القدرية ... مناقشة
القدرية
الذين غلوا في نفي القدر وهم القدرية
أولا : التعريف بهم ، وأول من قال بهذه البدعة ونشرها
أ - التعريف بهم
القدرية : هم القائلون بإنكار القدر الإلهي من قبيل الاشتقاق من الضد إذ أنهم يرون أن للعبد قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله تعالى .
وهم فرقتان : القدرية الأولى ، أتباع معبد الجهني وغيلان الدمشقي القائلون بإنكار القدر بمعنى العلم والتقدير . وهذه الفرقة انقرضت كما سيأتي .
القدرية الثانية : وهم المثبتون للعلم والكتابة لكنهم يقولون إن العبد يخلق فعل نفسه ، وهم المعتزلة كما سيأتي بيانه .
أول من قال بهذه البدعة ونشرها
أول من تكلم بهذه البدعة في الإسلام معبد الجهني - كما يقول الذهبي وابن الأثير ، وابن قتيبة ، وابن كثير - أخذ ذلك عن نصراني من الأساورة يقال له أبو يونس ويعرف بالأسواري .
(الجزء رقم : 34، الصفحة رقم: 236)
وقال الأوزاعي : أول من نطق بالقدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد .
وقيل : بل أول من تكلم فيه معبد بن عبد الله بن عويمر قاله السمعاني وبعض علماء الأشاعرة .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : وقد روي أن أول من ابتدعه بالعراق رجل من أهل البصرة يقال له سيسويه من أبناء المجوس وتلقاه عنه معبد الجهني .
والأظهر : أن أول من تكلم في القدر معبد الجهني لكنه قاله متأثرا ببعض العناصر غير المسلمة كالنصارى والمجوس . وعن معبد الجهني أخد غيلان بن مسلم القبطي . وعلى يديه كان نشر هذه البدعة .
ونظرا لإفراط معبد وأصحابه - وهم القدرية الأولى - في نفي القدر ، إذ أنهم لم يقفوا عند القول بأن العبد يخلق فعل نفسه فحسب ، بل تطرفوا حتى نفوا القدر بمعنى العلم والتقدير . فيروى عن معبد أنه كان يقول : ( لا قدر والأمر أنف) أي مستأنف . ولرفض الصحابة والتابعين هذه البدعة ، وتحذيرهم من اتباعها ، ولوقوف الدولة الإسلامية منهم الموقف الحازم ، إذ نرى الخليفة عبد الملك بن مروان يأمر بقتل معبد الجهني . ونرى الخليفة
(الجزء رقم : 34، الصفحة رقم: 237)
عمر بن عبد العزيز يستتيب غيلان الدمشقي حتى تاب ورجع عن هذه البدعة في حياة عمر ، وبعد وفاة عمر بن عبد العزيز رجع غيلان إلى ضلالته فقبض عليه الخليفة هشام بن عبد الملك فقتله وصلبه .
نظرا لما ذكرت فإن هذه البدعة بهذا الشكل لم يكتب لها البقاء ولذا لما قامت المعتزلة - وهم القدرية الثانية - وتلقت هذه البدعة وكانت أخف وأقل تفريطا من معبد وأصحابه ، إذ نراهم لا ينكرون علم الله الأزلي وإن كانوا يوافقون معبدا في القول بأن العبد يخلق فعل نفسه .
وقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " . . . ولكن لما اشتهر الكلام في القدر ودخل فيه كثير من أهل النظر والعبادة ، صار جمهور القدرية يقرون بتقدم العلم ، وإنما ينكرون عموم المشيئة والخلق . . . " .
ويقول ابن حجر : القدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم واقعة منهم على جهة الاستقلال وهو مع كونه مذهبا باطلا أخف من المذهب الأول " .
رأي القدرية في القدر مع المناقشة
أ - رأي القدرية في القدر
تمهيد : ذكرت - آنفا - نشأة القدرية وأنها فرقتان ، وأن القدرية الأولى انقرضت ، ولم يبق إلا القدرية الثانية والذين يعرفون بالمعتزلة . والآن لنعرف رأيهم في القدر مستقى من أقوال أئمتهم ، وغيرهم . فنقول وبالله التوفيق :
(الجزء رقم : 34، الصفحة رقم: 238)
يقول القاضي عبد الجبار : " اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم ، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك ولا فاعل لها ولا محدث سواهم وأن من قال : إن الله - سبحانه - خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه وأحالوا حدوث فعل من فاعلين " .
ويقول القاضي - في موضع آخر - " . . . والغرض به الكلام في أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم ، وأنهم المحدثون لها " .
ويقول البغدادي - وهو يتحدث عن أصول المعتزلة - " . . . ومنها قولهم جميعا بأن الله تعالى غير خالق لأكساب الناس ، ولا لشيء من أعمال الحيوانات ، وقد زعموا أن الناس هم الذي يقدرون أكسابهم ، وأنه ليس لله عز وجل في أكسابهم ولا في سائر الحيوانات صنع ولا تقدير ولأجل هذا القول سماهم المسلمون قدرية " .
من هذه النصوص يتضح أن القدرية الثانية يرون ما يلي :
أ - أن الله غير خالق لأفعال العباد ، ولا لشيء من أعمال الحيوانات وأنه ليس له فيها صنع ولا تقدير .
ب - أن العباد هم المحدثون لأفعالهم .
ب - شبهات القدرية والرد عليها
لقد تمسك القدرية في قولهم إن العباد يخلقون أفعالهم بشبهات نقلية وعقلية وإليك شيء منها مع المناقشة :
(الجزء رقم : 34، الصفحة رقم: 239)
الشبهة الأولى : قوله تعالى : صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ الآية .
وجه الاستدلال بالآية : يقول القاضي عبد الجبار - بعد أن أورد هذه الآية للاستدلال - " . . . إن الله سبحانه وتعالى بين أن أفعاله كلها متقنة ، والإتقان يتضمن الأحكام والحسن جميعا - حتى لو كان محكما ، ولو لم يكن حسنا لكان لا يوصف بالإتقان ، ألا ترى أن أحدنا لو تكلم بكلام فصيح يشتمل على الفحش . . . ، فإنه وإن وصف بالإحكام لا يوصف بالإتقان ، ثم قال : إذا ثبت هذا ومعلوم أن في أفعال العباد ما يشتمل على التهود والتنصر والتمجس ، وليس شيء من ذلك متقنا ، فلا يجوز أن يكون الله تعالى خالقا لها " .
الجواب : يقال لهم إن هذا الاستدلال باطل لما يلي :
أولا : إن الإتقان لا يحصل إلا في المركبات ، فيمتنع وصف الأعراض به . وإذا لم توصف الأعراض بالإتقان ، بطل الاستدلال بالآية لأن الاستدلال بها ينبني على أن الإتقان يكون في الأعراض .
ثانيا : يقول الإمام ابن حزم : " إن هذه الآية حجة عليهم لا لهم لأن الله تعالى أخبر أنه بصنعه أتقن كل شيء ، وهذا على عمومه وظاهره ، فالله تعالى صانع كل شيء ، وإتقانه له أن خلقه جوهرا أو عرضا جاريين على رتبة واحدة أبدا ، وهذا عين الإتقان . وبهذا يظهر بطلان الاستدلال بالآية والله أعلم .
الشبهة الثانية : يقول القاضي عبد الجبار . " ومن الأدلة على أن العباد خالقون أفعالهم قوله تعالى : وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا الآية .
ثم قال : فقد نفى الله تعالى أن يكون في خلقه باطل ، فلولا أن هذه القبائح
(الجزء رقم : 34، الصفحة رقم: 240)
وغيرها من التصرفات من جهتنا ومتعلقة بنا ، وإلا كان يجب أن تكون الأباطيل كلها من قبله ، فيكون مبطلا كاذبا . تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا " .
الجواب : يقال لهم : إن معنى الآية أن الله تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما - عبثا ولعبا - على ما يتوهمه من زعم أنه لا حشر ، ولا نشر ، ولا ثواب ، ولا عقاب ، بل خلقهما بالحق للاعتبار بهما والاستدلال على خالقهما ، ومن ثم إثابة المتقين الطائعين ، ومجازاة المذنبين والكافرين ، ولذلك قال تعالى - بعدها - ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ . يعني من إنكارهم الثواب والجزاء والعقاب . وعلى ذلك فقولهم : إن معنى الآية " نفي أن يكون في خلقه باطل " غير صحيح ، وإذا كان غير صحيح بطل بالاستدلال بالآية .
الشبهة الثالثة : قالت القدرية : وجدنا أفعالنا واقعة على حسب قصدنا ، فوجب أن تكون خلقا لنا ، وفعلا لنا ، قالوا : وبيان ذلك ؛ أن الواحد منا إذا أراد أن يقوم قام ، وإذا أراد أن يقعد قعد ، وإذا أراد أن يتحرك تحرك ، وإذا أراد أن يسكن سكن ، وغير ذلك . فإذا حصلت أفعاله على حسب قصده ومقتضى إرادته ، دل ذلك على أن أفعاله خلق له وفعل له .
الجواب : يقال لهم : إن هذه الشبهة باطلة وبيان ذلك من وجوه منها :
أولا : قولكم : " إن أفعال العباد تحصل بحسب قصودهم . . . " غير صحيح على إطلاقه فإنا نرى من يريد شيئا ويقصده ، ولا يحصل له ذلك فإنه ربما أراد أن ينطق بصواب فيخطئ ، وربما أراد أكلا لقوة وصحة فيضعف ويمرض ،
(الجزء رقم : 34، الصفحة رقم: 241)
وربما أراد القيام فيعرض له ما يمنعه منه إلى غير ذلك فبطل ما ذكرتموه ، وصح أن فعله خلق لغيره يجري على حسب مشيئة الخالق تعالى ، وإنما يظهر كسبه لذلك الفعل بعد تقدم المشيئة والخلق من الخالق .
ثانيا : أن وقوع الكسب من الخلق على حساب القصد منهم ، لا يدل على أنه خلق لهم . . . ودليل ذلك أن مشي الفرس مثلا ، يحصل على قصد الراكب وإرادته من عدو وتقريب . . . ووقوف إلى غير ذلك ولا يقول عاقل : أن الراكب خلق جري الفرس ولا سرعتها ولا غير ذلك من أفعالها ، فبطل أن يكون حصول الفعل على قصد الفاعل دليلا على أنه خلقه . ومثل ذلك السفن يحصل سيرها وتوجهها . . على حسب قصد الملاح ولا يدل ذلك على أن الملاح خلق سير السفن ولا توجهها . فان كابروا الحقائق وقالوا : نقول : إن ذلك خلقه الملاح والفارس ، فقد خرجوا عن الدين ، وسووا بين الخالق والعباد في أن قدرة كل واحد منهما تتعلق بمقدورات ، وهذا كفر صراح . وإن قالوا : حركات السفن تقع على حسب قصد الملاح ، وليست بخلق له ، قلنا : فكذلك أفعال أحدنا تقع - ولا نقول : إنها تقع في كل حال - على حسب قصده ، ولا يدل ذلك على أنه خلقها . . . بل الخالق لها هو الله تعالى .
ثالثا : نحن لا نقول : إن العبد مجبور على أفعاله ، بل نقول : إن العبد له قدرة ومشيئة لكنها تحت قدرة الله ومشيئته . وإذا كان كذلك ، فإن ما يحصل منه من تصرفات قد تقع على حسب قصده لا يمنع أن تكون بهذه القدرة التي أعطاه الله إياها ، والتي لا تخرج عن قدرة الله الشاملة . وعلى ذلك فكون العبد يحصل له بعض التصرفات على حسب قصده لا يدل على أنه هو الخالق لأفعاله وعليه فتبطل هذه الشبهة والله أعلم
موقف أهل السنة والجماعة من هذه البدعة
لقد رفض أهل السنة والجماعة هذه البدعة وأنكروها بقوة الدليل والبرهان لكن اختلف حكمهم باختلاف هؤلاء القدرية .
فأما القدرية الأولى أصحاب معبد وغيلان القائلون بإنكار العلم المتقدم وأن الأمر أنف أي مستأنف فقد حكموا عليهم بالكفر .
روى مسلم وأبو داود والترمذي وأحمد ، عن يحيى بن يعمر قال : كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر ، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والأخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي ، فقلت : أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا ناس يقرأون القرآن ويتقفرون العلم - وذكر من شأنهم - وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف ، فقال : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني ، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم ساق حديث جبريل ، وفيه . . . وتؤمن بالقدر خيره وشره .
قال وكيع الجراح : " القدرية يقولون الأمر مستقبل وأن الله لم يقدر الكتابة والأعمال . . . إلى أن قال : هو كله كفر " .
وقال الشافعي : " ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن أنكروه كفروا " .
(الجزء رقم : 34، الصفحة رقم: 243)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " . . . وقد نص الأئمة كمالك والشافعي وأحمد على كفر هؤلاء الذين ينكرون علم الله القديم " .
وأما القدرية الثانية المثبتون للعلم والكتابة لكنهم يقولون إن العبد يخلق فعل نفسه فقد حكموا عليهم بأنهم مبتدعة ضالون .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " . . . وأما جمهور القدرية فهم يقرون بالعلم والكتاب المتقدم لكن ينكرون أن الله خلق أفعال العباد . . إلى أن قال : وكل هؤلاء مبتدعة ضالون " .
ويقول في موضع آخر : " . . . وأما هؤلاء - يعني الفرقة الثانية من القدرية - فإنهم مبتدعون ضالون لكن ليسوا بمنزلة أولئك . . . " .
ويقول الإمام ابن القيم : " وأما الفرقة الضالة : فإنهم اعتقدوا انفراد العبد بالخلق ثم صاروا إلى أنه إذا عصى فقد انفرد بخلق فعله والرب كاره له فكان العبد على هذا الرأي الفاسد مزاحما لربه في التدبير موقعا ما أراد إيقاعه شاء الرب أو كره " .
ويقول الإمام شارح الطحاوية : " والقدرية نفاة القدر جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة ، بل أردأ من المجوس من حيث إن المجوس أثبتوا خالقين وهم أثبتوا خالقين !! "
الذين غلوا في نفي القدر وهم القدرية
أولا : التعريف بهم ، وأول من قال بهذه البدعة ونشرها
أ - التعريف بهم
القدرية : هم القائلون بإنكار القدر الإلهي من قبيل الاشتقاق من الضد إذ أنهم يرون أن للعبد قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله تعالى .
وهم فرقتان : القدرية الأولى ، أتباع معبد الجهني وغيلان الدمشقي القائلون بإنكار القدر بمعنى العلم والتقدير . وهذه الفرقة انقرضت كما سيأتي .
القدرية الثانية : وهم المثبتون للعلم والكتابة لكنهم يقولون إن العبد يخلق فعل نفسه ، وهم المعتزلة كما سيأتي بيانه .
أول من قال بهذه البدعة ونشرها
أول من تكلم بهذه البدعة في الإسلام معبد الجهني - كما يقول الذهبي وابن الأثير ، وابن قتيبة ، وابن كثير - أخذ ذلك عن نصراني من الأساورة يقال له أبو يونس ويعرف بالأسواري .
(الجزء رقم : 34، الصفحة رقم: 236)
وقال الأوزاعي : أول من نطق بالقدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد .
وقيل : بل أول من تكلم فيه معبد بن عبد الله بن عويمر قاله السمعاني وبعض علماء الأشاعرة .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : وقد روي أن أول من ابتدعه بالعراق رجل من أهل البصرة يقال له سيسويه من أبناء المجوس وتلقاه عنه معبد الجهني .
والأظهر : أن أول من تكلم في القدر معبد الجهني لكنه قاله متأثرا ببعض العناصر غير المسلمة كالنصارى والمجوس . وعن معبد الجهني أخد غيلان بن مسلم القبطي . وعلى يديه كان نشر هذه البدعة .
ونظرا لإفراط معبد وأصحابه - وهم القدرية الأولى - في نفي القدر ، إذ أنهم لم يقفوا عند القول بأن العبد يخلق فعل نفسه فحسب ، بل تطرفوا حتى نفوا القدر بمعنى العلم والتقدير . فيروى عن معبد أنه كان يقول : ( لا قدر والأمر أنف) أي مستأنف . ولرفض الصحابة والتابعين هذه البدعة ، وتحذيرهم من اتباعها ، ولوقوف الدولة الإسلامية منهم الموقف الحازم ، إذ نرى الخليفة عبد الملك بن مروان يأمر بقتل معبد الجهني . ونرى الخليفة
(الجزء رقم : 34، الصفحة رقم: 237)
عمر بن عبد العزيز يستتيب غيلان الدمشقي حتى تاب ورجع عن هذه البدعة في حياة عمر ، وبعد وفاة عمر بن عبد العزيز رجع غيلان إلى ضلالته فقبض عليه الخليفة هشام بن عبد الملك فقتله وصلبه .
نظرا لما ذكرت فإن هذه البدعة بهذا الشكل لم يكتب لها البقاء ولذا لما قامت المعتزلة - وهم القدرية الثانية - وتلقت هذه البدعة وكانت أخف وأقل تفريطا من معبد وأصحابه ، إذ نراهم لا ينكرون علم الله الأزلي وإن كانوا يوافقون معبدا في القول بأن العبد يخلق فعل نفسه .
وقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " . . . ولكن لما اشتهر الكلام في القدر ودخل فيه كثير من أهل النظر والعبادة ، صار جمهور القدرية يقرون بتقدم العلم ، وإنما ينكرون عموم المشيئة والخلق . . . " .
ويقول ابن حجر : القدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم واقعة منهم على جهة الاستقلال وهو مع كونه مذهبا باطلا أخف من المذهب الأول " .
رأي القدرية في القدر مع المناقشة
أ - رأي القدرية في القدر
تمهيد : ذكرت - آنفا - نشأة القدرية وأنها فرقتان ، وأن القدرية الأولى انقرضت ، ولم يبق إلا القدرية الثانية والذين يعرفون بالمعتزلة . والآن لنعرف رأيهم في القدر مستقى من أقوال أئمتهم ، وغيرهم . فنقول وبالله التوفيق :
(الجزء رقم : 34، الصفحة رقم: 238)
يقول القاضي عبد الجبار : " اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم ، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك ولا فاعل لها ولا محدث سواهم وأن من قال : إن الله - سبحانه - خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه وأحالوا حدوث فعل من فاعلين " .
ويقول القاضي - في موضع آخر - " . . . والغرض به الكلام في أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم ، وأنهم المحدثون لها " .
ويقول البغدادي - وهو يتحدث عن أصول المعتزلة - " . . . ومنها قولهم جميعا بأن الله تعالى غير خالق لأكساب الناس ، ولا لشيء من أعمال الحيوانات ، وقد زعموا أن الناس هم الذي يقدرون أكسابهم ، وأنه ليس لله عز وجل في أكسابهم ولا في سائر الحيوانات صنع ولا تقدير ولأجل هذا القول سماهم المسلمون قدرية " .
من هذه النصوص يتضح أن القدرية الثانية يرون ما يلي :
أ - أن الله غير خالق لأفعال العباد ، ولا لشيء من أعمال الحيوانات وأنه ليس له فيها صنع ولا تقدير .
ب - أن العباد هم المحدثون لأفعالهم .
ب - شبهات القدرية والرد عليها
لقد تمسك القدرية في قولهم إن العباد يخلقون أفعالهم بشبهات نقلية وعقلية وإليك شيء منها مع المناقشة :
(الجزء رقم : 34، الصفحة رقم: 239)
الشبهة الأولى : قوله تعالى : صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ الآية .
وجه الاستدلال بالآية : يقول القاضي عبد الجبار - بعد أن أورد هذه الآية للاستدلال - " . . . إن الله سبحانه وتعالى بين أن أفعاله كلها متقنة ، والإتقان يتضمن الأحكام والحسن جميعا - حتى لو كان محكما ، ولو لم يكن حسنا لكان لا يوصف بالإتقان ، ألا ترى أن أحدنا لو تكلم بكلام فصيح يشتمل على الفحش . . . ، فإنه وإن وصف بالإحكام لا يوصف بالإتقان ، ثم قال : إذا ثبت هذا ومعلوم أن في أفعال العباد ما يشتمل على التهود والتنصر والتمجس ، وليس شيء من ذلك متقنا ، فلا يجوز أن يكون الله تعالى خالقا لها " .
الجواب : يقال لهم إن هذا الاستدلال باطل لما يلي :
أولا : إن الإتقان لا يحصل إلا في المركبات ، فيمتنع وصف الأعراض به . وإذا لم توصف الأعراض بالإتقان ، بطل الاستدلال بالآية لأن الاستدلال بها ينبني على أن الإتقان يكون في الأعراض .
ثانيا : يقول الإمام ابن حزم : " إن هذه الآية حجة عليهم لا لهم لأن الله تعالى أخبر أنه بصنعه أتقن كل شيء ، وهذا على عمومه وظاهره ، فالله تعالى صانع كل شيء ، وإتقانه له أن خلقه جوهرا أو عرضا جاريين على رتبة واحدة أبدا ، وهذا عين الإتقان . وبهذا يظهر بطلان الاستدلال بالآية والله أعلم .
الشبهة الثانية : يقول القاضي عبد الجبار . " ومن الأدلة على أن العباد خالقون أفعالهم قوله تعالى : وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا الآية .
ثم قال : فقد نفى الله تعالى أن يكون في خلقه باطل ، فلولا أن هذه القبائح
(الجزء رقم : 34، الصفحة رقم: 240)
وغيرها من التصرفات من جهتنا ومتعلقة بنا ، وإلا كان يجب أن تكون الأباطيل كلها من قبله ، فيكون مبطلا كاذبا . تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا " .
الجواب : يقال لهم : إن معنى الآية أن الله تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما - عبثا ولعبا - على ما يتوهمه من زعم أنه لا حشر ، ولا نشر ، ولا ثواب ، ولا عقاب ، بل خلقهما بالحق للاعتبار بهما والاستدلال على خالقهما ، ومن ثم إثابة المتقين الطائعين ، ومجازاة المذنبين والكافرين ، ولذلك قال تعالى - بعدها - ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ . يعني من إنكارهم الثواب والجزاء والعقاب . وعلى ذلك فقولهم : إن معنى الآية " نفي أن يكون في خلقه باطل " غير صحيح ، وإذا كان غير صحيح بطل بالاستدلال بالآية .
الشبهة الثالثة : قالت القدرية : وجدنا أفعالنا واقعة على حسب قصدنا ، فوجب أن تكون خلقا لنا ، وفعلا لنا ، قالوا : وبيان ذلك ؛ أن الواحد منا إذا أراد أن يقوم قام ، وإذا أراد أن يقعد قعد ، وإذا أراد أن يتحرك تحرك ، وإذا أراد أن يسكن سكن ، وغير ذلك . فإذا حصلت أفعاله على حسب قصده ومقتضى إرادته ، دل ذلك على أن أفعاله خلق له وفعل له .
الجواب : يقال لهم : إن هذه الشبهة باطلة وبيان ذلك من وجوه منها :
أولا : قولكم : " إن أفعال العباد تحصل بحسب قصودهم . . . " غير صحيح على إطلاقه فإنا نرى من يريد شيئا ويقصده ، ولا يحصل له ذلك فإنه ربما أراد أن ينطق بصواب فيخطئ ، وربما أراد أكلا لقوة وصحة فيضعف ويمرض ،
(الجزء رقم : 34، الصفحة رقم: 241)
وربما أراد القيام فيعرض له ما يمنعه منه إلى غير ذلك فبطل ما ذكرتموه ، وصح أن فعله خلق لغيره يجري على حسب مشيئة الخالق تعالى ، وإنما يظهر كسبه لذلك الفعل بعد تقدم المشيئة والخلق من الخالق .
ثانيا : أن وقوع الكسب من الخلق على حساب القصد منهم ، لا يدل على أنه خلق لهم . . . ودليل ذلك أن مشي الفرس مثلا ، يحصل على قصد الراكب وإرادته من عدو وتقريب . . . ووقوف إلى غير ذلك ولا يقول عاقل : أن الراكب خلق جري الفرس ولا سرعتها ولا غير ذلك من أفعالها ، فبطل أن يكون حصول الفعل على قصد الفاعل دليلا على أنه خلقه . ومثل ذلك السفن يحصل سيرها وتوجهها . . على حسب قصد الملاح ولا يدل ذلك على أن الملاح خلق سير السفن ولا توجهها . فان كابروا الحقائق وقالوا : نقول : إن ذلك خلقه الملاح والفارس ، فقد خرجوا عن الدين ، وسووا بين الخالق والعباد في أن قدرة كل واحد منهما تتعلق بمقدورات ، وهذا كفر صراح . وإن قالوا : حركات السفن تقع على حسب قصد الملاح ، وليست بخلق له ، قلنا : فكذلك أفعال أحدنا تقع - ولا نقول : إنها تقع في كل حال - على حسب قصده ، ولا يدل ذلك على أنه خلقها . . . بل الخالق لها هو الله تعالى .
ثالثا : نحن لا نقول : إن العبد مجبور على أفعاله ، بل نقول : إن العبد له قدرة ومشيئة لكنها تحت قدرة الله ومشيئته . وإذا كان كذلك ، فإن ما يحصل منه من تصرفات قد تقع على حسب قصده لا يمنع أن تكون بهذه القدرة التي أعطاه الله إياها ، والتي لا تخرج عن قدرة الله الشاملة . وعلى ذلك فكون العبد يحصل له بعض التصرفات على حسب قصده لا يدل على أنه هو الخالق لأفعاله وعليه فتبطل هذه الشبهة والله أعلم
موقف أهل السنة والجماعة من هذه البدعة
لقد رفض أهل السنة والجماعة هذه البدعة وأنكروها بقوة الدليل والبرهان لكن اختلف حكمهم باختلاف هؤلاء القدرية .
فأما القدرية الأولى أصحاب معبد وغيلان القائلون بإنكار العلم المتقدم وأن الأمر أنف أي مستأنف فقد حكموا عليهم بالكفر .
روى مسلم وأبو داود والترمذي وأحمد ، عن يحيى بن يعمر قال : كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر ، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والأخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي ، فقلت : أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا ناس يقرأون القرآن ويتقفرون العلم - وذكر من شأنهم - وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف ، فقال : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني ، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم ساق حديث جبريل ، وفيه . . . وتؤمن بالقدر خيره وشره .
قال وكيع الجراح : " القدرية يقولون الأمر مستقبل وأن الله لم يقدر الكتابة والأعمال . . . إلى أن قال : هو كله كفر " .
وقال الشافعي : " ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن أنكروه كفروا " .
(الجزء رقم : 34، الصفحة رقم: 243)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " . . . وقد نص الأئمة كمالك والشافعي وأحمد على كفر هؤلاء الذين ينكرون علم الله القديم " .
وأما القدرية الثانية المثبتون للعلم والكتابة لكنهم يقولون إن العبد يخلق فعل نفسه فقد حكموا عليهم بأنهم مبتدعة ضالون .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " . . . وأما جمهور القدرية فهم يقرون بالعلم والكتاب المتقدم لكن ينكرون أن الله خلق أفعال العباد . . إلى أن قال : وكل هؤلاء مبتدعة ضالون " .
ويقول في موضع آخر : " . . . وأما هؤلاء - يعني الفرقة الثانية من القدرية - فإنهم مبتدعون ضالون لكن ليسوا بمنزلة أولئك . . . " .
ويقول الإمام ابن القيم : " وأما الفرقة الضالة : فإنهم اعتقدوا انفراد العبد بالخلق ثم صاروا إلى أنه إذا عصى فقد انفرد بخلق فعله والرب كاره له فكان العبد على هذا الرأي الفاسد مزاحما لربه في التدبير موقعا ما أراد إيقاعه شاء الرب أو كره " .
ويقول الإمام شارح الطحاوية : " والقدرية نفاة القدر جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة ، بل أردأ من المجوس من حيث إن المجوس أثبتوا خالقين وهم أثبتوا خالقين !! "
الكلمات المفتاحية :
عقائد الفرق
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: