه شهادة على رؤية الهلال أشبهت الشهادة على هلال شوال، وقال أبو حنيفة في الغيم كقولنا وفي الصحو لا يقبل الا الاستفاضة لانه لا يجوز ان ينظر الجماعة إلى مطلع الهلال وأبصارهم والموانع منتفية فيراه واحد دون الباقين ولنا ماروى ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رأيت الهلال قال " أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله " قال نعم.
قال يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا " رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وروى ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم اني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه رواه أبو داود ولانه خبر عن وقت الفريضة فيما طريقه المشاهدة فقبل فيه قول واحد كالخبر بدخول وقت الصلاة ولانه خبر ديني يشترك فيه المخبر والمخبر فقبل من عدل واحد كالرواية وخبرهم انما يدل بمفهومه وخبرنا يدل بمنطوقه وهو أشهر منه فيجب
تقديمه، ويفارق الخبر عن هلال شوال فانه خروج من العبادة وهذا دخول فيها ويتهم في هلال شوال بخلاف مسئلتنا وما ذكره أبو بكر وأبو حنيفة لا يصح لانه يجوز انفراد الواحد به مع لطافة المرئي وبعده (1) ويجوز ان يختلف معرفتهم بالمطلع ومواضع قصدهم وحدة نظرهم ولهذا لو حكم حاكم بشهادة واحد جاز ولو شهد شاهدان وجب قبول شهادتهما عند أبي بكر ولو كان ممتنعا على ما قالوه لم يصح فيه حكم حاكم ولا ثبت بشهادة اثنين، ومن منع ثبوته بشهادة اثنين رد عليه الخبر الاول وقياسه على سائر الحقوق وسائر الشهور، ولو ان جماعة في محفل وشهد منهم اثنان على رجل انه طلق زوجته أو أعتق عبده قبلت شهادتهما، ولو ان اثنين من أهل الجمعة شهدا على الخطيب انه قال على المنبر في الخطبة شيئا لم يشهد به غيرهما لقبلت شهادتهما، وكذلك لو شهدا عليه بفعل وان غيرهما يشاركهما في سلامة السمع وصحة البصر كذا هاهنا (فصل) وان أخبره برؤية الهلال من يثق بقوله لزمه الصوم وان لم يثبت ذلك عند الحاكم لانه خبر بوقت العبادة يشترك فيه المخبر والمخبر أشبه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخبر عن دخول وقت الصلاة ذكره ابن عقيل، ومقتضى هذا انه يلزمه قبول خبره وإن رده الحاكم لان رد الحاكم يجوز أن يكون لعدم علمه بحال المخبر، ولا يتعين ذلك في عدم العدالة وقد يجهل الحاكم عدالة من يعلم غيره عدالته
(فصل) فان كان المخبر امرأة فقياس المذهب قبول قولها وهو قول أبي حنيفة وأحد الوجهين لاصحاب الشافعي لانه خبر ديني أشبه الرواية والخبر عن القبلة ودخول وقت الصلاة ويحتمل أن لا يقبل فيه قول امرأة كهلال شوال (فصل) فأما هلال شوال وغيره من الشهور فلا يقبل فيه الا شهادة عدلين في قول الجميع إلا أبا ثور فانه قال يقبل في هلال شوال قول واحد لانه أحد طرفي شهر رمضان أشبه الاول ولانه خبر يستوي فيه المخبر والمخبر أشبه الرواية وأخبار الديانات.
ولنا خبر عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اجاز شهادة رجل
واحد على رؤية الهلال وكان لا يجيز على شهادة الافطار الا شهادة رجلين ولانها شهادة على هلال لا يدخل بها في العبادة أشبه سائر الشهور وهذا يفارق الخبر لان الخبر يقبل فيه قول المخبر مع وجود المخبر عنه وفلان عن فلان وهذا لا يقبل فيه ذلك فافترقا (فصل) ولا يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين ولا شهادة النساء منفردات وان كثرن وكذلك سائر الشهور لانه مما يطلع عليه الرجال وليس بمال ولا يقصد به المال أشبه القصاص وكان القياس يقتضي مثل ذلك في رمضان لكن تركناه احتياطا للعبادة والله أعلم.
(مسألة) (وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوما فلم يروا الهلال أفطروا) وجها واحدا لان الشهر لا يزيد على ثلاثين ولحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب (مسألة) (وان صاموا بشهادة واحد فلم يروا الهلال فعلى وجهين) (أحدهما) لا يفطرون لقوله عليه السلام " وان شهد اثنان فصوموا وافطروا " ولانه فطر فلم يجز ان يستند إلى شهادة واحد كما لو شهد بهلال شوال (والثاني) يفطرون وهو منصوص الشافعي وحكى عن أبي حنفية لان الصوم إذا وجب وجب الفطر لاستكمال العدة لا بالشهادة وقد يثبت تبعا مالا يثبت أصلا بدليل أن النسب لا يثبت بشهادة النساء وتثبت بها الولاد ويثبت النسب تبعا لها كذا هاهنا (مسألة) (فان صاموا لاجل الغيم لم يفطروا) وجها واحدا لان الصوم انما كان على وجه الاحتياط فلا يجوز الخروج منه للاحتياط أيضا (مسألة) (ومن رأى هلال رمضان وحده وردت شهادته لزمه الصوم) هذا المشهور في المذهب وسواء كان عدلا أو فاسقا شهد عند الحاكم أو لم يشهد قبلت شهادته أو ردت، وهذا قول مالك والليث والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر، وقال اسحاق وعطاء لا يصوم وروي حنبل عن أحمد لا يصوم الا في جماعة الناس، وروي نحوه عن الحسن وابن سيرين
لانه يوم محكوم به من شعبان فاشبه التاسع والعشرين ولنا أنه تيقن أنه من رمضان فلزمه صومه كما لو حكم به الحاكم وكونه محكوما به من شعبان ظاهر
في حق غيره، وأما في الباطن فهو يعلم أنه من رمضان فلزمه صيامه كالعدل (مسألة) (وان رأى هلال شوال وحده لم يفطر) روي ذلك عن مالك والليث وقال الشافعي يحل له أن يأكل بحيث لا يراه أحد لانه تيقنه من شوال فجاز له الاكل كما لو قامت به بينة ولنا ما روى أبو رجاء عن أبى قلابة أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال وقد أصبح الناس صياما فاتيا عمر فذكرا ذلك له فقال لاحدهما أصائم أنت؟ قال بل مفطر قال ما حملك على هذا؟ قال لم أكن لاصوم وقد رأيت الهلال وقال للآخر قال إني صائم قال ما حملك على هذا؟ قال لم أكن لافطر والناس صيام فقال للذي افطر لولا مكان هذا لاوجعت رأسك ثم نودي في الناس أن اخرجوا أخرجه سعيد عن ابن عيينة عن أيوب عن أبي رجاء وانما أراد ضربه لافطاره برؤيته وحده ودفع عنه الضرب لكمال الشهادة به وبصاحبه ولو جاز له الفطر لما أنكر عليه ولا توعده وقالت عائشة انما يفطر يوم الفطر الامام وجماعة المسلمين ولم يعرف لهما مخالف في عصرهما فكان اجماعا ولانه محكوم به من رمضان أشبه اليوم الذي قبله وفارق ما أذا ثبت ببينة لانه محكوم به من شوال بخلاف هذا.
قولهم إنه يتيقن انه من شوال ممنوع فانه يحتمل أن يكون خيل إليه ذلك فرأى شيئا أو شعرة من حاجبه ظنها هلالا ولم تكن (فصل) فان رآه اثنان فلم يشهدا عند الحاكم جاز لمن سمع شهادتهما الفطر إذا عرف عدالتهما ولكل واحد منهما أن يفطر بقولهما إذا عرف عدالة الآخر لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا شهد اثنان فصوموا وافطروا " وان شهدا عند الحاكم فرد شهادتهما لجهله بحالهما فلمن علم عدالتهما الفطر لان رد الحاكم هاهنا ليس بحكم منه وانما هو توقف لعدم علمه فهو كالوقوف عن الحكم انتظارا للبينة، ولهذا لو ثبتت عدالتهما بعد ذلك حكم بها وان لم يعرف أحدهما عدالة صاحبه لم يجز له الفطر الا أن يحكم بذلك الحاكم لانه يكون مفطرا برؤيته وحده (مسألة) (وان اشتبهت الاشهر على الاسير تحرى وصام فان وافق الشهر أو ما بعده أجزأه وان وافق قبله لم يجزه)
أذا كان الاسير محبوسا أو مطمورا أو في بعض النواحي النائية عن الامصار لا يمكنه تعرف الاشهر بالخبر فاشتبهت عليه الاشهر فانه يتحرى ويجتهد فإذا غلب على ظنه عن امارة تقوم في نفسه
دخول شهر رمضان صامه ولا يخلو من أربعة أحوال (أحدها) أن لا ينكشف له الحال فيصح صومه ويجزئه لانه أدى فرضه باجتهاده فاجزأه كما لو صلى في يوم الغيم بالاجتهاد (الثاني) أن ينكشف أنه وافق الشهر أو ما بعده فيجزيه في قول عامة العلماء وحكي عن الحسن ابن صالح أنه لا يجزئه في الحالتين لانه صامه على الشك فلم يجزئه كما لو صام يوم الشك فبان من رمضان والاول أولى لانه أدى فرضه بالاجتهاد في محله فإذا أصاب أو لم يعلم الحال أجزأه كالقبلة إذا اشتبهت أو الصلاة في يوم الغيم إذا اشتبه وقتها وفارق يوم الشك فانه ليس بمحل للاجتهاد فان الشرع أمر بصومه عند أمارة عينها فما لم توجد لم يجز الصوم (الحال الثالث) وافق قبل الشهر فلا يجزئه في قول عامة الفقهاء، وقال بعض الشافعية يجزئه في أحد القولين كما لو أشتبه يوم عرفة فوقفوا قبله، ولنا أنه أتى بالعبادة قبل وقتها فلم يجزئه كالصلاة في يوم الغيم، وأما الحج فلا نسلمه الا فيما أذ اخطأ الناس كلهم لعظم المشقة وان وقع ذلك لبعضهم لم يجزهم ولان ذلك لا يؤمن مثله في القضاء بخلاف الصوم.
(الحال الرابع) أن يوافق بعضه رمضان دون بعض فما وافق رمضان أو بعده أجزأه وما وافق قبله لم يجزئه (فصل) وإذا وافق صومه بعد الشهر اعتبر أن يكون ما صامه بعدد أيام شهره الذي فاته سواء وافق ما بين الهلالين أو لم يوافق وسواء كان الشهران تامين أو ناقصين ولا يجزئه أقل من ذلك وقال القاضي ظاهر كلام الخرقي أنه إذا وافق شهرا بين هلالين أجزأه سواء كان الشهران تامين أو ناقصين أو أحدهما تاما والآخر ناقصا وليس بصحيح فان الله تعالى قال (فعدة من أيام أخر) ولانه فاته شهر رمضان فوجب أن يكون صيامه بعدد ما فاته كالمريض والمسافر وليس في كلام الخرقي تعرض لهذا التفصيل فلا يجوز حمل كلامه على ما يخالف الكتاب والصواب، فان قيل اليس إذا نذر صوم شهر
يجزئه مابين الهلالين؟ قلنا الاطلاق يحمل على ما تناوله الاسم والاسم يتناول ما بين الهلالين وهنا يجب قضاء ما ترك فيجب أن يراعي فيه عدة المتروك كما أن من نذر صلاة أجزأه ركعتان ولو ترك صلاة وجب قضاؤها بعدد ركعاتها كذلك هاهنا الواجب بعدد ما فاته من الايام سواء كان ما صامه بين هلالين أو بين شهرين فان دخل في صيامه يوم عيد لم يعتد به وان وافق أيام التشريق فهل يعتد بها؟ على روايتين بناء على صحة صومها عن الفرض (فصل) فان لم يغلب على ظن الاسير دخول رمضان فصام لم يجزه وان وافق الشهر لانه صامه
على الشك فلم يجزئه كما لو نوى ليلة الشك ان كان غدا من رمضان فهو فرضي وان غلب على ظنه من غير أمارة فقال القاضي عليه الصيام ويقضي إذا عرف الشهر كالذي خفيت عليه دلائل القبلة فصلى على حسب حاله فانه يعيد وذكر أبو بكر فيمن خفيت عليه دلائل القبلة هل يعيد على وجهين كذلك يخرج على قوله هاهنا وظاهر كلام الخرقي أنه يتحرى فمتى غلب على ظنه دخول الشهر صح صومه وان لم يبن على دليل لانه ليس في وسعه معرفة الدليل (ولا يكلف الله نفسا الا وسعها) (فصل) وإذا صام تطوعا فوافق شهر رمضان لم يجزئه نص عليه أحمد وبه قال الشافعي، وقال أصحاب الرأي يجزئه وهو مبني على وجوب تعيين النية لرمضان وسنذكره إن شاء الله تعالى (مسألة) (ولا يجب الصوم الا على المسلم البالغ العاقل القادر على الصوم ولا يجب على كافر ولا مجنون ولا صبي) يجب الصوم على من وجدت فيه هذه الشروط بغير خلاف لما ذكرنا من الادلة ولا يجب على كافر أصليا كان أو مرتدا في الصحيح من المذهب لانه عبادة لا تصح منه في حال كفره ولا يجب عليه قضاؤها إذا أسلم لقوله تعالى (قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) وفيه رواية أخرى ان القضاء يجب على المرتد إذا أسلم وهو مذهب الشافعي لانه قد اعتقد وجوبها عليه بخلاف الكافر الاصلي فعلى هذا يجب عليه في حال ردته لعموم الادلة وسنذكر ذلك في باب المرتد إن شاء الله تعالى ولا يجب على مجنون لقوله صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق "
ولا يصح منه لانه غير عاقل أشبه بالطفل (فصل) فأما الصبي العاقل الذي يطيق الصوم فيصح منه ولا يجب عليه حتى يبلغ وكذلك الجارية نص عليه أحمد وهذا قول أكثر أهل العلم، وذهب بعض أصحابه إلى أنه يجب على الغلام الذي يطيقه إذا بلغ عشرا لما روى ابن جريج عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام شهر رمضان " ولانها عبادة بدنية أشبهت الصلاة، والمذهب الاول قال القاضي المذهب عندي رواية واحدة ان الصلاة والصوم لا تجب حتى يبلغ، وما قاله أحمد فيمن ترك الصلاة يقضيها نحمله على الاستحباب لما ذكرنا من الحديث ولانها عبادة فلم تجب على الصبي كالحج، وحديثهم مرسل ويمكن حمله على الاستحباب وسماه واجبا تأكيدا كقوله عليه السلام " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم " وفي ذلك جمع بين الحديثين فكان أولى، وما قاسوا عليه ممنوع
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: