• 20‏/4‏/2016

    الشافعية فقه -الاجارة - الجعالة - الصلح - الحوالة ج 27

    الخيارات في عقد الإجارة
    1 ـ خيار المجلس وخيار الشرط : لا يثبت في عقد الإجارة خيار المجلس ولا خيار الشرط ، لأن عقد الإجارة من عقود الغرر ، لأنها عقد علي معدوم ، وهي المنافع ، فإنها معدومة

    عند العقد ، وإنما شرعت تيسيراً لحاجة الناس إليها .
    والخيار أيضاً غرر ، فلا يكون فيها ، لأنه يصير عندئذ ضم غرر إلي غرر ، ولا يصحّ التعاقد حال وجود الغرر الكثير .
    2 ـ خيار العيب : أما خيار العيب فإنه يثبت في إجارة العين ، فإذا حدث عيب بالعين المؤجرة ، وأثّر في منفعتها تأثيراً يظهر في تفاوت أُجرتها حال كونها سليمة وحال كونها معيبة بذلك العيب ، كما لو استأجر أرضاً للزراعة فانقطع ماؤها ، أو سيارة للركوب فعطبت عجلاتها ولم يبادر المؤجِّر إلي إصلاح ذلك العيب ، كان المستأجر بالخيار بين إمضاء الإجارة أو فسخها ، ولا شيء عليه حال الفسخ إن كان قبل مضي شيء من الوقت ، فإن كان بعد مضي شيء من الوقت لمثله أُجرة : ثبت عليه قسطه من الأجرة المسماة في العقد .
    ... ولا يثبت خيار العيب في إجارة الذمة ، فإذا أحضر المؤجر عيناً تُستوفي منها المنفعة المعقود عليها في الذمة ، ثم تعيَّبت تلك العين المحضرة ، وجب علي المؤجر أن يُحضر بدلها ، لأن المعقود عليه في الذمة مقَّيد بوصف السلامة ، وما أحضره غير سليم ، فإذا لم يرض به المستأجر رجع إلي ما في الذمة ، فلا ينفسخ عقد الإجارة.
    اختلاف المؤجر والمستأجر في دعوي الرد أو التلف
    أ ـ دعوي التلف : إذا تلفت العين المؤجرة أو تعيّبت في يد المستأجر ، وادعي المستأجر أنه لم يتعدّ بذلك ، وإنما حدث بآفة سماوية أي بسبب قهري خارج عن إرادته ، أو حدث بسبب الاستعمال المأذون به عادة ، وادّعي المؤجر أن ذلك حصل بتعدّ من المستأجر ، من تجاوز في الاستعمال أو تفريط وعدم حفظ للعين المؤجرة.
    ... فالذي يُقبل قوله هو المستأجر ، فيُصدَّق بيمينه ، لأن المؤجر يدّعي التعدّي والمستأجر ينكره ويدّعي عدمه ، والأصل عدم التعدي وبراءة الذمة من الضمان ، فالقول قول مدعي الأصل بيمينه .
    ب ـ دعوي الرد : وإذا اختلف المؤجر والمستأجر : فادعي المستأجر أنه ردّ العين المستأجرة إلي المؤجر ، وأنكر ذلك المؤجر فقال : إنك لم تردّها عليّ . فيقبل قول المؤجر بيمينه ، لأن المستأجر قبض العين المؤجرة لمنفعته ، والأصل عدم الرد ، والمستأجر يدّعيه ، فالقول قول المنكر بيمينه ، فيُقبل قول المؤجرة ، لأنه ينكر الرد ويدّعي الأصل وهو عدم الرد.
    البَاب الثَامن
    الجعَالة
    الجعالة
    تعريفها :
    الجعالة – في اللغة – بفتح الجيم وكسرها وضمها ، وهي اسم لما يجعله الإنسان لغيره على شيء يفعله ، ويقال لها جُعْل وجعيلة .
    وشرعاً : هي التزام عوض معلوم على عمل معَّين ، معلوم أو مجهول ، بمعين أو مجهول . أي يحصل هذا العمل من عامل معين أو مجهول ، وسيتضح لنا معنى التعريف عند الكلام عن أركانها .
    مشروعيتها :
    الجعالة مشروعة ، وقد دلّ على مشروعيتها : ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : انطلق نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافروها ، حتى نزلوا على حيَّ من أحياء العرب ، فاستضافوهم فأبَوْا أن يضيِّفوهم ، فلُدغ سيد ذلك الحيّ ، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء ، فقال بعضهم : لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا ، لعله أن يكون عند بعضهم شيء ، فأتَوْهم فقالوا : يا أيها الرهط ، إن سيدنا لدغ ، وسعَيْنا له بكل شيء لا ينفعه ، فهل عند أحد منكم من شيء ؟ فقال بعضهم : نعم والله إني لأرقي ، ولكن والله لقد استضفناكم فلم يضيَّفونا ، فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً . فصالحوهم على قطيع من الغنم ، فانطلق يتفل عليه ويقرأ : ( الحمد لله رب العالمين ) فكأنما نشط من عقال ، فانطلق يمشي وما به قلبة . قال : فأوفَوْهم جعلهم الذي صالحوهم عليه ، فقال بعضهم : اقسموا ، فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فنذكر له الذي كان ، فننظر ما يأمرنا . فقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له ، فقال : "وما يدريك أنها رقية ؟! " . ثم قال . " قد أصبتم ، اقسموا واضربوا لي معكم سهماً " فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ( البخاري الإجارة ، باب : ما يُعطى في الرقية .. , رقم : 2156 . مسلم : السلام ، باب : جواز أخذ الأُجرة على الرقية ... ، رقم : 2201 ) .
    فقوله - صلى الله عليه وسلم - تقرير لفعلهم ، وهو دليل على مشروعية الجُعْل .
    [ فلدغ : لسعته حية أو عقرب . الرهط : جماعة الرجال ما دون العشرة . لأرقى : من الرقية ، وهي كل كلام يُستشفى به من وجع أو غيره . جعلاً : عطاءً على ما أفعله . فصالحوهم : اتفقوا معهم . قطيع : قبل القطيع ثلاثون من الغنم . يتفل : ينفخ مع بصاق قليل . نشط من عقال : فُك من حبل كان مشدوداً به . قَلَبَة : علة . اضربوا لي : اجعلوا لي منه نصيباً ] .
    واستؤنس لها بقوله تعالى : (قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ ) ( يوسف : 72 ) . فهو وإن كان ورد في شرع من قبلنا ، فقد جاء في شرعنا ما يقرره ، كما علمت من الحديث السابق ، فيُستأنس به للمشروعية ، وإن كان لا يعتبر دليلاً .
    [ صُواع : مكيال خاص . زعيم : ضامن وكفيل ] .
    حكمتها :
    وحكمة مشروعيتها أن الحاجة داعية إلى مثل ذلك ، فقد يفقد الإنسان شيئاً ولا يجد من يتطوع له بالبحث عنه وردّه عليه ، وقد يعجز عن عمل لا تصحّ الإجارة عليه للجهالة فيه ، فيستعين على تحصيل ذلك بمَن يقوم به على جُعْل يلتزمه ، فشُرعت تحقيقاً لهذه المصلحة وتلبية لتلك الحاجة .
    أركانها :
    لها أربعة أركان : عاقدان ، وصيغة ، وعمل ، وعوض .
    العاقدان : وهما :
    * الجاعل : صاحب العمل الذي يلتزم بالجعل ، ويُشترط فيه أن يكون مكلفاً أي بالغاً عاقلاً رشيداً .
    * والعامل : وهو الذي يقوم بالعمل ، ويستحق الجعل عليه . ولا يُشترط أن يكون معَّيناً ، كأن يقول : مَن ردّ علي سيارتي فله كذا ، ولأنه قد يكون له عمل يحتاج إلى إنجازه ، ولا يعرف من يقوم به ، فجاز أن يجعل جعلاً لمن يقوم به ولو كان مجهولاً .
    الصيغة : وهي لفظ يدل على الإذن في العمل المطلوب بعوض ملتزم ، كقول الجاعل : مَن ردّ علي سيارتي – مثلاً – فله كذا . أو أن يقول لطبيب : إن عالجتَ مريضي فبرأ فلك كذا ، أو أن يقول لمعلِّم : إن علّمت ولدي القراءة والكتابة فلك كذا ، ونحو ذلك .
    ... لا يُشترط قبول من يقوم بالعمل ، ولو كان معِّيناً ، لأنها تجوز من إبهام العامل وجهالته ، فيكفي العمل .
    العمل : وهو ما شرطه صاحب المال لاستحقاق الجعل ، من ردّ ضالة ، أو تعليم صبيّ ، أو معالجة مريض ، وما إلى ذلك .
    ... ولا يُشترط أن يكون العمل معلوماً كالمنفعة في الإجارة ، التي قد علمنا أنها تحدَّد بعمل أو زمن ، فتصحّ الجعالة ولو كان العمل مجهولاً ، أي غير محدّد بفعل أو زمن ، فقد يستغرق ردّ الضالة أو تعليم الصبي – مثلاً – زمناً طويلاً أو قصيراً ، وقد يكلفه الكثير من الجهد وقد لا يكلفه ، فكل ذلك جهالة في العمل ، وهي مغتفرة للحاجة إلى ذلك .
    العوض : وهو ما يلتزمه صاحب المال للعامل ، ويشترط أن يكون معلوماً ، لأنه عقد معاوضة ، فلا تجوز بعوض مجهول . فلو شرط جعلاً مجهولاً كان العقد فاسداً ، فإذا قام العامل بالعمل استحق أُجرة المثل ، لأن كل عقد وجب المسمى والمعين في صحيحه وجب المثل في فاسده .
    أحكامها :
    للجعالة أحكام عدّة ، وهي :
    هي عقد جائز أي غير لازم ، بل هو قابل للفسخ من صاحب العمل متى شاء ، كما أن للعامل أن يرجع عن عمله من شاء ، رضي الطرف الآخر أو لم يرض ، علم بذلك أو لم يعلم . وذلك لأنها عقد على عمل مجهول بعرض ، فجاز لكل واحد من المتعاقدين فسخه .
    ... فإن فسخه العامل لم يستحق شيئاً ، ولو قام بشيء من العمل ، لأنه لا يستحق الجعل إلا بالفراغ من العمل – كما ستعلم – وقد تركه ، فسقط حقه.
    وإن فسخ صاحب العمل : فإن كان قبل الشروع بالعمل لم يلزمه شيء، لأنه فسخ قبل أن يستهلك شيئاً من منفعة العامل ، فلم يلزمه شيء. وإن كان بعد الشروع بالعمل لزمه أجرة المثل لمل عُمِل ، لأنه استهلك شيئاً من منفعته بشرط العوض ، فلزمته أُجرته .
    لا يستحق الجعل إلا بإذن صاحب العمل ، كأن يقول : مَن وجد لي ضالّتي الفلانية فله كذا . فإذا عمل عامل بدون إذن لم يستحق شيئاً ، كما إذا وجد إنسان ضالة لآخر فردّها عليه ، أو علّم ولده دون إذن منه ، لأنه بذل منفعته من غير عوض ، فلم يستحقه .
    فإن أذن له بالعمل ولم يشرط له جعلاً : فالمذهب أنه لا يستحق شيئاً، وقيل : تلزمه أُجرة مثل عمله ، إن كان العامل معروفاً أنه يقوم بمثل هذا العمل بالأُجرة .
    وإن أذن لشخص بالعمل ، فعمل غيره فلا شي له ، وإن كان معروفاً بالقيام بهذا العمل بعوض ، لأنه لم يلتزم له بعوض ، فوقع عمله تبرعاً .
    لا يستحق العامل الجعل إلا بالفراغ من العمل ، كالبرء من المرض إن كان الجعل على الشفاء ، أو الحذق بالقراءة والكتابة إن كان على التعليم مثلاً ، أو تسليم الضالة إن كان على ردّها ، وهكذا .
    وإن اشترك في العمل أكثر من واحد اشتركوا في الجعل بالتساوي وإن تفاوت عملهم ، لأن العمل لا ينضبط حتى يوزَّع الجعل بنسبة ما قام به كل منهم .
    تجوز الزيادة والنقص في الجعل قبل الفراغ من العمل ، فلو قال لشخص : اعمل كذا ولك عشرة ، ثم قال : اعمله ولك عشرون أو : ولك خمسة لزمه بالفراغ منه ما قاله أخيراً من العشرين أو الخمسة ، إن كان قاله قبل الشروع بالعمل ، وقد علم به العامل إن كان معيناً ، أو أعلنه صاحب العمل إن كان العامل غير معين .
    ... وإن كان ذلك بعد الشروع بالعمل وجبت أُجرة المثل للعامل ، لأن الالتزام الثاني فسخ للأول ، والفسخ أثناء العمل يقتضي الرجوع إلى أُجرة المثل .
    وكذلك الحال إذا كان قبل الشروع ولم يعلم به العامل المعين ، أو لم يعلنه الملتزم ، استحق أُجرة المثل على الراجح .
    إذا اختلف العامل وصاحب المال : فإن اختلفا في شرط الجعل : فقال العامل شرطت جعلاً على هذا العمل ، وقال صاحب المال : لم أشرط ، فيقبل قول صاحب المال بيمينه ، لأن الأصل عدم الشرط ، ولأن العامل يدّعى عليه الضمان والالتزام ، والأصل عدمه ، والقول المعتبر هو قول مَن يتمسك بالأصل مع يمينه .
    و ... كذلك لو اختلفا في العمل الذي شرط له الجعل : كأن يقول صاحب المال : شرطت الجعل لردّ سيارتي الضائعة ، ويقول العامل : بل شرطته لرد متاعك الفلاني الضائع . أو اختلفا فيمن قام بالعمل : فقال زيد من الناس : أنا الذي قمت بهذا ، وقال صاحب العمل : بل قام به فلان غيرك.
    ففي الصورتين يُصدِّق صاحب العمل بيمينه ، لأن العامل يدعى عليه شرط الجعل في عقد الأصل عدمه ، كما أنه يدّعي عليه شغل ذمته ، والأصل براءة ذمته .
    وإن اختلفا في قدر الجعل أو صفته أو جنسه ، كأن قال العامل : شرطت لي ألف درهم ، فقال صاحب المال : بل شرطت خمسمائة ، أو قال: شرطت عشرة دنانير ، فقال : بل عشرة دراهم ، ونحو ذلك ، تحالفا ، أي حلف كل منهما على إثبات قوله ونفي قول الآخر . فإذا حلفا تساقطت أقوالهما ، واستحق العامل أجرة المثل .
    وكذلك لو اختلفا في العمل : فقال العامل : شرطت لي كذا على هذا العمل وحده ، وقال صاحب العمل : بل شرطته على هذا العمل وذاك .
    ما تختلف به الجعالة عن الإجارة :
    تختلف الجعالة عن الإجارة من أوجه هي :
    جواز الجعالة على عمل مجهول ، بينما لا تصح الإجارة إلا على عمل معلوم .
    تصحّ الجعالة مع عامل غير معيّن ، ولا تصحّ الإجارة مع مجهول .
    في الإجارة لا بدّ من قبول الأجير القائم بالعمل ، وفي الجعالة لا يشترط قبول العامل .
    في الجعالة لا يستحق الجعل إلا بالفراغ من العمل ، ولو شرط تعجيله فسد العقد . وفي الإجارة له أن يشرط تعجيل الأجرة .
    الجعالة عقد جائز كما علمنا ، بينما الإجارة عقد لازم ، ليس لأحدهما أن يفسخه إلا برضا الآخر .
    البَاب التَاسِع
    الصُلح
    الصلح
    تعريفه:
    ... هو – في اللغة – قطع النزاع والتوفيق بين الخصوم وإحلال السلم بينهم .
    ... وشرعاً : عقد يحصل به التوفيق ورفع النزاع .
    مشروعيته :-
    ... الصلح جائز ومشروع ، وربما كان مندوباً إليه ، وقد وصفه القرآن بأنه خير ، قال تعالى :{ والصُّلْحُ خَيْرٌ } ( النساء : 128 ) وذلك دليل على مشروعيته ، لأن كل ما كان خيراً فهو مشروع ، وكل ما كان شراً فهو في شرع الله تعالى ممنوع .
    ... وقال تعالى : {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } ( النساء: 114)
    ... [ نجواهم : حديث الناس وكلامهم ]
    ... وستأتي أدلة أُخرى من القرآن على مشروعيته .
    ... وقد تثبتت مشروعيته أيضاً في السنة .
    ... روى عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( الصلح جائز بين المسلمين ، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً )) . أخرجه الترمذي في أبواب الأحكام ، باب : ما ذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلح بين الناس ، رقم 1352. وأبو داود في الأقضية ، باب : الصلح رقم :3594. وابن ماجه في الأحكام ، باب : في الصلح ، رقم 2353).
    ... وخُصَ المسلمون بالذكر لأنهم المقصودون غالباً في الخطاب ، ولأنهم ألأكثر انقياداً لشرع الله تعالى ، وإلا فغير المسلمين في هذا كالمسلمين .
    وقد أجمع المسلمون في كل العصور على مشروعية الصلح ، وقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال : ( ردّوا الخصوم حتى يصطلحوا ، فإن فصل القضاء يورث الضغائن ) . قال ذلك في حضور الصحابة رضي الله عنهم ، ولم ينكر عليه أحد منهم ، فكان ذلك إجماعاً ذلك منهم على مشروعية الصلح .
    حكمة مشروعيته :
    ... الإسلام دين الوحدة والأُخوة ، والتعاون والتضامن ، ونبذ التفرقة وأسبابها وما يؤدي إليها ، قال تعالى :( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) ( آل عمران : 103) .
    ... ولذا نجد شرع الله تعالى يحثّ الناس على أداء الحقوق لأصحابها ، لأن الإخلال بذلك هو الغالب في إثارة الخصومة والنزاع ، فقال تعالى : (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( البقرة : 188) . وفي موضع آخر قرن بين ذلك وقتل النفس بغير حق ، لأنه غالباً ما يؤدي إليها ، قال تعالى
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ) ( النساء :29) ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحذر من التباغض والتنازع ، لأن نتيجة ذلك التقاتل الذي قد يعود بالناس إلى الكفر ، فيقول : (( لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تقاطعوا ، وكونوا عباد الله إخواناً )) ، ويقول : (( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )) .
    ... ( البخاري : العلم ، باب : الإنصات للعلماء ، رقم : 121 ، والأدب ، باب : ما ينهي عن التحاسد والتدابر ، رقم 5718. مسلم : الإيمان ، باب : بيان معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( ولا ترجعوا بعدي كفاراً ..، رقم 65 ، والبر والصلة والآداب ، باب : تحريم التحاسد والتباغض والتدابر ، رقم 2559 ) .
    ... ويحثَ الناس على ما يمتِّن عرى المحبة بينهم ويزيل بواغث الشقاق ، فيحثّهم على التسامح بدل التشاحح ، وعلى التواصل بدل التقاطع ، فيقول عليه الصلاة والسلام : (( رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى ، وإذا قضى أقتضى )) أحرجة البخاري في البيوع ، باب : السهولة والسماحة في الشراء والبيع ، رقم 1970 ) .
    ... ولما كان الصلح بين الناس ، والسعي في رفع الخصومات من بينهم في طليعة ما يحقّق الأهداف الإسلامية المشار إليها ، شرعه الإسلام وحثّ عليه وجعله من الخير - بل هو الخير – الذي تتطلع إليه القلوب ، وتهواه النفوس السليمة السامية ، التي كانت كبحت جماح الهوى وتغلبت على الشح فيها ، وارتقت فوق المطامع والدنِيِّ من الرغبات ، فكان في ذلك خير للأُمة في كل زمان ومكان ، وكل حادثة وحال .
    ... ونجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيح للمسلم في سبيل الإصلاح أن يقول كلاماً لم يقل ، طالماً أنه من شأنه أن يزيل النزاع ويحل بدله الوفاق ، فيقول : (( ليس الكذِّابُ الذي يُصْلحُ بينَ الناس ، فيَنْمي خيْراً ويقول خيراً )) . ( البخاري : الصلح ، باب : ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس ، رقم : 2546. مسلم : البرّ والصلة والآداب ، باب : تحريم الكذب وبيان المباح منه ، رقم : 2605 ) .
    ... [ ينمي خيراً : من نمي الحديث إذا رفعه وبلغه ونقله بين المتخاصمين ] .
    أنواع الصلح :
    ... الصلح في الشرع أنواع ، وكلها مشروعه ، ومنها :
    الصلح بين دولة المسلمين وغيرهم ، قال تعالى : (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) (الأنفال :61 ) . ومن ذلك صلح الحديبية ، وأمثله كثيرة في سيرته - صلى الله عليه وسلم - .
    الصلح بين أهل العدل من المسلمين وأهل البغي منهم ، قال تعالى : (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) ( الحجرات :9).
    الصلح بين الزوجين عند حصول النزاع بينهما ، قال تعالى (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً ) ( النساء: 128) .
    الصلح بين المتخاصمين في غير الأمور المالية وليس منهم بغاة ، فقد روى سهل بن سعد رضي الله عنه : أن أهل قباء اقتتلوا حتى ترامَوْا بالحجارة ، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال : ( اذهبُوا بنا نُصْلحْ بينهم )). البخاري : الصلح ، باب قول الإمام لأصحابه : اذهبوا بنا نصلح ، رقم : 2547 ) .
    الصلح في المعاملة التي لها علاقة بالمال ، وهو المقصود بالباب لدى الفقهاء عند عنونتهم للصلح ، وأما أنواع الصلح الأُخرى فتبحث ضمن أبوابها .
    الصلح في المعاملة :
    ... قد يجري الصلح في المعاملة بين المتداعيين ، وقد يجري بين المدعي وأجنبي ، ولكل من الحالين أحكام .
    *الصلح بين المدعي والمدعى عليه :
    ... قد يجري الصلح بين المدعي والمدَّعى عليه ، والمدّعى عليه مقرّ بهذا الحق ، الذي ادُّعى عليه به ، ويسمى : الصلح مع الإقرار . وقد يجري الصلح والمدَّعى عليه منكر وغير مقر بما ادُّعى عليه به ، ويسمى ، الصلح مع الإنكار فما حكم كلِّ منهما ؟
    الصلح مع الإنكار :
    وهو أن يدّعي إنسان على آخر حقاً – من دَْين كألف درهم مثلاً ، أو عين كسجادة أو دار – فلا يقر المدعي عليه بذلك ، وينكر أن للمدّعي عليه حقاً ، أو يسكت ، ثم يطلب من المدعي أن يصالحه عمّا أدّعاه ، فما حكم هذا الصلح لو وقع ؟
    والجواب : أن هذا الصلح غير جائز وغير مشروع ، ولو حصل وقع باطلاً لا يترتب عليه أيّ أثر أو حكم من أحكام الصلح التي سنعرفها إن شاء الله تعالى .
    ... والحجة فيه بطلانه : أنه صلح يحلّ حراماً أو يحرّم حلالاً ، وهو غير جائز بنص الحديث السابق الذكر ، إذ قال - صلى الله عليه وسلم - ( الصُّلحُ جائز بين المسلمين ، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً )) (1) .
    وبيان ذلك :
    ... إن المدّعي – إن كان كاذباً في دعواه – يكون بالصلح قد استحل مال غيره ، وهو حرام عليه ، فذلك صلح أحلّ حراماً ، وهو ممنوع .
    __________
    (1) انظر : مشروعية الصلح ، صفحة : 169 .
    ... وإن كان صادقاً ، فقد حرّم على نفسه جزء من ماله ، وهو حلالا عليه ، لأن المدَّعَي عليه اضطره بإنكاره إلى التنازل عنه ، فيكون صلحاً حرّم حلالاً ، وهو ممنوع .
    الصلح مع الإقرار :
    ... وهو أن يدّعي إنسان حقاً على أخر ، من دين أو عين ، فيعترف المدّعي عليه ويقرّ بهذا الحق ، ثم يطلب المصالحة عن ذلك . فإذا حصل الصلح كان جائزاً ووقع صحيحاً ، وترتبت عليه آثار الصلح وأحكامه ، لأنه مما يدخل في أدلة مشروعيته الصلح دخولاً أوليّاً .
    ... وفي هذه الحالة إما أن يكون الحق المدعى المصالَح عنه عيناً ، وإما أن يكون ديناً ، ولكل أحكامه .
    الصلح عن العين :
    ... قد يكون المصالح عليه عن العين بعضها ، ويسمىَ صلح الحَطيِطة ، وقد يكون عيناً أخرى غيرها أو منفعة ، فيسمى صلح المعاوضة .
    صلح الحَطيِطة :
    ... إذا كان الحق المدعى والمصالح عنه عيناً ، وجرى الصلح بين المدّعي والمدّعَى عليه على جزء من هذا العين ، كأن كان داراً فجري الصلح على أن يأخذ المدَّعي نصفها مثلاً ، كان ذلك هبة للنصف الثاني من صاحب الحق المدَّعي لمن العين في يده وهو المدّعَي عليه ، وتأخذ هذه الصورة من الصلح أحكام الهبة التي عرفتها في بابها ، والتي من جملتها اشتراط القبول من المدّعي عليه ونحو ذلك .
    ... ويسمى هذا النوع من الصلح : صلح الحَطيِطة ، لأن صاحب الحق قد حط جزءا عن المدّعي عليه .
    صلح المعاوضة :
    ... وإذا كان حق المدَّعَي المصالح عنه عيناً ، وجرى الصلح بين المدّعي والمدّعَى عليه على أن يدفع المدَّعَى عليه – الذي في يده العين – عيناً أخرى غير المدعاة بدلاً عنه ، كما لو كان المدعي – مثلاً – داراً ، فجرى الصلح على أن يعطيه عوضاً عنها سيارة ، فإن ذلك جائز وصحيح ، ويكون في الحقيقة بيعاً للعين المدعاة بهذه العين المدفوعة ، فيثبت فيه جميع أحكام البيع التي عرفتها : من العلم بالثمن ، وكونه مالاً منتفعاً به شرعاً مثلاً ، كما يثبت فيه خيار المجلس وخيار الشرط وخيار الرد بالعيب ، ويفسده ما يفسد البيع من الشروط على ما علمت ، ويحرم فيه ما يحرم في البيع من الغرر ونحو ذلك .
    ... ويسمى هذا النوع من الصلح في كل صورة : صلح المعاوضة ، لأن صاحب الحق قد استعاض عن حقه بشيء أخر رضي به ، عيناً كان أم منفعة .
    ... وإن جرى الصلح على منفعة عين أُخرى ، كان صالحه عن الدار على استعمال سيارته سنه مثلاً ، كان ذلك الصلح عقد إجارة ، فيثبت فيه أحكام الإجارة لأنه فيه معناها . ... وإن جرى الصلح على منفعة نفس العين المدّعاة ، كأن صالحه على أن يسكن المدّعي الدار المدعاة مثلاً عشر سنوات ثم يردّها إليه ، فهو إعارة ، تثبت فيه أحكامها ، لأنه في معناها .
    الصلح عن الدين :-
    ... وهو أن يدّعي إنسان على أخر دَيْناً ، ألف درهم مثلاً ، فيقر المدّعي عليه بذلك ويتصالحان عنه ، وقد يكون المصالح عليه بعض الدين فيكون صلحه الحَطيِطة ، أو عيناً أو منفعة فيكون صلح المعاوضة .
    صلح الحَطيِطة : أن يختصم مع المدين وهو مقرّ بالدين ، ثم يتصالحا على أن يحطّ عنه قسماً معيناً من الدين ، كان يصالحه عن الألف التي له عليه بخمسمائة .
    ... فهذا صلح صحيح ، ويكون إبراءاً للمدين من بقية الدَّيْن .
    ... روى كعب بن مالك رضي اله عنه : أنه تقاضى عبد الله بن أبي حدرد راضي الله عنه ديناً كان له عليه , في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد , فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهما ، وحتى كشف سجْفَ حُجْرته ، فنادى كعب بن مالك فقال : (( يا كعبُ )) فقال : لبَّيك يا رسولَ الله ، فأشار بيده : أنا ضَعِ الشطر ، فقال كعب : قد فعلت يا رسول الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( قم فأقضه)) . البخاري : باب الصلح ، باب : الصلح بالدَّيْن والعين ، رقم :2563. مسلم : المساقاة ، باب : استحباب الوضع من الدين ، رقم : 1558).
    ... [ تقاضي : طالب بالوفاء . سِجْف حجرته : ستر باب غرفته ] .
    ... ويصح هذا الصلح بلفظ الصلح كما يصح بلفظ الإبراء والحطّ والإسقاط .
    ... فإذا كان بلفظ الإبراء ونحوه لم يشترط فيه القبول ، واشترط فيه تحقق شروط الإبراء ، وهي :
    أن يكون المبرئ من أهل التبرع فيما أبرأ منه ، فلا يصحّ من الولي عن الصبي ، لأنه ليس من أهل التبرع بماله .
    أن يكون عاماً بما أبرأ منه ، فلا يصح أن يقول ، أبرأتك من جزء الدَّيْن ، وكذلك لا يصح لو قال : من ربع الدين وهو يجهل قدره .
    أن يكون الإبراء عن دين ، فإذا كان الصلح عن عين فلا يصحّ بلفظ الإبراء .
    أن يكون معلقاً على شرط ولا مؤقتاً بزمن .
    ... وإذا جرى بلفظ الصلح اشترط فيه القبول كباقي أنواع الصلح .
    إذا لم يؤدي المبرأ بقية الدين :
    ... إذا أبرأ الدائن المدين من جزء من الدين ليؤدَّيَ له الباقي ، ثم امتنع المدين عن أداء ذلك فهل يعود الدين كما كان ، وللدائن أن يطالب بجميعه ؟
    ... والجواب : الأصح أنه لا يعود الدين كما كان ، وليس للدائن أن يطالب إلا بما بقي بعد الإبراء ، لأن الإبراء إسقاط للحق من الذمة ، فبه سقط جزء من الدين من ذمة المدين ، والقاعدة الفقهية تقول : ( الساقط لا يعود ) .
    ... ولذا ينبغي على أصحاب الديون أن ينتبهوا إلى هذا فلا يتلفظوا بالإبراء ونحوه من الألفاظ التي معناه كسامحتك – مثلاً - بما لي عليك ، فإن ديوانهم تسقط من ذمة المدين ، وليس للدائن بعد ذلك مطالبة بها ، سواء أَقبل ذلك الإبراء أم لا ، وسواء أقبل ذلك الإبراء أم لا ، وسواء أكان ذلك في حالة غضب أو نشوة سرور – كما تفعل الزوجات أحياناً حين تبرئ إحداهنّ الزوج مما لها من مؤخَّر في ذمته – أم لا .
    وأما صلح المعاوضة في الدين : فهو أن يدّعي ديناً على أخر ، كألف مثلاً ويقّر له المدَّعَى عليه بذلك ، ثم يصالحه عنها أن يعطيه سلعه معَّينة ، غسالة مثلاً فهذا معاوضة وبيع ، تجري عليه أحكام البيع ، وإذا صالحه على منفعة عين – كأن يسكنه داراً سنة مثلاً – فهو إجارة ، تجري عليها أحكام الإجارة ، كما علمنا عن الصلح في العين .
    *الصلح بين المدَّعي وأجنبي :
    ... وذلك بأن يدّعي إنساناً حقاً على أخر ، فيأتي شخص ثالث غير المدَّعَي عليه ويصالح المدَّعي عمّا أدّعاه . ولهذا الصلح صور حسب حال المدََّعَى عليه وموقف الأجنبي من ذلك ، ولكل صورة حكمها ، إليك بيان ذلك :
    أن يدّعي الأجنبي الوكالة عن المدّعي عليه ويصالح له ، كأن يقول : وكّلني المدّعي عليه أن أصالحك ، وهو مقر لك بما أدّعيت ، ولم ينكر المدَّعي عليه الوكالة بعد ذلك ، وصالح ، كان الصلح صحيحاً ، وصار المصالَح عنه – وهو الحق المدّعى – ملْكاً للمدّعي عليه موكِّل الأجنبي . وإن كان أنكر المدعى عليه الوكالة بعد ذلك كان الصلح باطلاً .
    أن يصالح الأجنبي لنفسه ، بأن يقول : إن فلاناً الذي ادّعيت عليه الحق مقرّ لك به ، وأنا أُصالحك عنه علة كذا ، دون دعوى الوكالة ، فهو كشراء الفضولي ، أي شراء الإنسان لغيرة ، والصحيح أنه باطل .
    أن يكون المدعى علبه منكراً ويقول الأجنبي : هو مبطل في إنكاره ، ويصالح عن الحق المدعى لنفسه ، فهو في حكم بيع المغضوب لغير الغاضب : فإن كان قادراً على انتزاعه من يد المدعى عليه صحّ الصلح ، وإن لم تكن قادراً على ذلك لم يصح .
    أن يكون المدّعى عليه منكراً ، ولم يعرف الأجنبي ببطلان إنكاره ، وصالح المدّعي عن الحق المدعى لنفسه ، فالصلح في هذه الحالة باطل ، ولأنه في حكم شراءه للمدّعي ما لم يثبت له ملكه ، فلا يصح .
    أركان الصلح وشروطها :
    ... للصلح أركان ، لأنه عقد ، ولكن عقد أركانه ، وأركان عقد الصلح أربعه :
    عاقدان ، وصيغة ، ومصالح عنه ، ومصالح عليه .
    الركن الأول : العاقدان :
    ... وهما : المدّعي المصالَح ، والمدَّعَي عليه المصالح ، ويشترط في كل منهما شروط، هي :
    التكليف ، أي أن يكون كلا منهما عاقلاً بالغاً ، فلا يصحّ الصلح من الصبي ولو كان مميزاً ، ولا من المجنون ، لأن الصلح نقد وتصرّف ، وتصرفاتهما غير معتبرة شرعاً وعقودها باطله ، كما علمت مراراً .
    ولاية التصرف في المال ، إذا كان الصلح عن الصغير ، وذلك كالأب والجدّ والوصيّ ، لأن الصلح تصرّف في المال ، ولا يملك التصرّف في مال الصغيرين من الأولياء غير هؤلاء .
    أن لا يكون في الصلح ضرر ظاهر ، إذا كان الصلح من وليّ الصغير عنه ، سواء أكان مدّعياً أو مدّعي عليه .
    - فلو كان الصبي مدّعي عليه ، وصالح وليّه عماً ادعي به على شيء به من مال الصبي :
    فإن كان المدّعي بيِّنه على مدعاه ، وكان ما صالح عليه الولي مثل الحق المدعي به ، أو بزيادة يتغابن الناس بمثلها عادة ، فالصلح جائز . لأن الصلح في معنى المعاوضة ، والولي يلمك المعاوضة لمن تحت ولايته بالغبن اليسر المألوف عادة.
    وإن لم يكن للمدّعي بيِّنة على مدعاه ، أو كان ما صالح عليه الولي أكثر من الحق المدّعي بزيادة فاحشة لا يتغابن الناس بمثلها عادة ، فالصلح باطل .لأن في مل التبرع بمال الصبي ، والتبرع ضرر محض في حقه ، فلا يملكه الولي .
    ... فلو صالح الوليّ من ماله الخاص جاز ، لأنه ما أضرّ الصغير بل نفعه ، حيث قطع الخصومة عنه .
    - ولو كان ولي الصبي هو المدِّعي له ، وصالحه المدَّعَي عليه على حق بعض المدَّعي به وأخذ الباقي :
    فإن كان للولي المدعي بيِّنه على الدين لم يصحّ الصلح ، لأن الحطّ من الدِّيْن تبرع ، وهو لا يملك التبرع للمال الصبي .
    وإن لم يكن للولي المدّعي ، وصالحه على مثل قيمة الحق المدعي به ، أو مع غبن يسير ، صحّ الصلح ، لأنه في معنى البيع من مال الصبي – كما سبق – وهو يملكه فإن كان مع غبن فاحش لم يصح ، لأنه تبرع لا يملكه كما علمت .
    الركن الثاني : الصيغة :
    ... وهي الإيجاب والقبول من المتصالحَيْن ، وكما يقول المدّعي عليه المصالح : صالحتك عن كذا على كذا ، أو : من دعواك كذا على كذا . ويقول الآخر : قبلت ، أو رضيت ، أو صالحت ، ونحو ذلك مما يدل على رضاه وقبوله بهذا الصلح .
    ... وقد مّر معنا أنه يصحّ في بعض أنواعه بلفظ الإبراء والحط وما في معناه .
    الركن الثالث : المصالح عنه :
    ... وهو الحق الذي يدّعيه ، ويطلب منه أن يصالح عنه على عين أو دين أو منفعة ، على ما سبق ، ويشترط فيه شروط :
    أن يكون حقاً لآدمي ، مالاً أم ليس بمال كالقصاص ، فإنه يصحّ الصلح عنه ، فلو استحق إنسان على أخر القصاص ، فصالحه على مال بدل القصاص جاز ، سواء أكان البدل المصالح عليه عيناً – كدار مثلاً – أم ديناً – كألف دينار مثلاً – فإذا كان ديناً اشترط التقابض في مجلس الصلح ، حتى لا يكون دَيْناً بدَيْن .
    ... وتصح المصالحة عن القصاص ، سواء أكان في النفس أم فيما دون النفس من ألأعضاء والجراح .
    ... عن أنس رضي الله عنه : أن الرُّبَيّع – وهي ابنة النضر – كسرت ثِنَيّة جارية ، فطلبوا الأرش وطلبوا العفو فأبوا ، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرهم بالقصاص ، فقال أنس بن النضر : أتُكْسَر ثَنِيِّة الربيع يا رسول الله ؟ لا والذي بعث بالحق لا تكسر ثنيتها . فقال : (( يا أنسُ ، كتاب الله القصاصَ )) . فرضي القوم وعفوا- وفي الرواية وقبلوا الأرش – فقال - صلى الله عليه وسلم - (( إنَّ من عباد الله مَن لو أقْسم على الله لأبَرَّه )) البخاري : الصلح ، باب : الصلح في الدية ، رقم : 2556 . مسلم : القسامة ، باب : إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها ، رقم : 1675 ) .
    [ ابنة النضر : أي عمّة أنس بن مالك بن النضر ، رضي الله عنه وعن عمّه وعمته . ثنية : هي إحدى السنين التي في مقدّم الأسنان . جارية : امرأة شابة أو بنتاً صغيرة . فطلبوا : أي أهل الجانية . الأرش : أن يصالحوا على أن يدفعوا مالاً يقابل الجناية ، القصاص : لكثر سنها . كتاب الله القصاص : أي حكم كتاب الله تعالى يقضي بالقصاص ، فكيف تقول ذلك . لأبرَّه : لحقق له ما أقسم عليه كي لا يقع في الإثم ، لعلمه بصدقه وإخلاصه ) .
    ... فلو كان المصالح عنه حقاً من حقوق الله تعالى ، كان يصالح زانياً على ما يأخذه منه على أن يرفع أمره إلى القضاء – مثلاً – كي لا يقيم عليه الحد ، لم يصح الصلح ، لأن الحدّ حق الله تعالى ، ولا يصح الاعتياض عن حق الغير على أن الصلح من الحدود صلح يحلّ الحرام فلا يجوز .
    ... عن أبي هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد الجهني رض الله عنهما قالا : جاء أعرابي فقال : يا رسول الله ، اقض بيننا بكتاب الله ، فقام خصمه فقال : صدق ، أقض بيننا بكتاب الله – وفي راوية وائذن لي – فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( قل ) . فقال : إن ابني كان عَسِيفاً على هذا ، فزني بامراته ، فقالوا لي : على ابنك الرجم ، ففديتُ ابني منه بمائة من الغنم ووليدة ، ثم سألت أهل العلم فقالوا : إنما على ابنك الجلد مائة وتغريب عام . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " لأقْضيَنَّ بينكما بكتاب الله ، أما الوليدةُ والغنمُ فردِّ عليك ، وعلى ابنك الجلد مائة و تغريب عام ، وأما أنَت يا أُنَسْ ُ– لرجل – فأغْد على امرأة هذا فارْجُمها ( رواه البخاري في الصلح ، باب : إذا اصطلحوا على صلح جَوْر فالصلح مردود ، رقم : 2549 مسلم في الحدود ، باب : مَن اعترف على نفسه بالزنا ، رقم : 1697) .
    ... ( عسيفاً : أجيراً . وليدة : امرأة مملوكة . أهل العلم : الصحابة العلماء رضي الله عنهم ) .
    ... فقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أما الوليدة والغنم فردّ عليك " دليل صريح في بطلان هذا الصلح الذي جرى على حق من حقوق الله تعالى ، والذي مقتضاه تحليل حرّم الله عز وجل ، وهذا ما صرّح به البخاري رحمه الله تعالى لترجمته للحديث .
    ... ويقاس على حدّ الزنا جميع الحدود التي تغلب فيها حق الله تعالى ، كحدّ السرقة وحدّ القذف ، وإن كان فيها حق للعبد ، ولكن الغالب حق الله تعالى ، وحق العبد مغلوب ، والمغلوب تابع للغالب ، فلا يلتفت إليه شرعاً .
    ... وكذلك لا يصحّ الصلح على ألا شهد عليه ، أي أن يعطيه مالاً كي لا يؤدي الشهادة التي تحمّلها عليه ، لأن الشهادة حق الله تعالى ، قال جلّ وعلا : ( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ )
    ( الطلاق : 2 ) . وقال : (كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ ) ( النساء : 135 ) .
    ... فالصلح عن هذه الحقوق صلح باطل ، ويجب على مَن أخذ المال بدلاً عنها ردّه إلى مَن أخذه منه ، لأنه أخذ بغير حق وكسب خبيث ، وهو فسوق تردّ به الشهادة عند القاضي إذا علم به .
    2- أن يكون حقاً للمصالح ، فإن لم يكن حقاً له لم يصح الصلح ، إلا إن كان الصالح عن الذي تحت ولايته وفي حجرة كما علمت .
    فلو ادّعت امرأة مطلقة أن الولد الذي في يدها ابن زوجها المطلق ، فأنكر زوجها ذلك ، فصالحته عن النسب إليه على شيء ، فالصلح باطل . لأن النسب حق الصبي لا حقها ، فلا تملك المعاوضة عنه .
    3- أن يكون حقاً ثابتاً للمصالح في محل الصلح ، أي ما يرد عليه عقد الصلح . فلو صالح الشفيع – أي الشريك في العقار ونحوه ، الذي باع شريكه حصته لغيره دون علمه ، فإن يحقّ له أخذ هذه الحصة من المشتري بثمنها ، كما ستعلم في باب الشفعة – فلو صالح هذا الشفيع المشتري عن حق الشفعة الذي ثبت له بالشرع على مال معلوم يأخذه منه، على أن يترك الحصة لهذا المشتري ، فإن الصلح باطل ، لأن الشريك الشفيع لا حق له في محل الصلح – وهو حصة شريكه المباعة – حتى يحق له أن يصالح عنها ، وإنما أثبت له الشرع حق التملك القهري لما اشتراه المشتري ، دفعاً لما يتوهم من ضرر الشريك الجديد عليه ، فإذا رضي به فقد سقط حقه ، فليس له أخذ المال منه ، لأنه أخذ لمال غيره بغير عوض .
    4- أن يكون معلوماً ، فلو كان المصالح عنه مجهولاً للمتصالحين أو أحدهما كان الصلح باطلاً ، لما فيه من الغرر المنهي عنه ، فيكون داخلاً في معنى الصلح الذي أحلّ حراماً
    الركن الرابع : المصالح عليه :
    وهو البدل الذي يأخذه المدّعي من المدّعى عليه مقابل ما ادّعاه من الحق ، ويُشترط فيه
    أن يكون مالاً شرعاً ، فلو صالح من الحق الذي ادّعاه على خمر أو خنزير أو أداة لهوِ – مثلاً – لم يصحّ الصلح ، لأن هذه الأشياء ليست بمال شرعاً ، وعقد الصلح فيه معنى المعاوضة ، فالمصالح عنه والمصالح عليه كالمبيع والثمن في عقد البيع ، وما ليس بمال شرعاً لا يصلح عوضاً في البيع ، وما لا يصلح عوضاً في البيع لا يصلح بدلاً في الصلح .
    ولا مانع أن يكون المال المصالح عليه عيناً كسجادة مثلاً ، أو ديناً كألف دينار ، أو منفعة كسكنى دار سنة مثلاً ، لأن مثل ذلك يكون عوضاً في المبايعات وعقود المعاوضة ، فيصح أن يكون بدلاً في الصلح ، وقد مرّ معنا أمثلة كثيرة على ذلك .
    أن يكون مملوكاً للمصالح ، فلو صالح على شيء ثم تبين أنه لا يملكه ، كما لو كان خرج مسروقاً أو مغصوباً أو نحو ذلك ، فإن الصلح يبطل حتى ولو كان المصالَح قد قبضه ، لأنه تبيّن أنه صالح على ما لا يملك ، فتبين أنه لا صلح ، لأنه لا يملك أن يصالح على مال غيره.
    أن يكون المصالح عليه معلوماً للعاقدين ، لأن جهالة البدل تؤدي إلى المنازعة ، وذلك من شأنه أن يفسد العقد .
    التزاحم على الحقوق المشتركة
    جرت عادة الفقهاء أن يعقدوا في كتاب الصلح فصلاً للتزاحم على الحقوق المشتركة ، ويبينوا ما يجوز فيه الصلح منها وما لا يجوز ، ونحن نذكر فيما يلي طرفاً من هذه الحقوق المشتركة :
    1- بناء الروشن والساباط والميزات :
    الروشن : هو الخشب الخارج من الحائط الممتد في الهواء ، ويسمى جناحاً تشبيهاً بجناح الطائر ، ويسمى شرفة أيضاً .
    الساباط : هو السقيفة على حائطين والطريق بينهما .
    الميزاب : مسيل الماء من السطح ، وهو المز راب .
    وهذه الأشياء الثلاثة إما أن تنشأ في طريق نافذ ، أو في طريق غير نافذ ، ولكلّ منهما تفاصيل وأحكام نوجزها فيما يلي :
    أ – إنشاء هذه الأشياء في الطريق النافذ :
    الطريق النافذ : هو ما يستحق المرور فيه كل إنسان ، ولا يختص به واحد دون آخر . هذا الطريق لا يجوز أن يُتصرف فيه بما يضر المارّة ، كإشراع جناح وبناء ساباط ووضع ميزاب . لأن الحق ليس له بل هو للمارة ، فإن فعل ما هو ممنوع منه وجبت إزالته ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " لا ضرر ولا ضرار "
    ( أخرجه ابن ماجه في الأحكام ، باب : مَن بني في حقه ما يضرّ بجاره ، رقم : 2340 ، 2341 . ومالك في الموطأ : الأقضية ، باب القضاء في المرفق : 2/745 ) .
    والذي يقوم بإزالته الحاكم خوفاً من وقوع فتنة ، لكن لكل واحد المطالبة بإزالته لأنه منكر . فإن كان إنشاء ما ذكر غير ضارّ بالمارة ، وكان الطريق خاصاً بالمشاة اشترُط ارتفاعه بحيث إذا مرّ الماشي الطويل وهو حامل على رأسه أو ظهره شيئاً لم يتضرّر به عادة ، واشترط أيضاً أن لا يكون حاجباً للنور بحيث يظلم المكان إظلاماً لا يحتمل .
    وإن كان الطريق غير خاص بالمشاة ، بل هو ممر للفرسان والقوافل ومثلها السيارات في عصرنا هذا ، فيشترط أن يرفع بناء الروشن والساباط بحيث يمر تحته المحمل على البعير مع أخشاب المظلة التي فوق المحمل ومثلها حمولة الشاحنات الكبيرة على اختلافها .
    والأصل في جواز البناء حيث لا ضرر حديث " نصب بيده الكريمة - صلى الله عليه وسلم - ميزاباً في دار عمه العباس وكان شارعاً إلى مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( ذكر في نيل الأوطار [ 5/278] في كتاب الصلح ، باب : إخراج ميازيب المطر إلى الشارع : أنه أخرجه أحمد والبيهقي والحاكم ) .
    فورد النص في الميزاب وقيس عليه الباقي .
    وهذه الأشياء يحرم الصلح عليها سواء أكان الصلح من جانب الإمام أم من غيره ، لأن الهواء لا يفرد بالعقد وإنما هو تابع للقرار ، وهو الأرض الموازية له ، ولأنه إن ضرّ لم يجز فعله بعوض أو غير عوض ، وإن لم يضرّ فالباني مستحق له ، وما يستحقه الإنسان في الطريق لا يجوز أخذ العوض عنه كالمرور .
    ب – إنشاء هذه الأشياء في الطريق غير النافذ :
    الطريق غير النافذ إن كان لواحد فقط فهو ملك له ، وإن كان مشتركاً بين جماعة فلا يجوز له بناء شيء مما ذكر إلا بإذن بقية الشركاء ، ولا يصحّ الصلح على ذلك .
    هذا ويعدّ شريكاً فيما بين رأس الدرب كلُّ مَن نفذ باب داره إليه ، لاَ مَن لاصق جداره الدرب ، ويكون شريكاً فيما بين رأس الدرب وباب داره فقط . أما ما يلي باب داره إلى آخر الدرب فلا حق له فيه ، ولا يعتبر إذنه في البناء أو عدم إذنه .
    2- فتح باب جديد في الدرب :
    يحق لمن كان شريكاً في الدرب أن يفتح باباً جديداً إذا كان الباب المفتوح أقرب على رأس الدرب ، لأنه تنازل منه عن بعض حقه بشرط سدّ القديم . أما إذا كان أبعد من القديم عن رأس الدرب وأقرب إلى نهايته فلا يجوز له فتحه إلا بإذن الشركاء . وكذلك الحكم إذا فتح باباً ثانياً ولم يسدّ الأول . وحيث منع من فتح الباب فصالحه أهل الدرب على مالٍ صح ، لأنه انتفاع بالأرض .
    3- بناء دكة وغرس شجرة في الطريق :
    يحرم أن يبني في الطريق دكة – مصطبة – أو دعامة لجدار وأن يغرس شجرة ، ولو اتسع الطريق ولم يضرّ بالمارّة وأذن به الإمام ، لأنه قد تزدحم المارة فيتعثرون ويضيق الطريق عليهم ، ولأنه إذا طالت المدة أشبه موضعهما الأملاك وانقطع أثر الاستحقاق في الطروق فيه .
    وعلى هذا فلا يجوز المصالحة على ذلك ، إذا كان غرس الأشجار للتملّك الفردي . أما إذا كان الغرس لعموم المسلمين ولمصلحتهم فلا مانع من ذلك حيث لا ضرر .
    4- وضع خشبة على جدار غيره :
    قد يكون الجدار الملاصق ملكاً لشخص آخر ، وعلى هذا فلا يجوز وضع خشبة على هذا الجدار أو غرزها فيه إلا برضا مالكه في المذهب الجديد ، ولا يجبر المالك له إن امتنع ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " لا يحلُّ لامرئ من مال أخيه إلاّ ما أعطاه عن طِيبِ نفْس " ( مسند أحمد : 5/113) ولقوله : " لا ضررَ ولا ضرارَ "(1)
    __________
    (1) انظر تخريجه في الفقرة : أ ، ص 182
    ... وفي المذهب القديم يجوز ذلك ، ويجبر المالك إن امتنع ، لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يَمْنَعَنَّ جار جارَه أن يضعَ خشبهً في جِداره " ثم قال أبو هريرة : ما لي أراكم عنها معرضين ؟! والله لأرْمِيَنّ بها بين أكتافكم
    ( أخرجه البخاري في المظالم ، باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره ، رقم : 2331. ومسلم في المساقاة ، باب : غرز الخشب في جدار الجار ، رقم :1609 ) .
    فلو رضي المالك بوضع الخشبة بلا عوض كان ذلك عارية ، تثبت فيها أحكام العارية فيستفيد بها المستعير مرةِّ واحدة ، حتى لو رفع جذوعه أو سقطت بنفسها ، سقط الجدار ، فبناه صاحبه بتلك الآلة لم يكن له الوضع ثانياً في الأصح ، لأن الإذن يتناول مرة واحدة .
    ولو رضي بوضع الجذوع والبناء عليها بعوض ، فإن أجّر رأس الجدار للبناء فإجارة ، وإن قال بعته للبناء أو بعته حق البناء عليه فالأصح أن هذا العقد فيه شوب بيع وشوب إجارة ، لأن المستحق به منفعة فقط فهو إجارة ، ولكون مؤيداً فهو بيع .
    مبطلات الصلح :
    ويبطل الصلح بأشياء غير ما سبق في مواضعه ، منها :
    1- الإقالة في غير الصلح عن القصاص ، فلو قال أحد المتصالحين للآخر بعد الصلح : أقلني عن هذا الصلح ، أي أحب فسخ هذا العقد ، وقبل الآخر انفسخ الصلح ، لأنه عقد فيه معنى معاوضة المال بالمال ، فكان محتملاً للفسخ كالبيع .
    ... فلو كان الصلح عن القصاص فإنه لا ينفسخ ، لأن الصلح عن القصاص إسقاط محض لحض وليّ الدم في استيفاء القصاص من القاتل ، لأنه عفو عنه ، وقد علمت أن الساقط لا يعود بعد إسقاطه ، فلا يحتمل الفسخ . وفي هذه الحالة يرجع المدّعي على القاتل بالدية ، لا بما صالح عليه ، لأن القصاص سقط لشبهة الصلح ، فيسقط إلى بدله المشروع وهو الدية .
    2- الرد بخيار العيب ، كما لو صالحه على شيء ثم قبضه المصالح ، فوجد فيه عيباً ينقص قيمته عرفاً – على ما عرفت في عقد البيع – فإن له الخيار أن يردّه ، فإذا ردّه انفسخ الصلح وبطل .
    حكم الصلح بعد بطلانه :
    إذا بطل عقد الصلح يرجع المدّعي إلى أصل دعواه إن كان الصلح عن إنكار ، وقد علمت أن الصلح مع الإنكار باطل أصلاً .
    وإذا كان الصلح مع الإقرار : رجع المدَّعي على المدَّعى عليه بالمدَّعى به لا غيره ، لأن بطلان الصلح جعله كأن لم يكن ، وعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الصلح .
    الباب العاشر
    الحوالة
    الحوالة
    تعريفها :
    ... في اللغة : هي النقل أو الانتقال ، قال في المصباح المنير : ( تحول من مكانه انتقل عنه ، وحوّلته تحويلاً نقلته من موضع إلى موضع ... وحوّلت الرداء نقلت كل طرف إلى موضع الآخر ، والحَوالة – بالفتح – مأخوذة من هذا ، فأحلته بديَنْه نقلته إلى ذمة غير ذمتك ، وأحلت الشيء إحالة نقلته أيضاً . ويقال : حال عن العهد أي انتقل عنه وتغيّر ) .
    وفي الاصطلاح : عقد يقتضي نقل دَيْن من ذمة إلى أخرى . قال في "مغني المحتاج " :
    ( ويُطلق على انتقاله من ذمة إلى أُخرى ، والأول هو غالب الاستعمال ) .
    مشروعيتها :
    دلّ على مشروعية الحوالة وجوازها : ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " مَطْلُ الغنيِّ ظُلْم ، فإذا أُتْبع أحدُكم على مليء فلْيَتْبَع " وفي رواية عند أحمد : " ومنْ أُِحِيل على مليء فليَحْتَل " ( البخاري في كتاب الحوالة ، باب : في الحوالة وهل يرجع في الحوالة ، رقم : 2166 . ومسلم في المساقاة ، باب : فضل إنظار المعسر رقم : 1564 . وأحمد في مسنده [ 2/463] ) .
    [ مطل الغني : تأخيره ما استحق عليه أداؤه ، والغني : المستدين الذي يجد لديه ما يفي به دينه . ظلم : تعدّ على حق غيره وهو محرّم عليه. أتبع أحدكم : أحيل مَن كان منكم له دين على غيره . مليء : غني قادر يجد ما يقتضي به الدين فليحتل : فليقبل الحوالة ] .
    وقد أجمع المسلمون في مختلف العصور على مشروعية الحوالة وجوازها ، ولم يُعلم مخالف في هذا .
    وجمهور العلماء على أن الأمر المذكور في الحديث بقوله " فليتبع " وقوله " فليحتل " أمر ندب واستحباب لا أمر فرض وإيجاب . وعليه : فمَن كان له دين على آخر ، فأحاله المستدين على غيره استحبّ له أن يقبل هذه الحوالة ولم يجب عليه ذلك . بل ويعتبر في هذا الاستحباب أن يكون من أُحيل عليه لديه ما يفي بدين المحال ، وان لا يكون في ماله شبهة . فإذا لم يكن لديه وفاء بدين المحال ، أو كان في ماله شبهة لم يكن قبول الحوالة مستحباً في حق المُحال .
    أركان الحوالة وشروطها :
    للحوالة أركان تقوم عليها وتتألف منها ، وكلّ من هذه الأركان له شروط تتعلق به . وإليك بيان هذه الأركان مع بيان ما يتعلق بكلّ منها من شروط :
    1- المُحيل : هو المَدين الذي يحيل دائنه بدَيْنه على غيره . ويُشترط فيه : أن يكون أهلاً للعقد ، أي أن يكون عاقلاً بالغاً ، فلا تصح الحوالة من المجنون والصبي غير المميِّز ، لأنه في حكم الذي لا يعقل ، والعقل شرط لصحة ممارسة التصرفات .
    2- المُحال : وهو الدائن الذي يحال بدينه ليستوفيه من غير مدينه ، أي هو الدائن للمحيل الذي أحاله ليستوفي دينه من غيره ، ويقال له أيضاً : المحتال ، أي طالب الإحالة .
    ويشترط فيه أيضاً : أن يكون أهلاً للعقد ، أي أن يكون عاقلاً ، لأن قبول المحال من أركان عقد الحوالة ، وغير العاقل ليس من أهل القبول . وأن يكون بالغاً أيضاً ، لأن قبول الصبي غير صحيح ، لعدم اعتبار أقواله في المعاملات شرعاً .
    3- المُحال عليه : وهو الذي يلتزم بأداء الدَّيْن للمحال .
    ويشترط فيه : العقل والبلوغ ، فلا تصحّ الحوالة على المجنون ولا على الصبي ولو كان عاقلاً مميزاً ، لأن التزام الدَّيْن وأداءه فيه معنى التبرّع ، وغير البالغ العاقل لا يصح منه التبرع .
    4- المُحال به : وهو الحق الذي يكون للمحال على المحيل ، ويحيله به على المحال عليه .
    ويشترط فيه :
    أ – يكون ديناً : فلا تصحّ الحوالة بالأعيان القائمة ، لأن الحوالة نَقْل حكمي ، لأنها نقل لما في الذمة إلى ذمة أُخرى ، والنقل في الأعيان القائمة نقل حقيقي لا حكمي ، لأنها لا تثبت في الذمة ، فلا حوالة فيها .
    فإذا أحاله ليستوفي عيناً قائمة – كسجادة مثلاً أو غسالة – كانت وكالة لا حوالة ، وتثبت في هذه الحالة أحكام الوكالة لا أحكام الحوالة .
    ب – أن يكون الدين لازماً : كالثمن بعد تسليم المبيع وانتهاء مدة الخيار ، أو آيلاً إلى اللزوم : كالثمن في زمن الخيار ، لأنه يؤول إلى اللزوم بانتهاء مدة الخيار . وهذا هو الأصح ، فلو أحال البائع أحداً على المشتري ليقبض منه الثمن ، صحّت الحوالة .
    وقيل : لا تصح الحوالة بالثمن زمن الخيار ، لأنه دين غير لازم .
    وتصحّ الحوالة بالدَّيْن وإن لم يستقر بعد ، كالصداق قبل الدخول ، والأجرة قبل مضي مدة الإجارة ، والثمن قبل قبض البيع .
    5- الصيغة : وهي الإيجاب والقبول ، فالإيجاب أن يقول المحيل : أحلتك على فلان ، والقبول أن يقول المحال : قبلت أو رضيت .
    ويشترط في الإيجاب والقبول أن يكونا في مجلس العقد .
    خيار الشرط وخيار المجلس :
    ويشترط في عقد الحوالة أن يكونا باتاً ، فلا يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الشرط :
    أما خيار الشرط : فلأن الأصل فيه أن يثبت في العقود لحماية المتعاقدَيْن من الغبن ، وعقد الحوالة لم يُبْنَ على المغابنة ، وإنما هو عقد للإرفاق والمعاونة .
    وأما خيار المجلس : فلأنه يثبت في بيع الأعيان ، والحوالة بيع دين بدين على الأصح .
    شروط صحة الحوالة :
    1- وجود دين للمحيل على المحال عليه :
    فلا تصح الحوالة إلا على مَن كان عليه دَيْن للمحيل ، لأن الأصح أنها بيع دين بدين أُجيز للحاجة ، فلا بدّ أن يكون للمحيل على المحال عليه شيء يكون عوضاً عن حق المحال .
    ويشترط في الدين للمحال عليه :
    أ – أن يكون دَيْناً لازماً أو آيلاً إلى اللزوم ، كما هو الحال في الحق المحال به .
    ب – أن يكون متساوياً مع الدين المحال به : حلولاً وأجلاً ، وجنساً وقدراً وصفة . فإذا اختلف الحقان في شيء من هذا لم تصحّ الحوالة ، لأن الحوالة عقد معاوضة للارتفاق ، أُجيزت للحاجة والتعاون ، فاعتبر فيها الاتفاق كما هو الحال في القرض ، فإذا اختلف الحقان صار في طلب زيادة على الحق ، فلا يجوز .
    وكذلك الحوالة تجري مجرى المقاصّة ، لأنه يسقط بها ما في ذمة المحيل بمقابل ماله في ذمة المحال عليه ، والمقاصة لا تصح حال الاختلاف بين الحقَّيْن .
    2- رضا أطراف الحوالة : المحيل والمحال والمحال عليه .
    أما المحيل : فلآن له إيفاء الحق الذي في ذمته من حيث شاء ، فله أن يوفي دائنه بنفسه ، وله أن يوفيه بواسطة مدينه الذي هو المحال عليه ، فلا يُلزم بجهة معينة سواء كانت نفسه أو مدينَه ، فإذا رغب دائنه أن يستوفي حقه من جهة غيره فلا بد أن يكون ذلك برضاه .
    وأما المحال : فقد اشتُرط رضاه حتى تصحّ الحوالة ، لأنه هو صاحب الحق الذي سينتقل بالحوالة من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه ، وحقه إنما ثبت له في ذمة المحيل لا في ذمة غيره ، فلا يصح أن ينتقل إلا برضاه ، لأن الذمم تتفاوت في حسن القضاء أو المماطلة ، فإذا انتقل حقه بدون رضاه كان في ذلك ضرر عليه ، بإلزامه أن يتبع مَن لا يُحسن وفاءه لحقه .
    وأما المحال عليه : فلا يشترط رضاه لأن الحق عليه لا له ، والمحيل صاحب الحق له أن يستوفيه بنفسه وأن يستوفيه بغيره ، كما لو وكّل غيره بالاستيفاء وقبض الدين ، فلا يعتبر رضا مَن عليه .
    3- يُشترط لصحة الحوالة أن يعلم المحيل والمحال بالدَّيْن المحال به والدين المحال عليه ، قدراً وجنساً وصفة ، لأن الحوالة بيع – كما ذكرنا – والجهالة في الثمن أو المبيع تمنع صحة البيع .
    حكم الحوالة :
    هو انتقال الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه ، فإذا صحّت الحوالة باستكمال أركانها وتوفر شروطها ترتب عليه حكمها ، وهو : براءة ذمة المحيل من دين المحال ، وانتقال الحق من ذمته إلى ذمة المحال عليه . وبالتالي : يسقط دينه عن المحال عليه ، مقابل نظيره الذي صار في ذمته وأصبح محالاً عليه ، ليوفيه إلى المحتال .
    انتهاء الحوالة :
    علمنا أن حكم الحوالة انتقال الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه بصورة تبرأ بها ذمة المحيل من الدين .
    وبهذا تنتهي الحوالة ، ولا تبقى أية علاقة بين المحيل والمحال ، وإنما تصبح العلاقة بين المحال والمحال عليه ، وليس للمحال عودة على المحيل حتى ولو لم يستطع الحصول على الدَّيْن من المحال عليه بسبب من الأسباب ، كما لو وجده مُفْلساً ، أو أنكر المحال عليه الدين
    وذلك لأن الحق تحول بالحوالة من موضعه الأول إلى غيره ، وما تحوّل من موضعه لا يعود إليه إلا بتجديد عودته .
    ... وكذلك بالحوالة سقط الحق من ذمة المحيل ، وهو سقط لا يعود بإعسار ولا بغيره ، كما لو قبل عوضاً من حقه لا تلف في يده ، فإنه لا يعود عليه بشيء لسقوط الحق من ذمته ، وتعذُّرُ الحصول على الحق كتلفه في يده .
    ... وسواء في ذلك أعلم بإعسار المحال عليه عند الحوالة أم لا . وسواء أشرط يساره أم لا . فيكون كمَن أشترى شيئاً هو مغبون فيه ، فإنه لا يرجع بشيء ولو شرط عدم الغبن ، لأنه مقصَّر بترك البحث عن حال المحال عليه عند الحوالة ، ولا عبره بشرطه .
    ... ولو شرط المحال الرجوع المحيل عند تعذّر الإستيفاء بسبب من الأسباب بطلت الحوالة ، لأن هذا الشرط منافٍ صراحة لمضمون الحوالة ، وهو تحوّل الحق وانتقاله .
    اختلاف الحيل والمحال في الحوالة :
    ... إذا قبض المحال الدَّيْن من المحال عليه ، ثم اختلف مع المحيل : فقال المحيل : لم يكن لك علىّ دَيْن ، وإنما أنت وكيلي في القبض ، والقبض لي ، وقال المحال بل أحلتني بما لي عليك من دين فقبضته . فالقول قول المحيل مع يمينه ، لأن المحال يدّعي عليه ديناً ، المحيل ينكر ، والقول قول المنكر عند عدم البينة مع يمينه .
    ... وكذلك لو أقرّ المحيل بالدَّيْن ، ولكن قال : وكّلتك لتقبض لي ، وقال الآخر : بل أحلتني أو قال المحيل : أردت بقوله أحلتك الوكالة ، فقال المحال : بل أردت الحوالة ، صُدِّق المحيل بيمينه ، لأنه أعرف بإرادته وقوله . ولأن ألأصل بقاء كل حق على حاله والمحال يدّعي خلاف ذلك .
    ... ولو قال : أردت قولي : ( أحلتك بالمائة التي لي على فلان ) الوكالة ، لم يُقبل قوله ، لأن اللفظ لا يحتمل إلا حقيقة الحوالة ، فيُقبل قول مدّعيها مع يمينه .
    حوالة المحال أو المحال عليه :
    ... إذا صحّت الحوالة كان للمحال أن يُحيل غيرة من دائنية على المحال عليه ‘ ليقبض دينه منه .
    ... وكذلك للمحال عليه أن يحيل المحال على غيره من مدينيه ، ليقبض دينه منه .
    الحوالة البريدية :
    ... إذا أعطى إنسان أخر مبلغاً ليدفعه مبلغاً من المال ليدفعه إلى فلان من الناس في بلد كذا :
    فإن أعطاه إياه أمانة جاز بلا كراهة ، ولا يضمنه الناقل إذا لم يقصر في حفظه ولا يخلطه مع ماله ، فإن خلطه بماله كان ضامناً له .
    ومن هذا القبيل ما يسمى الآن بالحوالة البريدية ، فإن المبالغ التي يدفعها الناس لمؤسسة البريد ، لتوصيلها إلى أشخاص معينين ، يُخلط بعضها ببعض وبغيرها ، ولا تُدفع هي بذاتها للمحمولة إليه . ولذلك فهي مضمونة إلى المؤسسة .
    وإذا أعطاه إياه قرضاً ، دون أن يشرط عليه دفعها إلى فلان في بلد كذا ، ثم طلب منه ذلك بعض القرض جاز أيضاً ولا كراهة .
    فإذا أعطاه إياه قرضاً بشرط أن يدفعها إلى فلان في بلد كذا ، كانت كشرط الأجل في القرض :
    إن لم يكن للمقرض فيه غرض صحّ القرض ولغا الشرط ، وإن كان يندب الوفاء به ،
    وإن كان للمقرض فيه غرض صحّ القرض ولغا الشرط ، وإن كان يندب الوفاء به .
    وإن كان للمقرض غرض فيه ، كما إذا كان في طريق خطر محقق ، بطل العقد ، لما فيه من جرّ المنفعة للمقرض .
    تم الجزء السادس من هذه السلسة بعون الله وتوفيقه ويأتي الجزء السابع – إن شاء الله تعالى – في المعاملات ، ونسأل الله تعالى حسن القبول .

    معاينة عدد المشاهدات :
    تحميل عدد التحميلات :

    ليست هناك تعليقات: