العقيدة الطحاوية - الدرس الرابع عشر
العقيدة -
العقيدة الطحاوية - الدرس (14-20) : قدَّر لهم أقْداراً وضرب لهم آجالاً
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1995-05-27
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على سيّدنا محمد الصادق
الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم
علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا، وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً،
وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً، وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن
يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
الخَلْق شيء والتَّقْدير شيءٌ آخر :
أيها الأخوة المؤمنون، لازِلْنا في العقيدة الطحاوِيَّة، وقد
وَصَلنا إلى قول الإمام الطَّحاوي رحمه الله تعالى: "خَلَقَ الخَلْقََ
بِعلمه"، وهذا كان موضوعَ الدَّرْس الماضي، وقَدَّر لهم أقْداراً، قال تعالى:
﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ﴾
[سورة الفرقان: 2]
فأنت ممكن أن
تنشئ غرْفَةً، فلو أرَدْتَها أن تكون مرآباً لِسَيَّارَةٍ فلها مواصفات غير بناء
الغرفة، وهي أن تكون متناسبة مع المركبة، فلو أنَّها أضْيَق من عرْض المركَبَة،
فهذه غير مُقَدَّرة تقْديراً، وكذلك لو أنَّ سَقْفَها منخفض، ولو أنَّك إن
دَخَلْتَ إليها لم تتمَكَّن مِن فَتْح الباب لِتَخْرُج فهي غُرْفَةٌ بُنِيَت بناءً
صحيحاً إلا أنَّ تقْديرها سيِّئٌ، فالتَّقْدير شيءٌ يخْتَلِف عن الخَلْق.
فالإنسان
خلقَهُ الله، فلو أراد أن يُنَظِّفَ نفْسَه فإنّ يَدُهُ تَصِل لِكُلِّ أنْحاء
جسْمِه، فلو أنَّها كانت قصيرة لَما كان هناك حَلٌّ لِهذا، ولو أنَّ الله تعالى ما
خلق هذا المَفْصَل لما أمْكَنَ إلا أنْ يأكل كما تأكل الهِرَّة؛ ينْبَطِحُ،
ويلْتَقِط الطَّعام بِفَمِهِ! من الصَّحْن مُباشرةً، كيف تَصِلُ اللُّقْمة إلى
الفَم، فالخَلْق شيء، والتَّقْدير شيءٌ آخر.
كُلّ شيء مخلوق بِقَدَر :
"خَلَقَ الخَلْقَ بِعِلْمِهِ، وقَدَّرَ لهم أقْدَراً"،
وهذا المعنى مُسْتفاد من قوله تعالى:
﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى*
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ﴾
[سورة الأعلى: 1-2]
فَسَوَّى أي:
ناسَب، فالأشْجار لو أنَّها شامِخَة، ومَلْساء، وارتفاعها ثلاثون متراً لاسْتَحال
أن نقْطِفَ ثِمارَها، لكنّ ارْتِفاعُ الأشْجار مَعْقول، ولو أنَّها مع الأرض لكانت
غير مَعْقولة فَكُلّ شيء مخلوق بِقَدَر، قال تعالى:
﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ﴾
[سورة الفرقان: 2]
وقال تعالى:
﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ
بِقَدَرٍ ﴾
[سورة القمر: 49]
هل تُصَدِّق لو
أنَّ القُدْرة على الرؤْيَة تضاعَفَت لما أمْكنك أن تشْربَ هذا الكأس من الماء!
هذا الماء الصافي العَذْب الزُّلال فيه ملايين البكْتيرْيا، فلو أنَّ الله سبحانه
وتعالى وسَّعَ القُدْرة على الرؤْية لرأيْتَ الكائِنات الحَيَّة، ولما أمْكنك شرب
الماء، فالسَّمْع له عَتَبَة، والبصر له عَتَبَة، وأحْياناً الإنسان إذا أكَلَ
شيئاً حامِضاً وشيئاً مالِحاً شعرَ بالحُرْقَة، ولو أنَّ الله عز وجل رفَعَ
حساسِيَّة الأعصاب لغَدَتْ حياتنا جحيماً، قال تعالى:
﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ
بِقَدَرٍ ﴾
[سورة القمر: 49]
أكبر دليل على وُجود الله دليل التَّرْجيح
:
قال تعالى:
﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ
فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ
وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً ﴾
[سورة الأحزاب: 38]
في صحيح مسلم
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ
قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ:
وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ))
[مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ]
لذلك يُعَدُّ
أكبر دليل على وُجود الله دليل التَّرْجيح، وأوْضَحُ مثلٍ، أن تفتَح مفتاح
الكهرباء، أليس بِإمكان الكهربائي أن يضع المفتاح على ارْتِفاعٍ كبير؟! بلى، ولكن
هذا غير حكيم، أو في مكان مختفٍ! إلا أنَّ هذا المفتاح في كلّ البيوت تجدهُ
معْتَدِل الارتفاع، وهذا سَمَّاهُ العلماء دليل التَّرْجيح، ولا ترْجيح بلا
مُرَجِّح، وكل شيء فيه حِكْمة، أيْ أنَّ وراءهُ عقْلاً حكيماً جعله في هذا المكان،
وهذا أحَدُ أكبر الأدِلَّة التي تُؤَيِّد أو تُؤَكِّد وُجود الله عز وجل، ولك أن
تستنبط مِن خلْق الإنسان ما لا يُعَدُّ ولا يُحْصى؛ عَتَبة البصر، وعَتَبة
السَّمْع، والشمّ، والرؤية، والإحساس، فَكُلّ شيء خلقَهُ الله بِقَدَر دقيق.
"وضربَ
لهم آجالاً"؛ أي أنَّ الله تعالى قدَّر آجالَ الخلائق، حيث إذا جاء أجَلُهم
لا يستأخرون ساعَةً ولا يسْتَقْدِمون.
أصْل التَّرْتيب :
بيَّنْتُ لكم في دَرْسٍ سابق أنَّ الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا
الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾
[سورة الشورى: 14]
هذه الآية أيها
الأخوة، لو تأمَّلْنا فيها لذابَتْ نُفوسُنا حُبّاً لله عز وجل، ففي الآية تَقْديم
وتأخير؛ قال تعالى:
﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا
الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾
[سورة الشورى: 14]
هذا أصْل
التَّرْتيب، (ولولا) كما تعلمون حرْف امْتِناعٍ لِوُجود؛ لولا المطر لَهَلَك
الزَّرْع، فامْتَنَع هلاك الزَّرْع لِوُجود المطَر، وامْتَنَع قَصْم العباد
العُصاة بِكَلِمَةٍ سبَقَتْ من ربِّك ولأجلٍ مُسَمَّى؛ لِسَبَبَيْن: امْتَنَع
قَصْم العباد الفجار العُصاة بِكَلِمَةٍ سبَقَتْ من ربِّك ولأجلٍ مُسَمَّى، وهناك
سؤال يطْرحه بعض الناس؛ فهذا الفاجر، والظالم، والعاق للوالِدَين، والذي يؤذي من
حوله، وهذا الكافر، صِحَّتُهُ جيِّدة، ومالُهُ كثير، والناس يخافونَهُ، فأين الله؟
لماذا لا يقْصِمُهُ؟ هذا سؤال يَرِدُ كثيراً؟ والجواب هو الآية قال تعالى:
﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا
الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾
[سورة الشورى: 14]
الحكمة من تأخير عقاب ربنا لبعض العصاة :
ما دام هذا الإنسان قد مُدَّ له في الأجل؛ إذاً هناك أَمَلٌ في
هِدايَتِهِ، والدليل قال تعالى:
﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ
يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا
يَفْعَلُونَ ﴾
[سورة هود: 36]
عندما يعلم
ربُّنا عز وجل أنَّ هذا الإنسان لن يؤمِن يَقْصِمُهُ، وما دام الإنسان يعيش ومُدَّ
له في أجَلِهِ، معنى ذلك أَنَّهُ أُعْطي فُرْصَةً لِيَتوب، وعندي ألف قِصَّة حول
هذا الموضوع، فهناك مَن يرْتَكِب أكبر الكبائر، يا ربّ لماذا لم تَقْصِمْهُ؟ ثمَّ
تُفاجأ أنَّه تاب إلى الله! معنى ذلك أنّ عِلْمَ الله لِصالِحِك؛ عَلِمَ فيك
الخَيْر فأَعْطاك فُرْصَةً لِتَتُوب، وهذا شيءٌ دقيق جداً، قال تعالى:
﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا
الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾
[سورة الشورى: 14]
الله سبحانه وتعالى رحْمته سَبَقَت
غَضَبَهُ :
ما هذه الكلمة؟ أنَّ رحْمة الله سَبَقَتْ غَضَبَهُ، ليس القَصْد أن
يُعَذِّبَهم، ولا أن يَقْصِمَهم، ولا أن يُقيمَ عليهم الحُدود؛ لا، ولكن القَصْد
أنْ يَرْحَمَهم، فالأب الرَّحيم يَغُضُّ بصَرَهُ عن تِسْعَة أخْطاء، ويُحاسِب على
العاشِرَة، ولأنّ الله سبحانه وتعالى رحْمته سَبَقَت غَضَبَهُ؛ قال تعالى:
﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى ﴾
[سورة طه: 129]
عِقابُهُم
وَقَصْمُهم، ولكان لِزاماً إهْلاكهم، قال:
﴿ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ
مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾
[سورة الشورى: 14]
أَوْضَح
مَثَلٍ: طالبٌ لا يُمكِنُ أن ينْجَح، فَهَل يمكن أن يرقن اسمُه في العام
الدِّراسي؟ لا، إلى أن يأتي الامْتِحان، وهذا الامْتِحان هو أجَلٌ ضُرِبَ له، وبعد
الامْتِحان يرْسُب، ولكن قبْله لا يَرْسُب، وهذا حتَّى لا يكون للإنسان حُجَّة على
الله؛ يا ربّ لو مَدَّدْتَ لي عُمْري لَتُبْتُ، قال تعالى:
﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا
أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ
فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾
[سورة فاطر: 37]
الله عز وجل بيَّن أنّه لا يهْلِك إلا
هالِكاً :
الله عز وجل بيَّن أنّه لا يَهْلِك إلا هالِكاً، قال تعالى:
﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ
وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾
[سورة الأنفال: 42]
قال تعالى:
﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ
عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا
فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴾
[سورة هود: 38]
فالله تعالى
قَصَمَهُم، والله تعالى يقول:
﴿ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا
فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
[سورة يونس: 89]
وهذا بعد
أربعين سنة حتَّى أجاب الله الدَّعوة، فالإنسان نفسُه قصير النظر، ويُريد بعد
ساعات معْدودة أنْ تُحسَمُ المسألة! ولكنَّ الله عز وجل يُمْهِل ولا يُهْمِل، قال
تعالى:
﴿ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لَا رَيْبَ
فِيهِ ﴾
[سورة الإسراء، 99]
أي أنَّ الله
سبحانه وتعالى قدَّر آجال الخلائق حَيْث إذا جاء أَجَلُهم لا يسْتأخِرون ساعَةً
ولا يسْتَقْدِمون، إلا أنَّ هناك ملاحظة؛ ولأنّ الله عز وجل حِكْمَتُهُ مُطْلَقةٌ
فالإنسان لو كُشفَ له يَوْمَ القِيامة عن حِكْمَة الأَجل الذي عاشَهُ سَيَقُول:
الحمد لله ربِّ العالمين، فالأَجَل الذي عاشَهُ الإنسان يجْعله يَحْتار، فالشافعي
عاش رحمه الله أقلّ مِن خمسين سنة، وابن القَيِّم عاش سِتِّين سنة، والنَّوَوي عاش
أربعين سنة؛ فهذا الأخير ترك آثاراً لا يَعْلَمُها إلا الله: الأذكار، ورياض
الصالحين، وابن القَيِّم ترك آثاراً لا يُصَدِّق الإنسان الجُهْد الذي بُذِل في
هذه الكتب، فَمِن أجل ذلك لو كُشِفَ لك الغِطاء يوم القِيامة عن حِكْمَةَ الأَجل
الذي عِشْتَهُ، فأنا لا أَشُكّ إلا أن تقول ويقول كلُّ إنسان: الحمد لله رب
العالمين! فَكُلُّ ما يقوله الإنسان مِن كلام أنّ فلاناً مات في ريعان شبابه فهذا
مِن جَهْلِنا، وحِكْمَةُ الله مُطْلَقَة ولا يعْرِفُها إلا الله، وأنا أسْتَسْلِمُ
وأقول: الأجَلَ الذي كتَبَهُ الله لي هو أنْسَبُ أجَلٍ، ويُؤَكِّدُ هذا دُعاء
النبي عليه الصَّلاة والسَّلام، فعَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ قَالَ: صَلَّى عَمَّارُ
بْنُ يَاسِرٍ بِالْقَوْمِ صَلَاةً أَخَفَّهَا فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوهَا فَقَالَ:
أَلَمْ أُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: أَمَا إِنِّي
دَعَوْتُ فِيهَا بِدُعَاءٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَدْعُو بِهِ:
((اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ
وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْراً لِي
وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْراً لِي))
[النسائي عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ ]
واللَّهم
اقبضنا إليك غير فاتنين ولا مَفتونين، لأنَّ الفتنة أشَدُّ من القَتْل فهذه
البنْتُ التي وُئِدَت هي إلى الجنَّة، أما الأب الذي أفْسَد ابنَتَهُ، وأطْلَقَ
لها العِنان، وجَعَلَها مع الرِّجال تخْتَلِط، وانْطَلَقَتْ سافِرَةً فاجِرَةً،
تَعْرِضُ مفاتِنَها على الناس، فهذا ما قَتَلَها بيده، ولكنَّهُ قَتَلَها بضلاله
إلى أبَدِ الآبدين.
الحكمة من ذكر الزِّنا في سورة الإسراء
بين النهي عن قَتْلَيْن :
أيُّها الأخوة، قد تَعْجَب لماذا جاء ذكرُ الزِّنا في سورة الإسراء
بين النهي عن قَتْلَيْن! قال تعالى في الأولى:
﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ
خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ
خِطْئاً كَبِيراً ﴾
[سورة الإسراء، 31]
الثانية:
﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا
لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ﴾
[سورة الإسراء، 33]
فبين هاتين الآيتين جاءت آية الزنا، قال تعالى:
﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ
كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ﴾
[سورة الإسراء، 32]
فما الحكمة من
مجيء آية الزنا بين النهي عن قَتْلَيْن؟! لأنَّ الزنا قَتْلٌ ثالث! فإذا فسَدَتْ
أخلاق الإنسان وافتتنوا، والفتنَة أشَدُّ من القَتْل، لأنَّك إذا قَتَلْتَ الإنسان
فقد بَعَثْتَهُ إلى الجنَّة، أما إذا فَتَنْتَهُ فأنت تبْعث به إلى النار!
الذي يُنْهي حياة الإنسان هو انتهاءُ
الأجَل :
قال تعالى:
﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ
أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾
[سورة الأعراف: 34]
كلمة الحق لا
تقْطَعُ رزْقاً ولا تُقَرِّبُ أجَلاً، سألني أَحَدُ الأخوة: مادام الأجَل
مَحْدوداً، فَلِمَ العِنايَة بالصِحَّة؟ فقُلْتُ له: العِنايَة بالصِحَّة مِن أجل
حالتَيْن: إما أن تعيش ثلاثين سنة وأنت مريضٌ على الفراش، وإمَّا أن تعيشَها وأنت
صحيحٌ! أما الأجَل فهُوَ هُوَ! فالمَرَضُ لا يُنْهي حياة الإنسان، إنَّما الذي
يُنْهي حياة الإنسان هو انتهاءُ الأجَل، فَكَم مِن سقيمٍ عاشَ حيناً من الدَّهْر،
لذلك أحدهم دعا على آخر فقال: اللَّهمّ أَصِبْهُ بِسَرَطان في دَمِه، وشَلَلٍ في
يَدِه، حتَّى يتمنَّى الموت فلا يَجِدُهُ، وقد حكى لي أخٌ عن والِدَتِه؛ فهي
ملقاةٌ دائماً على سرير، ومُرَبوطة اليَدَيْن، فلولا هذا الرَّبْط لأكَلَت
غائِطَها، ولمَزَّقَتْ ثِيابَها!! فعلى الإنسان إذا ذَهَب لأداء فريضة الحجِّ أو
العُمْرة أن يطْلبَ أن يكون أجَلُهُ على سنَّة النبي عليه الصَّلاة والسلام، ثلاثة
أيَّام فقط، وودَّعَ أهله صلى الله عليه وسلَّم، أما أن يبقى أمَداً طويلاً كي
يموت، فَأَقْرَبُ الناس إليه يتمَنَّى مَوْتَهُ، فاطْلُبوا من الله السَّلامَة.
قال تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا
نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي
الشَّاكِرِينَ ﴾
[سورة آل عمران: 145]
وفي صحيح مسلم
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ
وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
((قَدْ سَأَلْتِ اللـَّهَ لِآجَالٍ
مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ
شَيْئاً قَبْلَ حِلِّهِ،أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئاً عَنْ حِلِّهِ وَلَوْ كُنْتِ
سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي
الْقَبْرِ كَانَ خَيْراً وَأَفْضَلَ))
[مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ]
وهذا مِن
أدَقِّ الأحاديث.
عقيدة أهل السنَّة والجماعة أن المَقْتول
يموتُ بِأَجَلِه :
يعْتَقِدُ أهل السنَّة والجماعة أنّ الميِّت مَقتول بِأجَلِه، وثمة
عقيدة خطيرة، وهي أنّ له أجَلاً، ولكنَّ القاتِل عدَّل له أجلهُ! هذه عقيدة
فاسِدَة، فاحذَر الزللَ، فالمَقصود أنّه مَيِّتٌ بِأجَلِهِ، فَعَلِمَ الله تعالى،
وقَدَّر، وقضى أنَّ هذا سيموتُ بِسَبب المَرض، وهذا بِسَبب القتْل، وهذا بِسَبب
الهَدْم، وهذا بالحَرْق، وهذا بالغَرَق إلى غير ذلك من الأسباب، والله سبحانه
وتعالى خلق الموت والحياة، وخلق سبَبَ الموت والحياة؛ هذه عقيدة أهل السنَّة والجماعة
المَقْتول يموتُ بِأَجَلِه.
عند المعتزلة، المَقْتول مَقْطوعٌ عليه
أجَلُه، ولو لم يُقْتَل لَعاشَ إلى أجَلِه، معنى ذلك أنَّ الكافر سبق الله عز وجل،
فهو تعالى قدَّر له أجَلاً! كلامٌ مُضْحِك، فالله تعالى قدَّر أجَلاً، وجاء
القاتِل فَحَسَمَ هذا الأجَل قبل أوانِه! والإنسان يقول لأهل المَيِّت: عَظَّم
الله أجْرَكم، وأنا أُفَضِّل في كلّ المناسبات أن نلْتَزِمَ أقوال النبي عليه الصَّلاة
والسَّلام.
وعند المعتزلة، المَقْتول مَقْطوعٌ عليه أجَلُه، ولو لم يُقْتَل
لَعاشَ إلى أجَلِه، فَكان له أَجلان، وهذا باطِل؛ لأنَّهُ لا يليق أن يُنْسَبَ إلى
الله تعالى أن يكون جعَلَ له أجَلاً يعْلَمُ أنَّه لا يعيش له البتَّة، فإذا
قلْتَ: لا يعْلم؛ معنى ذلك أنَّ الله تعالى جعل له أجَلاً غير حقيقيّ، يعْلم أنَّه
سيُقْتَل، وجعل له أجَلاً بعيداً، أو يجْعل أجَلهُ أحَدَ الأمْرَين، كَفِعْل
الجاهل بالعواقِب، وهذا عذْر أقبَح من ذنب، ووُجوب القصاص والضَّمان على القاتِل
لارْتِكابِهِ المَنهيّ عنه، وكأنَّ الله تعالى رَسَم خُطَّة والقاتِل أفْسَدَها
عليه!!! وعلى هذا يُخَرَّج قوله صلى الله عليه وسلَّم: صِلَةُ الرَّحِمُ تزيد في
العُمْر، أي هي سبب طول العُمْر، فهناك توجيه لطيف جداً: العُمْر لا يزْداد
زَمَناً، ولكن غِنًى بالعَمَل الصالِح؛ فأنت في مَحلّ تِجاري مثلاً، هل يَهُمُّكَ
كم ساعَةً فَتَحْتَ، أم كم وَجَدْتَ في الدُّرْج من الربح؟! فقيمة الأَجَل
بِمُحْتواه من عَمَلٍ صالِح؛ هذه هي قيمَتُه! لذلك الأحاديث التي تَدْعو بِطُول
العُمُر تُوَجَّه هذا التَّوْجيه، أي أن يَغْتَنِمَ هذا العُمر بالأعمال
الصالِحَة.
قيمة الأَجَل تقدَّر بِمُحْتواه من عَمَلٍ
صالِح :
النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن من المُعَمِّرين في العمر
كزَمَن: ثلاث وستُّون سنة عاشَها صلى الله عليه وسلَّم، ووصَل هُداه إلى الصِّين،
وإلى فرنسا، والآن بِأمريكا، وقال لي أخٌ كان في وَاشِنْطُن: عِشْتُ هناك أمَداً،
والآن فيها سبْعة مساجِد، وفي باريس احْتَفَلوا بإنشاء المسجِد رقم ألف! ويُعَدُّ
الإسلام الدِّين الثاني في البلاد، ولذلك أقْسَم الله تعالى بِعُمْر النبي عليه
الصلاة والسلام، قال تعالى:
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾
[سورة الحجر: 72]
وأنت إذا كان
عمرك ثميناً؛ من طلبِ عِلمٍ، إلى عملٍ صالِحٍ، إلى عملٍ، وإلى خِدْمةٍ، ولإصْلاح
بين الناس، وإيناس الزَّوْجة والأولاد؛ فاجْعَل عمرك غَنِيّاً بالعمل الصالِح،
لأنَّك لن تنْدم على الدنيا بِشَيءٍ إلا على ما فاتك منها من العمل الصالِح،
وربُّنا عز وجل قال:
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ
كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
[سورة المؤمنون: 100]
وهنا تَوْجيهٌ
آخَرَ لطيف؛ قال: يُخَرَّج قوله صلى الله عليه وسلَّم: صِلَةُ الرَّحِم تزيد في
العمر؛ أي هي سبب طول العمر، وقد قدَّر الله تعالى أنَّ هذا يَصِلُ رَحِمَهُ
فيَعيشُ بِهذا السَّبب إلى هذه الغايَة، ولولا ذلك السَّبب لم يَصِل إلى تلك
الغايَة، ولكن قدَّر هذا السَّبب وقضاه، وكذلك قدَّر أنَّ هذا يقْطعُ رَحِمَهُ
فيَعيشُ إلى كذا، كما قلْنا في القَتْل وعَدَمِه. أنا أميل إلى التَّفْسير
الأوَّل؛ أنَّ الزِّيادة في العُمُر تعني أنَّه يغْتني بالأعمال الصالِحَة.
الدُّعاء والاتِّصال بالله والتَّوْبَةُ
والنَّدَم وتَطْهير النَّفْس ترُدُّ القَدَر :
إنْ قيل: يَلْزَم مِن صِلَة الرَّحِم تأخيرٌ في زِيادة العُمر
ونقْصانِه، وتأثير الدعاء في ذلك أم لا؟ الجواب: إنَّ ذلك غير لازِم! لقوله صلى
الله عليه وسلَّم لأمِّ حبيبة رضي الله عنها: قد سألْتِ الله بآجالٍ مَضْروبَة..
الحديث كما تقَدَّم فَعُلِمَ أنَّ الأعْمار مُقَدَّرة، ولم يُشرع الدعاء
بِتَغْييرِها بِخِلاف النَّجاة من عذاب الآخرة، فإنَّ الدعاء مَشْروع له، نافِعٌ
فيه، ألا ترى أنّ الدعاء في تَغْيير العُمر لمَّا تضَمَّنَ النَّفْع الأُخْروي
شُرِعَ كما في الدعاء الذي رواه النَّسائي من حديث قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ قَالَ:
صَلَّى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ بِالْقَوْمِ صَلَاةً أَخَفَّهَا فَكَأَنَّهُمْ
أَنْكَرُوهَا فَقَالَ: أَلَمْ أُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ؟ قَالُوا: بَلَى،
قَالَ: أَمَا إِنِّي دَعَوْتُ فِيهَا بِدُعَاءٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِه:
((اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ
وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْراً لِي
وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْراً لِي))
[النسائي عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ ]
ويؤيِّد هذا ما
رواه الحاكم في صحيحه من حديث ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا
الْبِرُّ وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ
الرِّزْقَ بِخَطِيئَةٍ يَعْمَلُهَا))
[ رواه ابن ماجه عن ثَوْبَانَ ]
والله هذا
الكلام خطير، فالذي يَعْصي تَجِدُ الرِّزْق مُضَيَّقٌ عليه! مَحَلّ تِجاري يسْتقبل
النِّساء ويُدير معهُنَّ أحاديث لا تُرْضي الله، تجد الرِّبح فيه منعدم، والمَحَلّ
التِّجاري الذي فيه تَقْوى وغضّ بصر، تجد هذا المحَلّ مرْزوق؛ عَنْ ثَوْبَانَ
قَال:َ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ
بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ وَلَا يَزِيدُ
فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ))
[أحمد عَنْ ثَوْبَانَ ]
ما معنى ذلك؟
الإنسان غافل، والله قدَّر له مصيبَة تمْسك به، فهذا العبْد تَوَجَّهَ إلى الله
بالدُّعاء، والْتَفَتَ إليه، فالدُّعاء، والاتِّصال بالله، والتَّوْبَةُ،
والنَّدَم، وتَطْهير النَّفْس ترُدُّ القَدَر:
(( إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ
بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ وَلَا يَزِيدُ
فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ))
[أحمد عَنْ ثَوْبَانَ ]
الصَدَقَة اسْتِرْضاء لله عز وجل :
في الحديث ردٌّ على مَن يظنُّ أنَّ النَّذْر سبَبٌ في دَفْعِ
البَلاء، وحُصول النَّعْماء، وقد ثَبَت في الصَّحيحين عن النبي صلى الله عليه
وسلَّم أنَّه نهى عن النَّذْر، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ:
((نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئاً
وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ))
[الصَّحيحين عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ]
وفي رواية
النسائي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ:
((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ
إِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ))
[النسائي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ]
وأنا والله
أيها الأخوة أرْجو الله سبحانه وتعالى لكم ما نذَرْتُ شيئاً في حَياتي وإنَّما
كلَّما أشْعُر بضيقٍ أدْفَعُ صدَقَة من دون أن أشْتَرِطَ على الله، فإذا كنت في
خوف، أو في رهْبة واضْطراب اِدْفَعْ صَدَقَةً اسْتِرْضاءً لله عز وجل:
(( بادروا بالصَّدقة فإنَّ البلاء لا
يتخطَّاها.))
[رواه رزين عن علي رضي الله عنه وهو ضعيف]
وقد لفتَ نظري
أحد الأخوة، وقال لي: أرى أنْ تكون الصَّدقة بعد الفجر، لقول النبي عليه الصلاة
والسلام: بادروا بالصَّدقة أو باكروا، وعندنا يدْفع أحد الأخوة صَدَقَتَهُ بعد
الصُّبْح، يخرج من المسجد فيشتري عدداً كبيراً من الخبز، ويُوَزِّعُه على الفقراء،
وأحْياناً يبعث بصندوق مملوء بجميع الحاجيَّات لكل فقير! والصَّدَقة تقَعُ في يد
الله قبل أن تقع في يد الفقير! وهناك حديث ثالث: صَدَقة السرّ تُطفئُ غضبَ الربّ،
وصَدِّقوني أَيُّها الأخوة، إنَّ أهْوَنَ شيءٍ عليكم اسْتِرْضاءُ الله عز وجل؛
صَدَقَة بِعَمَلٍ صالِحٍ وكلمة طيِّبَة، والإنسان كلَّما وقَع بِذَنْبٍ فلْيُحْدِث
صدَقَةً، فقد كان الإمام أبو حنيفة يدْفَعُ ديناراً ذَهَبِيَّة لِكلّ يَمينٍ
يقْسِمُ بها، وهو صادِقٌ بها، وذلك كي لا يُعَوِّد نفْسَه القَسَم، قال تعالى:
﴿ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ﴾
[سورة المائدة:89]
نحن ليس عندنا
النَّذْر، إنما عندنا الاسْتِرْضاء، وعندنا صَدَقَة نسْترضي بها الله عز وجل. وقد
ثبَتَ في الصَّحيحين عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
((نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئاً
وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ))
وفي رواية
النسائي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ:
((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ
إِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ))
شروط الدعاء :
اعلَم أنَّ الدعاء يكون نافعاً ومشروعاً في بعض الأشياء دون بعض
وكذلك هو، ولِهذا لا يُحِبُّ الله المُعْتَدين في الدُّعاء، وبالمناسبة:
﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً
وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾
[سورة الأعراف: 55]
فإن لم تَكُنْ
مُتَضَرِّعاً فقد اعْتَدَيْتَ وتجاوزْتَ شروط الدُّعاء، الدّعاء مع كِبْر وفصاحة،
وبيان، وسجْع، وصوت دون تواضُع!! لا، الدُّعاء يحْتاج إلى هَمْس، وتذَلُّل،
وخُضوع؛ مَن دعا الله مُتَجَبَّراً ومُتَكَبِّراً فقد اعْتدى على شرْط الدُّعاء،
وكذا إذا رفَعَ صَوْتَهُ؟ إنَّكم لا تُخاطبون أصَمَّ ولا غائباً، قال تعالى:
﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً
خَفِيّاً*قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ
شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾
[سورة مريم:3-4]
فالله لا يحب
من يعتدي على شروط الدعاء بالكِبْر، أو رَفْعِ الصَّوْت، وهناك معنى ثالث رائِع
جداً، وهو: يا عبادي إن اعْتَدَيْتُم على بعضِكم بعْضاً فأنا لا أُحِبُّكم،
وبالتالي لن أسْتجيب لكم، فأنت إذا قلتَ: يا ربّ، هل يعْني هذا أنَّك مُستقيم وأنت
آكِلٌ للمال ومُعْتَدٍ ومُغْتاب، وتقول: يا رب، لا ربَّ لنا سواك.
رفْعُ الصَّوْت عُدْوانٌ في الدُّعاء :
هناك حديث يَقْصِم الظَّهْر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
((أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا:
الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ
الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ
وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا
وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا
مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ
أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ))
[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]
والله أيها
الأخ الكريم، وأنت تُواجِه مشْكلة أو خطراً؛ الشَّفتان لا تتحَرَّكان، وإنَّما
بالقلب فقط تناجي ربَّك، يا ربّ أَعِنِّي، ووفِّقْني، وأطْلِقْ لِساني، وآتِني
حُجَّة، وألْهِمْني الصَّواب، كُلُّ هذا وأنت ساكت، وهكذا قال تعالى:
﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً*
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ
أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً ﴾
[سورة مريم:3-4]
أما رفْعُ
الصَّوْت فهذا عُدْوانٌ في الدُّعاء.
المَحْوَ والإثبات من الصّحف التي في
أيْدي الملائكة :
أما قوله تعالى:
﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا
يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾
[ سورة فاطر: 11]
فقد قيل في
الضَّمير المَذْكور في قوله تعالى: مِنْ عُمُرِهِ، إنَّه بِمَنْزِلَةِ قولِهم:
عندي درْهَم ونِصْفُه، أي ونِصْفُ دِرْهَمٍ آخر، فَيَكون المعنى: وما ينقص من عمُر
مُعَمَّر آخر.
وقيل الزِّيادة
والنُّقْصان في الصُّحف التي في أيْدي الملائكة، وحُمِلَ قوله تعالى:
﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ* يَمْحُوا
اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾
[ سورة الرعد: 38-39 ]
على أنَّ
المَحْوَ والإثبات من الصًّحف التي في أيْدي الملائكة، وأنّ قوله: وَعِنْدَهُ
أُمُّ الكِتَابِ؛ اللَّوْحُ المَحْفوظ، ويدُلُّ على هذا الوَجْه سِياقُ الآيَة،
وهو قوله:
﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾
ثمَّ قال:
﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ
﴾
من ذلك الكتاب،
﴿ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ ﴾
أي أصلُه، وهو
اللَّوْحُ المحْفوظ، أي يمْكن أن نفْهَم فيه مبادئ ثابتة، وسُنَناً وقوانين، أما
التَّفاصيل فإنّ الله: يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، فلو طرَحْنا سؤالاً هل
الرِّزق مَقْسوم؟ قال تعالى:
﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً﴾
[سورة الجن:16]
إذا عالَجَ
الله عز وجل إنساناً بِضيقِ الرِّزق، إذاً فقدْ قدَّر عليه ضيق الرِّزْق، ثم إنّ
هذا الإنسان اسْتَقام، وتاب فالله تعالى هنا بدَّلَ، وهذا هو معنى قول الله تعالى:
﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ*يَمْحُوا
اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾
[ سورة الرعد: 38-39 ]
القوانين والسُّنَن التي سنَّها الله عزّ
وجل ثابتة :
أما الذي لا يتَبَدَّل فهي القوانين والسُّنَن التي سنَّها الله
عزّ وجل، فهذه ثابتة قال تعالى:
﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُون﴾
[ سورة يونس: 33 ]
هذه في
اللَّوْح المحْفوظ، لذلك فمن باب التَّشْبيه فالدُّستور لدى الدول فيه مبادئ
تُفَسَّر بِقَوانين، والقوانين بِمَراسيم، ويُمكن وَضْع تَعْديلات بالمرْسوم، أما
القوانين والمبادئ الكبرى فثابتة. لك عند الله تعالى رِزْق أما كَمِّيَّتُهُ
تتبَدَّل، والآيات في ذلك كثيرة، قال تعالى:
﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ
إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً *
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ أَنْهَاراً ﴾
[ سورة نوح: 10-12 ]
وصِلَةُ
الرَّحِم تزيد في الرِّزْق؛ هذا اثنان، وكذا الاستِغفار والاستِقامة، قال تعالى:
﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً﴾
[سورة الجن:16]
الله عز وجل في
سبع آيات وأحاديث أشار إلى أنَّ الرِّزْق يزيد بالاستِقامة، قال تعالى:
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
[ سورة الأعراف: 96 ]
وكذا بصلة
الرَّحم، والصَّدَقَة، والاستِغفار، وإقامة أحْكام الدِّين.
موضوع الجَبْر :
موضوع الجَبْر موضوعٌ خطير، وهي أنَّه لا شيء ينتهي، ولا شيء جديد
إطْلاقاً، فمادام الكَسْب مَفتوحاً، والاخْتِيار مَفتوحاً أيَنْتهي الكسب؟ فالله
تعالى علْمُهُ علْم كَشْف وليس علْمَ جَبْر، فهل يجوز لك والحالة هذه أن تُعَطِّل
أمْر الله؟ قال تعالى:
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ
كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ
عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ
وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾
[ سورة الأنعام: 148 ]
هذه الآية
أصْلٌ في نَفْيِ الجبْر؛ فلعَلَّك ظَنَنْتَ قضاءً لازِماً وقَدَراً حاكِماً، إذاً
لانْتفى الوَعْدُ والوعيد، ولَسَقَط الثواب والعِقاب، إنَّ الله أمَرَ عِبادَهُ
تَخْييراً ونهاهُم تَحْذيراً، وكلَّفَ يسيراً ولم يُكَلِّف عسيراً، وأعطى على القليل
كثيراً، ولم يُعْص مَغْلوباً ولم يُطَعْ مُكْرَهاً؛ ماذا تقول في هذا الكلام؟ لو
أنَّ الله تعالى أجْبَر العباد على الطاعة لَسَقَط الثَّواب، ولو أجْبَرَهُم على
المَعْصِيَة لسَقَط العِقاب، ولو تَرَكَهُم همَلاً لكان عَجْزاً في القُدْرة، فأنت
لو ألْغَيْتَ الاخْتِيار والكَسْب المَفْتوح لألْغَيْتَ الدِّين؛ الثَّواب
والعِقاب والأمانة والتَّكليف والجنَّة والنار، ولم يبْقَ شيءٌ.
أنت مُتَمَتِّع
بالاختيار، وهذا الاختيار لن تمْلكه إلى الأبد، والفعْل فِعْلُ الله، وتتعلَّق
مشيئة الله بتَحقيق اخْتِيارِك، وأنت مُسَيَّر بِتَحقيق مشيئتِك واخْتِيارِك.
الرِّزق يزيد وينقص بِحَسب عمل الإنسان :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ
قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ
وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ))
[مسلم: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ]
أليْسَ هذا
دليلاً على تقْدير الرِّزق؟ هذا صحيح، فالرِّزْق مُقَدَّر للإنسان، وقد يسْتحِقّ
العِقاب التأديبي بِقِلَّةِ الرِّزْق، ولو أنَّهُ تاب إلى الله لقدَّر الله له
رِزْقاً آخر، وهذا الأمْر أشار إليه سيِّدُنا عمر لما رعى غَنَمَهُ في أرْضٍ
مُعْشِبَةٍ، ولمَّا دخل على بلاد الشام وكان فيها الطاعون، بعضهم أشار إليه ألاّ
يدْخُل، فقال هذا الخليفة الراشِد: لو أنَّ هناك أرْضَيْن؛ إحداهما مُعْشِبَة،
والأخرى مُجْدبة، أليس لو كانت لك غَنَمٌ ورعَيْتَها في أرْضٍ معشبة لرعَيْتَها
بِقَدَر الله؟ وإن رَعَيْتَها في الأرض المجدبَة لَرعَيْتَها بِقَدَر الله؟ فَكَيف
نفِرُّ من قضاء الله إلى قضاء الله، وأن ترْعى في أرْضٍ معْشِبَة وَفْق القوانين
أفضل من أن ترْعى في أرض مجْدبة! فَكُلُّه بِقَضاء الله، ولكن أنت لك اخْتِيار،
وما دام هذا الفم مَفْتوحاً فله رزْق من الله عز وجل، وهذا الرِّزق يزيد وينقص
بِحَسب عمل الإنسان.
أُريد أن
أُعَقِّب على المناقشة التي جَرَتْ بِهذه الخُلاصة؛ هناك قاعدة في عِلْم الأصول
تقول: إنَّ الآيات المتشابهة مهما كَثُرَت تُحْمَلُ على الآيات المُحْكَمَة مهما
قلَّتْ؛ دَقِّقوا فلو قلتَ: إنَّ القَمْح مادَّة خطيرة! ماذا تعني كلمة خطيرة؟
أنَّهُ أساسي في حياة الإنسان أو شيء يتفَجَّر، فَكَلِمَة خطيرة كلمة
احْتِمالِيَّة، ومُتشابِهَة، ثمَّ بعد قليل قُلْتَ: القَمْح مادَّة أساسِيَّة في
حياة الإنسان؛ فماذا نَفْهَم من كلمة خطيرة؟ نَحْمِلُها على كلمة (أساسِيَّة)،
إذاً الآيات المتشابهة مهما كَثُرَت تُحْمَلُ على الآيات المُحْكَمَة مهما قلَّتْ.
آيات من الذكر الحكيم في نَفْيِ الجَبْر :
آيَةٌ واحدة محكمة نُفَسِّرُ في ضوئِها مئة آية متشابهة، قال
تعالى:
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ
كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ
عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ
وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾
[ سورة الأنعام: 148 ]
هل هناك أوْضَح
من هذه الآية في نَفْيِ الجَبْر؟! وقال تعالى:
﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ
الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
[ سورة فصلت: 17 ]
وقال تعالى:
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا
شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾
[ سورة الإنسان: 3 ]
وقال تعالى:
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
[ سورة البقرة: 148 ]
الآيات التي توحي بالجَبْر ظاهرها يوحي
بذلك أما فحْواها فهو لا يعني الجَبر :
أما الآيات التي توحي بالجَبْر، فظاهرها يوحي بذلك، أما فحْواها
فهو لا يعني الجَبر، قال تعالى:
﴿ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾
[ سورة الأنعام: 12 ]
وقال تعالى:
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ
اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾
[ سورة التوبة: 51 ]
وهذا كلام
المؤمنين، ما دُمْنَا مع الله تعالى وقد آمَنَّا به فلن يُصيبنا إلا ما كتب الله
لنا من خير، وهذه أوْضَح آية بالجبر، قوله تعالى:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ
نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ
الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾
[ سورة السجدة: 13]
أي يا عبادي
إذا ظَنَنْتُم أنَّكم مَجْبورون على المعْصِيَة فأنتم واهِمون لأنَّني لو أرَدْتُ
أن أُجْبِرَكم على شيءٍ ما لما أجْبَرْتُكم إلا على الخير، ولو شئْنا أن
نُجْبِرَكم لآتَيْنا كلّ نفْسٍ هداها ولكنَّ أفعالكم التي تَفْعَلونها هي مَحْضُ
اخْتِياركم، لذلك سَتُعاقَبون عليها، بِرَبِّكم لو أنَّ إنساناً أجْبرناه على
فِعْل شيءٍ هل يلوم نفْسَهُ على هذا الفِعْل إذا كُنَّا نحن الذين أجْبَرْناه؟
ماذا يعْني النَّدَم؟ مُجَرَّدُ النَّدَم في القرآن تعني نَفْي الجبْر، قال تعالى:
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى
يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ﴾
[ سورة الفرقان: 27 ]
وقوله تعالى:
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ
لِحَيَاتِي ﴾
[ سورة الفجر: 24 ]
وآيات كثيرة،
فلو أنَّ الإنسان مُجْبَرٌ لما نَدِمَ! وكذا مُجَرَّد الأمْر والنَّهي في القرآن
دليل على أنَّ الإنسان مُخَيَّرٌ، فالاخْتِيار شيء ثابت في عقيدة المسلِم، والفئَة
الجَبْرِيَّة فِئَةٌ خَرَجَت عن مسارِ عقيدة أهل السنَّة والجماعة، ونحن نعلن أنّ
علْم الله عِلْم كَشْفٍ، وليس عِلْمَ جَبْرٍ، وما دُمْتَ لا تَعلم ماذا يعْلَمُ
الله، فهذا ليس حجَّةً إطْلاقاً.
والحمد
لله رب العالمين
الكلمات المفتاحية :
عقيدة الاشاعرة
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: