الطريقـة الدرقاويـة الشاذلـية أصولها ومرتكزاتها
إعداد: الدكتور محمد الدرقاوي
أستاذ باحث في العلوم الإسلامية
وعضو المجلس العلمي لعمالة سيدي البرنوصي/البيضاء
المحور الأول: مولاي العربي الدرقاوي/ تعريف مقتضب بشخصيته.
المحور الثاني: الطريقة الدرقاوية / سندها وحقيقتها ومكانتها.
المحور الثالث: الطريقة الدرقاوية / أصولها ومرتكزاتها.
ثبت المصادر والمراجع.
تمهـــــــــــــــــــيد:
الحمد لله رب العالمين حمد الأنبياء المرسلين، وحمد الشهداء والصديقين، وحمد الأولياء العاملين، وحمد الصالحين العارفين. والصلاة والسلام على الرحمة المهداة للعالمين سيدنا وحبيبنا وطب قلوبنا ونور أبصارنا محمد النبي الأمين، وعلى آل بيته وعترته الطاهرين، والصفوة من صحابته المرضيين، وعلى من تبعهم بإحسان وصدق إلى يوم الدين.
أمــا بعــد: فيسعدني أن أشارك في هاته الندوة المباركة، معرباً في البداية أصالة عن نفسي ونيابة عن أبناء عمومتي الشرفاء الدرقاويين بالمملكة المغربية الشريفة عن امتناننا العميق لشعبة التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية العامرة بوجدة الخير على تنظيم هاته الندوة العلمية المباركة، وتشكراتنا الصادقة لأصحاب الفضيلة الأساتذة الباحثين المشاركين، ولكل من أسهم في إنجاحها من قريب أو بعيد، وبقليل أو بكثير، حساً ومعنىًً. فالله العظيم رب العرش العظيم نسأل أن بجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وقد نظمت العرض في تمهيد وثلاثة محاور. خصصت المحور الأول للتعريف بشخصية الشيخ مولاي العربي الدرقاوي تعريفاً مقتضباً، والمحور الثاني للحديث عن الطريقة من حيث سندها وحقيقتها ومكانتها، والمحور الثالث للحديث عن أصولها ومرتكزاتها.
المحـــــــــــــــور الأول: مولاي العربي الدرقاوي
تعريف مقتضب شخصيته.
أ = اسمه ونسبه وولادته:
هو الإمام العارف بالله المحقق، شيخ المشايخ العارفين، والولي الصالح القطب الرباني، أبو المعالي مولانا محمد العربي بن أحمد الدرقاوي الحسني سليل الدوحة النبوية الشريفة، حيث أجمعت كل الكتب المترجمة له على صحة نسبه الشريف. فهــو: محمد العربي بن أحمد بن الحسين بن علي بن محمد بن يوسف بن أحمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن الحسين بن أحمد بن الحسين بن سعيد بن إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن يوسف بن جنون بن عمر بن عبد الرحمن بن سليمان بن الحسن بن عمر بن محمد بن محمد بن أحمد بن جنون بن أحمد بن مولانا إدريس الأزهر بن مولانا إدريس الأكبر بن سيدنا عبد الله الكامل بن سيدنا الحسن المثنى بن سيدنا الحسن السبط بن سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وسيدتنا الطاهرة العفيفة فاطمة الزهراء رضوان الله عليها بنت سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه.
وكانت ولادته رضي الله عنه بقبيلة بني زروال في منتصف القرن الثاني عشر الهجري (1150هـ/1737م)، وقيل كانت عام 1159هـ.
ب = نشأته وطلبه العلم والسلوك:
نشأ في بيت علم وعزة وعفاف وصيانة لمكارم الأخلاق، فهو"يمثل فرعاً من أصل ثابت يحدده شرف الدم والانتساب، وشرف الزهد والتصوف والجهاد عن بصير وعلم، وأن انتصابه للمشيخة يشكل استمراراً طبيعياً وضرورة حتمية". يقول رضي الله عنه حاله في صباه: "هممت بمعصية في حالة الصبا مع بعض من تتعلق الشهوة به، فخرجت بجسمي قروح كثيرة عند ورود خاطر السوء على قلبي، فاستغفرت الله فذهب ما بي في الحين فضلاً من الله ونعمة". وظهرت عليه علامات النبوغ وهو صغير حيث حفظ القرآن في السلكة الأولى حفظاً متقناً برواية ورش عن قراءة نافع ثم حفظه بالقراءات السبع المتواترة، وكان يساعد شيخه في تحفيظ الطلبة وسلك ألواحهم على الطريقة المغربية في حفظ القرآن. قال رضي الله عنه: "كنت أسلك للطلبة ألواحهم، وكثيراً ما أقبض اللوح بيدي وأقول لصاحبه قبل أن أنظر فيه: هذا اللوح ثقيل فيه كذا وكذا خسارة، أو خفيف، أو ما فيه إلا كذا وكذا، أولا شيء فيه، فلا أجد إلا ما أخبرتهم به إلهاماً من الله سبحانه".
ثم رحل إلى فاس المحروسة "وتخرج منها عالماً فاضلاً جهبيذاً ثبتاً، فاز على أنداده من العلماء الفحول ذوي الأخلاق الحميدة والمزايا الحسنة وجميل الخصال، حتى أنه كان يشار إليه بالبنان من ذلك الوقت، وكثيراً ما كان أقرانه يتسابقون لخطب مودته ومحبته وخدمته والتبرك به لما بدا عليه من الأسرار الإلاهية والأنوار المحمدية".
وبعدما أتم دراسته للعلوم الشرعية (علم الظاهر) تعلق قلبه وشغف بدراسة العلوم اللدنية (علم الباطن)، فرابط بضريح جده المولى إدريس الأزهر بفاس وختم به ستين سلكة من القرآن تقرباً إلى الله جل جلاله ليدله على الشيخ المرشد الدال على عظمته وقيوميته على طريقة القوم وأصولهم، "ولما ختم الختمة المكملة للستين بكى بكاء شديداً إلى أن احمرت عيناه، وخرج من ضريح مولانا إدريس، فمر بالشريف سيدي حميد من حفدة القطب الشهير العارف الكبير مولانا عبد العزيز الدباغ من ابنته فقال له: ـ وكان منظوراً عنده وعند غيره بالتعظيم ـ، ما لي أراك على هذه الحالة؟، وألح عليه فأخبره بأنه مضطر إلى من يأخذ بيده، فقال له: أن أدلك عليه إذا لم تشاور أهل الرأي القاصر، والعقل الفاتر، وقد قال الشريشي في رائيته:
ولا تسألن عنه سوى ذي بصيرة == خلِّـي من الأهواء ليس بمغـترّ.
فقلت له: ومن هو؟، فقال: هو الشيخ الجليل الشريف الأصيل الغوث الجامع والبحر الواسع أبو الحسن سيدي علي بن عبد الرحمن العمراني الملقب بالجمل عند أهل فاس".
وقد سلك رضي الله عنه طريق القوم على سبيل التبرك والمذاكرة والزيارة قبل ذلك، فلقي ثلة مشايخ منهم: الشريف الأكرم الولي الصالح مولاي الطيب بن مولاي محمد الوزاني،
والشيخ الشريف أبو عبد الله محمد بن علي بن ريسون الحسني العلمي، دفين تازروت بجبل العلم قرب ضريح القطب مولانا عبد السلام بن مشيش العلمي، والشيخ العربي البقال.
ت = عَقِــــــــــبُهُ:
عقب مولاي العربي الدرقاوي ثلاثة أولاد هم سادتنا وموالينا: علي ومحمد (فتحاً) والطيب.
* مولاي علي: استقر بفاس المحروسة وبها مقبره بالزاوية الدرقاوية بحومة البليدة، وكان رضي الله عنه رجلاً صالحاً مربياً ذا كرامات وكشف، وقد ولي أمر المحبين والفقراء بفاس بعد موت أبيه الشيخ الإمام. وما زالت ذريته إلى الآن بفاس مستقرة، منها أخوال صاحب هذا التقييد السادة:ا محمد وأبو بكر وجعفر وعبد الجبار أبناء الفقيه العالم الورع سيدي علي بن محمد بن العربي بن علي بن الشيخ مولاي العربي، مع التنبيه على أن فرقة كبيرة من ذريته لم تعد معروفة، كما أخبرني بذلك خالي السيد أبو بكر رواية عن عمه الفقيه سيدي رشيد رحمه الله.
** مولاي محمد (فتحاً): استقر بزاوية أبيه الشيخ الإمام ببوريح بالقبيلة الزروالية، ومعظم ذريته ما زال مستقراً بها قائماً بشأنها، وبعضها استقر بتطوان وطنجة والرباط وفاس، ولهم مصاهرة مع أبناء عمومتهم حفدة مولاي علي ومولاي الطيب.
*** مولاي الطيب: وهو أصغرهم ووارث سر أبيه، أسس زاوية جديدة بالبلدة المسماة "أمجوط" بالقبيلة الزروالية المباركة، قال عنه الشيخ الناصري: "وفي محرم يوم الجمعة الثامن من جمادى الأولى من السنة المذكورة (08 جمادى الأولى 1287هـ غشت 1870م) توفي الولي الصالح الناسك السني أبو عبد الله محمد الطيب بن الشيخ الأشهر مولاي العربي الدرقاوي ودفن بمحل زاويته بأمجوط من بلاد بني زروال، وكان من خيار عباد الله على غاية من التقوى والورع والتواضع مع الناس، يركب الحمار ويلبس الجبة ولا يتميز عن أصحابه بشيء مع السكينة والوقار وعدم الخوض فيما لا يعني، والإعراض عن زهرة الدنيا وأهلها، رحمه الله ونفعنا به". وعقِـبُهُ رضي الله عنه أكثر عدداً من عقب أخويه مولاي علي ومولاي محمد (فتحاً)، جلهم مستقر الآن بمدينة فاس، وفرقة منهم ما زالت مستقرة بزاوية أمجوط، وفرق أخرى بالقنيطرة والرباط وسلا والبيضاء وآسفي، وذريته ما زالت معروفة كلها إلى الآن، منهم صاحب هذا التقييد.
ث = تلامـــــــــذته:
ترك مولاي العربي الدرقاوي ثلة من التلاميذ العظماء النجباء، الورعين الأتقياء، جماعتهم من العلماء العاملين والأولياء الصالحين، الجامعين بين علمي الحقيقة والشريعة والظاهر والباطن نذكر من بينهم:
* العلامة الزاهد سيدي محمد بن محمد المكودي التازي المتوفى سنة: 1214هـ له كتاب الإرشاد والتبيان في سلوك الطريقة الدرقاوية والرد على منكريها.
* الفقيه العلامة الزاهد الناسك المفسر سيدي أحمد بن محمد عجيبة المتوفى سنة: 1224هـ /1809م. له مؤلفات عدة في فنون شتى تدل على جلالة قدره.
* العارف بالله القطب الرباني سيدي محمد بن أحمد البوزيدي الغماري المتوفى سنة: 1229هـ/1814م. له الرسالة في التصوف.
* الفقيه العارف بالله سيدي محمد بن محمد الحراق الحسني المتوفى سنة: 1261هـ/1845م. له مصنفات عدة في التصوف وغيره.
* الشيخ العالم سيدي أحمد البدوي الشهير بزويتن المتوفى سنة: 1275هـ له الرسائل في علم التصوف.
ج = وفاتــــــــــــــه:
كانت وفاة الشيخ مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه ونفعنا بعلمه ودعوته ليلة الثلاثاء ثاني وعشرين صفر الخير عام تسعة وثلاثين ومائتين وألف للهجرة الموافق لثلاثة وثلاثين وثمانمائة وألف للميلاد بزاويته حُنِّـط ليلاَ، ودفن بزاويته الثانية ببوريح، وغسلته زوجه الطاهرة السيدة مريم بنت الشيخ بن خدة الحسناوي، وصلى عليه العالم الولي سيدي أحمد بن محمد اليصلوتي العثماني من حفدة الولي سيدي عبد الوارث اليصلوتي العثماني.
المحور الـثاني: الطريقة الدرقاوية/حقيقتها ومكانتها وسندها.
أ = حقيــــــــــقتها:
أما طريقته رضي الله عنه فأجمع المؤرخون والباحثون والقوم أهل الفن والذوق على أنها طريقة شاذلية سنية قامت على هدى من الله تعالى وهدي من رسوله صلى الله عليه وسلم، طريقة مجددة لما بلي من طريق القوم، ومحيية لما مات من السنن على نهجهم وسلوكهم، مصفية ومميزة للتصوف الحق مما شابه من البدع والمنكرات التي علقت به ونسبت إليه، حتى ادعى من ادعى أن التصوف والسلوك ما هو إلا بدعة ابتدعت في الدين ليس إلا.
وهذا لعمري موجب من الموجبات الشرعية التي تحتم على كل من له علم بهذا الفن وكلام القوم وطريقتهم في تهذيب النفس وتزكيتها للوصول بصاحبها إلى مقام الإحسان الذي قال عنه رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه في حديثه الصحيح: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، أن يبينوا للناس حقيقة علم التصوف وأصوله ومقاصده ومجاله ليتبينوه ويردوا عينه ويشربوا من عذب معينه من أجل المعراج في مدارج السالكين تقرباً إلى رب العالمين، ورضي الله عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حينما قال: "قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وعابد متنسك".
وعن طريقة الشيخ مولاي العربي الدرقاوي في تربية مريديه وتلامذته يقول العلامة الفقيه العارف بالله سيدي محمد بن جعفر الكتاني الحسني: "وطريقته رضي الله عنه: مبنية على اِتباع السنة في الأقوال والأفعال والعبادات والعادات، ومجانبة البدع كلها في جميع الحالات، مع كسر النفس وإسقاط التدبير والاختيار، والتبري من الدعوى والاقتدار، والإكثار من الذكر آناء الليل وأطراف النهار، والاشتغال بالمذاكرة وما يَعني، وترك كل ما يُعني. وبالجملة: فطريقته رضي الله عنه جلالية الظاهر جمالية الباطن، وإن شئت قلت: سفلية الظاهر علوية الباطن، كطريقة شيخه. ورسائله ـ نفعنا الله به ـ من أنفع الرسائل للمريد، وأدلها على كيفية السلوك والتجريد، لا يستغني عن مطالعتها سالك، ولا يجحد خيرها وفضلها إلا هالك".
ويقول هو رضي الله عنه في وصيته لتلامذته ومريديه: "فإن شئت أن تطوى لك الطريق، وتحصل في ساعة على التحقيق، فعليك بالواجبات، وبما تأكد من نوافل الخيرات، وتعلم من علم الظاهر ما لابد منه، إذ لا يعبد ربنا إلا به، ولا توغل فيه ولا تتبعه إذ لا يطلب فيه التبحر، إنما يطلب التبحر في الباطن، وخالف هواك إذ ترى عجباً. والخلق الكريم هو التصوف عند الصوفيين، وهو الدين عند أهل الدين"، وسقنا هذا النص القصير على سبيل التمثيل لا الحصر. ليكون شاهداً على ما قررناه سلفاً، وقديماً قال علماؤنا: "إنما الكلام مع الكلام"، وما بعد الحق إلا الضلال.
ب = مكانــــــــتها:
تعتبر الطريقة الدرقاوية الشاذلية من أهم الطرق الصوفية السنية بالغرب الإسلامي، التي أسهمت في إحياء ما اندرس من التصوف السني الشاذلي وتجديده، حيث أطرت التفكير الصوفي خلال القرن الثاني عشر الهجري (19م). ومنها تفرعت كثير من الطرق والزوايا كالصديقية والحبيبية والكتانية والحراقية والعجيبية.
وفي هذا السياق يلخص الدكتور أحمد بوكاري وظيفة الزاوية الدرقاوية وخصائصها وأحوال رجالاتها، وكذا النجاح الذي حققته خصوصاً في القرن13هـ/19م بقوله: " تعتبر الدرقاوية من أهم الطرق الصوفية ذات المنحى السني الشاذلي، التي ظهرت وانتشرت بصفة خاصة خلال القرن 13هـ19م بل وبعده، وإن هاجس سنيتها هو الذي جعل شيوخها المؤسسين يعتبرون أنفسهم على قدم كبار شيوخ التصوف السني أمثال: أبي القاسم الجنيد والشيخ عبد القادر الجيلاني وغيره، وأنهم تبعاً لذلك ممن أحيى الله بهم معالم الطريق بعد اندراسها، وأن ما يمكن اعتباره 'إفراطاً' أو 'تطرفاً' في هذه السنية، بالنظر إلى ما كان متعارفاً عليه في إطار المعتقد الصوفي السني الشاذلي بالمغرب من قواعد وشعارات، هو الذي جعل البعض يتشكك في دعواهم ويصفها بالبدعة والخروج عن السنة، ويعترف الدرقاويون أنفسهم بأن شعاراتهم الظاهرية كانت بالفعل صدمة للواقع، لعامة الناس وخاصتهم بسبب ما اعتادوا عليه، ومع ذلك استطاعت الدرقاوية أن تصمد وتوجد لنفسها مكانة في المجتمع بمختلف فئاته، بل وتنتشر في مختلف مناطق البلاد. حتى اعتبر القرن 12/19م قرن الدرقاوية، ويعزى هذا النجاح في قسمه الأكبر إلى اقتناع أشياخها ومريديها بأنهم يمثلون ويتمثلون التصوف السني في أجلى مظاهره، كما عرفوا باستماتتهم في الدفاع والإقناع عن مسلكهم رغم غرابته، فجعلوا من المذاكرة والتذكير ركناً أساسياً في طريقتهم، ونقطة مركزية في اجتماعاتهم، وخلال سياحاتهم وضمن رسائلهم ومراسلاتهم".
ت = سنــــــــــــــدها:
إن اعتناء الصوفـية بسندهم الصوفي شبيه باعتناء المحدِّثـين بسند الحديث، ولولا الأسانيد لتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقصد بالسند سلسلة الرواة أو الرجال الذي حفظوا الحديث أو رووه أو نقلوه شيخاً عن شيخٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشترطوا لقبوله شروطاً تراجع في مصادرها.
واعتناء الصوفية بسند طرقهم تطلبته ضرورات ثلاث في نظري والله أعلم:
* أن الطريقة عبادة يتقرب بها إلى الله جل جلاله، ومن ثم فإنه سبحانه وتعالى لا يتقرب إليه إلى بما هو مشروع على هدى من الله تعالى وهدي من رسوله الأعظم صلوات ربي وسلامه عليه، وهذا العمل المشروع لابد أن يعلم ويلقن.
** بيان مصدر الطريقة ومَـعِـينها، في إطار مدرسة موحدة متسلسلة تشكلت حلقاتها عبر قرون، لها رجالها وأصولها وتراثها سواء الشفهي منه أو المكتوب.
*** حتى لا يتقول الناس على هذا الأمر ويدعون.
وقد أخذ الشيخ مولاي العربي الدرقاوي طريقة القوم السنية الشاذلية عــن:
الشيخ العارف بالله سيدي علي بن عبد الرحمن الجمل (ت: 1193هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي محمد العربي بن أحمد عبد الله معن الأندلسي .
الشيخ العارف بالله سيدي أحمد بن عبد الله معن الأندلسي (ت: 1120هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي قاسم الخصاصي (ت: 1083هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي محمد بن محمد بن عبد الله (ت: 1062هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي عبد الرحمن بن محمد الفاسي (ت: 1036هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي يوسف الفاسي(ت: 1013هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي عبد الرحمن المجذوب (ت: 976هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي علي بن أحمد الصنهاجي الدوار (ت: 1050هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي أبو إسحاق إبراهيم أفحام .
الشيخ العارف بالله سيدي أبو العباس أحمد بن أحمد زروق (ت: 899هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي أحمد بن عبد القادر الحضرمي.
الشيخ العارف بالله سيدي أبو زكرياء يحيى بن أحمد القادري.
الشيخ العارف بالله سيدي أبو الحسن علي بن وفاء (ت: 807هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي أبو عبد الله بن وفاء.
الشيخ العارف بالله سيدي شرف الدين أبو سليمان داوود البلخي.
الشيخ العارف بالله سيدي تاج الدين أحمد بن عطاء الله (ت: 709هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي أبو العباس أحمد بن عمر المرسي (ت: 686هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي أبو الحسن علي بن عبد الله الشاذلي (ت: 656هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي عبد السلام بن مشيش (ت: 622هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي أبو محمد عبد الرحمن بن الحسين المدني.
الشيخ العارف بالله سيدي تقي الدين الفُـقَـيِّر.
الشيخ العارف بالله سيدي فخر الدين.
الشيخ العارف بالله سيدي أبو الحسن علي نور الدين.
الشيخ العارف بالله سيدي تاج الدين.
الشيخ العارف بالله سيدي شمس الدين.
الشيخ العارف بالله سيدي زين الدين القزويني.
الشيخ العارف بالله سيدي أبو إسحاق إبراهيم البصري.
الشيخ العارف بالله سيدي أبو القاسم أحمد المرواني.
الشيخ العارف بالله سيدي أبو محمد سعيد.
الشيخ العارف بالله سيدي فتح السعود.
الشيخ العارف بالله سيدي سعيد الغزواني.
الشيخ العارف بالله سيدي أبو محمد جابر.
سيدنا ومولانا الحسن سبط النبي صلى الله عليه وسلم.
أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
سيدنا وسيد الأولين والآخرين محمد صلوات ربي وسلامه عليه.
مع التنبيه إلى أن الشيخ محمد العربي معن الأندلسي شيخُ شيخِ مولاي العربي الدرقاوي قد جمع بين طريقتين عظيمتين الطريقة الشاذلية التي أخذها عن والده كما ذكرنا سلفاً، والطريقة الجيلانية عن الشيخ أحمد اليمني، ويعتبر هذا المزج إضافة نوعية لهذه الطريقة.
المحور الثالث: الطريقة الدرقاوية / أصولها ومرتكزاتها.
ذكرنا سابقاً أن الطريقة الدرقاوية الشاذلية سنية الأصل والفرع، قامت على هدى من الله تعالى وهدي من رسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم، وهاته السنية نتبينها من خلال أصولها ومرتكزاتها، لأنه لا يكفي أن يدعي أحد انتسابه لملة من الملل أو مذهب من المذاهب أو طائفة من الطوائف فنقر له بذلك، اللهم إذا كان يستمد تقريراته وتوجهاته وسلوكياته منها، وتكون أصول نحلته تنطلق منها تقعيداً وتفريعاً.
وقبل أن أتطرق إلى أصول الطريقة الدرقاوية الشاذلية ثمة مقدمات لابد من ذكرها لها علاقة بأصولها:
المقــــدمة الأولــــى: إن موضوع علم التصوف هو السلوك المرتبط بالإحسان الذي هو أحد مكونات الدين الإسلامي الثلاث، ذاك الدين الذي ارتضاه لنا الحق جل جلالُه وأكملَـه، وبكماله تمام النعمة الإلاهية علينا مصداقاً لقوله عز وجل: ]اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام ديناً. ومكوناته الثلاثة هي: الإسلام والإيمان والإحسان المذكورة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهور حينما سأله جبريل عليه السلام عنها، والتي لخصها الفقيه العلامة ابن عاشر في ذكر البغية من نظم منظومته المعروفة بالمرشد المعين:
في عقد الأشعري وفقه مالك == وفي طريقة الجنيد السالك
وعلم التصوف اهتم بمكون الإحسان دون غيره، لأنه غرضه وموضوع بحثه وموطن تقريراته، وهو اعتناء منهجي وتخصص معتبر. يقول العلامة المحقق الأديب المختار بن علي السوسي الدرقاوي: "فلا ريب أن مدلول الإيـمان هو محور علم العقائد الذي تكفل هذا العلم بالبحث فيه إجمالاً وتفصيلاً، وأن مدلول الإسـلام يرجع فيه إلى علم تصحيح العبادات، لكن للإحـسان علماً آخر ورجالاً آخرين، هم المتكفلون بتنبيه الناس إليه، فإذا عرفنا أننا نرجع في العقائد إلى أرباب علم الكلام، وفي العبادات إلى الفقهاء، فإلى من نرجع يا ترى في الإخلاص في المعاملات العملية والقلبية الذي هو مدلول الإحسان؟. لا يزال الصوفية من قديم منذ ظهرت نحلتهم الخاصة المنبثقة من نفس روح الدين كعلم له قواعده ومبادئه وغاياته، ككل العلوم المنبثقة من ديننا الحنيف، لا يزالون يرفعون عقيرتهم بأن قطب ما يزاولونه إنما يدور حول العمل لوجه الله الكريم، فيعبد كما يستحق جل جلاله بنية خالصة لا رياء فيها ولا سمعة، وقديماً قال قائلهم: التصوف أن تعمل على وجه الإخلاص بما صح في الكتاب والسنة".
المقــــــدمة الثانــــية: إن التصوف الذي نؤمن به ونعمل من خلاله ونجتهد في تمثل جوهره وتحققه كما هو عند أشياخه وأعلامه هو التصوف الصافي الخالي من البدع والمنكرات المستند على الكتاب والسنة، ونبرأ إلى الله من كل اعتقاد أو عمل خالفهما وانحرفا عن شريعتهما، لكن مع تحقيق أمر البدعة وتبينها إلزاماً حتى لا نتسيب في إطلاقها دون موجب شرعي. يقول العلامة المختار السوسي في هذا السياق: "هذا التصوف الصافي الذي لا عوج فيه ولا أمت، ولا يهولن من يطالع كتب القوم إذ وجد اختلافاً في العبارات، في التعبير عن التصوف، فلكل قوم أن يصطلحوا بما شاءوا، ولكن متى عرف الإنسان اللب فلا عليه بالقشور، ومن لم يأخذ علماًُ من أربابه فكيف يمكن له أن يعرف مصطلحاته، ولا أن يدرك دقائقه؟. كل من يتقرى أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحوال أصحابه يجد الأصل الأصيل مما عند الصوفية واضحاً بيناً في أفعالهم وفي أقوالهم وفي نياتهم، ولذلك كان هدى الرسول وأصحابه هو ما يقتفى عند القوم، فحين كان مقصود التصوف الإخلاص، وكان الإخلاص كالعرض الذي لا يظهر إلا في الجوهر، كانت الأقوال والأفعال مجلي الإخلاص دائماً، فمن لا يظهر عليه الإخلاص في أعماله فهيهات أن يسمى مخلصاً، ومن أسر سريرة ألبسه الله رداءها. فحينئذ ليس لب التصوف في جوهره لبس المرقعات، ولا التقلد بالسبحات، ولا الحلق المستديرات، ولا الإغراق والغلو في محبة الشيوخ، ولا إرسال العذبات، ولا الانحياز إلى طائفة دون طائفة، بل التصوف هو الاستقامة على السنة الصحيحة التي كان عليها الرسول وأصحابه، والصدر الأول من السلف الصالح رضي الله عنهم، فكيف يفلح من يعمل عن قصد عملاً لم يعمله الرسول صلى الله عليه وسلم، محتجاً بأن فلاناً يفعل ذلك؟ لا والله، لا خير إلا في السنة ولا فلاح إلا لمن يحرص على أن لا يخرج عما صح عن خير المرسلين الذي أمرنا بالاقتداء وحده، ]وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة.
فخير أمور الدين ما كان سنة == وشر الأمور المحدثات البدائع".
المقـــــــدمة الثالثـــــــة: إذا قررنا أن علم التصوف من علوم الدين، وأن موضوعه الرقي بأخلاق النفس والجوارح من خلال تهذيبها وتزكيتها بقصد الوصول بصاحبها إلى مقام الإحسان الذي هو أعلى مقامات الدين، وإذا قررنا أن منطلق التصوف ومآله الكتاب والسنة، فـإن ما يتحدث عنه بعض الناس من بدعية هذا العلم وعدم حجيته ومشروعيته، ما هو إلا ضرب من الخبط واللبط، فلكل علم وفن مصنفوه ومصنفاته، وأصوله وفروعه، ومباحثه ومصطلحاته، ولا حجة للمتكلم المشتغل بعلم الإيمان والعقائد على الفقيه الأصولي المشتغل بفقه العبادات والمعاملات، ولا حجة للفقيه على الصوفي المربي المشتغل بعلم الأخلاق والسلوك، فكـلٌّ يعمل في تخصصه، ويجتهد ويقعِّـد ويفـرِّع.
المقـــــدمة الرابـــــعة: إن ما يدعيه بعض الناس من أن تأويلات المتصوفة للنصوص الشرعية مجانبة للحق والصواب، وأن الحق والصواب مع تأويلات علماء الشريعة لها فحسب، إنما هو تحجير على العقول وتضييق عليها، وسد لباب النظر والتدبر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم بغير موجب شرعي، وكلام الله تعالى ينظر فيه هذا وذاك وذلك ويتدبرون، وكلٌّ يستنبط منه الدرر والنفائس حسب علمه وفتـحِ الله عليه، وصدق الله العظيم إذ قال في محكم كتابه العزيز: ]قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً. وقوله سبحانه: ]ولو اَنما في الارض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله، إن الله عزيز حكيم. وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عن عظمة القرآن العظيم: )حبل الله المتين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يََـخْـلُـقُ عن كثرة الردِّ، ولا تنقضي عجائبه.
فمن يتجرأ على ادعاء سد باب النظر والتدبر في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بعد هذا البيان فهو متقول بلا حجة ومدع بلا دليل ليس إلا. نعم إن الناظر والمتدبر لا بد أن ينضبط بضوابط ويحتكم إلى قواعد علمية تكون عوناً له على النظر والتدبر وحارسة له من الانزلاق، فما اتفق عليه من قواعد بين علماء الدين ـ عقيدة وشريعة وتصوفاً ـ يلتزم وينضبط بمقتضياتها، لأنهم أعلم الناس بمراد الله تعالى وبمراد رسوله الكريم صلى الله عليه سلم. قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولوا الالباب.
المقــــــدمات الخامـــــسة: إن الاختلاف موجود حتى بين المتكلمين أنفسهم، وبين الفقهاء أنفسهم، وبين المتصوفة أنفسهم، فلماذا يغض الطرف عن هاته الحقيقة، ولا سيما إذا علمنا أن كثيراً من العلماء مشرقاً ومغرباً برزوا في العلوم الثلاثة ولم يخل منهم عصر من العصور. والاختلاف رحمة وقوة في الحضارة الإسلامية، وقد حصل التفسيق والتبديع بين الفرق الكلامية السنية، وبين المذاهب الفقهية وهو سلوك مذموم ممقوت تُعرض عنه الطبائع السليمة والعقول المستنيرة بله القلوب المؤمنة المطمئنة شَـان هاته الحضارة العظيمة، فلماذا نمنعه أن يكون بين علماء السلوك والأخلاق (المتصوفة) وغيرهم، ما دام يتأدب بآدابه وأخلاقه. وأسوق في ختام هاته المقدمة كلاماً للعلامة الفقيه سيدي أحمد بن محمد ابن الخياط في مقدمته لمجموع الرسائل: "وحسب من لم يصل إلى مقامهم، ولا خرج من سجن نفسه، ولا سلك سبيل هذه الطريق أن يسلمها لأهلها، ويحسم مادة الإنكار من أصلها، ويدخل في حيز: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، إذ: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، فينتفع بالتسليم كما ينتفع بالغيب، وأما من أراد نفيها فقد دخل حتماً في قوله تعالى: ]بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه"
المقــــدمة السادســــــة: يعتقد كثير ممن لا علم لهم أن أتباع المتصوفة ما هم إلا رعاع القوم وسفلتهم وجهلتهم ليس إلا، ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث في مصادر القوم وتراجم مشاهيرهم والكتب المعتنية بتاريخهم، وحسبنا أن القلم يعجز عن حصرهم لكثرتهم، والسِّفر الواحد يضيق بذكرهم، وهم أشهر من نار على علم.
"وقد أسهمت مؤسسة الزاوية الصوفية إسهاماً بارزاً عبر تاريخ المغرب في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والدينية لا ينكره إلا حاقد ذو حقد دفين أو جاهل ذو جهل مكين، فكان لها الفضل الكبير في إطعام المحتاجين وإيوائهم، وفي رعاية العلم وأهله، وفي تربية النفوس وتهذيبها، وفي حفظ الاستقرار الأمني والسياسي عبر إخماد الثورات الانفصالية، ومحاربة الاستعمار الغاشم، وتحرير الثغور الشاطئية، وكانت ـ أي الزاوية ـ في كثير من الفترات العصيبة إبان انتشار الفتن وضعف السلطة المركزية ملاذاً آمناً للعلماء والضعفة من الناس الفارين من الظلم والجور، ومركزاً علمياً شامخاً سالباً مشعل ريادة العلم من جامع القرويين مهد العلم والعلماء بوطننا الحبيب. يقول العلامة المؤرخ محمد بن الطيب القادري في هذا الصدد: "ومن الجاري على الألسنة وحكاه بعضهم عن شيخنا ـ أورع زمانه ـ سيدي الكبير السرغيني رضي الله عنه قولهم : إنه لولا ثلاثـة لانقطع العلم من المغرب في القرن الحادي عشر لكثرة الفتن التي ظهرت فيه، وهم : محمد بن أبي بكر في ملوية من بلاد فزاز، وسيدي محمد بن ناصر الدرعي في الصحراء، وسيدي عبد القادر الفاسي بفاس". فقول المصنف : "لانقطع العلم من المغرب في القرن الحادي عشر لكثرة الفتن التي ظهرت فيه" ليس مبالغة منه رحمه الله، وإنما حقيقة ساطعة، حيث هُـدِّدَ الكيان المغربي في هاته الفترة من أساسه بالانهيار التام، بسبب ضعف السلطة المركزية بعد وفاة الخليفة السعدي أحمد المنصور الذهبي عام : 1012هـ=1603م وتناحر أولاده على السلطة".
ومن بعدهم الزاوية الوزانية والكتانية والصديقية وغيرها كثير، ولم تشد الزاوية الدرقاوية عن هذا الأصل، فقد برز فيها علماء أفذاذ جمعوا بين علمي الظاهر والباطن سواء ممن تتلمذوا على يد مؤسسها مولاي العربي الدرقاوي، أو بعد وفاته، ولولا الإطالة لأتيت ببطاقة جامعة في هذا الباب.
وتأسيساً على ما سبق وبتتبعنا لمجموع رسائل الشيخ مولاي العربي الدرقاوي واستقرائها رسالةً رسالةً، وكذا بتتبعنا لأهم ما كتب عن الطريقة الدرقاوية الشاذلية في كتب التراجم والطبقات، وكتب القوم، وكذا الدراسات المعاصرة، فإن أهم الأصـول التي ترتكز عليها الطريقة، وبعبارة أخرى: مقومات التربية السلوكية عند الطريقة الدرقاوية هي:
الأصـل الأول: الاجتهاد في إتباع الكتاب والسنة
وذلك تأصيلاً وتفريعاً، مع التحذير من الوقوع في البدع والمنكرات، يقول العلامة الفقيه المكودي وهو يتحسر في سجنه بتطوان أيام محنة أهل الطريقة الدرقاوية بها وعلى رأسهم الفقيه المفسر سيدي أحمد بن عجيبة والفقيه المكودي صاحب النص الآتي بعد قليل وهو عبارة عن جواب لما جوبهوا به من الأسئلة من طرف قائد تطوان وجملة العلماء ممن كانوا في صفه: "معاذ الله أن تكون هذه الطائفة الدرقاوية على غير السنة المحمدية، والملة الإبراهيمية، وكيف يتصفون بالبدعة والظلمة، وكثير منهم فقهاء في الكتاب والسنة؟، وكيف يتحلى بالفساد من باع نفسه لرب العباد؟، أم كيف يفسد الأنام من شأنه التلاوة والذكر على الدوام؟، وكثرة الصلاة على خير الأنام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، نعم بعض الأمور تختلف باختلاف المقاصد (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، إذ هم أهل تجريد وأصحاب خرق العوائد بين العبيد، فقد يظهر من بعضهم ما هو مخالف لظاهر الكتاب، فإن سئل عن وجه ذلك وأجاب، تبين أنه في غاية الحسن والصواب، وأيضاً نحن بشر ولسنا بمعصومين، فقد يصدر من الإنسان ما هو مكروه أو محرم في بعض الأحيان، فيستغفر من حينه ويتوب لمولاه"،
وقد شغل التنصيص على هذا الأصل الأول حيزاً لا بأس به من الرسائل بل هو موضوع الرسالة الأولى. وكأني بالشيخ مولاي العربي الدرقاوي يصف حال وقته من انتشار والبدع وتكاثر أدعياء التصوف. يقول رضي الله عنه: "إني أحب من يتعلق بي أن يقوم بالمفروض، وبما تأكد من المسنون، وأن يكون دائماً على نظافة بدنه وثوبه ومكانه، وأن يرجع عن إتباع المحسوسات، وعن سائر العادات والشهوات.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على == حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
كما قال ولي الله تعالى سيدي البوصيري رضي الله عنه في بردته، وكما قال أيضاً الشيخ الجليل ولي الله تعالى سيدي ابن عطاء الله رضي الله عنه في حكمه: 'من استغرب أن ينقذه الله من شهوته، وأن يخرجه من وجود غفلته، فقد اِستعجز القدرة الإلاهية، وكان الله على كل شيء مقتدراً'. ونرى والله اعلم أن الواجبات تكفيه مع ما ذكرنا وتغنيه الغنى الكثير، ولا تكفيه الأعمال الكثيرة مع عدم ما ذكرنا. ومع هذا فلا نحب إلا من يقوم بالواجبات، وبما تأكد من نوافل الخيرات، والله الموفق".
ويقول في موطن آخر: "فكل فقير لا يبالي بما يقول، ولا بما يفعل، بل ينهمك فيما عنه نهى الله، ولا يعبأ بما يصدر منه من معاصي الله فليس بفقير، وإياكم والمحرمات والمكروهات، ولا أخاف عليكم من شيء مثل ما أخاف عليكم من الكذب والغيبة والنميمة".
وفي موطن آخر: "فمن شاء منكم ومن غيركم أن تنقلب ناره جنة، فلا يتزحزح عن السنة، إذ هي سفينة النجاة، ومعدن الأسرار والخيرات".
وكفى بهذا القدر بياناً لهذا الأصل الأول.
الأصــل الــثاني: التخلق بمكارم الأخلاق
إذ موضوع التصوف كما قلنا هو الأخلاق والسلوك وغايته العظمى، ولم تعتن صنوف العلماء بالأخلاق كاعتناء المتصوفة بها، لهذا فإن شيوخ التربية من أكثر ما يؤكدون عليه مع مريديهم هو التحلي بمكارم الأخلاق، فقد يأتي المؤمن بأفعال الإيمان والإسلام مع إهمال للأخلاق، فيكون هذا الإهمال سبباً في خسرانه والعياذ بالله رغم إتيانه بكثير من شعب الإيمان وشعائر الإسلام، فقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون من المفلس؟، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال صلى الله عليه سلم: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)، كيف لا والرسول الأعظم صلوات ربي وسلامه عليه يختصر المقصد العام والأساس من بعثته في نشر الأخلاق الصالحة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق). وقد وصفه ربه جل جلاله ومدحه بقوله: وإنك لعلى خلق عظيم، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: (تقوى الله وحسن الخلق).
يقول الشيخ مولاي العربي الدرقاوي في معرض حديثه عن الأخلاق: "وخالف هواك إذ ذا ترى عجباً، والخلق الكريم هو التصوف عند الصوفيين، وهو الدين عند أهل الدين، ولعنة الله عل الكاذبين".
وقال في موضع آخر: "وكونوا أيضاً على الحياء من بعضكم بعضاً، ومن الناس كلهم، وعلى حسن الخلق، وعلى حسن الظن، وعلى ترك الطمع، ولا تعكسوا فتكونوا على قلة الحياء، وعلى سوء الظن، وعلى سوء الخلق".
وفي رسالة أخرى: " فالخلق الحسن ـ أو نقول: الكريم ـ يا إخواني هو التصوف عند الصوفيين، وهو الدين عند أهل الدين، ولعنة الله عل الكاذبين. وأما سوء الخلق، والسفه، وقلة الحياء، وقلة الوفاء بالعهد فليس من الدين".
وفي تعبير جامع عن حقيقة التصوف يقول: "التصوف فيما نرى والله أعلم: حفظ شرائع الدين، وسلب الإرادة لرب العالمين، وحسن الخلق مع المسلمين".
ولن أتعرض لحديثه عن جملة من الأخلاق الحميدة والمذمومة ترغيباً وترهيباً فهو كثير، لأن المقام لا يسمح بذلك.
الأصل الثالث: العمل والمجاهدة
على تهذيب النفوس وإحياء القلوب.
القائمان على التسليم والتجريد
ولا يتحقق ذلك إلا بإماتة النفوس وجعلها طيعة لصاحبها مطمئنة بذكر ربها وتسليم أمرها لخالقها، فما أصعب معالجة النفوس وتدريب القلوب مقارنة بمعالجة الجوارح وتدريبها، فهي أهون منهما كهوان الماء عند الشرب، ولله ذر الإمام البوصيري حين قال في بردته الرائعة:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على == حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم.
فاصرف هواها وحاذر أن توليه == إن الهوى ما تولى يصم أو يصم.
إلى أن قال:
وخالف النفس والشيطان واعصهما == وإن هما محضاك النصح فاتهم.
ولا تطع منهما خصماً ولا حكماً == فأنت تعرف كيد الخصم والحكم.
وإن أول خطيئة في الأرض أخبرنا عنها الحق سبحانه وتعالى كانت بسبب فساد النفس وعدم صلاحها وكان ذلك سبب خسرانها، قال تعالى حكاية عن ابني آدم عليه السلام: فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين، قال العلامة المحقق سيدي ابن عجيبة تلميذ الشيخ مولاي العربي الدرقاوي في تفسيره: "تضمنت هذه الآية من طريق الإشارة ثلاث خصال، يجب التحقق بها على كل مؤمن متوجه إلى الله تعالى. أولها: التطهير من رذيلة الحسد، الذي هو أول معصية ظهرت في السماء والأرض، وقد تقدم الكلام عليه في النساء. الثانية: التطهير من الشرك الجلي والخفي، والتغلغل في التبري من الذنوب التي توجب عدم قبول الإعمال، ويتحصل ذلك بتحقيق الإخلاص. والثالثة: عدم الانتصار للنفس والدفع عنها إلا فيما وجب شرعًا، فقد قالوا: (الصوفي دمه هدر، وماله مباح)، فلا ينتصر لنفسه ولو بالدعاء، فإما أن يسكت، أو يدعوا لظالمه بالرحمة والهداية، حتى يأخذ الله بيده اقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «اللهم اغفر لِقَومي فَإنَّهُم لا يَعلَمُونَ».
وللشيخ مولاي العربي الدرقاوي كلام عجيب جامع في هذا الباب، منه: "فكونوا رحمكم الله على ما يميت نفوسكم ويحيي قلوبكم، وأصل المحاسن من حيث هي، هي من فراغ القلب من حيث الدنيا، كما أن أصل القبائح من حيث هي، هي عمارتها لحبها، قال بعضهم: المحبة عروس ومهرها النفوس، ما تحيى القلوب إلا بموت النفوس، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم، ولا شك أن المعتصم بالله لا يفارقه عون الله، أو نقول: نيابة الله، والسلام".
ويقول في موطن آخر راداً على أدعياء التصوف: "فقد قلت لبعض المدعين المشحونة قلوبهم بالغل والحسد، والكبر والرياء والعجب، والبخل، والحرص، وغير ذلك من الرذائل: كن سالم الصدر وانقص من صلاتك ومن سائر أعمالك، ولا تقم إلا بالمفروض، وبما تأكد من المسنون، ولا تزد عليه. إذ لا ينفعك كثرة أعمالك مع خبث قلبك، ولو عملت ما عملت، إنما تنفعك سلامة صدرك مع ما فرض الله عليك".
ويقول في أمر إخلاص العبودية لله: "فو الله ما هو الشرف حقاً إلا في العبودية، فلذلك مدح نبيه صلى الله عليه وسلم بها حيث قال في كتابه: سبحان الذي أسرى بعبده، وليقل بنبيه ولا برسوله ولا بغيرهما، إنما اختار له اسم العبد، إذ هو صلى الله عليه وسلم عبده حقاً وتحقيقاً، ومدح بالعبودية غيره من الأنبياء عليهم السلام، إذ قال تعالى في كتابه: نعم العبد إنه أواب، واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وفي قراءة: ) عبدنا إبراهيم (إلى غير هذا. والظاهر الذي لا خفاء فيه لمن فتح الله بصائرهم ونور سرائرهم أن العبودية هي شرف كل أحد كائناً من كان ذلك الأحد، فشدوا أيديكم عليها، وكونوا على ما يثقل على أنفسكم منها لا على ما يخف عليها، إذ قال تعالى: إن كل من في السماوات والارض إلا آتي الرحمن عبداً، وفرق كبير بين من تعبد لربه اختياراً لا قهراً وبين من تعبد له قهراً لا اختياراً، ولا شك أن لا طريق للحرية إلا من باب العبودية".
ولمزيد من التوسع وإعمال النظر في هذا الأصل وما يتعلق به تُـراجع الرسائل المبينة أسفله على سبل التمثيل لا الحصر.
الأصل الرابع:
الذكـــــــــــــــــــــــــــــــــر
بالتهليل والاستغفار، وبالصلاة والسلام على النبي المختار
لا أبالغ إذا قلت: لقد ارتبط الذكر بالزوايا الصوفية أكثر مما ارتبط بمؤسسة أخرى من مؤسسات المجتمع، والذكر من الأصول الأساسية في الطريقة الدرقاوية إذ هو أحد الأركان الأساسية في التربية السلوكية عندها، وهو مرتبط بالأصل قبله، فالنفوس لن تموت والقلوب لن تحيى إلا بالذكر والاستغفار، والصلاة والسلام على النبي المختار، فضلاً عن المجاهدة على النحو الذي ذكرنا آنفاً.
ويا ليت شعري لو أننا فهمنا حقيقة الذكر كما فهمه القوم، فذقنا حلاوته كما ذاقوها، لأنه هو والله الحصن الحصين والطريق المتين، وهو مفتاح التقرب إلى الله، وصدق الله العظيم إذ يقول: إن في خلق السماوات والارض، واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الالباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والارض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك، فقنا عذاب النار، ربنا إنك من تدخل النار فقد اخزيته، وما للظالمين من انصار.
ففي الآية تنبيه بليغ وترتيب بديع وتقديم لأمر الذكر لمن كان له قلب أو ألقى
السمع وهو شهيد:
1) فتقديم الذكـر في الآية لم يكن اعتباطاً، فهو سبحانه منزه عن كل أفعال النقص والعبث، فهو الحكيم الحق وكلامه حق وأنزله بالحق، لأنه بالذكـر تموت النفوس وتحيى القلوب فيشرق نورها بإذن ربها )يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم(.
2) هذا الإشراق الناتج عن الذكر يجعلها تتفـكر في ملكوت السماوات والأرض وفي خـلق الله وتـتدبره وتتـبصره )ويتفكرون في خلق السماوات والارض (.
3) هذا التفكر يجعل الإيمان يستقر أكثر فيـقر بعظمة الخالق وحكمته فينفي عنه كل مظاهر النقص والعبث )ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك (.
4) هذا الإيمان والإقرار يجعلانه عبداً لله حقاً وتحقيقاً، فتتعلق جوارحه وقلبه بالله داعياً مستغفراً متذللاً متعلقاً، لأن الدعاء هو مـخ العـبادة كما هو مجمع عليه بـين أئمتنا )فقنا عذاب النار، ربنا إنك من تدخل النار فقد اخزيته (، كأن باطنه يتحسر ويبكي خائفاً راجياً بعدما شاهد بباطنه ما شاهد.
إذن فكأن الله تعالى ينبهنا في الآية الكريمة: يا عبادي إنه لا سبيل لكم للوصول إلى شرف العبودية الحقة لي طائعين متذللين إلا بالدعاء، وهو لا يكون إلا بالإقرار والإيمان، الذي لا يكون إلا بالتفكر والتدبر، الـذي لا يتحـقق إلا بالذكـرـ والله أعلم ـ.
وفي القرآن العظيم آيات عديدة للموقنين في الترغيب في الذكر والترهيب من الغفلة عنه، وكذا في أحاديث سيد الأولين والآخرين نذكر جملة منها:
1) فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون.
2) واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والابكار.
3) الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
4) واذكر ربك إذا نسيت.
5) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً.
6) ومن اَعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى.
7) استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، أولئك حزب الشيطان.
8) يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون.
* وعن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره مثل الحي والميت).
* وعن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خيره منه).
* وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق المفرِّدون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟، قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).
* وعن سيدنا عبد الله بن بسر رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبت به، قال: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله).
ولأهمية الذكر في طريق التربية والسلوك عند مولاي العربي الدرقاوي فقد خصه بالكلام في الرسالة الثالثة من مجموع رسائله، حيث أسهب فيها في الحديث عنه من حيث: حقيقته وفضائله وطريقته والمواظبة عليه. ومنه قوله: "الذكر هو الركن الأعظم في طريق الله، والعمدة فيها كما علمت، فكن عليه كما أمرت. ونحبك ـ أحبك الله ـ أن تكون على تذكير عباد الله (الله)، ثم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذرهم من الكفر دائماً، وزهِّـدهم في الدنيا، وأمرهم أن يقنعوا منها بما تيسر كما أمر الله".
وفي موضع آخر: "فأوصيكم كل الوصية أن تكونوا دائماً على السنة المحمدية، وأن تذكروا ربكم حين يضيق حالكم، وحين يتسع حالكم، وتصلوا على نبيكم صلى الله عليه وسلم كذلك، فالمؤمن تحصل له الطمأنينة بذكر ربه، حتى لا يحزنه الفزع الأكبر يوم القيامة، فما بالك بما يصيبه في الدنيا من البلايا والمحن؟، وليس الذكر عندنا أن يقول الذاكر: الله الله دائماً، ويصلي ويصوم كذلك، وحين تصيبه مصيبة يفتش على ما بيده من الأعمال فلا يجد منها شيئاً. بل الذكر عند أهل التحقيق رضي الله عنه أن يقوم الذاكر بما لابد منه من المأمورات، وأوكدها ترك ما لا يعني".
وقال في الرسالة الأخيرة: "فأمر الذكر واسع، وانظروا إن شئتم معنى قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً، عند أهل التفسير رضي الله عنهم، فإنكم تجدون أمر الذكر واسعاً ما قلنا لكم، وأما ذكر الاسم المفرد فنرى والله أعلم أن الصواب أن يذكره الذاكر كما أقول له بسكينة ووقار، وإعظام وإجلال، وحالة نظيفة سنية شريفة، واعتماد على الله، وأن لا يذكر: الله الله الله بلا مد قط، وليذكر الله الله الله بوقف الاشباع، وحتماً إن الطمأنينة تنزل عند ذكر الله، ومن شاء أن يعلم علماً يقيناً أو حقيقياً فليواظب على ذكر الله تعالى بسكينة ووقار، وإجلال وحالة نظيفة، سنية شريفة، واعتماداً على الله تعالى، وعلى هذه الحالة الموصوفة ينبغي للسالك أن يكون في سائر عمله".
والخلاصة التي تستخلص من تتبع كلام الشيخ مولاي العربي الدرقاوي في رسائله أو كلام شيوخ الطريقة من بعده سادتنا ابن عجيبة ومحمد الحراق وأحمد زويتن وغيرهم أن الذكر الحق هو النابع من القلب والجوارح المقترن بالصلاح والاستقامة، يقول الشيخ سيدي ابن عجيبة: "وهو إذا أطلق ينصرف لذكر اللسان، وهو ركن قوي في طريق الوصول، فذكر العامة باللسان، وذكر الخاصة بالجنان، وذكر خاصة الخاصة بالروح والسر، والشهود والعيان، فيذكر الله عند ذكر كل شيء، وعلى كل شيء".
وقال تلميذه سيدي محمد بوزيان في طبقاته: "ولما قربت وفاته رضي الله عنه صار يوصينا وأكد تأكيداً محتماً على ذكر الورد والدؤوب عليه بعد صلاة الصبح وبعد صلاة المغرب وهو:
1) أستغفر الله: مائة مرة.
2) واللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم: مائة مرة.
3) ولا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير: مائة.
وفي سائر الأوقات لا إلاه إلا الله من غير عدد ولا كلفة ولا مشقة. ويلقن النساء بعد مائة الاستغفار اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد مائة مرة، ولا إلاه إلا الله مائة، وعند تمامها سيدنا محمد رسول الله". وهناك أوراد عديدة خاصة بحالات وأوقات بعينها لا يسع المقام بذكرها.
هذا عن الذكر عموماً من استغفار وهيللة وتسبيح ومناجاة، وأما عن الصلاة والسلام على النبي الأكرم فيقول رضي الله عنه: "فلا ينبغي للمحب الصادق أن يهمل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفريضة ولا في صلاة النافلة، لأنها محل بركة وخير وفضل، ونبيها صلى الله عليه وسلم أهل لأن يذكر هنالك وفي كل محل شريف، وينبغي له أن يستحضر السلام عليه كما يستحضر الصلاة عليه".
وفي موضع آخر: "فإن شئت أن تنال ما تريد فصل على النبي المجيد ولو مائة مرة في اليوم والليلة، لأن القليل الدائم من الأعمال خير من الكثير المنصرم منها، والعمل لا يكون قليلاً إلا إذا كان صاحبه على غير السنة المحمدية، وأما إذا كان عليها فلا يكون عمله إلا كثيراً. ولا شك أن المتمسك بالسنة لا تفوته الصلاة على صاحبها صلى الله عليه وسلم وإن لم يصل عليه بلسانه، وإذا كان على سنته وصلى عليه بلسانه فذلك نور على نور، ولا شك أن المتمسك بسنته حقاً يصلي عليه بكليته، والمتمسك الذي لا يبالي بالسنة إنما يصلي عليه بلسانه فقط دون جوارحه، وعمل قليل في سنة خير من كثير في بدعة، فافهم فهمنا الله وإياك".
الأصـــــــــــل الـــخامـــــس
المـــــــذاكــــرة
يتأكد هذا الأصل في الطريقة الدرقاوية من خلال تأكيد الشيخ مولاي العربي الدرقاوي عليها تأكيداً شديداً وكذا شيوخ الطريقة من بعده، وكذا من خلال اعتناء أهل الطريقة بها فلا يخلو مجلس من مجالسهم منها، ولها مقاصد معتبرة عندهم أهمها:
1) تعليم المنتسبين المبتدئين وعموم الناس الحاضرين مبادئ الشريعة التي بدونها لا تسلك الطريقة.
2) تزكية العلم وتثبيته بنوعيه: الظاهر والباطن.
3) تنبيه الغافلين وتذكير الناسين.
4) شحذ الهمم وتثبيت المبتلين، كما وقع لأهل الطريقة بتطوان.
5) شرح أصول الطريقة ومقومات التربية عندها، ودحض تهم المنكرين لها.
6) الإجابة عما يعرض من أسئلة ومستجدات.
والمذاكرة كما نص عليها شيوخ الطريقة لا بد أن تتأدب بأدب الإسلام.
يقول الشيخ مولاي العربي الدرقاوي عنها: "فالمذاكرة عند القوم رضي الله عنهم من أهم المهمات، فلا يستغني عنها إلا من جهل قدرها، ومذاكرة اثنين أفضل من حمل وقرين كما عند القوم، وعليه فلا نحب من يسكت من الإخوان وقت المذاكرة، بل نكرهه الكراهة البالغة إذ لا فائدة في الصمت حينئذ، لأن المعاني تجر بعضها بسبب الكلام حتى يجر صاحبها إلى الحضرة الربانية، وكان أستاذنا يكره من يصمت من الفقراء وقت المذاكرة ويستثقله ويستقبحه، ويتلو قول الله عز وجل: ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ".
ويقول رضي الله عنه في رسالة أخرى: "فاعلموا رحمكم الله إني أحبكم أن تتذاكروا في الذي يميت نفوسكم ويحيي قلوبكم، كما كان من قبلكم من أهل طريقكم، واحذروا من دسائس أنفسكم لئلا ينقطع المدد عنكم. ومن أراد أن لا ينقطع عنه المدد فلا يتكلم في فنه مع كل أحد، إنما يتكلم فيه مع أهله".
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
أستاذ باحث في العلوم الإسلامية
وعضو المجلس العلمي لعمالة سيدي البرنوصي/البيضاء
المحور الأول: مولاي العربي الدرقاوي/ تعريف مقتضب بشخصيته.
المحور الثاني: الطريقة الدرقاوية / سندها وحقيقتها ومكانتها.
المحور الثالث: الطريقة الدرقاوية / أصولها ومرتكزاتها.
ثبت المصادر والمراجع.
تمهـــــــــــــــــــيد:
الحمد لله رب العالمين حمد الأنبياء المرسلين، وحمد الشهداء والصديقين، وحمد الأولياء العاملين، وحمد الصالحين العارفين. والصلاة والسلام على الرحمة المهداة للعالمين سيدنا وحبيبنا وطب قلوبنا ونور أبصارنا محمد النبي الأمين، وعلى آل بيته وعترته الطاهرين، والصفوة من صحابته المرضيين، وعلى من تبعهم بإحسان وصدق إلى يوم الدين.
أمــا بعــد: فيسعدني أن أشارك في هاته الندوة المباركة، معرباً في البداية أصالة عن نفسي ونيابة عن أبناء عمومتي الشرفاء الدرقاويين بالمملكة المغربية الشريفة عن امتناننا العميق لشعبة التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية العامرة بوجدة الخير على تنظيم هاته الندوة العلمية المباركة، وتشكراتنا الصادقة لأصحاب الفضيلة الأساتذة الباحثين المشاركين، ولكل من أسهم في إنجاحها من قريب أو بعيد، وبقليل أو بكثير، حساً ومعنىًً. فالله العظيم رب العرش العظيم نسأل أن بجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وقد نظمت العرض في تمهيد وثلاثة محاور. خصصت المحور الأول للتعريف بشخصية الشيخ مولاي العربي الدرقاوي تعريفاً مقتضباً، والمحور الثاني للحديث عن الطريقة من حيث سندها وحقيقتها ومكانتها، والمحور الثالث للحديث عن أصولها ومرتكزاتها.
المحـــــــــــــــور الأول: مولاي العربي الدرقاوي
تعريف مقتضب شخصيته.
أ = اسمه ونسبه وولادته:
هو الإمام العارف بالله المحقق، شيخ المشايخ العارفين، والولي الصالح القطب الرباني، أبو المعالي مولانا محمد العربي بن أحمد الدرقاوي الحسني سليل الدوحة النبوية الشريفة، حيث أجمعت كل الكتب المترجمة له على صحة نسبه الشريف. فهــو: محمد العربي بن أحمد بن الحسين بن علي بن محمد بن يوسف بن أحمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن الحسين بن أحمد بن الحسين بن سعيد بن إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن يوسف بن جنون بن عمر بن عبد الرحمن بن سليمان بن الحسن بن عمر بن محمد بن محمد بن أحمد بن جنون بن أحمد بن مولانا إدريس الأزهر بن مولانا إدريس الأكبر بن سيدنا عبد الله الكامل بن سيدنا الحسن المثنى بن سيدنا الحسن السبط بن سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وسيدتنا الطاهرة العفيفة فاطمة الزهراء رضوان الله عليها بنت سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه.
وكانت ولادته رضي الله عنه بقبيلة بني زروال في منتصف القرن الثاني عشر الهجري (1150هـ/1737م)، وقيل كانت عام 1159هـ.
ب = نشأته وطلبه العلم والسلوك:
نشأ في بيت علم وعزة وعفاف وصيانة لمكارم الأخلاق، فهو"يمثل فرعاً من أصل ثابت يحدده شرف الدم والانتساب، وشرف الزهد والتصوف والجهاد عن بصير وعلم، وأن انتصابه للمشيخة يشكل استمراراً طبيعياً وضرورة حتمية". يقول رضي الله عنه حاله في صباه: "هممت بمعصية في حالة الصبا مع بعض من تتعلق الشهوة به، فخرجت بجسمي قروح كثيرة عند ورود خاطر السوء على قلبي، فاستغفرت الله فذهب ما بي في الحين فضلاً من الله ونعمة". وظهرت عليه علامات النبوغ وهو صغير حيث حفظ القرآن في السلكة الأولى حفظاً متقناً برواية ورش عن قراءة نافع ثم حفظه بالقراءات السبع المتواترة، وكان يساعد شيخه في تحفيظ الطلبة وسلك ألواحهم على الطريقة المغربية في حفظ القرآن. قال رضي الله عنه: "كنت أسلك للطلبة ألواحهم، وكثيراً ما أقبض اللوح بيدي وأقول لصاحبه قبل أن أنظر فيه: هذا اللوح ثقيل فيه كذا وكذا خسارة، أو خفيف، أو ما فيه إلا كذا وكذا، أولا شيء فيه، فلا أجد إلا ما أخبرتهم به إلهاماً من الله سبحانه".
ثم رحل إلى فاس المحروسة "وتخرج منها عالماً فاضلاً جهبيذاً ثبتاً، فاز على أنداده من العلماء الفحول ذوي الأخلاق الحميدة والمزايا الحسنة وجميل الخصال، حتى أنه كان يشار إليه بالبنان من ذلك الوقت، وكثيراً ما كان أقرانه يتسابقون لخطب مودته ومحبته وخدمته والتبرك به لما بدا عليه من الأسرار الإلاهية والأنوار المحمدية".
وبعدما أتم دراسته للعلوم الشرعية (علم الظاهر) تعلق قلبه وشغف بدراسة العلوم اللدنية (علم الباطن)، فرابط بضريح جده المولى إدريس الأزهر بفاس وختم به ستين سلكة من القرآن تقرباً إلى الله جل جلاله ليدله على الشيخ المرشد الدال على عظمته وقيوميته على طريقة القوم وأصولهم، "ولما ختم الختمة المكملة للستين بكى بكاء شديداً إلى أن احمرت عيناه، وخرج من ضريح مولانا إدريس، فمر بالشريف سيدي حميد من حفدة القطب الشهير العارف الكبير مولانا عبد العزيز الدباغ من ابنته فقال له: ـ وكان منظوراً عنده وعند غيره بالتعظيم ـ، ما لي أراك على هذه الحالة؟، وألح عليه فأخبره بأنه مضطر إلى من يأخذ بيده، فقال له: أن أدلك عليه إذا لم تشاور أهل الرأي القاصر، والعقل الفاتر، وقد قال الشريشي في رائيته:
ولا تسألن عنه سوى ذي بصيرة == خلِّـي من الأهواء ليس بمغـترّ.
فقلت له: ومن هو؟، فقال: هو الشيخ الجليل الشريف الأصيل الغوث الجامع والبحر الواسع أبو الحسن سيدي علي بن عبد الرحمن العمراني الملقب بالجمل عند أهل فاس".
وقد سلك رضي الله عنه طريق القوم على سبيل التبرك والمذاكرة والزيارة قبل ذلك، فلقي ثلة مشايخ منهم: الشريف الأكرم الولي الصالح مولاي الطيب بن مولاي محمد الوزاني،
والشيخ الشريف أبو عبد الله محمد بن علي بن ريسون الحسني العلمي، دفين تازروت بجبل العلم قرب ضريح القطب مولانا عبد السلام بن مشيش العلمي، والشيخ العربي البقال.
ت = عَقِــــــــــبُهُ:
عقب مولاي العربي الدرقاوي ثلاثة أولاد هم سادتنا وموالينا: علي ومحمد (فتحاً) والطيب.
* مولاي علي: استقر بفاس المحروسة وبها مقبره بالزاوية الدرقاوية بحومة البليدة، وكان رضي الله عنه رجلاً صالحاً مربياً ذا كرامات وكشف، وقد ولي أمر المحبين والفقراء بفاس بعد موت أبيه الشيخ الإمام. وما زالت ذريته إلى الآن بفاس مستقرة، منها أخوال صاحب هذا التقييد السادة:ا محمد وأبو بكر وجعفر وعبد الجبار أبناء الفقيه العالم الورع سيدي علي بن محمد بن العربي بن علي بن الشيخ مولاي العربي، مع التنبيه على أن فرقة كبيرة من ذريته لم تعد معروفة، كما أخبرني بذلك خالي السيد أبو بكر رواية عن عمه الفقيه سيدي رشيد رحمه الله.
** مولاي محمد (فتحاً): استقر بزاوية أبيه الشيخ الإمام ببوريح بالقبيلة الزروالية، ومعظم ذريته ما زال مستقراً بها قائماً بشأنها، وبعضها استقر بتطوان وطنجة والرباط وفاس، ولهم مصاهرة مع أبناء عمومتهم حفدة مولاي علي ومولاي الطيب.
*** مولاي الطيب: وهو أصغرهم ووارث سر أبيه، أسس زاوية جديدة بالبلدة المسماة "أمجوط" بالقبيلة الزروالية المباركة، قال عنه الشيخ الناصري: "وفي محرم يوم الجمعة الثامن من جمادى الأولى من السنة المذكورة (08 جمادى الأولى 1287هـ غشت 1870م) توفي الولي الصالح الناسك السني أبو عبد الله محمد الطيب بن الشيخ الأشهر مولاي العربي الدرقاوي ودفن بمحل زاويته بأمجوط من بلاد بني زروال، وكان من خيار عباد الله على غاية من التقوى والورع والتواضع مع الناس، يركب الحمار ويلبس الجبة ولا يتميز عن أصحابه بشيء مع السكينة والوقار وعدم الخوض فيما لا يعني، والإعراض عن زهرة الدنيا وأهلها، رحمه الله ونفعنا به". وعقِـبُهُ رضي الله عنه أكثر عدداً من عقب أخويه مولاي علي ومولاي محمد (فتحاً)، جلهم مستقر الآن بمدينة فاس، وفرقة منهم ما زالت مستقرة بزاوية أمجوط، وفرق أخرى بالقنيطرة والرباط وسلا والبيضاء وآسفي، وذريته ما زالت معروفة كلها إلى الآن، منهم صاحب هذا التقييد.
ث = تلامـــــــــذته:
ترك مولاي العربي الدرقاوي ثلة من التلاميذ العظماء النجباء، الورعين الأتقياء، جماعتهم من العلماء العاملين والأولياء الصالحين، الجامعين بين علمي الحقيقة والشريعة والظاهر والباطن نذكر من بينهم:
* العلامة الزاهد سيدي محمد بن محمد المكودي التازي المتوفى سنة: 1214هـ له كتاب الإرشاد والتبيان في سلوك الطريقة الدرقاوية والرد على منكريها.
* الفقيه العلامة الزاهد الناسك المفسر سيدي أحمد بن محمد عجيبة المتوفى سنة: 1224هـ /1809م. له مؤلفات عدة في فنون شتى تدل على جلالة قدره.
* العارف بالله القطب الرباني سيدي محمد بن أحمد البوزيدي الغماري المتوفى سنة: 1229هـ/1814م. له الرسالة في التصوف.
* الفقيه العارف بالله سيدي محمد بن محمد الحراق الحسني المتوفى سنة: 1261هـ/1845م. له مصنفات عدة في التصوف وغيره.
* الشيخ العالم سيدي أحمد البدوي الشهير بزويتن المتوفى سنة: 1275هـ له الرسائل في علم التصوف.
ج = وفاتــــــــــــــه:
كانت وفاة الشيخ مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه ونفعنا بعلمه ودعوته ليلة الثلاثاء ثاني وعشرين صفر الخير عام تسعة وثلاثين ومائتين وألف للهجرة الموافق لثلاثة وثلاثين وثمانمائة وألف للميلاد بزاويته حُنِّـط ليلاَ، ودفن بزاويته الثانية ببوريح، وغسلته زوجه الطاهرة السيدة مريم بنت الشيخ بن خدة الحسناوي، وصلى عليه العالم الولي سيدي أحمد بن محمد اليصلوتي العثماني من حفدة الولي سيدي عبد الوارث اليصلوتي العثماني.
المحور الـثاني: الطريقة الدرقاوية/حقيقتها ومكانتها وسندها.
أ = حقيــــــــــقتها:
أما طريقته رضي الله عنه فأجمع المؤرخون والباحثون والقوم أهل الفن والذوق على أنها طريقة شاذلية سنية قامت على هدى من الله تعالى وهدي من رسوله صلى الله عليه وسلم، طريقة مجددة لما بلي من طريق القوم، ومحيية لما مات من السنن على نهجهم وسلوكهم، مصفية ومميزة للتصوف الحق مما شابه من البدع والمنكرات التي علقت به ونسبت إليه، حتى ادعى من ادعى أن التصوف والسلوك ما هو إلا بدعة ابتدعت في الدين ليس إلا.
وهذا لعمري موجب من الموجبات الشرعية التي تحتم على كل من له علم بهذا الفن وكلام القوم وطريقتهم في تهذيب النفس وتزكيتها للوصول بصاحبها إلى مقام الإحسان الذي قال عنه رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه في حديثه الصحيح: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، أن يبينوا للناس حقيقة علم التصوف وأصوله ومقاصده ومجاله ليتبينوه ويردوا عينه ويشربوا من عذب معينه من أجل المعراج في مدارج السالكين تقرباً إلى رب العالمين، ورضي الله عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حينما قال: "قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وعابد متنسك".
وعن طريقة الشيخ مولاي العربي الدرقاوي في تربية مريديه وتلامذته يقول العلامة الفقيه العارف بالله سيدي محمد بن جعفر الكتاني الحسني: "وطريقته رضي الله عنه: مبنية على اِتباع السنة في الأقوال والأفعال والعبادات والعادات، ومجانبة البدع كلها في جميع الحالات، مع كسر النفس وإسقاط التدبير والاختيار، والتبري من الدعوى والاقتدار، والإكثار من الذكر آناء الليل وأطراف النهار، والاشتغال بالمذاكرة وما يَعني، وترك كل ما يُعني. وبالجملة: فطريقته رضي الله عنه جلالية الظاهر جمالية الباطن، وإن شئت قلت: سفلية الظاهر علوية الباطن، كطريقة شيخه. ورسائله ـ نفعنا الله به ـ من أنفع الرسائل للمريد، وأدلها على كيفية السلوك والتجريد، لا يستغني عن مطالعتها سالك، ولا يجحد خيرها وفضلها إلا هالك".
ويقول هو رضي الله عنه في وصيته لتلامذته ومريديه: "فإن شئت أن تطوى لك الطريق، وتحصل في ساعة على التحقيق، فعليك بالواجبات، وبما تأكد من نوافل الخيرات، وتعلم من علم الظاهر ما لابد منه، إذ لا يعبد ربنا إلا به، ولا توغل فيه ولا تتبعه إذ لا يطلب فيه التبحر، إنما يطلب التبحر في الباطن، وخالف هواك إذ ترى عجباً. والخلق الكريم هو التصوف عند الصوفيين، وهو الدين عند أهل الدين"، وسقنا هذا النص القصير على سبيل التمثيل لا الحصر. ليكون شاهداً على ما قررناه سلفاً، وقديماً قال علماؤنا: "إنما الكلام مع الكلام"، وما بعد الحق إلا الضلال.
ب = مكانــــــــتها:
تعتبر الطريقة الدرقاوية الشاذلية من أهم الطرق الصوفية السنية بالغرب الإسلامي، التي أسهمت في إحياء ما اندرس من التصوف السني الشاذلي وتجديده، حيث أطرت التفكير الصوفي خلال القرن الثاني عشر الهجري (19م). ومنها تفرعت كثير من الطرق والزوايا كالصديقية والحبيبية والكتانية والحراقية والعجيبية.
وفي هذا السياق يلخص الدكتور أحمد بوكاري وظيفة الزاوية الدرقاوية وخصائصها وأحوال رجالاتها، وكذا النجاح الذي حققته خصوصاً في القرن13هـ/19م بقوله: " تعتبر الدرقاوية من أهم الطرق الصوفية ذات المنحى السني الشاذلي، التي ظهرت وانتشرت بصفة خاصة خلال القرن 13هـ19م بل وبعده، وإن هاجس سنيتها هو الذي جعل شيوخها المؤسسين يعتبرون أنفسهم على قدم كبار شيوخ التصوف السني أمثال: أبي القاسم الجنيد والشيخ عبد القادر الجيلاني وغيره، وأنهم تبعاً لذلك ممن أحيى الله بهم معالم الطريق بعد اندراسها، وأن ما يمكن اعتباره 'إفراطاً' أو 'تطرفاً' في هذه السنية، بالنظر إلى ما كان متعارفاً عليه في إطار المعتقد الصوفي السني الشاذلي بالمغرب من قواعد وشعارات، هو الذي جعل البعض يتشكك في دعواهم ويصفها بالبدعة والخروج عن السنة، ويعترف الدرقاويون أنفسهم بأن شعاراتهم الظاهرية كانت بالفعل صدمة للواقع، لعامة الناس وخاصتهم بسبب ما اعتادوا عليه، ومع ذلك استطاعت الدرقاوية أن تصمد وتوجد لنفسها مكانة في المجتمع بمختلف فئاته، بل وتنتشر في مختلف مناطق البلاد. حتى اعتبر القرن 12/19م قرن الدرقاوية، ويعزى هذا النجاح في قسمه الأكبر إلى اقتناع أشياخها ومريديها بأنهم يمثلون ويتمثلون التصوف السني في أجلى مظاهره، كما عرفوا باستماتتهم في الدفاع والإقناع عن مسلكهم رغم غرابته، فجعلوا من المذاكرة والتذكير ركناً أساسياً في طريقتهم، ونقطة مركزية في اجتماعاتهم، وخلال سياحاتهم وضمن رسائلهم ومراسلاتهم".
ت = سنــــــــــــــدها:
إن اعتناء الصوفـية بسندهم الصوفي شبيه باعتناء المحدِّثـين بسند الحديث، ولولا الأسانيد لتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقصد بالسند سلسلة الرواة أو الرجال الذي حفظوا الحديث أو رووه أو نقلوه شيخاً عن شيخٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشترطوا لقبوله شروطاً تراجع في مصادرها.
واعتناء الصوفية بسند طرقهم تطلبته ضرورات ثلاث في نظري والله أعلم:
* أن الطريقة عبادة يتقرب بها إلى الله جل جلاله، ومن ثم فإنه سبحانه وتعالى لا يتقرب إليه إلى بما هو مشروع على هدى من الله تعالى وهدي من رسوله الأعظم صلوات ربي وسلامه عليه، وهذا العمل المشروع لابد أن يعلم ويلقن.
** بيان مصدر الطريقة ومَـعِـينها، في إطار مدرسة موحدة متسلسلة تشكلت حلقاتها عبر قرون، لها رجالها وأصولها وتراثها سواء الشفهي منه أو المكتوب.
*** حتى لا يتقول الناس على هذا الأمر ويدعون.
وقد أخذ الشيخ مولاي العربي الدرقاوي طريقة القوم السنية الشاذلية عــن:
الشيخ العارف بالله سيدي علي بن عبد الرحمن الجمل (ت: 1193هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي محمد العربي بن أحمد عبد الله معن الأندلسي .
الشيخ العارف بالله سيدي أحمد بن عبد الله معن الأندلسي (ت: 1120هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي قاسم الخصاصي (ت: 1083هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي محمد بن محمد بن عبد الله (ت: 1062هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي عبد الرحمن بن محمد الفاسي (ت: 1036هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي يوسف الفاسي(ت: 1013هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي عبد الرحمن المجذوب (ت: 976هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي علي بن أحمد الصنهاجي الدوار (ت: 1050هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي أبو إسحاق إبراهيم أفحام .
الشيخ العارف بالله سيدي أبو العباس أحمد بن أحمد زروق (ت: 899هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي أحمد بن عبد القادر الحضرمي.
الشيخ العارف بالله سيدي أبو زكرياء يحيى بن أحمد القادري.
الشيخ العارف بالله سيدي أبو الحسن علي بن وفاء (ت: 807هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي أبو عبد الله بن وفاء.
الشيخ العارف بالله سيدي شرف الدين أبو سليمان داوود البلخي.
الشيخ العارف بالله سيدي تاج الدين أحمد بن عطاء الله (ت: 709هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي أبو العباس أحمد بن عمر المرسي (ت: 686هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي أبو الحسن علي بن عبد الله الشاذلي (ت: 656هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي عبد السلام بن مشيش (ت: 622هـ).
الشيخ العارف بالله سيدي أبو محمد عبد الرحمن بن الحسين المدني.
الشيخ العارف بالله سيدي تقي الدين الفُـقَـيِّر.
الشيخ العارف بالله سيدي فخر الدين.
الشيخ العارف بالله سيدي أبو الحسن علي نور الدين.
الشيخ العارف بالله سيدي تاج الدين.
الشيخ العارف بالله سيدي شمس الدين.
الشيخ العارف بالله سيدي زين الدين القزويني.
الشيخ العارف بالله سيدي أبو إسحاق إبراهيم البصري.
الشيخ العارف بالله سيدي أبو القاسم أحمد المرواني.
الشيخ العارف بالله سيدي أبو محمد سعيد.
الشيخ العارف بالله سيدي فتح السعود.
الشيخ العارف بالله سيدي سعيد الغزواني.
الشيخ العارف بالله سيدي أبو محمد جابر.
سيدنا ومولانا الحسن سبط النبي صلى الله عليه وسلم.
أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
سيدنا وسيد الأولين والآخرين محمد صلوات ربي وسلامه عليه.
مع التنبيه إلى أن الشيخ محمد العربي معن الأندلسي شيخُ شيخِ مولاي العربي الدرقاوي قد جمع بين طريقتين عظيمتين الطريقة الشاذلية التي أخذها عن والده كما ذكرنا سلفاً، والطريقة الجيلانية عن الشيخ أحمد اليمني، ويعتبر هذا المزج إضافة نوعية لهذه الطريقة.
المحور الثالث: الطريقة الدرقاوية / أصولها ومرتكزاتها.
ذكرنا سابقاً أن الطريقة الدرقاوية الشاذلية سنية الأصل والفرع، قامت على هدى من الله تعالى وهدي من رسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم، وهاته السنية نتبينها من خلال أصولها ومرتكزاتها، لأنه لا يكفي أن يدعي أحد انتسابه لملة من الملل أو مذهب من المذاهب أو طائفة من الطوائف فنقر له بذلك، اللهم إذا كان يستمد تقريراته وتوجهاته وسلوكياته منها، وتكون أصول نحلته تنطلق منها تقعيداً وتفريعاً.
وقبل أن أتطرق إلى أصول الطريقة الدرقاوية الشاذلية ثمة مقدمات لابد من ذكرها لها علاقة بأصولها:
المقــــدمة الأولــــى: إن موضوع علم التصوف هو السلوك المرتبط بالإحسان الذي هو أحد مكونات الدين الإسلامي الثلاث، ذاك الدين الذي ارتضاه لنا الحق جل جلالُه وأكملَـه، وبكماله تمام النعمة الإلاهية علينا مصداقاً لقوله عز وجل: ]اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام ديناً. ومكوناته الثلاثة هي: الإسلام والإيمان والإحسان المذكورة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهور حينما سأله جبريل عليه السلام عنها، والتي لخصها الفقيه العلامة ابن عاشر في ذكر البغية من نظم منظومته المعروفة بالمرشد المعين:
في عقد الأشعري وفقه مالك == وفي طريقة الجنيد السالك
وعلم التصوف اهتم بمكون الإحسان دون غيره، لأنه غرضه وموضوع بحثه وموطن تقريراته، وهو اعتناء منهجي وتخصص معتبر. يقول العلامة المحقق الأديب المختار بن علي السوسي الدرقاوي: "فلا ريب أن مدلول الإيـمان هو محور علم العقائد الذي تكفل هذا العلم بالبحث فيه إجمالاً وتفصيلاً، وأن مدلول الإسـلام يرجع فيه إلى علم تصحيح العبادات، لكن للإحـسان علماً آخر ورجالاً آخرين، هم المتكفلون بتنبيه الناس إليه، فإذا عرفنا أننا نرجع في العقائد إلى أرباب علم الكلام، وفي العبادات إلى الفقهاء، فإلى من نرجع يا ترى في الإخلاص في المعاملات العملية والقلبية الذي هو مدلول الإحسان؟. لا يزال الصوفية من قديم منذ ظهرت نحلتهم الخاصة المنبثقة من نفس روح الدين كعلم له قواعده ومبادئه وغاياته، ككل العلوم المنبثقة من ديننا الحنيف، لا يزالون يرفعون عقيرتهم بأن قطب ما يزاولونه إنما يدور حول العمل لوجه الله الكريم، فيعبد كما يستحق جل جلاله بنية خالصة لا رياء فيها ولا سمعة، وقديماً قال قائلهم: التصوف أن تعمل على وجه الإخلاص بما صح في الكتاب والسنة".
المقــــــدمة الثانــــية: إن التصوف الذي نؤمن به ونعمل من خلاله ونجتهد في تمثل جوهره وتحققه كما هو عند أشياخه وأعلامه هو التصوف الصافي الخالي من البدع والمنكرات المستند على الكتاب والسنة، ونبرأ إلى الله من كل اعتقاد أو عمل خالفهما وانحرفا عن شريعتهما، لكن مع تحقيق أمر البدعة وتبينها إلزاماً حتى لا نتسيب في إطلاقها دون موجب شرعي. يقول العلامة المختار السوسي في هذا السياق: "هذا التصوف الصافي الذي لا عوج فيه ولا أمت، ولا يهولن من يطالع كتب القوم إذ وجد اختلافاً في العبارات، في التعبير عن التصوف، فلكل قوم أن يصطلحوا بما شاءوا، ولكن متى عرف الإنسان اللب فلا عليه بالقشور، ومن لم يأخذ علماًُ من أربابه فكيف يمكن له أن يعرف مصطلحاته، ولا أن يدرك دقائقه؟. كل من يتقرى أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحوال أصحابه يجد الأصل الأصيل مما عند الصوفية واضحاً بيناً في أفعالهم وفي أقوالهم وفي نياتهم، ولذلك كان هدى الرسول وأصحابه هو ما يقتفى عند القوم، فحين كان مقصود التصوف الإخلاص، وكان الإخلاص كالعرض الذي لا يظهر إلا في الجوهر، كانت الأقوال والأفعال مجلي الإخلاص دائماً، فمن لا يظهر عليه الإخلاص في أعماله فهيهات أن يسمى مخلصاً، ومن أسر سريرة ألبسه الله رداءها. فحينئذ ليس لب التصوف في جوهره لبس المرقعات، ولا التقلد بالسبحات، ولا الحلق المستديرات، ولا الإغراق والغلو في محبة الشيوخ، ولا إرسال العذبات، ولا الانحياز إلى طائفة دون طائفة، بل التصوف هو الاستقامة على السنة الصحيحة التي كان عليها الرسول وأصحابه، والصدر الأول من السلف الصالح رضي الله عنهم، فكيف يفلح من يعمل عن قصد عملاً لم يعمله الرسول صلى الله عليه وسلم، محتجاً بأن فلاناً يفعل ذلك؟ لا والله، لا خير إلا في السنة ولا فلاح إلا لمن يحرص على أن لا يخرج عما صح عن خير المرسلين الذي أمرنا بالاقتداء وحده، ]وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة.
فخير أمور الدين ما كان سنة == وشر الأمور المحدثات البدائع".
المقـــــــدمة الثالثـــــــة: إذا قررنا أن علم التصوف من علوم الدين، وأن موضوعه الرقي بأخلاق النفس والجوارح من خلال تهذيبها وتزكيتها بقصد الوصول بصاحبها إلى مقام الإحسان الذي هو أعلى مقامات الدين، وإذا قررنا أن منطلق التصوف ومآله الكتاب والسنة، فـإن ما يتحدث عنه بعض الناس من بدعية هذا العلم وعدم حجيته ومشروعيته، ما هو إلا ضرب من الخبط واللبط، فلكل علم وفن مصنفوه ومصنفاته، وأصوله وفروعه، ومباحثه ومصطلحاته، ولا حجة للمتكلم المشتغل بعلم الإيمان والعقائد على الفقيه الأصولي المشتغل بفقه العبادات والمعاملات، ولا حجة للفقيه على الصوفي المربي المشتغل بعلم الأخلاق والسلوك، فكـلٌّ يعمل في تخصصه، ويجتهد ويقعِّـد ويفـرِّع.
المقـــــدمة الرابـــــعة: إن ما يدعيه بعض الناس من أن تأويلات المتصوفة للنصوص الشرعية مجانبة للحق والصواب، وأن الحق والصواب مع تأويلات علماء الشريعة لها فحسب، إنما هو تحجير على العقول وتضييق عليها، وسد لباب النظر والتدبر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم بغير موجب شرعي، وكلام الله تعالى ينظر فيه هذا وذاك وذلك ويتدبرون، وكلٌّ يستنبط منه الدرر والنفائس حسب علمه وفتـحِ الله عليه، وصدق الله العظيم إذ قال في محكم كتابه العزيز: ]قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً. وقوله سبحانه: ]ولو اَنما في الارض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله، إن الله عزيز حكيم. وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عن عظمة القرآن العظيم: )حبل الله المتين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يََـخْـلُـقُ عن كثرة الردِّ، ولا تنقضي عجائبه.
فمن يتجرأ على ادعاء سد باب النظر والتدبر في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بعد هذا البيان فهو متقول بلا حجة ومدع بلا دليل ليس إلا. نعم إن الناظر والمتدبر لا بد أن ينضبط بضوابط ويحتكم إلى قواعد علمية تكون عوناً له على النظر والتدبر وحارسة له من الانزلاق، فما اتفق عليه من قواعد بين علماء الدين ـ عقيدة وشريعة وتصوفاً ـ يلتزم وينضبط بمقتضياتها، لأنهم أعلم الناس بمراد الله تعالى وبمراد رسوله الكريم صلى الله عليه سلم. قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولوا الالباب.
المقــــــدمات الخامـــــسة: إن الاختلاف موجود حتى بين المتكلمين أنفسهم، وبين الفقهاء أنفسهم، وبين المتصوفة أنفسهم، فلماذا يغض الطرف عن هاته الحقيقة، ولا سيما إذا علمنا أن كثيراً من العلماء مشرقاً ومغرباً برزوا في العلوم الثلاثة ولم يخل منهم عصر من العصور. والاختلاف رحمة وقوة في الحضارة الإسلامية، وقد حصل التفسيق والتبديع بين الفرق الكلامية السنية، وبين المذاهب الفقهية وهو سلوك مذموم ممقوت تُعرض عنه الطبائع السليمة والعقول المستنيرة بله القلوب المؤمنة المطمئنة شَـان هاته الحضارة العظيمة، فلماذا نمنعه أن يكون بين علماء السلوك والأخلاق (المتصوفة) وغيرهم، ما دام يتأدب بآدابه وأخلاقه. وأسوق في ختام هاته المقدمة كلاماً للعلامة الفقيه سيدي أحمد بن محمد ابن الخياط في مقدمته لمجموع الرسائل: "وحسب من لم يصل إلى مقامهم، ولا خرج من سجن نفسه، ولا سلك سبيل هذه الطريق أن يسلمها لأهلها، ويحسم مادة الإنكار من أصلها، ويدخل في حيز: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، إذ: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، فينتفع بالتسليم كما ينتفع بالغيب، وأما من أراد نفيها فقد دخل حتماً في قوله تعالى: ]بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه"
المقــــدمة السادســــــة: يعتقد كثير ممن لا علم لهم أن أتباع المتصوفة ما هم إلا رعاع القوم وسفلتهم وجهلتهم ليس إلا، ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث في مصادر القوم وتراجم مشاهيرهم والكتب المعتنية بتاريخهم، وحسبنا أن القلم يعجز عن حصرهم لكثرتهم، والسِّفر الواحد يضيق بذكرهم، وهم أشهر من نار على علم.
"وقد أسهمت مؤسسة الزاوية الصوفية إسهاماً بارزاً عبر تاريخ المغرب في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والدينية لا ينكره إلا حاقد ذو حقد دفين أو جاهل ذو جهل مكين، فكان لها الفضل الكبير في إطعام المحتاجين وإيوائهم، وفي رعاية العلم وأهله، وفي تربية النفوس وتهذيبها، وفي حفظ الاستقرار الأمني والسياسي عبر إخماد الثورات الانفصالية، ومحاربة الاستعمار الغاشم، وتحرير الثغور الشاطئية، وكانت ـ أي الزاوية ـ في كثير من الفترات العصيبة إبان انتشار الفتن وضعف السلطة المركزية ملاذاً آمناً للعلماء والضعفة من الناس الفارين من الظلم والجور، ومركزاً علمياً شامخاً سالباً مشعل ريادة العلم من جامع القرويين مهد العلم والعلماء بوطننا الحبيب. يقول العلامة المؤرخ محمد بن الطيب القادري في هذا الصدد: "ومن الجاري على الألسنة وحكاه بعضهم عن شيخنا ـ أورع زمانه ـ سيدي الكبير السرغيني رضي الله عنه قولهم : إنه لولا ثلاثـة لانقطع العلم من المغرب في القرن الحادي عشر لكثرة الفتن التي ظهرت فيه، وهم : محمد بن أبي بكر في ملوية من بلاد فزاز، وسيدي محمد بن ناصر الدرعي في الصحراء، وسيدي عبد القادر الفاسي بفاس". فقول المصنف : "لانقطع العلم من المغرب في القرن الحادي عشر لكثرة الفتن التي ظهرت فيه" ليس مبالغة منه رحمه الله، وإنما حقيقة ساطعة، حيث هُـدِّدَ الكيان المغربي في هاته الفترة من أساسه بالانهيار التام، بسبب ضعف السلطة المركزية بعد وفاة الخليفة السعدي أحمد المنصور الذهبي عام : 1012هـ=1603م وتناحر أولاده على السلطة".
ومن بعدهم الزاوية الوزانية والكتانية والصديقية وغيرها كثير، ولم تشد الزاوية الدرقاوية عن هذا الأصل، فقد برز فيها علماء أفذاذ جمعوا بين علمي الظاهر والباطن سواء ممن تتلمذوا على يد مؤسسها مولاي العربي الدرقاوي، أو بعد وفاته، ولولا الإطالة لأتيت ببطاقة جامعة في هذا الباب.
وتأسيساً على ما سبق وبتتبعنا لمجموع رسائل الشيخ مولاي العربي الدرقاوي واستقرائها رسالةً رسالةً، وكذا بتتبعنا لأهم ما كتب عن الطريقة الدرقاوية الشاذلية في كتب التراجم والطبقات، وكتب القوم، وكذا الدراسات المعاصرة، فإن أهم الأصـول التي ترتكز عليها الطريقة، وبعبارة أخرى: مقومات التربية السلوكية عند الطريقة الدرقاوية هي:
الأصـل الأول: الاجتهاد في إتباع الكتاب والسنة
وذلك تأصيلاً وتفريعاً، مع التحذير من الوقوع في البدع والمنكرات، يقول العلامة الفقيه المكودي وهو يتحسر في سجنه بتطوان أيام محنة أهل الطريقة الدرقاوية بها وعلى رأسهم الفقيه المفسر سيدي أحمد بن عجيبة والفقيه المكودي صاحب النص الآتي بعد قليل وهو عبارة عن جواب لما جوبهوا به من الأسئلة من طرف قائد تطوان وجملة العلماء ممن كانوا في صفه: "معاذ الله أن تكون هذه الطائفة الدرقاوية على غير السنة المحمدية، والملة الإبراهيمية، وكيف يتصفون بالبدعة والظلمة، وكثير منهم فقهاء في الكتاب والسنة؟، وكيف يتحلى بالفساد من باع نفسه لرب العباد؟، أم كيف يفسد الأنام من شأنه التلاوة والذكر على الدوام؟، وكثرة الصلاة على خير الأنام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، نعم بعض الأمور تختلف باختلاف المقاصد (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، إذ هم أهل تجريد وأصحاب خرق العوائد بين العبيد، فقد يظهر من بعضهم ما هو مخالف لظاهر الكتاب، فإن سئل عن وجه ذلك وأجاب، تبين أنه في غاية الحسن والصواب، وأيضاً نحن بشر ولسنا بمعصومين، فقد يصدر من الإنسان ما هو مكروه أو محرم في بعض الأحيان، فيستغفر من حينه ويتوب لمولاه"،
وقد شغل التنصيص على هذا الأصل الأول حيزاً لا بأس به من الرسائل بل هو موضوع الرسالة الأولى. وكأني بالشيخ مولاي العربي الدرقاوي يصف حال وقته من انتشار والبدع وتكاثر أدعياء التصوف. يقول رضي الله عنه: "إني أحب من يتعلق بي أن يقوم بالمفروض، وبما تأكد من المسنون، وأن يكون دائماً على نظافة بدنه وثوبه ومكانه، وأن يرجع عن إتباع المحسوسات، وعن سائر العادات والشهوات.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على == حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
كما قال ولي الله تعالى سيدي البوصيري رضي الله عنه في بردته، وكما قال أيضاً الشيخ الجليل ولي الله تعالى سيدي ابن عطاء الله رضي الله عنه في حكمه: 'من استغرب أن ينقذه الله من شهوته، وأن يخرجه من وجود غفلته، فقد اِستعجز القدرة الإلاهية، وكان الله على كل شيء مقتدراً'. ونرى والله اعلم أن الواجبات تكفيه مع ما ذكرنا وتغنيه الغنى الكثير، ولا تكفيه الأعمال الكثيرة مع عدم ما ذكرنا. ومع هذا فلا نحب إلا من يقوم بالواجبات، وبما تأكد من نوافل الخيرات، والله الموفق".
ويقول في موطن آخر: "فكل فقير لا يبالي بما يقول، ولا بما يفعل، بل ينهمك فيما عنه نهى الله، ولا يعبأ بما يصدر منه من معاصي الله فليس بفقير، وإياكم والمحرمات والمكروهات، ولا أخاف عليكم من شيء مثل ما أخاف عليكم من الكذب والغيبة والنميمة".
وفي موطن آخر: "فمن شاء منكم ومن غيركم أن تنقلب ناره جنة، فلا يتزحزح عن السنة، إذ هي سفينة النجاة، ومعدن الأسرار والخيرات".
وكفى بهذا القدر بياناً لهذا الأصل الأول.
الأصــل الــثاني: التخلق بمكارم الأخلاق
إذ موضوع التصوف كما قلنا هو الأخلاق والسلوك وغايته العظمى، ولم تعتن صنوف العلماء بالأخلاق كاعتناء المتصوفة بها، لهذا فإن شيوخ التربية من أكثر ما يؤكدون عليه مع مريديهم هو التحلي بمكارم الأخلاق، فقد يأتي المؤمن بأفعال الإيمان والإسلام مع إهمال للأخلاق، فيكون هذا الإهمال سبباً في خسرانه والعياذ بالله رغم إتيانه بكثير من شعب الإيمان وشعائر الإسلام، فقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون من المفلس؟، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال صلى الله عليه سلم: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)، كيف لا والرسول الأعظم صلوات ربي وسلامه عليه يختصر المقصد العام والأساس من بعثته في نشر الأخلاق الصالحة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق). وقد وصفه ربه جل جلاله ومدحه بقوله: وإنك لعلى خلق عظيم، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: (تقوى الله وحسن الخلق).
يقول الشيخ مولاي العربي الدرقاوي في معرض حديثه عن الأخلاق: "وخالف هواك إذ ذا ترى عجباً، والخلق الكريم هو التصوف عند الصوفيين، وهو الدين عند أهل الدين، ولعنة الله عل الكاذبين".
وقال في موضع آخر: "وكونوا أيضاً على الحياء من بعضكم بعضاً، ومن الناس كلهم، وعلى حسن الخلق، وعلى حسن الظن، وعلى ترك الطمع، ولا تعكسوا فتكونوا على قلة الحياء، وعلى سوء الظن، وعلى سوء الخلق".
وفي رسالة أخرى: " فالخلق الحسن ـ أو نقول: الكريم ـ يا إخواني هو التصوف عند الصوفيين، وهو الدين عند أهل الدين، ولعنة الله عل الكاذبين. وأما سوء الخلق، والسفه، وقلة الحياء، وقلة الوفاء بالعهد فليس من الدين".
وفي تعبير جامع عن حقيقة التصوف يقول: "التصوف فيما نرى والله أعلم: حفظ شرائع الدين، وسلب الإرادة لرب العالمين، وحسن الخلق مع المسلمين".
ولن أتعرض لحديثه عن جملة من الأخلاق الحميدة والمذمومة ترغيباً وترهيباً فهو كثير، لأن المقام لا يسمح بذلك.
الأصل الثالث: العمل والمجاهدة
على تهذيب النفوس وإحياء القلوب.
القائمان على التسليم والتجريد
ولا يتحقق ذلك إلا بإماتة النفوس وجعلها طيعة لصاحبها مطمئنة بذكر ربها وتسليم أمرها لخالقها، فما أصعب معالجة النفوس وتدريب القلوب مقارنة بمعالجة الجوارح وتدريبها، فهي أهون منهما كهوان الماء عند الشرب، ولله ذر الإمام البوصيري حين قال في بردته الرائعة:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على == حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم.
فاصرف هواها وحاذر أن توليه == إن الهوى ما تولى يصم أو يصم.
إلى أن قال:
وخالف النفس والشيطان واعصهما == وإن هما محضاك النصح فاتهم.
ولا تطع منهما خصماً ولا حكماً == فأنت تعرف كيد الخصم والحكم.
وإن أول خطيئة في الأرض أخبرنا عنها الحق سبحانه وتعالى كانت بسبب فساد النفس وعدم صلاحها وكان ذلك سبب خسرانها، قال تعالى حكاية عن ابني آدم عليه السلام: فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين، قال العلامة المحقق سيدي ابن عجيبة تلميذ الشيخ مولاي العربي الدرقاوي في تفسيره: "تضمنت هذه الآية من طريق الإشارة ثلاث خصال، يجب التحقق بها على كل مؤمن متوجه إلى الله تعالى. أولها: التطهير من رذيلة الحسد، الذي هو أول معصية ظهرت في السماء والأرض، وقد تقدم الكلام عليه في النساء. الثانية: التطهير من الشرك الجلي والخفي، والتغلغل في التبري من الذنوب التي توجب عدم قبول الإعمال، ويتحصل ذلك بتحقيق الإخلاص. والثالثة: عدم الانتصار للنفس والدفع عنها إلا فيما وجب شرعًا، فقد قالوا: (الصوفي دمه هدر، وماله مباح)، فلا ينتصر لنفسه ولو بالدعاء، فإما أن يسكت، أو يدعوا لظالمه بالرحمة والهداية، حتى يأخذ الله بيده اقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «اللهم اغفر لِقَومي فَإنَّهُم لا يَعلَمُونَ».
وللشيخ مولاي العربي الدرقاوي كلام عجيب جامع في هذا الباب، منه: "فكونوا رحمكم الله على ما يميت نفوسكم ويحيي قلوبكم، وأصل المحاسن من حيث هي، هي من فراغ القلب من حيث الدنيا، كما أن أصل القبائح من حيث هي، هي عمارتها لحبها، قال بعضهم: المحبة عروس ومهرها النفوس، ما تحيى القلوب إلا بموت النفوس، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم، ولا شك أن المعتصم بالله لا يفارقه عون الله، أو نقول: نيابة الله، والسلام".
ويقول في موطن آخر راداً على أدعياء التصوف: "فقد قلت لبعض المدعين المشحونة قلوبهم بالغل والحسد، والكبر والرياء والعجب، والبخل، والحرص، وغير ذلك من الرذائل: كن سالم الصدر وانقص من صلاتك ومن سائر أعمالك، ولا تقم إلا بالمفروض، وبما تأكد من المسنون، ولا تزد عليه. إذ لا ينفعك كثرة أعمالك مع خبث قلبك، ولو عملت ما عملت، إنما تنفعك سلامة صدرك مع ما فرض الله عليك".
ويقول في أمر إخلاص العبودية لله: "فو الله ما هو الشرف حقاً إلا في العبودية، فلذلك مدح نبيه صلى الله عليه وسلم بها حيث قال في كتابه: سبحان الذي أسرى بعبده، وليقل بنبيه ولا برسوله ولا بغيرهما، إنما اختار له اسم العبد، إذ هو صلى الله عليه وسلم عبده حقاً وتحقيقاً، ومدح بالعبودية غيره من الأنبياء عليهم السلام، إذ قال تعالى في كتابه: نعم العبد إنه أواب، واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وفي قراءة: ) عبدنا إبراهيم (إلى غير هذا. والظاهر الذي لا خفاء فيه لمن فتح الله بصائرهم ونور سرائرهم أن العبودية هي شرف كل أحد كائناً من كان ذلك الأحد، فشدوا أيديكم عليها، وكونوا على ما يثقل على أنفسكم منها لا على ما يخف عليها، إذ قال تعالى: إن كل من في السماوات والارض إلا آتي الرحمن عبداً، وفرق كبير بين من تعبد لربه اختياراً لا قهراً وبين من تعبد له قهراً لا اختياراً، ولا شك أن لا طريق للحرية إلا من باب العبودية".
ولمزيد من التوسع وإعمال النظر في هذا الأصل وما يتعلق به تُـراجع الرسائل المبينة أسفله على سبل التمثيل لا الحصر.
الأصل الرابع:
الذكـــــــــــــــــــــــــــــــــر
بالتهليل والاستغفار، وبالصلاة والسلام على النبي المختار
لا أبالغ إذا قلت: لقد ارتبط الذكر بالزوايا الصوفية أكثر مما ارتبط بمؤسسة أخرى من مؤسسات المجتمع، والذكر من الأصول الأساسية في الطريقة الدرقاوية إذ هو أحد الأركان الأساسية في التربية السلوكية عندها، وهو مرتبط بالأصل قبله، فالنفوس لن تموت والقلوب لن تحيى إلا بالذكر والاستغفار، والصلاة والسلام على النبي المختار، فضلاً عن المجاهدة على النحو الذي ذكرنا آنفاً.
ويا ليت شعري لو أننا فهمنا حقيقة الذكر كما فهمه القوم، فذقنا حلاوته كما ذاقوها، لأنه هو والله الحصن الحصين والطريق المتين، وهو مفتاح التقرب إلى الله، وصدق الله العظيم إذ يقول: إن في خلق السماوات والارض، واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الالباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والارض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك، فقنا عذاب النار، ربنا إنك من تدخل النار فقد اخزيته، وما للظالمين من انصار.
ففي الآية تنبيه بليغ وترتيب بديع وتقديم لأمر الذكر لمن كان له قلب أو ألقى
السمع وهو شهيد:
1) فتقديم الذكـر في الآية لم يكن اعتباطاً، فهو سبحانه منزه عن كل أفعال النقص والعبث، فهو الحكيم الحق وكلامه حق وأنزله بالحق، لأنه بالذكـر تموت النفوس وتحيى القلوب فيشرق نورها بإذن ربها )يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم(.
2) هذا الإشراق الناتج عن الذكر يجعلها تتفـكر في ملكوت السماوات والأرض وفي خـلق الله وتـتدبره وتتـبصره )ويتفكرون في خلق السماوات والارض (.
3) هذا التفكر يجعل الإيمان يستقر أكثر فيـقر بعظمة الخالق وحكمته فينفي عنه كل مظاهر النقص والعبث )ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك (.
4) هذا الإيمان والإقرار يجعلانه عبداً لله حقاً وتحقيقاً، فتتعلق جوارحه وقلبه بالله داعياً مستغفراً متذللاً متعلقاً، لأن الدعاء هو مـخ العـبادة كما هو مجمع عليه بـين أئمتنا )فقنا عذاب النار، ربنا إنك من تدخل النار فقد اخزيته (، كأن باطنه يتحسر ويبكي خائفاً راجياً بعدما شاهد بباطنه ما شاهد.
إذن فكأن الله تعالى ينبهنا في الآية الكريمة: يا عبادي إنه لا سبيل لكم للوصول إلى شرف العبودية الحقة لي طائعين متذللين إلا بالدعاء، وهو لا يكون إلا بالإقرار والإيمان، الذي لا يكون إلا بالتفكر والتدبر، الـذي لا يتحـقق إلا بالذكـرـ والله أعلم ـ.
وفي القرآن العظيم آيات عديدة للموقنين في الترغيب في الذكر والترهيب من الغفلة عنه، وكذا في أحاديث سيد الأولين والآخرين نذكر جملة منها:
1) فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون.
2) واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والابكار.
3) الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
4) واذكر ربك إذا نسيت.
5) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً.
6) ومن اَعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى.
7) استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، أولئك حزب الشيطان.
8) يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون.
* وعن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره مثل الحي والميت).
* وعن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خيره منه).
* وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق المفرِّدون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟، قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).
* وعن سيدنا عبد الله بن بسر رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبت به، قال: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله).
ولأهمية الذكر في طريق التربية والسلوك عند مولاي العربي الدرقاوي فقد خصه بالكلام في الرسالة الثالثة من مجموع رسائله، حيث أسهب فيها في الحديث عنه من حيث: حقيقته وفضائله وطريقته والمواظبة عليه. ومنه قوله: "الذكر هو الركن الأعظم في طريق الله، والعمدة فيها كما علمت، فكن عليه كما أمرت. ونحبك ـ أحبك الله ـ أن تكون على تذكير عباد الله (الله)، ثم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذرهم من الكفر دائماً، وزهِّـدهم في الدنيا، وأمرهم أن يقنعوا منها بما تيسر كما أمر الله".
وفي موضع آخر: "فأوصيكم كل الوصية أن تكونوا دائماً على السنة المحمدية، وأن تذكروا ربكم حين يضيق حالكم، وحين يتسع حالكم، وتصلوا على نبيكم صلى الله عليه وسلم كذلك، فالمؤمن تحصل له الطمأنينة بذكر ربه، حتى لا يحزنه الفزع الأكبر يوم القيامة، فما بالك بما يصيبه في الدنيا من البلايا والمحن؟، وليس الذكر عندنا أن يقول الذاكر: الله الله دائماً، ويصلي ويصوم كذلك، وحين تصيبه مصيبة يفتش على ما بيده من الأعمال فلا يجد منها شيئاً. بل الذكر عند أهل التحقيق رضي الله عنه أن يقوم الذاكر بما لابد منه من المأمورات، وأوكدها ترك ما لا يعني".
وقال في الرسالة الأخيرة: "فأمر الذكر واسع، وانظروا إن شئتم معنى قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً، عند أهل التفسير رضي الله عنهم، فإنكم تجدون أمر الذكر واسعاً ما قلنا لكم، وأما ذكر الاسم المفرد فنرى والله أعلم أن الصواب أن يذكره الذاكر كما أقول له بسكينة ووقار، وإعظام وإجلال، وحالة نظيفة سنية شريفة، واعتماد على الله، وأن لا يذكر: الله الله الله بلا مد قط، وليذكر الله الله الله بوقف الاشباع، وحتماً إن الطمأنينة تنزل عند ذكر الله، ومن شاء أن يعلم علماً يقيناً أو حقيقياً فليواظب على ذكر الله تعالى بسكينة ووقار، وإجلال وحالة نظيفة، سنية شريفة، واعتماداً على الله تعالى، وعلى هذه الحالة الموصوفة ينبغي للسالك أن يكون في سائر عمله".
والخلاصة التي تستخلص من تتبع كلام الشيخ مولاي العربي الدرقاوي في رسائله أو كلام شيوخ الطريقة من بعده سادتنا ابن عجيبة ومحمد الحراق وأحمد زويتن وغيرهم أن الذكر الحق هو النابع من القلب والجوارح المقترن بالصلاح والاستقامة، يقول الشيخ سيدي ابن عجيبة: "وهو إذا أطلق ينصرف لذكر اللسان، وهو ركن قوي في طريق الوصول، فذكر العامة باللسان، وذكر الخاصة بالجنان، وذكر خاصة الخاصة بالروح والسر، والشهود والعيان، فيذكر الله عند ذكر كل شيء، وعلى كل شيء".
وقال تلميذه سيدي محمد بوزيان في طبقاته: "ولما قربت وفاته رضي الله عنه صار يوصينا وأكد تأكيداً محتماً على ذكر الورد والدؤوب عليه بعد صلاة الصبح وبعد صلاة المغرب وهو:
1) أستغفر الله: مائة مرة.
2) واللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم: مائة مرة.
3) ولا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير: مائة.
وفي سائر الأوقات لا إلاه إلا الله من غير عدد ولا كلفة ولا مشقة. ويلقن النساء بعد مائة الاستغفار اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد مائة مرة، ولا إلاه إلا الله مائة، وعند تمامها سيدنا محمد رسول الله". وهناك أوراد عديدة خاصة بحالات وأوقات بعينها لا يسع المقام بذكرها.
هذا عن الذكر عموماً من استغفار وهيللة وتسبيح ومناجاة، وأما عن الصلاة والسلام على النبي الأكرم فيقول رضي الله عنه: "فلا ينبغي للمحب الصادق أن يهمل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفريضة ولا في صلاة النافلة، لأنها محل بركة وخير وفضل، ونبيها صلى الله عليه وسلم أهل لأن يذكر هنالك وفي كل محل شريف، وينبغي له أن يستحضر السلام عليه كما يستحضر الصلاة عليه".
وفي موضع آخر: "فإن شئت أن تنال ما تريد فصل على النبي المجيد ولو مائة مرة في اليوم والليلة، لأن القليل الدائم من الأعمال خير من الكثير المنصرم منها، والعمل لا يكون قليلاً إلا إذا كان صاحبه على غير السنة المحمدية، وأما إذا كان عليها فلا يكون عمله إلا كثيراً. ولا شك أن المتمسك بالسنة لا تفوته الصلاة على صاحبها صلى الله عليه وسلم وإن لم يصل عليه بلسانه، وإذا كان على سنته وصلى عليه بلسانه فذلك نور على نور، ولا شك أن المتمسك بسنته حقاً يصلي عليه بكليته، والمتمسك الذي لا يبالي بالسنة إنما يصلي عليه بلسانه فقط دون جوارحه، وعمل قليل في سنة خير من كثير في بدعة، فافهم فهمنا الله وإياك".
الأصـــــــــــل الـــخامـــــس
المـــــــذاكــــرة
يتأكد هذا الأصل في الطريقة الدرقاوية من خلال تأكيد الشيخ مولاي العربي الدرقاوي عليها تأكيداً شديداً وكذا شيوخ الطريقة من بعده، وكذا من خلال اعتناء أهل الطريقة بها فلا يخلو مجلس من مجالسهم منها، ولها مقاصد معتبرة عندهم أهمها:
1) تعليم المنتسبين المبتدئين وعموم الناس الحاضرين مبادئ الشريعة التي بدونها لا تسلك الطريقة.
2) تزكية العلم وتثبيته بنوعيه: الظاهر والباطن.
3) تنبيه الغافلين وتذكير الناسين.
4) شحذ الهمم وتثبيت المبتلين، كما وقع لأهل الطريقة بتطوان.
5) شرح أصول الطريقة ومقومات التربية عندها، ودحض تهم المنكرين لها.
6) الإجابة عما يعرض من أسئلة ومستجدات.
والمذاكرة كما نص عليها شيوخ الطريقة لا بد أن تتأدب بأدب الإسلام.
يقول الشيخ مولاي العربي الدرقاوي عنها: "فالمذاكرة عند القوم رضي الله عنهم من أهم المهمات، فلا يستغني عنها إلا من جهل قدرها، ومذاكرة اثنين أفضل من حمل وقرين كما عند القوم، وعليه فلا نحب من يسكت من الإخوان وقت المذاكرة، بل نكرهه الكراهة البالغة إذ لا فائدة في الصمت حينئذ، لأن المعاني تجر بعضها بسبب الكلام حتى يجر صاحبها إلى الحضرة الربانية، وكان أستاذنا يكره من يصمت من الفقراء وقت المذاكرة ويستثقله ويستقبحه، ويتلو قول الله عز وجل: ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ".
ويقول رضي الله عنه في رسالة أخرى: "فاعلموا رحمكم الله إني أحبكم أن تتذاكروا في الذي يميت نفوسكم ويحيي قلوبكم، كما كان من قبلكم من أهل طريقكم، واحذروا من دسائس أنفسكم لئلا ينقطع المدد عنكم. ومن أراد أن لا ينقطع عنه المدد فلا يتكلم في فنه مع كل أحد، إنما يتكلم فيه مع أهله".
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
الكلمات المفتاحية :
الطرق الصوفية
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: