• 20‏/4‏/2016

    الشافعية الفقه - النكاح ج 13

    النكاح وما يتعلق به وما يشبهه .
    تمهيد :
    معنى الأحوال الشخصية :
    يقصد بالأحوال الشخصية : الأوضاع التي تكون بين الإنسان وأُسرته ، وما يترتب عليه هذه

    الأوضاع من آثار حقوقية ، والتزامات مادية أو أدبية .
    وإطلاق هذا الاصطلاح على هذا المعنى إطلاق حديث ، أُطلق في مقابلة الأحوال المدنية ، التي تنظّم علاقات الإنسان بأفراد المجتمع خارج حدود الأُسرة .
    أما الفقهاء قديماً ، فلم يكونوا يطلقون هذا الاسم ( الأحوال الشخصية ) على المبادئ والأحكام الشاملة للأسرة ومتعلقاتها ، وإنما كانوا يطلقون على كل باب اسماً خاصاً : مثل : كتاب النكاح . كتاب الصداق . كتاب النفقات . كتاب الطلاق . كتاب الفرائض . وهكذا .
    النكاح
    تعريف النكاح :
    النكاح لغة : الضم والجمع . يقال : تناكحت الأشجار ، إذا تمايلت وانضم بعضها إلى بعض .
    والنكاح شرعاً : عقد يتضمن إباحة استمتاع كل من الزوجين بالآخر على الوجه المشروع .
    وسُمي بذلك لأنه يجمع بين شخصين ، ويضمّ أحدهما إلى الآخر .
    والعرب تستعمل لفظ النكاح بمعنى العقد ، وبمعنى الوطء والاستمتاع .
    لكن النكاح حقيقة يطلق علي العقد ،ويستعمل مجازاً في الوطء .
    وعامة استعمال القرآن للفظ النكاح إنما هو في العقد ، لا في الوطء .
    ومنه قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا .. } ( الأحزاب : 49 ) .
    ومعنى { نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } عقدتم عليهن . بدليل قوله : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } فمعناه : طلقتموهن قبل المسيس وهو الوطء والدخول .
    مشروعية النكاح :
    لقد شرع الإسلام الزواج ، وضع له نظاماً محكماً يقوم على أقوى المبادئ وأضمنها لصيانة المجتمع ، وسعادة الأسرة ، وانتشار الفضيلة ، وحفظ الأخلاق ، وبقاء النوع الإنساني .
    دليل مشروعية النكاح :
    ويستدل لمشروعية النكاح بالقرآن الكريم ، والسنّة النبوية ، وإجماع الأمة .
    أما القرآن : فآيات كثيرة منها :
    قوله تعالى : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } ( النساء : 4 )
    وقوله تعالى : { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ … } النور : 32
    الأيامى : جمع أيِّم ، وهو من لا زوج له من الرجال ، ومَن لا زوج لها من النساء .
    عبادكم : الرجال المملوكين .
    إمائكم : النساء المملوكات .
    وأما السنة : فأحاديث كثيرة أيضا ، منها .
    قوله - صلى الله عليه وسلم - : "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ،ومن ثم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاءٌ " .
    رواه البخاري ( في كتاب النكاح ، باب : الترغيب في النكاح ، رقم : 4779 ) ومسلم ( في النكاح ، باب : استحباب الترغيب في النكاح لمن تاقت نفسه إليه … ، رقم : 1400 ) عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - .
    الباءة : القدرة على الجماع بتوفر القدرة على مؤن الزواج .
    وجاء : قاطع لشهوة الجماع .
    وأما الإجماع : فقد اتفقت كلمة العلماء في كل العصور على مشروعيه .
    الترغيب بالزواج :
    لقد رغب الإسلام في الزواج ، وحضّ عليه ، لما فيه من المصالح والفوائد ، التي تعود على الفرد والمجتمع .
    قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة " رواه مسلم في كتاب الرضاع ، باب : خير متاع الدنيا المرأة الصالحة ، 1467 ) عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما .
    ... ( متاع : شيء ينتفع به ويتمتع به إلى أمدٍ قليل ) .
    وروى الترمذي ( كتاب النكاح ، باب : ما جاء في فضل التزويج والحثّ عليه ، رقم : 1080 ) عن أبي أيوب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" أربع من سنن المرسلين : الحياءُ ، والتَّعَطُر ، والسِّواكُ ، والنكاح " .
    الحكمة من مشروعية النكاح :
    إن لتسريع الزواج حكماً جمّة ، وفوائد كثيرة ، نذكر بعضاً منها :
    الاستجابة لنداء الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها :
    فلقد خلق الله هذا الإنسان ، وغرز في كيانه الغريزة الجنسية ، وركّز فيه ذلك التطلّع إلى المرأة ، والرغبة فيها ، كما جعل مثل ذلك في كيان المرأة وفطرتها .
    ولمّا كان الإسلام دين الفطرة يستجيب لها ، وينظِّم مجراها ، شَرع الزواج تلبية لهذا النداء العميق المستقر في أعماق هذا الإنسان وكيانه ، وجعل الزواج هو الطريق الوحيد الذي يعبّر عن إشباع هذه الرغبة وإروائها .
    فلم يكبت الإسلام هذه الغريزة ، ويحطم كيان هذا الإنسان بتشريع الحرمان من الزواج ، والدعوة إلى الرهبنة والتبتل .
    روى الترمذي ( النكاح ، باب : ما جاء في النهي عن التبتّل ، رقم : 1082 ) عن سمرة - رضي الله عنه - : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التبتّل ) .
    والتبتّل : الانقطاع عن النساء ، وترك الزواج انصرافاً إلى العبادة .
    وروى مسلم ( النكاح باب : استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه .. ، رقم : 1402 ) والترمذي ( النكاح ، باب : ما جاء في النهي عن التبتل ،رقم : 1083 ) عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال : ( ردّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتّل ، ولو أذن له لاختصينا ) .
    لكن الإسلام لم يُلْق حبل هذه الغريزة على غاربها ، ولم يترك الإنسان حراً طليقاً في إشباع نهمه الجنسي ، بحيث يفسد نفسه وغيره ، ويضرّ بالأخلاق ، ويهدم البيوت والأُسر ، ويفتح الباب واسعاً لغواية الشيطان ووساوسه . وإنما وقف الموقف المتوسط المعتدل ، فاستجاب لنداء الفطرة ونظمها ، بحيث تؤدي دورها النافع البنّاء في إيجاد هذا النوع ، واستمرار بقائه .
    2ـ إمداد المجتمع الإسلامي بنسل صالح ، ونشء مهذب :
    لقد دعا الإسلام إلى كثره النَسْل ، وجعله من بين أهدافه ، في إنشاء المجتمع الإسلامي المُهيب المرهوب ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تزوَّجوا الوَلُوَد الودود فإني مُكاثر بكم الأمم يوم القيامة " . ( أخرجه أبو داود في سننه : كتاب النكاح ، باب : النهي عن تزويج من لم يلد من النساء ، رقم : 2050 .
    والنسائي في النكاح أيضاً ، باب : كراهية تزويج العقيم : 6 / 65 ] .
    ولذلك دعا القرآن إلى الزواج ، ووجّه نظر الأولياء إلى تزويج أبنائهم وبناتهم .
    قال تعالى : { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } ( النور : 23 ) .
    وإمداد المجتمع بنشئ يولدون في ظلال أبوين حانيين عطوفين ، يعرفان كيف تُصاغ عقول هذا النشئ ، وكيف تُربى مواهبه ، أفضل النزوات المحّرمة الطائشة من السفاح والزنى ، فهؤلاء لا يعرفون أبا يرعاهم ، ولا أُمَاً تحنو عليهم ، فينشؤون وفي أنفسهم عقد الكراهية والحقد على أمتهم ومجتمعهم ، وعلى الناس جميعاً .
    3ـ إيجاد السكن النفسي والاستقرار الروحي :
    وفي هذا الزواج الشرعي الشريف تحصل هذه الطمأنينة ، و السكينة والهدوء النفسي .
    قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ( الروم : 21 ) .
    وانظر إلى التعبير القرآني ما أروعه في إبراز معنى الحاجة للزواج ، وحصول الستر والسعادة والاستقرار فيه .
    قال تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } ( البقرة : 117 ) .
    فالآية شبهت كلا من الزوجين باللباس للآخر ، لأن كلاً منهما يستر الآخر.
    فحاجة كلِّ من الزوجين للآخر كحاجته إلى اللباس ، فإذا كان اللباس يستر معايب الجسد ، وبقية عاديات الأذى ، فإن كلاً من الزوجين يحفظ على صاحبه شرفه ، ويصون عرضه ، ويوفّر له راحته وأُنسه .
    4ـ الحفاظ على الأخلاق من الهبوط والانهيار :
    فالإنسان إذا منع من الزواج المشروع تاقت نفسه إلى تحصيل حاجته من الطريق الممنوع ، ولا يخفى على عاقل ما في السفاح والزنى من فساد الأخلاق ، وخراب الأُسر ، وهتك الأعراض ، وانتشار الأمراض ، وقلق النفوس والأرواح .
    وللمحافظة على الأخلاق ، وللوقاية من الفساد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا جاءكم من تَرْضَوْنَ دينَه وخُلُقَه فأنْكحُوه ، إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفَسَادُ " رواه الترمذي ( في النكاح ، باب : ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه ، رقم : 1085 ) عن أبي حاتم المزني - رضي الله عنه - .
    5ـ المحافظة على النوع البشري سوياً سليماً :
    لقد جرت عادة الله سبحانه وتعالى أن لا يكون إنسان إلا من أبوين : رجل و امرأة ، فإذا علمنا أن الإسلام قد حرّم اقتران رجل بامرأة إلا على أساس زواج شرعي ، فإن ذلك يعنى أن ا لإسلام قد حصر حفظ النوع البشري بالزواج ، فلو حرم الزواج لانقرض البشر ، ولو أباح السفاح لكان هذا البشر شقيّاً مريضاً ، والله سبحانه وتعالى يريد بعباده الخير ، ولا يحب لهم الشر . قال تعالى : { إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } ( البقرة : 114 ) .
    6ـ توسيع دائرة القرابة وبناء دعائم التعاون :
    ففي الزواج تمتد رقعة القرابة ، فتلقي عائلتان ، ويجمع شمل أسرتين ، وتنشأ بينهما بسبب المصاهرة روابط جديدة ، ومحبة متبادلة .
    وبالزواج يتم التعاون بين الزوجين ، فالزوجة تُعين زوجها في شؤونه : في مأكله وملبسه ومسكنه ، وتربية أولادة ، ورعاية بيته . والزوج يعاونها في تأمين حاجاتها ، وتحصيل نفقتها ، والدفاع عنها ، وحمايتها ، والمحافظة على عرضها .
    والإسلام دين التعاون والتكافل ، ولقد شرع الزواج لتحقيق هذه المصالح كلها .
    حُكم النِكَاحِ شَرْعُا
    للنكاح أحكام متعددة ، وليس حكماً واحداً ، وذلك تبعاً للحالة التي يكون عليها الشخص ، وإليك بيان ذلك :
    1ـ مستحب :
    وذلك إذا كان الشخص محتاجاً إلى الزواج : بمعنى أن نفسه تتوق إليه ، وترغب فيه ، وكان يملك مؤنته ونفقته ، من مهر ، ونفقة معيشة له ولزوجته ، وهو في نفس الوقت لا يخشى على نفسه الوقوع في الفاحشة إن لم يتزوج .
    ففي هذه الحالة يكون النكاح مستحبّاً ، لما فيه من بقاء النَسْل وحفظ النسب ، و الاستعانة على قضاء المصالح.
    ويستدل لذلك بحديث البخاري ومسلم : عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - شباباً لا نجد شيئاً ، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا معشر الشباب مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغضّ للبصر وأحصن لفرج ، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وِجاء "(1) .
    والزواج في هذه الحالة أفضل من التفرغ للعبادة ، والانقطاع لها .
    وعلى هذا يحمل توجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأولئك النفر من أصحابه الذين تعاهدوا على الانقطاع للعبادة ، وترك الزواج .
    روى مسلم ( في النكاح ، باب : استحباب لمن تاقت نفسه إليه …، رقم 1401 ) وغيره عن أنس- رضي الله عنه - : أن نفراً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السرّ ، فقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أنام على فراش ، فحمد الله وأثنى عليه ، فقال : " ما بالُ أقوامٍ قالوا : كذا وكذا ، لكني أصلي وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأتزوج النساءَ فم رغب عن سُنّتي فليسَ منّي " .
    __________
    (1) انظر تخريجه وشرح ألفاظه ( ص : 12 عند الكلام عن مشروعية النكاح )
    ومعنى " فمن رغب عن سُنتي فليس مني " أي من تركها إعراضاً عنها ، غير معتقد لها على ما هي عليه .
    والمرأة في هذا الحكم مثل الرجل ، فإذا كانت محتاجة للزواج لصيانة نفسها ، وحفظ دينها ، وتحصيل نفقتها ، استحبّ لها الزواج أيضاً .
    2ـ مستحب تركه ( أي مكروه وفعله خلاف الأولى ) :
    وذلك إذا كان محتاجاً للزواج ، لكنه لا يملك أُهبة النكاح ونفقاته .
    وعليه في هذه الحالة أن يعفّ ويستعين على ذلك بالعبادة والصوم ، لأن الانشغال بالعبادة والصوم ، يشغله عن التفكير في الزواج ، واستشارة الرغبة فيه ، ريثما يغنيه الله من فضله .
    ودليل ذلك قوله تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِه ِ } ( النور : 33 ) .
    ويُفهم هذا الحكم أيضاً من مفهوم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج " فإنه إذا لم يملك الباءة كان ترك الزواج مستحّباً له .
    3ـ مكروه :
    وذلك إذا كان غير محتاج إلى الزواج : كأن لا يجد الرغبة فيه ، أما فطرة ، أو لمرض ، أو علّة ، ولا يجد أُهبه له ، وذلك لما فيه من التزام مالا يقدر على القيام به ، لأن النكاح يترتب عليه المهر ، والنفقة ، وهو لا يقدر على ذلك، فيُكره النكاح له .
    4ـ الأفضل تركه :
    وذلك إذا كان يجد الأُهبة ، ولكنه ليس محتاجاً إلى النكاح ، لأن نفسه لا تتوق إليه ، وكان منشغلاً بالعبادة ، أو منقطعاً لطلب العلم ، فإن التفرغ للعبادة وطلب العلم أفضل من النكاح في هذه الحالة ، لأن النكاح ربما يشغله عن ذلك .
    5ـ الأفضل فعله :
    فإذا كان ليس منشغلاً بالعبادة ، ولا متفرغاً لطلب العلم ، وهو يجد الأُهبة للنكاح ، لكنه غير محتاج إليه ، فالنكاح في هذه الحالة أفضل ، حتى لا تقضي به البطالة والفراغ إلى الفواحش ، وبالزواج يحصل له الاستعانة على قضاء المصالح ، وإنجا
    مَكانَة الأُسْرَة في الإسلاَم وَرعَايتَهِ لَهَا
    تعريف الأسرة :
    الأسرة لغة : الرَّهْط ـ أي الأشخاص ـ الأدَنْون من الرجل .
    ويقصد بالأُسلام اصطلاحاً في نظام الإسلام : تلك الخليّة التي تضم الآباء والأُمهات ، والأجداد والجدّات ، والبنات والأبناء ، وأبناء الأبناء .
    الأسرة دعامة أساسية في المجتمع :
    إذا كان الفرد هو اللبنة الأساسية في بناء المجتمع ، فإن الأُسرة هي الخليّة الحيّة في كيانه .
    والفرد جزء من الأُسرة يأخذ خصائصه الأُولى منها . قال تعالى :
    { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } ( آل عمران : 34 ) وينطبع بطابعها ، ويتأثر بتربيتها .
    قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ " رواه مسلم ( في كتاب القدر ، باب : معنى كل مولود يولد على الفطرة ..، رقم : 2658 ) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -
    الفطرة : الحالة المتهيئة للخير ، وهي حالة أصل الخلقة البشرية . كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء : أي كما تلد البهيمة بهيمة كاملة الأعضاء لا نقص فيها .
    جدعاء : مقطوعة الأُذن . أي إنما يحدث فيها الجدع والنقص بعد ولادتها ، بتأثير من البيئة المحيطة بها من إنسان وغيره . وكذلك حال الإنسان ، تكون استقامته أو انحرافه رهن البيئة التي ينشأ ويترعرع فيها .
    وبناءً على ما سبق نقول : إن الفرد جزء من الأُسرة ، والأسرة جزء من المجتمع ، ودعامة أساسية فيه ، فإذا صلُحَتَ الأُسرة صَلُح الفرد ، وإذا صلُح الفرد صلحت الأُسرة ، وصلح المجتمع .
    ... ولذلك أولى الإسلام الأسرة رعاية بالغة ، وعناية فائقة ، وشغلت الأُسرة حّيزاً كبيراً من أحكام القرآن والسنّة .
    مظاهر عناية الإسلام بالأسرة :
    وتتبدى مظاهر عناية الإسلام بالأُسرة من تلك التشريعات والأحكام التي صاغها لتنظيم الأُسرة ، وترتيب شؤونها . ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر :
    أ ـ الأمر بالزواج :
    لتشييد دعائم الأُسرة ، لأنه لا أُسرة بغير زواج ، وكل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تقوم على أساس الزواج ، فهي زنى وسفاح .
    والله تعالى يقول : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } ( الإسراء : 32)
    ويقول عز وجل : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } ( المائدة : 5 )
    ب ـ تشريع حقوق الزوجين وواجباتهما :
    ... فقد أوجب الإسلام على الزوج لزوجته :
    1ـ المهر: قال تعالى : { وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } ( النساء : 4 )
    2ـ النفقة : قال تعالى : { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } ( البقرة : 233 ) .
    وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ولهنَّ عليكم رزقُهنَّ وكسوتُهُنَّ بالمعروفِ " .
    رواه مسلم ( كتاب الحج ، باب حجّه النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم : 1218 ) في حديث طويل .
    3ـ المعاشرة بالمعروف : قال الله تعالى : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف ِ } ( النساء : 19 )
    كما أوجب الإسلام على الزوجة لزوجها :
    1ـ الطاعة في غير معصية : قال تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء } ( النساء : 34 ) .
    والقوامة إنما هي : القيادة ، وحقّ الطاعة .
    2ـ أن لا تُدخل بيته أحداً بغير إذنه ورضاه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ولكم عليهنّ أن لا يوطئن فُرُشكم أحداً تكرهونه " رواه مسلم ( 1218) من حديث طويل .
    ... قال الإمام النووي رحمه الله تعالى : لا يأذنَّ لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم ، والجلوس في منازلكم .
    3ـ أن تحفظ شرفه ، وتصون عرضه ، وتحافظ على ماله : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" ألا أدُلكم على خير ما يّكْنِزُ الرَّجُُلُ ؟ المرأةُ الصالحةُ ، التي إذا نظر إليها سرَّتْه ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظْته في نفسها ومَالِهِ " . رواه أبو داود ( الزكاة ، باب : في حقوق المال ، رقم : 1664 ) وصححه الحاكم في مستدركه .
    ج ـ تشريع حقوق الأولاد والوالدين :
    فقد أوجب الإسلام على الآباء لأولادهم :
    1- النفقة : قال الله تعالى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ( الطلاق : 6 ) فقد أوجب الله عزّ وجلّ أُجره المُرضع لنفقة الولد .
    2ـ حُسن التربية والتأديب على العبادات والأخلاق : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أدّبوا أولادَكم على ثلاث خصالٍ : حُب نبيَّكم ،وآل بيته ، وقراءة القرآن " رواه الديلمي [ انظر الجامع الصغير للسيوطي ] .
    ... ... ... وقال عليه الصلاة والسلام : " ألا كُلُّكم راع ومسؤول عن رعيته ، فالأميرُ الذي على الناس راع ومسؤول عن رعّيته ، والرجلُ راع على أهل بيته ، وهو مسئولّ عنهم ، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده هي مسؤولة عنهم ، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسؤول عنه ، ألا فكُلكم راعٍ ، وكلّكم مسؤول عن رعيَّته " .
    ... [ أخرجه البخاري في الجمعة ، باب : الجمة في القرى والمدن ، رقم : 853 . ومسلم في الإمارة ، باب : فضيلة الإمام العادل …، رقم : 1829 ] وغيرهما .
    كما أوجب الإسلام على الأولاد :
    1ـ طاعة الوالدين في غير معصية الله تعالى ، والإحسان إليهما :
    ... ... قال الله تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] .
    ... ... وقال تعالى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } [ لقمان : 15 ] .
    2ـ النفقة للوالدين إن كانا فقيرين ، والولد موسراً ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن من أطيب ما أكل الرجلُ من كسْبه ، وولَدُهُ مْن كَسْبَه " . وقال - صلى الله عليه وسلم - : " أنت ومَالُك لوالدك ، إن أولادكم من أطيب كسبكم ، فكلوا من كسب أولادكم " [ أبو داود : البيوت والإجازات ، باب : في الرجل يأكل من مال والده ، رقم : 3528 ، 3530 . الترمذي : أبواب الأحكام ، باب : ما جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده رقم : 1358 ] .
    وهناك أحكام أخرى كثيرة تتعلق بتنظيم حياة الأُسرة ، وترتيب أمورها ، ومن هذه الأحكام والتشريعات يتبين مدى اهتمام الإسلام بالأُسرة ورعايته لها .
    النساء اللاتي يحرم نكاحهن
    تمهيد :
    لما شرع الإسلام الزواج ، وحثّ عليه ، حرّم على الإنسان نكاح بعض النساء :
    أما لفرض الاحترام والتقدير : كتحريم نكاح الأُم .
    وإما لأن الطبع السليم لا يستسيغ ذلك : كنكاح البنت والأُخت .
    أو لأن غرض الزواج ـ وهو الإحصان ـ قد لا يتحقق على أتمّ وجه في نكاح القريبات جداً : كنكاح بنات الإخوة والأخوات ، وبنات الأبناء والبنات ، وذلك لكثرة الخلطة بينهم ، وظهور بعضهم على بعض .
    وأما لغرض تنظيمي ترتيبي في بناء الأُسرة : كنكاح الأخت وبنات الأخ من الرضاع .
    فلهذه الأغراض وغيرها من الحكم حرم الإسلام نكاح بعض النساء على بعض الرجال ، كما حرم بعض الرجال على بعض النساء ، وإليك بيان ذلك .
    أقسام الحرمة في النكاح :
    والحرمة في نكاح بعض النساء على قسمين :
    حُرمة مؤبدة .
    وحُرمة مؤقتة .
    الحُرمة المؤبدة :
    ويقصد بها النساء اللاتي لا يجوز للرجل أن يتزوج بواحدة منهنّ أبداً ، مهما كانت الظروف والأحوال .
    أسباب الحُرمة المؤبدة :
    والحرمة المؤبدة لها ثلاثة أسباب ، وهي :
    القرابة .
    المصاهرة .
    الرضاع .
    المُحرّمات بالقرابة :
    والمُحرّمات بسبب القرابة سبع ، وهنّ :
    \1ـ الأُم ، وأُم الأُم ، وأُم الأب ، ويعبّر عنهنّ بأُصول الإنسان ، فلا يجوز نكاح واحدة منهُن .
    2ـ البنت ، وبنت الابن ، وبنت البنت ، ويعبّر عنهنّ بفروع الإِنسان ، فلا يجوز نكاح واحدة منهن .
    3ـ الأخت ، شقيقة كانت ، أو لأب ، أو لأم ، ويعبّر عنهنّ بفروع الأبوين ، فلا يجوز نكاح واحدة منهنّ أبداً .
    4ـ بنت الأخ الشقيق ، وبنت الأخ لأب ، أو لأم ، فلا يجوز نكاحهنّ .
    5ـ بنت الأخت ، شقيقة كانت ، أو لأب ، أو لأم ، فهنّ حرام لا يجوز نكاحهنّ أبداً .
    6ـ العمّة ، وهي أُخت الأب ، ومثلها عمّة الأب ، وعمّة الأم ، ويعبّر عنهنّ بفروع الجدين من جهة الأب ، فلا يجوز نكاحهنّ بحال .
    7ـ الخالة ، وهي أخت الأم ، ومثلها خالة الأم وخالة الأب ويعبّر عنهنّ بفروع الجدّين من جهة الأم ، فلا يجوز نكاحهنّ أبداً .
    وفي حُرمة هؤلاء كلهنّ نزل قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ …….. } [ النساء : 23 ]
    فإذا عقد على واحدة منهنّ كان العقد باطلاً ، فإن استحلّ ذلك كان كافراً .
    هذا ، ويحرم على المرأة أبوها ، وأبو أبيها ، وأبو أُمها ، وجميع أُصولها . ويحرم عليها ابنها وابن ابنها وابن بنتها ، وجميع فروعها . ويحرُم عليها أخوها شقيقاً كان أو لأب أو لأم ، وكذلك يحرُم عليها أبناء إخوتها ، وأبناء أخواتها ، كما يحرم عليها أعمامها ، وأخوالها ، وأعمال أبيها ، وأعمام أمها ، وأخوال أبيها وأخوال أمها .
    المحرمات بالمصاهرة:
    ... والمُحرمات بالمصاهرة أربع ، وهنّ :
    1ـ زوجة الأب ، ومثلها زوجة الجد أب الأب ، وزوجة الجد أب الأم ، ويعبّر عن ذلك بزوجات الأصول ، فلا يجوز نكاح واحدة منهن أبداً .
    ... قال تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً } [ النساء : 22 ]
    2ـ زوجة الابن ، وزوجة ابن الابن ، وابن البنت ، وهكذا زوجات الفروع ، فلا يجوز نكاحهنّ بحال .
    قال تعالى : { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } [ النساء : 23 ] .
    وخرج بقوله تعالى : { الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } زوجة الابن المتبنّى ، فإنهم كانوا في الجاهلية يتبنّون ، ويحرمون زوجة المتبنى ، فأبطل الإسلام التبني ، وأحلّ الزواج من زوجة المتبنّى .
    قال تعالى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } [ الأحزاب : 4 ] .
    وقال تعالى : { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً } [ الأحزاب : 37 ]
    [قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً: أي انتهت حاجتهم منهنّ ولم يبق لهم رغبة فيهنّ ] .
    3ـ أم الزوجة ، فلا يجوز نكاحها ، قال الله تعالى : { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } [ النساء : 23 ] ومثل أمها جميع أصولها من النساء .
    وهؤلاء الثلاثة يحرمن بمجرد العقد ، سواء تبع ذلك دخول ، أو لم يتبعه ، وإذا عقد على واحدة منهن كان العقد باطلاً .
    4ـ بنت الزوجة ، وهي الربيبة ، فهي حرام على زوج أُمها ، ولكن ليس بمجرد العقد ، بل لا تنشأ الحُرمة إلا بالدخول على أُمها .
    ... قال تعالى : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } [ النساء : 23 ] .
    هذا ولا يشترط لحرمة الربيبة أن تكون في حجر زوج أُمها ، بل هي حرام عليه ، سواء كانت في حجره أو كانت تعيش بعيدة عنه .
    ... وإنما ذكر القيد في الآية لبيان الحالة الغالبة ، فإن الغالب على الربيبة أن تكون في رعاية زوج أمها وحجره وكنفه . وكذلك يحرم على المرأة زوج أمها ، وزوج بنتها ، وابن زوجها ، وأبو زوجها .
    المحرمات بالرضاع :
    ... ويحرم بسبب الرضاع أيضاَ سبع من النسوة ، ذكر القرآن الكريم منهّن اثنين وألحقت السنة بقية السبع بهما ، وهؤلاء السبع هّن :
    1ـ الأُم بالرضاع ، وهي المرأة التي أرضعتك ، ويلحق بها أُمها ، وأُم أُمها وأُم أُبيها ، فلا يجوز نكاح واحدة منهنّ .
    2ـ الأخت بالرضاع ، وهي التي رضعت من أُمك ، أو رضعت من أُمها ، أو رضعت أنت وهي من امرأة واحدة .
    ... فإذا رضعت من أُمك صارت حراماً عليك ، وعلى جميع إخوتك . ويحلّ لك أخواتها ، لأنهنّ لم يرضعن من أُمك .
    ... وإذا رضعت أنت من أُمها صرت حراماً عليها ، وعلى جميع أخواتها ، وحلّت هي وأخواتها لإخوتك ، لأنها لم ترضع من أمك ، ولا رضع أخواتك من أمها .
    ... وفي تحرم الأم والأخت من الرضاع نزل قوله تعالى : { َأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ } [ النساء : 23 ]
    3ـ بنت الأخ من الرضاع .
    4ـ بنت الأخت من الرضاع .
    5ـ العمّة من الرضاع : وهي التي رضعت مع أبيك .
    6ـ الخالة من الرضاع : وهي التي رضعت مع أمك .
    7ـ البنت من الرضاع : وهي التي رضعت من زوجتك ، فتكون أنت أباها من الرضاع .
    وفي هؤلاء يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " إن الرَّضاعة تُحرّمُ ما يَحرُم من الولادة " رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها .
    وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في بنت حمزة رضي الله عنها : " لا تَحِلُّ لي ، يحْرُم من الرضاع ما يحرُم من النسب ، هي بنت أخي من الرضاعة " .
    ( البخاري : الشهادات ، باب : الشهادة على الأنساب والرضاع .، رقم :2502 ، 2503 مسلم : الرضاع ، باب : يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ، وباب : تحريم ابنة الأخ من الرضاعة ، رقم : 1444، 1447 ) .
    وكذلك يحرم على المرأة أبوها بالرضاع ، وابنها من الرضاع ، وأخوها وابن أخيها من الرضاع ، وعمّها وخالها من الرضاع .
    وكذلك يحرم بالمصاهرة من الرضاع :
    1ـ أم الزوجة من الرضاع ، وهي التي أرضعت زوجتك .
    2ـ بنبت الزوجة من الرضاع ، وهي التي رضعت من زوجتك ، لكن من لبن زوج غيرك .
    3ـ زوجة الأب من الرضاع ، وهي زوجة الأب التي رضعت من زوجته الثانية .
    4ـ زوجة الابن من الرضاع ، وهي زوجة من رضع من زوجتك .
    الحرمة المؤقتة :
    ... والنساء المحرمات حرمة مؤقتة : هن اللاتي حُرِّمن على الإنسان لسبب من الأسباب ،
    فإذا زال هذا السبب زالت الحُرمة ، وعاد الحل ، فإذا عقد على واحدة منهنّ قبل زوال سبب
    الحرمة كان العقد باطلاً .
    وهؤلاء النساء هنّ :
    1ـ الجمع بين الأختين :
    سواء كانتا من النسب ، أو من الرضاع . وسواء عقد عليهما معاً أو في وقتين .
    فإذا عقد عليهما معاً بطل العقد فيهما ، وإذا عقد عليهما واحده بعد الأخرى بطل عقد الثانية .
    فإذا ماتت الأولى ، أو طُلِّقت ، وانقضت عدّتها حلّ له أن يعقد على أختها . قال الله عزّ وجلّ :
    ... { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 23 ]
    2ـ الجمع بين المرأة وعمّتها ، وبين المرأة وخالتها ، وبين المرأة وبنت أختها ، أو بنت أخيها ، أو بنت ابنها ، أو بنت بنتها :
    وقد وضع الفقهاء قاعدة بضبط من يحرم الجمع بينهنّ ، فقالوا ( يحرم الجمع بين كل امرأتين لو فرضت إحداهما ذكراً لما جاز له أن يتزوج الأخرى ) . وهي تشمل جميع من ذكرنا .
    ودليل ذلك : ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يُجمعُ بين المرأة وعَمَّتها ، ولا بين المرأة وخالتها " .
    ( البخاري : النكاح ، باب : لا تنكح المرأة على عمّتها ، رقم : 4820 . مسلم : النكاح ، باب : تحريم الجمع بين المرأة وعمّتها …، رقم : 1408 .
    الحكمة من هذا التحريم :
    والحكمة من تحريم الجمع بين مَن ذكرنَ ما في هذا الجمع من إيقاع الضغائن بين الأرحام ، بسبب ما يحدث بين الضرائر من الغيرة .
    ... روى ابن حبان : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تُزوّج المرأة على العمّة والخالة ، وقال : إنّكنّ إذا فعلتنّ ذلك قطعتنّ أرحامكم ) .
    وأخرج أبو داود في المراسيل عن عيسى بن طلحة قال : ( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة ) . [ نيل الأوطار : 6/157 ] . فإذا ماتت واحدة منهنّ أو طٌلِّقت ، وانقضت عدّتها حلّت الأخرى .
    3ـ الزائدة على أربع نسوة :
    فلا يجوز أن يضم زوجة خامسة إلى نسائه الأربع الموجودات عنده حتى يطلق واحدة منهنّ ، وتنقضي عدّتها ، أو تموت ، فإذا ماتت ، أو طُلِّقت ، حلت له الخامسة . قال الله عز وجلّ : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ النساء : 3 ] .
    وروى أبو داود وغيره عن قيس بن الحارث - رضي الله عنه - قال : أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اخْتَر منهنّ أربعاً " .
    ... ( سُنن أبي داود : الطلاق ، باب : في مَن أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أُختان ) .
    4ـ المشركة الوثنية :
    وهي التي ليس لها كتاب سماوي ، فإذا أسلمت حلّت ، وجاز الزواج بها ، قال الله تعالى :
    { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } [ البقرة " 221 ]
    تنبيهان :
    الأول : لا يجوز للمرأة المسلمة أن تتزوج برجل غير مسلم ، مهما كانت ديانته ، لأن للزوج ولاية على الزوجة ، ولا ولاية لكافر على مسلم ، ولأنها لا تأمن عنده على دينها ، لأنه لا يؤمن به ؟ قال الله عز وجل : { وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } [ النساء : 141 ] وقال سبحانه وتعالى : { وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ البقرة: 221 ] .
    فإذا أسلم حلت له ، وإذا عقد عليها قبل إسلامه كان العقد باطلاً ، ووجب التفريق بينهما فوراً فإذا حصل وطء كان ذلك زناً .
    ... الثاني : يجوز للمسلم أن يتزوج يهودية أو نصرانية ، لأنه ربما يكون ذلك سبباً لإسلامها ، وإسلام أهلها ، وإطّلاعهم على الإسلام ، وترغيبهم فيه .
    ولا يجوز لزوجها المسلم أن يٌُكرهها على تغيير دينها ، أو يضايقها في أداء عبادتها . قال الله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } [ المائدة : 5 ] .
    [ المحصنات : العفيفات ، أو الحرائر. أجورهنّ : مُهورهنّ . محصنين : متعففين بالزواج بهنّ عن الزنى . غير مُسافحين : غير مجاهرين بالزنى . متخذي آخذان : مُصاحبي خليلات للزنى سراً ] .
    5ـ المرأة المتزوجة :
    فلا يجوز لرجل أن يعقد على امرأة لها زوج ، وهي لا تزال على عصمته ، حتى يموت أو يطلقها وتنقضي عدّتها ، فإذا مات أو طّلقها وانقضت عدّتها حل الزواج بها . قال الله تعالى في تعداد المحرمات في الزواج : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء } [ النساء : 24 ] . أي المتزوجات من النساء حرام عليكم .
    6ـ المرأة المعتدّة :
    فلا يجوز لرجل أن ينكح امرأة ما تزال في عدّتها ، سواء كانت هذه العدة من طلاق أو وفاة ، فإذا انتهت عدّتها ، جاز الزواج بها . قال الله تعالى : { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } [ البقرة : 235 ] .
    أي لا تقصدوا إلى عقد النكاح لتعقدوه حتى تبلغ المرأة تمام عدّتها المكتوبة لها في كتاب الله عزّ وجل .
    7ـ المرأة المطلقة ثلاثاً :
    فلا يجوز لزوجها أن يعود إليها حتى تنكح زوجاً غيره ، نكاحاً شرعياً صحيحاً ، ثم يطلّقها الزوج الثاني ، وتنقضي عدّتها منه ، فإذا حصل ذلك جاز لزوجها الأول أن يعود إليها ، ويعقد عليها عقد زواج جديد . قال الله تعالى : { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 230 ] .
    وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها : جاءت امرأة رفاعة القرظي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : كنت عند رفاعة فطلّقني ، فأبت طلاقي ، فتزوجت عبدالله بن الزَّبير ، إنما معه مثل هُدبَة الثوب ، فقال : ( أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا ، حتى تذوقي عُسيلته ، ويذوق عُسيلتك ) .
    ( البخاري : الشهادات ، باب : شهادة المختبي ، رقم : 2469 . مسلم : النكاح ، باب : لا تحلّ المطلقة ثلاثاُ لمطلّقها حتى تنكح …..، رقم : 1432 ) .
    أبَتَّ طلاقي : من البتّ وهو القطع ، أي قطع طلاقي قطعاً كلياً ، والمراد أنه طلّقها الطلقة الثالثة التي تحصل بها البينونة الكبرى . هدبة الثوب : حاشيته ، وهو كناية عن عدم قدرته على الجماع . تذوقي عسيلته : كناية عن الجماع . وعُسيلة : قطعة صغيرة من العسل ، شبّه لذّة الجماع بلذة ذوق العسل .
    حكم تعدد الزوجات والحكمة من مشروعيته
    1ـ حكم تعد الزوجات :
    تعدّد الزوجات مُباح في أصله ، قال تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ النساء :3 ] .
    ومعنى الآية : إن خفتم إذا نكحتم اليتيمات أن لا تعدلوا في معاملتهنّ ، فقد أُبيح لكم أن تنكحوا غيرهن ، مثنى وثلاث ورُباع .
    ولكن قد يطرأ على التعدّد ما يجعله مندوباً ، أو مكروهاً ، أو محرماً ، وذلك تبعاً لاعتبارات وأحوال تتعلق بالشخص الذي يريد تعدد الزوجات :
    أ ـ فإذا كان الرجل بحاجة لزوجة أخرى : كأن كان لا تعفّه زوجة واحدة ، أو كانت زوجته الأولى مريضة ، أو عقيماً ، وهو يرغب بالولد ، وغلب على ظنه أن يقدر على العدل بينهما ، كان هذا التعدد مندوباً ، لأن فيه مصلحة مشروعة ، وقد تزوج كثير من الصحابة رضي الله عنهم بأكثر من زوجة واحدة .
    ب ـ إذا كان التعدّد لغير حاجة ، وإنما لزيادة التنعّم والترفيه ، وشك في قدرته على إقامة العدل بين زوجاته ، فإن هذا التعدد يكون مكروهاً ، لأنه لغير حاجة ، ولأنه ربما لحق بسببه ضرر في الزوجات من عدم قدرته على العدل بينهنّ .
    والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " دْع ما يريبُك إلى ما لا يَريبُك " ، أي دع ما تشك فيه إلى ما لا تشك فيه .
    رواه الترمذي ( أبواب صفة القيامة ، باب : أعقلها وتوكل ، رقم : 2520 ) عن حسن بن علي رضي الله عنهما .
    ج ـ وإذا غلب على ظنه ، أو تأكد أنه لا يستطيع إن تزوج أكثر من واحدة أن يعدل بينهنّ : إما لفقره ، أو لضعفه ، أو لعدم الوثوق من نفسه في الميل والحيف ، فإن التعدد عندئذ يكون حراماً ، لأن فيه إضراراً بغيره ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا ضرر ولا ضرَارَ " .
    ( ابن ماجه : كتاب الأحكام ، باب : من بني في حقه ما يضرّ جاره . موطأ مالك : الأقضية ، باب : القضاء في المرفق ) .
    وقال الله عز وجل : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } [ النساء : 3 ] .
    [ فواحدة : أي فانكحوا واحدة فقط . ذلك أدنى أن لا تعولوا : أي أقرب إلى عدم الميل والجور ، لأن أصل العول : الميل ] .
    ويجب أن يعلم أنه لو عدّد الزوج في الحالتين الأخيرتين ، وعقد على ثانية ، أو ثالثة ، كان العقد صحيحاً ، وترتبت على آثاره : من حلّ المعاشرة ، ووجوب المهر ، والنفقة وغيرها ، وإن كان مكروهاً في الثانية ، وحراماً في الثالثة ، فالحُرمة توجب الإثم ، ولا تبطل العقد .
    ما هو العدل المطلوب حصوله بين الزوجات ؟
    والعدل الذي أوجبه الإسلام على الرجل الذي يجمع بين أكثر من زوجة ، إنما هو العدل والمساواة في الإنفاق ، والإسكان ، والمبيت ، وحُسن المعاشرة ، والقيام بواجبات الزوجة .
    أما المحبة القلبية التي لا تولّد ظلماً عملياً لإحداهنّ فليست من مقوِّمات العدالة المفروض تحصيلها بين الزوجات ، لأنه لا سلطان للإنسان على قلبه في موضوع المحبة ، ولعلّ هذا هو الذي عناه القرآن الكريم بقوله تعالى : { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ } . [ النساء : 129 ] . أي لا تستطيعون أن تمسكوا بزمام قلوبكم في تحقيق المساواة في المحبة ، فلا يحملنكم الميل القلبي إلى إحداهما أكثر من الأخرى على الظلم والإضرار .
    أما العدل فيما ذكرنا من النفقة والإسكان ، والمبيت وحُسن المعاشرة ، فهذا أمر ممكن لكثير من الناس .
    وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ـ بعد عدله في القسمة والمعاملة بين نسائه ـ : " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " .
    رواه أبو داود ( في النكاح ، باب : في القسم بين النساء ، رقم : 2134 ) والترمذي ( في النكاح ، باب : التسوية بين الضرائر ، رقم : 1140 ) وغيرهما عن عائشة رضي الله عنهما .
    وذلك فيما يتعلق بأمر الحب وميل القلب ، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحب عائشة أكثر من بقية نسائه .
    2 ـ الحكمة من مشروعية التعدّد .
    ... إن الإسلام أباح تعدد الزوجات من حيث الأصل ، ولم يجعله فرضاً لازماً ، ولقد أباح الإسلام هذا التعدّد ، لأنه يرمي إلى أهداف بعيدة الغور في الإصلاح الاجتماعي ، لا يدركها إلا نافذ البصيرة . وإليك بعض هذه الحكم :
    أ ـ ليحمي من لا يمكن أن تعفّهم زوجة واحدة ، وهذا أمر فطري ، فيمكن أن يجرهم ذلك إلى ما ليس بمشروع .
    ... فخير لهم وللمجتمع أن يتزوجوا امرأة أخرى في ظل سياج من الرعاية ، وتشريع من الحقوق الملزمة، والكرامة اللائقة ، من أن يقعوا في الزنى .
    ب ـ وشرعه أيضاً ليحمي المرأة من أن يلهث وراءها أصحاب الشهوات ، لا بعقد يضمن ويحمي أبناءها ، وإنما عن طريق المسافحة والمخادنة ، مما يجعل تلك المرأة عُرضة للطرد والحرمان من كل حق ، ويجعل أولادها محرومين من حقوق النسب ، وعطف الأبوة .
    ... فلأن تكون زوجة ثانية محفوظة الحقوق والكرامة خير لها ألف مرة من أن تظل أيِّما ، أو تعيش خدينة أو عشيقة ، مما يعرضها في النتيجة للبؤس والشقاء ، وحماية المجتمع من الانحلال والفساد ،والفوضى الخلقية .
    مبررات تعدد الزواج :
    وهناك مبررات تجعل تشريع تعدّد الزواج أمراً بادي الحكمة ، واضح الفائدة ، وسنضرب لذلك بعض الأمثلة :
    1ـ رجل عنده نهم في النساء ، وعنده امرأة عزوف عن الرجال ، إما فطرة ، أو لمرض .
    ... فهل الأفضل أن يزني هذا الرجل ، فيضيع الدين والمال والصحة ؟ أو يبقى منطوياً على حاجته ، معذباً نفسه ، أو أن يتزوج امرأة أخرى ، بشرط القدرة على الإعالة والعدالة ، وعدم الظلم في المعاملة ؟
    ... ولا شك أن الحل الثالث هو الأفضل لهذا الرجل ، وأنفع للمجتمع وأطهر .
    2ـ اندلعت نار الحروب ـ والحروب أصبحت اليوم سنّة الحياة ـ فأبادت الكثير من الرجال ، أو شوّهتهم ، وأصبح عدد النساء وافراً يزيد على عدد الرجال كثيراً . فهل من الخير للنساء أن يقتصر كل رجل على زوجة واحدة ، وتبقى كثرة كاثرة من النساء محرومة من عطف الرجل المُعيل ، ومحرومة من إنجاب الولد الذي لا تجد غيره معيناً ومعيلاً عند كبرها ، مما قد يضطرها ـ إرواء لحاجتها ـ إلى ارتكاب الإثم والفواحش ؟ .
    أم الأفضل أن نبيح للرجل أن يضمّ إليه أكثر من زوجة في ظل رعاية شرعية كاملة ؟ .
    ... إننا لا نظلم المنطق والحق في شيء إذا قلنا : إن التعدد في مثل هذه الظروف يعتبر عملاً إنسانياً تفرضه المروءة والغيرة .
    ولا نخالف الواقع إذا قلنا : إن زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأكثر من واحدة من نسائه كان معظمه من هذا النوع الإنساني الشريف .
    لقد هاجر بعضهنّ وحيدة ، و تركت أهلها ، أو مات عنها زوجها شهيداً ، وتركها أرملة من غير مُعيل ، فخفّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى نجدتها ، وضمّها إلى بيته ، فكان لها خير مُعيل ، و كان لها شرف أمومة المؤمنين ، وفضيلة الاقتران بسيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم . ولما حرمت أوربه المسيحية التعدّد ، فماذا جنت غير الخيانات الزوجية ، أو العذاب النفسي ، أو الحرمان لكثير من الزواج ؟
    3ـ إنسان متزوج من امرأة تحبه ويحبها ، لكنها عقيم لا تنجب ، وهو يتوق إلى الولد ، و يحنّ إليه .
    فهل من الأفضل أن نحرم هذا الإنسان الزواج من ثانية ، وندعه مظلوم الفؤاد محروم الولد ؟
    أم نأمره بأن يطلق زوجته التي يحبها ، أم نبيح له الزواج بامرأة أخرى ، مع حماية الأولى من الظلم ؟
    إن هذا الحل هو الأفضل من كل ما سبق ، فقد راعى مصالح الرجل والمرأة على السواء .
    4ـ إن الشعوب التي حرمّت تعدد الزوجات وقعت بما هو أشدّ خطراً ، وأكثر ضرراً من ضرر التعدّد المزعوم . لقد كثر فيهم الفساد ، وانتشرت فيهم الخيانات الزوجية ، والمخادنات السريّة ، مما يجعل عُقلاءهم يصرخون مُطالبين بتشريع يحل التعدّد ، و يقضي على تلك المفاسد المدمرة لحياتهم الاجتماعية .
    تنبيه :
    إن إساءة استعمال بعض الجَهَلة لحق التعدّد لا يغضّ من حكمة الإسلام ، ولا يحمِّله تبعة رعونة وسفاهة أولئك الجاهلين ، وسوء تصرفهم .
    فالإسلام ، ما أباح التعدّد ليكون سلاحاً للجرح ، أو الذبح ، أو سوء المعاملة ، وإنما شرعة تلبية للحاجة ، ووقاية للمجتمع ، ورعاية للأفراد ، وقضاء على الرزيلة .
    لكن تلك المبررات ، وبتلك الشروط الشرعية أباح الإسلام التعدّد ، ولم يوجبه ، وأحاطه بسياج من الضمانات الأخلاقية الحقوقية .
    فالإسلام أشبه ( بصيدلية ) وَعَت جميع الأدوية التي تفي بحاجة الناس جميعهم ، يأخذ كل فرد الدواء الذي يتفق وحاجته ومرضه ، ليس معقولاً أن نقلِّل من أهمية هذه ( الصيدلية ) أو نقلِّص من موادها بحيث لا تفي بالحاجة العامة لجميع الأفراد ، أو نُبيح جميع ما فيها لكل فرد ، ولو بغير حاجة .
    ... هذا وإذا كان أعداد الإسلام لا يعجبهم هذا التشريع ، لأنه لا يتفق وأمزجتهم المنحرفة ، وأذواقهم الفاسدة ، وشهواتهم الرخيصة ، فليموتوا بغيظهم ، والله من ورائهم محيط .
    مقدمات الزواج
    تمهيد :
    إن سعادة الأسرة ، ونجابة الأولاد ، واستمرار الحياة الزوجية تتوقف على حسن اختيار كل من الزوجين للآخر ، اختياراً واعياً ، غير متأثر بعاطفة هوجاء ، أو مصلحة مؤقتة ، وإنما يكون قائما على أساس يبقى ، ويقوى مع مرور الزمن ؛ ولما كان عقد الزواج عقداً خطير الأثر، طويل الأمد ، كثير التكاليف ، كان لابدّ قبل إجراء هذا العقد من خطوات تتخذ من قِبَل كل من الخاطب والمخطوبة ، حتى إذا أقدما على عقد الزواج كانا قد أقدما عليه ، وقد اطمأن كل منهما إلى الصفات والمؤهلات التي تحقق أغراضه ، وتطمئن نفسه إلى مستقبل ارتباطه مع زوجه .
    وهذه الخطوات هي :
    أولاً : البحث عن الصفات التي تطلب في كل من الزوجين .
    ثانيا : رؤية المخطوبة والنظر إليها .
    ثالثاً : الخطبة .
    أولاً : البحث عن الصفات التي ينبغي أن تطلب في كل من الزوجين :
    لقد أرشد الإسلام إلى عدة من الصفات تكون في المخطوبة ، كما تكون في الخاطب ، و حث على تلمسها ، والبحث عنه ، وهذه الصفات هي :
    1ـ الدين الصحيح والخلق القويم :
    يُطلب في الزوج يُختار أن يكون ديناً ، ذا خلق حسن ، كما يطلب في الزوجة أن تكون دينة ، وذات خلق حسن ، و إلى ذلك أرشد النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام حين قال : " إذا خطب إليكم من ترْضون دينه وخلقه فزوجوه ، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض "
    ( رواه الترمذي في النكاح ، باب : ما جاء إذا جاءكم مَن ترضون دينه فزوِّجوه ، رقم : 1084 )
    وقال - صلى الله عليه وسلم - : " تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يداك " .
    رواه البخاري ( النكاح ، باب : الأكفاء في الدين ، رقم : 4802 ) ومسلم ( الرضاع ، باب : استحباب نكاح ذات الدين رقم : 1466 )
    [ تربت يداك : افتقرت ، وهذه كلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب ، و لكن يريدون بها الحثّ والتحريض ، والمراد بالدين والأخلاق : فعل الطاعات ، والأعمال الصالحات ، والعفّة عن المحرمات ، والقيام بحقوق الزوجية ] .
    2ـ الحكمة من تفصيل ذات الدين والخلق :
    إن الحكمة من ذلك هي أن الدين يقوى على مرور الزمن ، والخلق يستقيم مع توالي الأيام وتجارب الحياة .
    فإذا اختار كلِّ من الزوجين الآخر لدينه وخلقه ، كان ذلك أضمن لاستمرار الحب ، ودوام المودّة .
    ولا يُفهم مما ذكرنا أن على الإنسان أن يعزف عن الحَسَب والجمال ، وإنما يجب أن يفهم أنّ هذه الصفات إذا انفردت في المخطوبة ، كان الدين أفضلها ، وإذا اجتمعت كانت نوراً على نور .
    3ـ النسب في كل من الزوجين :
    ومعنى النسب : طيب الأصل ، وكرم المنبت ، ودليل ذلك ما جاء في حديث الصحيحين السابق تنكح المرأة لأربع ، وذكر منها : (ولحسبها ) .
    كذلك يسنّ في الزوج أن يكون ذا حسب ، وأصل طيب ، لأن ذلك أعون على استدامة الحياة الزوجية ، وأقرب إلى طيب العشرة ، لأن صاحب الأصل الطيب لا يصدر عنه إلا العِشْرة الكريمة ، إذا أحبّ أكرم ، وإذا أبغض لا يظلم .
    4ـ أن لا يكون بين الزوجين قرابة قريبة :
    وقد نصّ الشافعي رحمة الله تعالى على أنه لا يتزوج الرجل من عشيرتيه : أي الأقربين .
    وقد علل الزنجاني ذلك بقوله : إن من مقاصد النكاح اتصال القبائل ، لأجل التعاضد والمعاونة ، وهذا حاصل في القرابة القريبة من غير زواج .
    وقد روى : ( لا تنكحوا القرابة القريبة ، فإن الولد يُخلق ضاوياً ) أي نحيفاً ، وذلك لضعف الشهوة بين القرابة . ذكر هذا الشربيني في شرحه لمنهاج النووي .
    لكن ذكر ابن الصلاح أنه لم يجد لهذا الحديث أصلاً معتمداّ ، وقد ذكره ابن الأثير في كتابه [ النهاية في غريب الحديث والأثر ] .
    ولا يطعن في هذا الحكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد زوّج فاطمة من على رضي الله عنهما ، لأنه فعل ذلك لبيان الجواز ، أو لأنه ليس بينهما قرابة قريبة جداً ، ففاطمة هي بنت ابن عم علي ، فهي بعيده عنه بالجملة .
    5ـ الكفاءة :
    ويقصد بالكفاءة : مساواة حال الرجل لحال المرأة اليوم في عدة وجوه :
    أ ـ الدين والصلاح ، فليس الفاسق كفؤاً لعفيفة صالحة ، قال تعالى : ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ ( [ السجدة : 18 ] .
    ب ـ الحرفة ، فصاحب حرفه دنيئة ، ككنّاس وحجّام وراع وقيِّم حمام ، ليس كفؤا لبت عالم وقاض وتاجر .
    ج ـ السلامة من العيوب المثبتة للخيار في فسخ النكاح ، فمَن به جنون أو برص ليس كفؤاً للسليمة منها .
    والكفاءة في الزواج من حق الزوجة وأوليائها ، وهي وإن لم تكن شرطاً في صحة النكاح، لكن مطلوبة ومقررة دفعاً للعار عن الزوجة وأوليائهما ، وضماناً لاستقامة الحياة بين الزوجين ، وذلك لأن أسلوب حياتهما ، ونوع معيشتهما يكونان متقاربين ، ومألوفين لهما ، فلا يضطر أحدهما لتغيير مألوفة .
    فللزوجة وأوليائها إسقاط حق الكفاءة ، فلو زوَّجها وليها غير كفء برضاها صحّ الزواج ، لأن الكفاءة حقها وحق الأولياء ، فإن رضوا بإسقاطها ، فلا اعتراض عليهم . ويشير إلى مراعاة الكفاءة ، قول النبي ( : " تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاءَ وانكحوا إليهم " .
    رواه الحاكم ( النكاح ، باب : تخيروا لنطفكم ..، رقم : 2/163 ) وصححه .
    6- البكارة :
    والبكر : هي التي لم يسبق لها أن تزوجت ، وقد بيّن النبي ( سبب اختيار الزوجة البكر ، حين قال : " عليكم بالأبكارَ ، فإنهنّ أعْذَُبُ أفواهاً ، وأنتقُ أرحاماً ، وأرضى باليسير " .
    رواه ابن ماجه في ( النكاح ، باب : تزوج الأبكار ، رقم : 1860 ) .
    [ أعذب أفواهاً : ألين كلاماً ، فهو كناية عن حُسن كلامها وقلّه بذائها وفحشها مع زوجها ، لبقاء حيائها ، لأنها لم تُخالط زوجاً قبله . أنتق أرحاماً : أكثر أولاداً ] .
    وروى البخاري ومسلم واللفظ له :
    عن جابر ( قال : تزوجت امرأة في عهد رسول الله ( فقلت النبي ( فقال : " يا جابر ، تزوجت ؟ قلت : نعم . قال : بكر أم ثِّيب ؟ قلت : ثِّيب . قال : فهلاِّ بكراً تلاعبها ؟ قلتْ : يا رسول الله : إن لي أخوات ، فخشيت أن تدخل بيني وبينهنّ . قال فذاك إذاً ، إن المرأة تنكح على دينها ومالها وجمالها ، فعليك بذات الدين تربت يداك " .
    ( البخاري:النكاح ، باب : تزويج الثيِّبات . ومسلم : الرضاع ، باب : استحباب نكاح ذات نكاح ذات اليدين ) .
    وكذلك يستحبّ أن يكون الزوج بكراً ، لم يسبق له أن تزوج ، لأن النفوس جُبِلت على الاستئناس بأول مألوف .
    الولود : وتُعرف البكر الولود بأقاربها ، كأختها ، وعمتها ، وخالتها , ويُعرف الرجل الولود أيضاً بأقربائه .
    قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - " تزوجوا الولود الودود فإني مُكاثر بكم الأمم يوم القيامة " .
    ... رواه أحمد ، وابن حبّان ، والحاكم ، وصحّح إسناده . (المستدرك : النكاح ، باب ، تزوّجوا الودود الولود : 2/162 )
    ثانياً : رؤية المخطوبة والنظر إليها :
    ومن الأمور المستحبّة التي رغّب فيها الإسلام أن ينظر الخاطب إلى المخطوبة قبل الخطبة ، إذا قصد نكاحها ، ورجا رجاء طاهراً أن يجاب إلى طلبه ، وإن لم تأذن له ، أو لم تعلم بنظره ، اكتفاء بإذن الشرع له ، ولئلا تتزين له ، فيفوت غرضه .
    وله تكرير النظر ثانياً وثالثاً إن احتاج إليه ، ليتبين هيئتها ، فلا يندم بعد النكاح ، إذ لا يحصل الغرض غالباً بأول نظرة .

    روى الأمام الترمذي وحسّنه ( النكاح ، باب : ما جاء في النظر إلى المخطوبة ، رقم : 1087 ) ، وابن ماجه ( النكاح ، باب : النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها ، رق : 1865 ) وغيرهما : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - وقد خطب امرأة ـ أي عزم على خطبتها ـ : " انظر إليها فإنه أحرى أنْ يؤدَمَ بينكما " .
    ومعنى يؤدم بينكما : أن تدوم المودّة والألفة بينكما .
    وروى البخاري ( النكاح ، باب : النظر إلى المرأة قبل التزويج ، رقم : 4833 ) ، ومسلم ( النكاح ، باب : الصداق وجواز كونه تعليم قرآن .. ، رقم : 1524 ) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - : أن امرأة جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، جئت لأهبَ لك نفسي ، فصعَّد النظر إليها وصَّوبه ، ثم طأطأ رأسه .
    [ لأهب لك : أجعل أمري لك : تتزوجني بدون مهر ، أو تزوِّجني لمن ترى . فصعد النظر إليها وصوبه : نظر إلى أعلاها وأسفلها وتأملها . طأطأ رأسه : خفض رأسه ، ولم يُعد النظر إليها ] .
    وروى مسلم ( النكاح ، باب : ندب النظر إلى وجه المرأة وكفّيها لمن يريد تزوجها ، رقم : 1434 ) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاه رجل ، فأخبره أن تزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" أنظرتَ إليها ؟ " قال : لا . قال : " فاذهب فانظر إليها ، فإنَّ في أعين الأنصار شيئاً " أي يختلفن عن أعين غيرهنّ ربما لا يعجبك .
    وعن أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا خطب أحدكم امرأة فلا جُناح عليه أن ينظر منها ، إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته ، وإن كانت لا تعلم " . رواه أحمد ( 5/424)
    هذا ويحق لها أيضاً أن تراه ، إذا أرادت الزواج منه ، لتتبين هيئته ، ولا تندم بعد النكاح ، فإنها يعجبها منه ما يعجبه منها .
    حدود النظر :
    ولا يجوز للخاطب أن ينظر من المخطوبة إلاّ وجهها وكفّيها ظهراً وبطناً ، لأنها مواضع ما يظهر من الزينة المُشار إليها ، في قوله تعالى : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } [ النور : 31 ]
    والحكمة من الاقتصار على الوجه والكفّين ، أن الوجه يستدل به على الجمال ، واليدين يستدل بهما على خصب البدن ولينه .
    وإن لم يتيسر له أن ينظر إليها ، أرسل امرأة تتأملها ، وتصفها له .
    لأنه - صلى الله عليه وسلم - بعث أم سليم إلى امرأة ، وقال : " انظري عرقوبيها ، وشمي عوارضها " .
    رواه الحاكم ( في النكاح : 2/166 ) وصححه .
    [ العرقرب : عصب غليظ فوق عقب الإنسان . وشمّي عوارضها : أي رائحة جسمها "
    ويؤخذ من الحديث أن للمبعوث أن يصف للباعث زائداً على ما ينظره بنفسه ، فيستفيد بالبعث ما لا يستفيده بنظره .
    حكم نظر الأجنبي إلى المرأة :
    ويحرم نظر رجل بالغ عاقل مختار ـ ولو شيخاً ، أو عاجزاً ، وكذلك المراهق وهو مَن قارب البلوغ ـ إلى أيّ جزء من جسم المرأة أجنبية كبيرة . والكبيرة هي من بلغت حدّاً تشتهى فيه ، ولو كانت غير بالغة ، ولو كان ذلك الجزء الوجه والكفّين ، ولو لم تكن هناك فتنة على الصحيح في المذهب .
    وكذلك يحرم على المرأة أن تنظر إلى الرجل لغير حاجة . قال الله تعالى :
    { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ{30} وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } [ النور: 3 -31 ] .
    وروي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : كنت عند ميمونة رضي الله عنها ـ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ إذ أقبل ابن أمّ مكتوم - رضي الله عنه - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " احتجبا منه ، فقلت : يا رسول الله : أليس هو أعمى لا يبصر ولا يعرفنا ؟ فقال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفعمياوان أنتما ؟ ألستما تبصرانه "
    ... رواه الترمذي ( الأب ، باب : ما جاء في احتجاب النساء من الرجال ، رقم : 2779 ) وقال : حديث حسن صحيح .
    هذا ، وحيث حرّم النظر فيما ذكر حرّم المسّ ، لأنه أبلغ منه في التلذذ وإثارة الشهوة .
    أما النظر إلى الصغيرة التي لا تُشتهى ، والصغير الذي هو دون المراهقة ، فإنه لا يحرم النظر إلا إلى الفرج منهما . لأن النظر إليهما ليس في مظنة شهوة ، فلا يحرم ذلك .
    النظر إلى المحارم :
    ويجوز نظر الرجل إلى محارمه من النساء إلا ما بين السرّة والركبة .
    وكذلك المرأة تنظر إلى محارمها من الرجال ما عدا ما بين السرّة إلى الركبة .
    متى يباح النظر إلى الأجنبية ؟
    واعلم أن ما تقدم من حُرمة النظر إلى المرأة الأجنبية ، والمسّ لهما ، إنما هو حيث لا تدعوا الحاجة إليهما ، وأما إذا دعت الحاجة إلى النظر ، أو المسّ ، فإن ذلك يُباح ، وليس فيه حرج .
    والحاجة تظهر في الأمور الآتية :
    1ـ عند المداواة ، لأن في التحريم حرجاً ، والإسلام دين اليُسْر ورفع الحرج . قال تعالى :
    { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحرج : 78 ] . فيُنظر إلى المواضع التي يحتاج إليها .
    روى مسلم ( السلام ، باب : لكل داء ودواء واستحباب التداوي ، رقم : 2206 ) عن جابر - رضي الله عنه - : ( أن أم سلمة رضي الله عنهما استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجامة ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا طيبة أن يحجمها ) . فللرجل مداواة المرأة إذا كانت الضرورة تتطلب ذلك ، ولم توجد امرأة تعالجها ، وكذلك للمرأة مداواة الرجل إذا لم يوجد رجل يعالجه ، ودعت الضرورة إلى ذلك ، لكن لا يعالج الرجل المرأة إلا بحضرة مَحرَم ، أو زوج ، أ, امرأة ثقة .
    وإذا وجد الطبيب المسلم ، لا يعدل إلى غيره .
    2ـ عند المعاملة من بيع وشراء ، إذا كانت هناك حاجة لمعرفة تلك المرأة ، ولم تعرف دون النظر إليها .
    3ـ عند الشهادة تحملاً وأداء ، لأن الحاجة تدعوا إلى النظر إلى المشهود عليه ، أو المشهود له
    4ـ عند التعليم : وذلك فيما ذكر ، فإنما يُباح بقدر الحاجة فقط ، لأن النظر إنما أبيح للضرورة أو الحاجة ، والضرورة والحاجة تقدر بقدّر ما يرفع الحرج ويحقق الغرض .
    ثالثاً : الخطبة :
    فإذا تمّ الوثوق من الصفات الحسنة ، وتحقق بالرؤية والنظر الرضا والرغبة ، جاء دور الخطبة .
    ... والخطبة ـ بكسر الخاء ـ هي التماس الخاطب النكاح من جهة المخطوبة .
    متى تحل الخطبة ، ومتى تحرم :
    1ـ تحل الخطبة تصريحاً وتعرضاً ، إذا كانت المخطوبة خليَّة من نكاح ، وعدة ، ومن كل موانع النكاح التي مر ذكرها في المحرمات .
    2ـ تحل الخطبة تعريضاً فقط لا تصريحاً ، إذ كانت المرأة معتدّة من وفاة ، أو طلاق بائن . قال الله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [ البقرة " 235 ]
    [ لا جُناح : لا إثم ولا حرج . أكننتم : أخفيتم . لا تواعدوهنّ سرّاً : لا تعدوهن بالنكاح خفية . قولاً معروفاً : موافقاً للشرع ، وهو التعريض . ولا تعزموا عقدة النكاح : لا تحققوا العزم على عقد الزواج . حتى يبلغ الكتاب أجَلَه : حتى تنقضي العدّة ، وهي المدة التي فرضها الله على المعتدّة في كتابه أن لا تتزوج خلالها ] .
    3ـ وتحرم الخطبة تعريضاً وتصريحاً فيما عدا ما ذكر ، في الفقرة الأولى والثانية .
    فتحرم خطبة امرأة ما تزال على عصمة زوجها . كما تحرم خطبة كل امرأة ذكرت في محرمات النكاح ، سواء كانت محرمة مؤبدة أم محرمة مؤقتة .
    وتحرم خطبة المرأة المعتدّة من طلاق رجعي ، سواء كان ذلك بالتعريض أم بالتصريح ، لأنها زوجة ، أو في معنى الزوجة ، لأن لزوجها الحق في مراجعتها ، قال تعالى :
    { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً ً } [ البقرة : 228 ] .
    معنى التصريح بالخطبة :
    والتصريح في الخطبة معناه : كل لفظ يقطع بالرغبة في النكاح : كأُريد أن أنكحك ، أو : إذا انقضت عدتك تزوجتك .

    معاينة عدد المشاهدات :
    تحميل عدد التحميلات :

    ليست هناك تعليقات: