عقائد الفرق : المرجئة
تعتبر المرجئة من أكثر الفرق التي تنسب إلى الإسلام التي تثير جدلًا واسعًا عبر التاريخ الإسلامي في الماضي والحاضر، ويحتل مساحة كبيرة في أذهان الناس وفي
اهتمام العلماء بأخبارهم وبيان معتقداتهم، وهناك من دافع عن فكرهم ومعتقداتهم، وبين معجب بأدلتهم وبين داحض لها، لذلك تعتبر المرجئة من أشد الفرق التي نشأ حولها جدال كبير في التاريخ الإسلامي.
وقال ابن الأثير في (النِّهاية): المرجئة تهمز، ولا اتهمز وكلاهما بمعنى التّأخير، يقال: أرجأته وأرجيته: إذا أخّرته فنقول من الهمز رجل مرجئي، وهم المرجئة وفي النسب: مرجئي مثال مرجع ومرجعة ومرجعيّ، وإذا لم تهمز قلت: رجل مرج ومرجية ومرجيّ مثل معط ومعطية ومعطيّ.
وأخذت المرجئة من الإرجاء بمعنى التّأخير، ويحتمل أن يكون مأخوذاً من الرجاء أي الأمل والمشهور هو الأوّل. وسرّ تسميتهم بالمرجئة بمعنى المؤخِّرة أحد الوجهين: طال التشاجر في معنى الإيمان في العصر الأوّل، وحدثت آراء وأقوال حول حقيقته بين الخوارج والمعتزلة، فذهبت المرجئة إلى أنّه عبارة عن مجرّد الإقرار بالقول والّلسان وإن لم يكن مصاحباً للعمل، فأخذوا من الإيمان جانب القول، وطردوا جانب العمل، فكأنّهم قدّموا الأوّل وأخّروا الثاني واشتهروا بمقولتهم: «لا تضرّ مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة».
وعلى هذا، فهم والخوارج في هذه المسألة على جانبي نقيض، فالمرجئة لا تشترط العمل في حقيقة الإيمان، وترى العاصي ومرتكب الذُّنوب، صغيرها وكبيرها، مؤمناً حتّى تارك الصلاة والصوم، وشارب الخمر، ومقترف الفحشاء.. والخوارج يضيّقون الأمر فيرون مرتكب الكبيرة كافراً، ولأجل ذلك قاموا بتكفير عثمان للأحداث الّتي انجرّت إلى قتله وتكفير علي ـ عليه السلام ـ لقبوله التحكيم وإن كان عن اضطرار.
ويقابلهما المعتزلة أيضاً القائلون بأنّ مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا فاسق بل في منزلة بين الأمرين فزعمت أنّها أخذت بالقول الوسط بين المرجئة والخوارج.
كما رأى آخرون أن الإرجاء في الاصطلاح مأخوذ من معناه اللغوي؛ أي بمعنى التأخير والإمهال – وهو إرجاء العمل عن درجة الإيمان، وجعله في منزلة ثانية بالنسبة للإيمان لا أنه جزء منه كما أنه قد يطلق على أولئك الذين كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة.
وذهب آخرون إلى أن الأرجاء: يُراد به تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه في الدنيا حكم ما، وبعضهم ربط الإرجاء بما جرى في شأن علي- رضي الله عنه- من تأخيره في المفاضلة بين الصحابة إلى الدرجة الرابعة، أو إرجاء أمره هو وعثمان إلى الله ولا يشهدون عليهما بإيمان ولا كفر، وخلص بعضهم من هذا المفهوم إلى وصف الصحابة الذين اعتزلوا الخوض في الفتن التي وقعت بين الصحابة، وخصوصًا ما جرى بين علي ومعاوية من فتن ومعارك طاحنة، خلصوا إلى زعم أن هؤلاء هم نواة الإرجاء، حيث توقفوا عن الخوض فيها واعتصموا بالسكوت، وهذا خطأ من قائليه؛ فإن توقف بعض الصحابة إنما كان بغرض ريثما تتجلى الأمور، واستندوا إلى مفهوم قول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت-أو وقعت- فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه. قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيتَ مَن لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه، فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة".
ومن هؤلاء الصحابة الذين امتنعوا عن الخوض في تلك الأحداث المؤسفة: سعد بن أبي وقاص، وأبو بكرة راوي الحديث السابق، وعبد الله بن عمر، وعمران بن الحصين؛ حيث توقفوا ثم أرجئوا الحكم في تلك الفتن، وفوضوا أمرَ المختلفين فيها إلى الله- سبحانه وتعالى- فلم يحكموا بتخطئة أحد أو تصويبه مع اعترافهم بفضل الجميع، فكيف يعتبر هؤلاء هم أساس الإرجاء، فإن موقفهم لا يعد التوقف عن الدخول عن نصرة أحد بالسيف، وهم في توقفهم كانوا يستندون إلى النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة، والتي تحذر من الدخول في الفتن، فقد كان هؤلاء يودون لو أن الأمور تمت معالجتها بالصبر والصلح بين المتقاتلين، بدلًا عن التسرع في القتال ابتداء قبل بذل أسباب الوفاق.
واستقر المعنى الاصطلاحي للمرجئة على المعنى الثاني "إرجاء الفقهاء"، وهو القول بأن: الإيمان هو التصديق أو التصديق والقول، أو الإيمان قول بلا عمل، "أي إخراج الأعمال من مسمى الإيمان"، وعليه فإن: من قال الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأنه لا يجوز الاستثناء في الإيمان من قال بهذه الأمور أو بعضها فهو مرجئ.
ويعتبر الأساس الذي قام عليه مذهب الإرجاء هو الخلاف في حقيقة الإيمان ومم يتألف، وتحديد معناه، وما يتبع ذلك من أبحاث. وهل الإيمان فعل القلب فقط أو هو فعل القلب واللسان معاً؟ فرق المرجئة على أن الإيمان هو مجرد ما في القلب ولا يضر مع ذلك أن يظهر من عمله ما ظهر. وذهبت الكرامية إلى أن الإيمان هو القول باللسان، ولا يضر مع ذلك أن يبطن أي معتقد حتى وإن كان الكفر. وذهب أبو حنيفة رحمة الله إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، لا يغنى إحداهما عن الآخر.
النشأة:
النشأة:
عرفنا مما سبق في التعريف بالمرجئة أن الإرجاء في بدء الأمر كان يراد به في بعض إطلاقاته أولئك الذين أحبو السلامة والبعد عن الخلافات، وترك المنازعات في الأمور السياسية والدينية، وخصوصًا ما يتعلق بالأحكام الأخروية من إيمان وكفر وجنة ونار، وما يتعلق كذلك بأمر علي وعثمان وطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة وغيرهم. وما جرى بين علي ومعاوية من أحداث-كما مثله الحسن بن محمد بن الحنفية ومن جاء على طريقته- إلا أنه من الملاحظ أنه بعد قتل عثمان-رضي الله عنه- وبعد ظهور الخوارج والشيعة أخذ الإرجاء يتطور تدريجيًّا.
ويرى المؤرخون أن المرجئة طائفة ظهرت في آخر أزمنة الصحابة أو بعدهم أضعفت من منزلة العمل، وبدأت المسألة بشكل بسيط، بدأت بخلاف نظري في مفهوم العمل، هل هو داخل في حقيقة الإيمان أو غير داخل في حقيقة الإيمان؟ فإنه بعد فتنة ابن الأشعث، وبعد مصائب الحجاج بن يوسف الثقفي وهو والي بني أمية على العراق، وبعد ظهور الخوارج وتعظيمهم لجانب العمل، وتكفيرهم المسلمين بالكبائر ونحو ذلك؛ بعد هذه الأحداث ظهرت طائفة من الفقهاء في الكوفة وأخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، كان منهم حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة وغيره من أهل الكوفة الذين قالوا: إن العمل ليس من حقيقة الإيمان.
فظهر الخلافُ في حكم مرتكب الكبيرة ومنزلة العمل من الإيمان، ثم ظهر جماعة دفعوا بالإرجاء إلى الحد المذموم والغلو، فبدأ الإرجاء يتكون على صفة مذهب، فقرر هؤلاء أن مرتكب الكبيرة كامل الأيمان وأنه لا تضر مع الإيمان معصية، ولا تنفع مع الكفر طاعة، وأن الإيمان في القلب. فلا يضر الشخص أي شيء بعد ذلك ولو تلفظ بالكفر والإلحاد، فإنه يبقى إيمانه كاملًا لا يتزعزع. وهذا بلا شك غلو وتطرف مذموم.
وأهل هذه المرحلة ممقوتون ومذهبهم يفضي إلى درجة الإباحية والتكاسل، والتعويل على عفو الله وحده دون العمل لذلك. وهو أمر تأباه الشريعة الإسلامية.
ولكن ذهب البعض منهم إلى انها بأت المرجئة، في عهد الحسن بن محمد بن الحنفية (المتوفّى عام 99 هـ)، ولكنّه بعد غيرثابت، وعلى فرض ثبوته فالإرجاء الّذي قال به غير الإرجاء المعروف، فقد نقلوا عنه أنّه تكلّم في علي وعثمان وطلحة والزبير في محضره فأكثروا وهو ساكت، ثم تكلَّم فقال: قد سمعت مقالكم، أرى أن يرجأ علي وعثمان وطلحة والزبير فلا يتولّى ولا يتبرى منهم.
فقد ذكر كتب التراق أن فكر المرجئة طهر في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مع توسع الدولة الإسلامية الناشئة، مع فتح بلاد الاِمبراطورية الفارسية والرومانية، بلداً بعد آخر، فالذي وقع في حياة الاَمة، أن هذه الاَفكار بمساعدة فكرة الجبر وأن الله تعالى قد فرغ من الاَمر وكتب كل شيء وانتهى الاَمر ولا بداء.. سرعان ما أثمرت مذهبين عقائديين مواليين للسلطة هما: المرجئة والقدرية، وقد تبنتهما السلطة وأيدت علماءهما وهيأت لهم الظروف لنشر أفكارهم في الاَمة.
ويتلخص مذهب المرجئة بمقولتهم المشهورة (الاِيمان لا تضر معه معصية) فالاِيمان عندهم مجرد القول بالشهادتين، وبذلك يضمن الإنسان دخول الجنة مهما كان عمله.
ويقول ابن عساكر في تاريخه: «قال عثمان بن إبراهيم بن حاطب: أوّل من تكلّم في الإرجاء هو الحسن بن محمّد. كنت حاضراً يوم تكلّم، وكنت مع عمّي في حلقته، وكان في الحلقة جحدب وقوم معه. فتكلّموا في عليّ وعثمان وطلحة والزبير، فأكثروا، والحسن ساكت، ثمّ تكلّم فقال: قد سمعت مقالكم. أرى أن يرجأ عليّ وعثمان وطلحة والزبير فلا يتولّى ولا يتبرّأ منهم. ثمّ قال: فقمنا، فقال لي عمر: يا بنيّ ليتخذنّ هؤلاء هذا الكلام إماماً. فبلغ أباه محمّد بن الحنفيّة ما قال، فضربه بعصا فشجّه وقال: ألاّ تتولّى أباك عليّاً. ودخل ميسرة عليه فلامه على الكتاب الّذي وضعه في الإرجاء، فقال: لوددت أنّي كنت مِتّ ولم أكتبه».
ولعل الإرجاء بالمعنى الأوّل الّذي صدر عن ابن الحنفية عن غاية صحيحة، صار أساساً للمعنى الثاني، أمّا تقديم الإيمان وتأخير العمل فقد استعمله الأُمويّون لتبرئتهم حيث كانوا غارقين في العصيان والفساد.
فيما ذهب أخرون إلى أبعد من هذا الكلام، وقالوا إلى أن نواة هذه المرجئة كانت موجودة في الصحابة في الصدر الأوّل، بحجّة أنّنا نرى أنّ جماعة من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم امتنعوا أن يدخلوا في النزاع الذي كان في آخر عهد عثمان مثل «أبي بكرة» و«عبدالله بن عمر» و«عمران بن حصين» وروى أبو بكرة أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي».
المرجئة.. فقه طاعة
ويرجع فكر المرجئة إلى الفتن التي اجتاحت ديار المسلمين منذ مقتل عثمان بن عفان، وما تلاه من حرب صفين بين علي ومعاوية. لقد فجرت هذه الفتن كثيرًا من المواقف والآراء وردود الأفعال بين الصحابة أنفسهم:
- فبعض كبار الصحابة وأجلائهم مثل سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد وغيرهم رأوا موقفَ الحياد، مع إجلالهم لكبار الصحابة كعلي وعثمان ومعاوية.
- وبعض سكان الأطراف والمرابطين على ثغور الجهاد فوجئوا بمقتل أمير المؤمنين عثمان؟ ثم فوجئوا بما تلا ذلك من أحداث، وما استطاعوا أن يستبينوا رأيًا فيتبعوه أو يرجحوا طرفًا فيوالوه، فآثروا مسألة الفريقين المتقاتلين والركون إلى حياد ولا حيلة لهم في قبوله، وهؤلاء هم الشكاك من أهل الحيرة والتردد. كانوا يقولون: كلهم عندنا ثقة، ونحن لا نتبرأ منهما ولا نلعنهما، ولا نشهد عليهما، ونرجئ أمرهما إلى الله حتى يكون هو الذي يحكم بينهما.
ويمكن اعتبار وقعة صِفين هي المنطلق التاريخي لهذه الفتنة، بل إن حادثة التحكيم هي الشرارة التي فجرت بركانها.
لقد أنتجت هذه الحادثة وذيولها فرقتين كبيرتين، أو منهجين كبيرين، ما يزال لهما وجود ملموس وانحراف بعيد حتى الآن.
هذان المنهجان هما: التشيع والخروج، وكلاهما ناشئ عن علة واحدة، هي الغلو ولكنه غلو متضاد. وكان من آثار هذه الفتنة أن أصبحت المعسكرات المتحاربة ثلاثة: أهل العراق-أهل الشام- الخوارج، وأصبحت المناهج الاعتقادية ثلاثة: السنة، والخروج، والتشيع.
ومن كلام الإمام ابن عينية وشرح الطبري له، ما يدل على أن المرجئة الأولى هي طائفة من الناس كانت ترجئ أمر عثمان وعلي إلى الله، فلا تتولاهما ولا تتبرأ منهما، فهي مضادة لمن يكفرهما أو يغلو فيهما-أو بأحدهما- وكذلك فهي مضادة لمن يرى تقديمهما وفضلهما ووجوب موالاتهما.
ومع تطور الأمر احتدم النزاع بين أهل السنة والخوارج والمعتزلة من جانب، وبين المرجئة من جانب آخر في دخول الأعمال في مسمى الإيمان، ويظهر أثر ذلك في مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وأمره في الآخرة إلى الله وإلى مشيئته-كما يقول السلف- أم هو كافر في الدنيا ومخلد في الآخرة في النار-كما تقول الخوارج- لأنه أخل بالعمل، فكفر؟ أم هو في منزلة بين المنزلتين في الدنيا لا مؤمن ولا كافر، وفي الآخرة هو مخلد في النار-كما تقول المعتزلة-؟ أم هو مؤمن كامل الإيمان لم يتأثر إيمانه بالكبيرة مطلقًا-كما تقول المرجئة- لأنه مصدق بقلبه فلا مجال لأن يتأثر إيمانه، لأن الإيمان عندهم-على هذا المفهوم- لا يزيد ولا ينقص بل يبقى إيمانه كاملًا إذا كان التصديق موجودًا في قلبه؟
وفي الحقيقة أن مذهب المرجئة تطور على هذا المفهوم حتى صار من أوسع المذاهب وأكثرها تساهلًا. فبينما الخوارج يرون أن مرتكبَ الذنب كافر مخلد في النار، والمعتزلة تراه في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، وفي الآخرة مصيره النار، ثم تزعم هاتان الطائفتان أن الناس كلهم كفار إلا من كان خارجيًّا، وتزعم المعتزلة أن الناس كلهم كفار إلا من كان معتزليًّا، فضاقت نظرتهم إلى غيرهم، فإذا بالمرجئة توسع المجال، فزعمت أن كل طائفة تنسب نفسها إلى الإسلام، وتصدق به تعد من المؤمنين الخلّص بغض النظر عن عملها بعد ذلك، بالخوارج والشيعة والمعتزلة وسائر الطوائف في نظر المرجئة هم مِن أهل الإيمان الكامل.
وهناك أقوال أخرى في أول من دعا إلى الإرجاء: فقيل: إن أول مَن أحدثه رجل بالعراق اسمه قيس بن عمرو الماضري. وقيل: إن أول من أحدثه حماد بن أبي سليمان وهو شيخ أبي حنيفة وتلميذ إبراهيم النخعي، ثم انتشر في أهل الكوفة، وقد عاصر حماد بن ذر بن عبد الله. ويذكر شيخ الإسلام عن نشأة الإرجاء بالكوفة أن أول من قال فيهم حماد بن أبي سليمان.
وقيل: إن أول من قال به رجل اسمه سالم الأفطس، ويطلق على إرجاء هؤلاء أنه إرجاء الفقهاء، ويظهر أن تلك الأقوال لا تباعد بينها؛ لأن هؤلاء كانوا في عصر واحد، وكانوا أيضًا على اتفاق في إرجائهم.
ومن كِبار المرجئة ومشاهيرهم: الجهم بن صفوان، وأبو الحسين الصالحي، ويونس السمري، وأبو ثوبان، والحسين بن محمد النجار، وغيلان، ومحمد بن شبيب، وأبو معاذ التومني، وبشر المريسي، ومحمد بن كرام، ومقاتل بن سليمان المشبه لله-عز وجل- بخلقه ومثله الجواربي، وهما من غلاة المشبهة.
تطور الإرجاء:
ومع حركة الفكر التي كانت دائرة في عهد الدولة الاموية والعباسية تحوّل الفكر الإرجائي العام من بدعة نظرية، يدين بها أفراد معدودون إلى ظاهرة عامة تسيطر على الفكر الإسلامي، بل والحياة الإسلامية عامة، في سنوات قليلة جدا مع يدلل علي أن المرجئة لاقت قبولا ورواجا كبيرة في أيام الدولة الأموية والعباسية.
وقد مر هذا الفكر بمراحل متعددة، وتباين من طائفة إلى أخرى، إلا أن أهم مرحلتين مرّ بهما:
- إرجاء الفقهاء والعبّاد من جهة.
- وإرجاء المتكلمين، أو ما يسمى بإرجاء الجهمية من جهة ثانية.
إرجاء الفقهاء:
ويقصد به: أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والإقرار باللسان. أو "المعرفة بالله، والإقرار بالله، والمعرفة بالرسول والإقرار بما جاء به من عند الله في الجملة دون التفسير".
وهو شبهة نظرية أخطأ فيها بعض العلماء نتيجة ردود فعل خاصة، ورأي غير مجرد، مثله في ذلك مثل زلة العالم، أو خطأ المجتهد، في أي مسألة نظرية. وقد كان لثورة ابن الأشعث، وظهور الحجاج عليه، ثم ملاحقة العلماء والبطش بهم، أسوأ الأثر في بروز قرن الإرجاء هذا بين صفوف هؤلاء البائسين، المستسلمين للأمر الواقع، كما تجرأ الذين كانوا مرجئة من قبل فأعلنوا مذهبهم واستغلوا آثار الهزيمة لنشره، كما نشط الخوارج وخلت لهم الساحة أكثر من ذي قبل...
وقد قام أئمة أهل السنة والجماعة بجهد مشكور لمقاومة هذه الفكرة ومحاصرتها في مهدها... إذ لاحظ العلماء أن مذهب هؤلاء المرجئة الفقهاء يتضمن أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان.
فهذا الأوزاعي-رحمه الله- يقول: "كان يحيى بن أبي كثير، وقتادة، يقولان ليس من أهل الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء".
ويقول إبراهيم النخعي التابعي المشهور، وقد عاصر أحداث الحجاج: "الإرجاء بدعة، إياكم وهذا الرأي المحدث" وقال عن المرجئة: "تركوا هذا الدين أرق من الثوب السابري" ومن أقواله أيضًا فيهم: "لفتنتهم عندي أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة".
ورغم أن القائلين بالإرجاء كانوا عبادًا زهادًا في الغالب، إلا أن أهل السنة والجماعة لم يألوا جهدًا في مقاومة فكرهم، ولذلك فلا غرابة إذا تشدد ورثة هؤلاء التابعين من أئمة السنة على المرجئة مثل: وكيع، وابن المبارك، وابن معين، والإمام أحمد والبخاري، وأبي داود ونحوهم، وذلك أن الإرجاء الغالي قد ظهر في زمنهم.
فهذا هو الخط الأول الذي سار عليه الإرجاء وهو ما سُمي بإرجاء الفقهاء، وهو الاكتفاء بالقول دون العمل في مسمى الإيمان، وهذا الإرجاء هو الذي ذمه علماء السلف.
"ولا يفوتنا هنا أن كلمة المرجئة في اصطلاح هؤلاء العلماء-علماء السلف- إنما تعني هذا الإرجاء، أي: إرجاء الفقهاء، وظل هذا قائمًا حتى بعد ظهور الجهمية، فكل ذم أو عيب قيل في المرجئة فهو منصرف لهم وحدهم حتى منتصف القرن الثاني تقريبًا، بل هو الأغلب إلى القرن الثالث". فهؤلاء الفقهاء عندما جعلوا الأعمال خارجة عن مسمى الإيمان، لم يعارضوا وجوبها والمعاقبة عليها، مع وجوب ترك المحظورات، ولهذا عدّ بعض العلماء أن الخلاف كله لفظيّ.
أصول وعقائد المرجـئة:
تكاد فرق المرجئة تتفق في أصولها على مسائل هامة هي: تعريف الإيمان بأنه التصديق بالقول أو المعرفة أو الإقرار، وأن العمل ليس داخلاً في حقيقة الإيمان- مع أنهم لا يغفلون منزلة العمل من الإيمان تماماً إلا عند الجهم ومن تبعه، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن أصحاب المعاصي مؤمنون كاملو الإيمان بكمال تصديقهم، ولهم اعتقادات أخرى: كالقول بأن الإنسان يخلق فعله، وأن الله لا يرى في الآخرة، وقد تأثروا في هذه الآراء بالمعتزلة، وكذا رأيهم في أن الإمامة ليست واجبة، فإن كان ولا بد فمن أي جنس كان ولو كان غير قرشي، وقد تأثروا بهذا الرأي من الخوارج.
وتدور عقائد المرجئة وأُسّ نظريّتهم أنّ الايمان هو التصديق بالقلب، أو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، أو ما يقرب من ذلك، فأخرجوا العمل من حقيقة الايمان، واكتفوا بالتصديق القلبي ونحوه ويترتّب على ذلك الأصل اُمور:
١ ـ إنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأنّ أمر التصديق دائر بين الوجود والعدم، ومثله تفسير الإيمان بالإقرار باللسان، فهو أيضاً كذلك وليس العمل داخلاً في حقيقته حتّى يقال: إنّ العمل يكثر ويقلّ وسيوافيك نظرنا فيه.
٢ ـ إنّ مرتكب الكبيرة مؤمن حقيقة، لكفاية التصديق القلبي أو الإقرار باللسان في الاتصاف بالإيمان، وهؤلاء في هذه العقيدة يخالفون الخوارج والمعتزلة. أمّا الاُولى: فلأنّهم يعدّون العمل عنصراً مؤثراً في الايمان بحيث يكون تارك العمل كافراً، وقد اشتهر عنهم بأنّ مرتكب الكبائر كافر، وليس المؤمن إلاّ من تحرّز من الكبائر.
وأماّ الثانية: فلأنهّم يعتقدون أنّ مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر. والمعتزلة أخفّ وطأة من الخوارج، وإن كانت الطائفتان مشتركتين في إدخال العمل في حقيقة الايمان.
٣ ـ إنّ مرتكب الكبيرة لا يخلّد في النار وإن لم يتب، ولا يحكم عليه بالوعيد والعذاب قطعاً لاحتمال شمول عفوه سبحانه له، خلافاً للمعتزلة الّذين يرون أنّ صاحب الكبيرة يستحقّ العقوبة إذا لم يتب وإنّ من مات بلا توبة يدخل النّار، وقد كتبه الله على نفسه فلا يعفو .
ومن عقائد المرجئة الجهمية أن الكفر بالله هو الجهل به- وهو قول جَهم- وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط وأنه لا يتبعض، ومنها أن الجنة والنار تفنيان وتبيدان ويفنى أهلهما ولا خلود لأحد فيهما.
- وبعضهم ذهب إلى أن كل معصية فهي كبيرة، وبعضهم يذهب إلى أن غفران الله الذنوب بالتوبة تفضل من الله، وبعضهم إلى أنه باستحقاق، وبعضهم جوز على الأنبياء فعل الكبائر، وبعضهم ذهب في إثبات التوحيد إلى قول المعتزلة، وبعضهم إلى قول المشبهة، ومنهم من أثبت رؤية الله تعالى في الآخرة، ومنهم من نفاها كالمعتزلة، واختلفوا في القول بخلق القرآن، فمنهم من قال: إنه مخلوق. ومنهم من قال: غير مخلوق. ومنهم من توقف.
- واختلفوا في القول بالقدر فبعضهم نفى القدر وقال بأقوال المعتزلة، وبعضهم أثبته، واختلفوا في أسماء الله وصفاته، فبعضهم قال بأقوال عبد الله ابن كلاب، ومنهم من قال بأقوال المعتزلة.
ومن عقائد المرجئة الجهمية أن الكفر بالله هو الجهل به- وهو قول جهم-، وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط وأنه لا يتبعض، ومنها أن الجنة والنار تفنيان وتبيدان ويفنى أهلهما ولا خلود لأحد فيهما، وبعضهم ذهب إلى أن كل معصية فهي كبيرة، وبعضهم يذهب إلى أن غفران الله الذنوب بالتوبة تفضل من الله، وبعضهم إلى أنه باستحقاق، وبعضهم جوز على الأنبياء فعل الكبائر، وبعضهم ذهب في إثبات التوحيد إلى قول المعتزلة، وبعضهم إلى قول المشبهة، واختلفوا في القول بخلق القرآن، فمنهم من قال: إنه مخلوق. ومنهم من قال: غير مخلوق. ومنهم من توقف.
وذكر كتاب فجر الإسلام الذي يمثل خلاصة آراء المستشرقين، والذي نقل عنه أكثر من بعده، ومنهم أبو زهرة:' إن الشيعة والخوارج كانا أول أمرهما حزبين سياسيين، تكونا حول الخلافة، وإن رأي الخوارج فيها رأي ديمقراطي، ورأي الشيعة رأي ثيوقراطي، أما المرجئة فكانت.. حزباً سياسياً محايداً.
فرق المرجئة:
المرجئة مثله مثل أي مذهب إسلامي ينقسم إلى فرق وجماعات، ترى مرجئياً يتّبع منهج الخوارج، ومرجئياً آخر يقتفي أثر القدريّة، وثالثاً يشايع الجبريّة. وما هذا إلاّ لأنّ الإرجاء قام على أصل واحد وهو تحديد الايمان بالإقرار أو باللسان أو المعرفة القلبية. وأمّا الاُصول الاُخرى فليس لهم فيها رأي خاصّ قطّ. وصار هذا سبباً لذوبانهم في الفرق الاخرى وتفرّقوا على الفرق التالية:
١ ـ مرجئة الخوارج، ٢ ـ مرجئة القدرية، ٣ ـ مرجئة الجبرية، ٤ ـ المرجئة الخالصة.
وهذه الطّوائف بعضها بالنسبة إلى بعض على نقيض، فمرجئة القدريّة تقول بالاختيار والحريّة للإنسان، ومرجئة الجبريّة تنكره. ومع ذلك كلّه فالطائفتان تستظلاّن تحت سقف واحد، وهو الإرجاء، وإن اختلفوا في سائر المسائل. نعم يوجد هناك مرجئة خالصة لم يتكلّموا بشيء في بقيّة المسائل وذكر الشهرستاني لهم طوائف ستّ وهي:
١ ـ اليونسيّة ٢ ـ العبيديّة ٣ ـ الغسّانيّة ٤ ـ الشعبانيّة ٥ ـ التومينية ٦ ـ الصالحيّة.
وهؤلاء لم يتكلّموا إلاّ في الارجاء واختلفوا في تحديد الايمان بعد إخراج العمل منه، وتركوا البحث عن سائر الموضوعات، بخلاف الطّوائف الثلاث المتقدّمة. فإنّهم اشتركوا في الإرجاء واختلفوا في سائر الموضوعات. فمن مرجئيّ سلك مسلك الخوارج، يبغض عثماناً وعليّاً، ويناضل ضدّ الحكّام، إلى آخر يتفيّأ بفيء القدريّة يحترم الخلفاء الأربع، ويرى الإنسان فاعلاً مختاراً وفعله متعلّقاً بنفسه. إلى ثالث يركب مطيّة الجبر ويرى الإنسان أداة طيّعة للقضاء والقدر.
وقد صنف أبو الحسن الأشعري بفرق المرجئة إلى :
1- الجهميَّة: أتباع الجهم بن صفوان، وهم يزعمون أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما والخوف منهما والعمل بالجوارح فليس بإيمان، وزعموا أن الكفر بالله هو الجهل به. كما زعمت الجهميّة أن الإنسان إذا أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه أنه لا يكفر بجحده، وأن الإيمان لا يتبعَّض ولا يتفاضل أهله فيه، وأن الإيمان والكفر لا يكونان إلا في القلب دون غيره من الجوارح.
2- الصالحيَّة: أتباع أبي الحسين الصالحي، وهم يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل به فقط؛ فلا إيمان بالله إلا المعرفة به، ولا كفر بالله إلا الجهل به، وأن قول القائل: إن الله ثالث ثلاثة ليس بكفرٍ، ولكنه لا يظهر إلا من كافر، وذلك أن الله سبحانه أَكْفَرَ من قال ذلك، وأجمع المسلمون أنه لا يقوله إلا كافر. وزعموا أن معرفة الله هي المحبة له وهي الخضوع لله، وأصحاب هذا القول لا يزعمون أن الإيمان بالله إيمان بالرسول، وأنه لا يؤمن بالله إذا جاء الرسول إلا من آمن بالرسول، ليس لأن ذلك يستحيل، ولكن لأن الرسول قال: ومن لا يؤمن بي فليس بمؤمن بالله. وزعموا أيضًا أن الصلاة ليست بعبادة لله، وأنه لا عبادة إلا الإيمان به وهو معرفته، والإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص وهو خصلة واحدة، وكذلك الكفر.
3- اليونسيَّة: أتباع يونس السمري، يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع له وهو ترك الاستكبار عليه والمحبة له، فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن. وزعموا أن إبليس كان عارفًا بالله غير أنه كَفَر باستكباره على الله، وهذا قول قوم من أصحاب يونس السمري. وزعموا أن الإنسان-وإن كان لا يكون مؤمنًا إلا بجميع الخِلال التي ذكرناها- قد يكون كافرًا بترك خَلَّة منها، ولم يكن يونس يقول بهذا.
4- النجاريَّة: أتباع الحسين بن محمد النجار، وهم يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله، وفرائضه المجتمَع عليها، والخضوع له بجميع ذلك، والإقرار باللسان، فمن جهل شيئًا من ذلك فقامت به عليه حُجَّة أو عَرَفه ولم يُقِرّ به كَفَر، ولم تسمِّ كل خصلة من ذلك إيمانًا كما حكينا عن أبي شمر. وزعموا أن الخصال التي هي إيمان إذا وقعت فكل خصلة منها طاعة، فإن فعلت خصلة منها ولم تفعل الأخرى لم تكن طاعةً كالمعرفة بالله إذا انفردت من الإقرار لم تكن طاعة؛ لأن الله أمرنا بالإيمان جملة أمرًا واحدًا، ومن لم يفعل ما أُمر به لم يطع.
وزعموا أن ترك كل خصلة من ذلك معصية، وأن الإنسان لا يكفر بترك خصلة واحدة، وأن الناس يتفاضلون في إيمانهم ويكون بعضهم أعلم بالله وأكثر تصديقًا له من بعض، وأن الإيمان يزيد ولا ينقص، وأن من كان مؤمنًا لا يزول عنه اسم الإيمان إلا بالكفر.
5- الغيلانيَّة: أصحاب أبي مروان غيلان بن مروان الدمشقي، وهم يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله الثانية، والمحبة والخضوع، والإقرار بما جاء به الرسول، وبما جاء من عند الله سبحانه، وذلك أن المعرفة الأولى عنده اضطرار؛ فلذلك لم يجعلها من الإيمان.
وذكر محمد بن شبيب عن الغيلانية أنهم يوافقون الشِّمْرية في الخصلة من الإيمان أنه لا يقال لها إيمان إذا انفردت، ولا يقال لها بعض إيمان إذا انفردت، وأن الإيمان لا يحتمل الزيادة والنقصان، وأنهم خالفوهم في العلم فزعموا أن العلم بأن الأشياء مُحْدَثةٌ مدبَّرة ضرورة، والعلم بأن مُحْدِثها ومدبِّرها ليس باثنين ولا أكثر من ذلك اكتساب، وجعلوا العلم بالنبي وبما جاء من عند الله اكتسابًا، وزعموا أنه من الإيمان إذا كان الذي جاء من عند الله منصوصًا بإجماع المسلمين، ولم يجعلوا شيئًا من الدين مستخرجًا إيمانًا.
6- الشبيبيَّة: أصحاب محمد بن شبيب، وهم يزعمون أن الإيمان الإقرار بالله، والمعرفة بأنه واحد ليس كمثله شيء، والإقرار والمعرفة بأنبياء الله وبرسله، وبجميع ما جاءت به من عند الله مما نصَّ عليه المسلمون ونقلوه عن رسول الله من الصلاة والصيام، وأشباه ذلك مما لا اختلاف فيه بينهم ولا تنازع. وأما ما كان من الدين نحو اختلاف الناس في الأشياء فإن الرادَّ للحق لا يكفر، وذلك أنه إيمان واستخراج ليس يردّ على رسول الله ما جاء به من عند الله سبحانه، ولا على المسلمين ما نقلوه عن نبيهم ونصوا عليه، والخضوع لله هو ترك الاستكبار.
7- التُّومنيَّة: أتباع أبي معاذ التومني، يزعمون أن الإيمان ما عصم من الكفر، وهو اسم لخصال إذا تركها التارك أو ترك خصلة منها كان كافرًا، فتلك الخصال التي يكفر بتركها وبترك خصلة منها إيمان، ولا يقال للخصلة منها إيمانٌ ولا بعض إيمان. وكل طاعة إذا تركها التارك لم يُجمِع المسلمون على كفره، فتلك الطاعة شريعة من شرائع الإيمان، تاركُها إن كانت فريضة يوصف بالفسق، فيقال له إنه فَسَق، ولا يسمَّى بالفسق ولا يقال فاسقٌ، وليس تُخرِج الكبائر من الإيمان إذا لم يكن كفرٌ.
8- الشِّمْريَّة: أصحاب أبي شمر ويونس، يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله والخضوع له والمحبة له بالقلب والإقرار به أنه واحد ليس كمثله شيء ما لم تقم عليه حجة الأنبياء، وإن كانت قامت عليه حجة الأنبياء فالإيمان الإقرار بهم والتصديق لهم، والمعرفة بما جاء من عند الله غير داخل في الإيمان، ولا يسمون كل خصلة من هذه الخصال إيمانًا ولا بعض إيمان حتى تجتمع هذه الخصال، فإذا اجتمعت سموها إيمانًا لاجتماعها، وشبَّهوا ذلك بالبياض إذا كان في دابة لم يسموها بَلْقاء ولا بعض أبلق حتى يجتمع السواد والبياض، فإذا اجتمعا في الدابة سمِّي ذلك بَلَقًا إذا كان بفرسٍ، فإن كان في جمل أو كلب سمِّي بَقَعًا، وجعلوا ترك الخصال كلها وترك كل خصلة منها كفرًا، ولم يجعلوا الإيمان متبعِّضًا ولا محتملاً للزيادة والنقصان.
9- الثوبانيَّة: أصحاب أبي ثَوبان، يزعمون أن الإيمان هو الإقرار بالله وبرسله، وما كان لا يجوز في العقل إلا أن يفعله، وما كان جائزًا في العقل أن لا يفعله فليس ذلك من الإيمان.
10- المريسيَّة: أتباع بشر المريسي، يقولون: إن الإيمان هو التصديق؛ لأن الإيمان في اللغة هو التصديق، وما ليس بتصديق فليس بإيمان. ويزعم أن التصديق يكون بالقلب وباللسان جميعًا، وإلى هذا القول كان يذهب ابن الرَّاوندِيِّ. وكان ابن الراوندي يزعم أن الكفر هو الجحد والإنكار والستر والتغطية، وليس يجوز أن يكون الكفر إلا ما كان في اللغة كفرًا، ولا يجوز أن يكون إيمانًا إلا ما كان في اللغة إيمانًا. وكان يزعم أن السجود للشمس ليس بكفر، ولكنه علامة على الكفر، لأن الله بيَّن لنا أنه لا يسجد للشمس إلا كافر.
11- الكَرَّاميَّة: أصحاب محمد بن كَرَّام السجستاني، يزعمون أن الإيمان هو الإقرار والتصديق باللسان دون القلب، وأنكروا أن يكون معرفة القلب أو شيءٌ غير التصديق باللسان إيمانًا. وزعموا أن المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله كانوا مؤمنين على الحقيقة، وزعموا أن الكفر بالله هو الجحود والإنكار له باللسان.
أراء المرجئة:
أراء المرجئة:
1- التوحيد والايمان عند المرجئة:
اختلف المرجئة في التوحيد وذلك تبعا لتباين اراء الفرق التي نسبت إلى الارجاء، فإذا كان ما يجمعها الإقرار بوحدانية الله، وانه أحمد صمد، وليس له شريك ولا ولد، نجدها اختلفت فيما عدا ذلك.
فمن المرجئة من قال بالتوحيد علي راي الجهمية" (المرجئة الجهمية) والمعتزلة بنفي الصفات وتأويلها، والقول بالقدر، بينما ذهب آخرون إلى التشبيه.
ويمكن أن نلاحظ اراء جهم من خلال المحاورة التي جرت بينه وبين أحد الفلاسفة يسأل فيها جهما عن ربه، فقال واصفا له الله عز وجل "لايري له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الابصار ولا يكون مكان دون مكان،.. وتبعه علي قوله رجال من ابي رجال من ابي حنيفة، واصحاب عمرو بين عبيد البصيرة.
2- الإيمان:
اختلف المرجئة في تعريف الايمان، فمنهم من يقول أن الايمان محله القلب، ومنهم من يضيف إقرار اللسان، مع اتفاقها علي إخراج العمل من الايمان.
3- أهل الذنوب عند المرجئة:
اجمعت المرجئة علي أن الايمان شيء واحد، لا يتبعض، وهو لا يزيد ولا ينقص، وانه لا يجتمعه في قلب واحد ايمان ونفاق، ولا يكون في اعمال العبد الواحد شعبة من الشرك وشعبة من الايمان، وقالوا من المحال أن يكون إنسان واحدا محمودا مذموما محسنا مسيئا عدو لله وليا لهمعا، لهذا قالت بإخراج الاعمال من مسمي الايمان، واخرجت العمل عن النية والعقد.
وكانت المرجئة قد اعترضت علي حكم الخوارج في مرتكب الكبيرة، وكان لهم في ذلك رايا معتبره بمثابة الرد علي الخوارج فقالوا: نظر الآن الايمان هو عمود الدين وليس العمل داخل في الايمان، وانه لا يضر مع الايمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فقد قرروا أن مرتكب الكيرة، مؤمن، وارجئوا امر معصيته إلى الله تعالى يوم القيامة ليحكم فيه ما يشاء، وجعلوا للعصاة اسم الايمان علي الكمال وانه لا حذر من المعاصي مع حصول الايمان.
والرجئة وافقت الفرق الاخري في سمية اهل الكبائر بالفستق، وذكر الملطي"... وكذلك المرجئة انما سموا اهل الكبائر مؤمنين بعدما سموهم فاسقين لأن الله سماهم فاسقين".
واختلف المرجئة في غفران اله الكبائر بالتوبة، فمنهم من قال أن غفرات الله الكبائر بالتوبة من باب التفضل، بينما ذهب آخرون انه استحقاق وليس بتفضل، ووافقوا المعتزلة بذلك.
4- الوعد والوعيد :
وقفت المرجئة موقف التضاد من الخوارج والمعتولة (الوعيدية)، فألقت بإيمان اصحاب الكبائر في الدنيا، وارجأت أمرهم إلى الله في الاخرة، ولهذا جاء تعريف الإرجاء بأنه: تأخير حكم صاحب الكبيرة من غير توبة إلى يوم القيامة، فلا يقضي عليه بحكم ما في الدنيا، فعلي هذا المرجئة والوعيدية فرقتان متقابلتان.
5-الولاء والبراء:
المرجئة لم تخرج عن الاجماع العام حول الولاية والبراءة، فقال بوجوب الولاية والبراء، فقالت بوجوب الولاية والبراءة، واثبتت ولاية المؤمنين الطائعين وان له في ذلك الطاعة والنصرة، اما البراءة فان المرجئة لم تقل بالبراءة إلا من الكافرين، أما العصاة من اهل القبلة فان المرجئة تساهلت في البراءة منهم لما معهم من الايمان.
اما صورة الولاية والعدواة، فان المرجئة لما قالت بالايمان، وانه لا ابعاض له ولايزيد ولا ينقص، لم تخرج صاحب الذنب الكبير من الايمان ولم تقل بخلده في النار، ولم تتبرا منه كما هو الحال عند الخوارج والمعتزلة، وقد أورد ابن حزمم"..وان المدح والاوية تكون للمرء في إتيانه صفة الايمان، سواء كانت بالقلب أو بالسان أو جميعها، وجعلت بعض فرق المرجئة الخالصة المحبة والايمان والاخلاص خصلة من الايمان، وان تاركها كافر.
أراء المرجئة في السياسية:
فيما يتعلق بالمرجئة من الناحية السياسية فقد كان موقفهم من الحكام والامامة هو الحجر الأساسي التي يرجع اليها الفقهاء والعلماء في العصر الحديث حول عدم شرعية الخروج علي الحكام، فقد اجاز علماء المرجئة وجود إمامين للمسلمين، فأجازوا امامة علي بن ابي طالب، وامة معاوية بن ابي سيفا، كما كانو من الذين يحرمون الخورج علي الخلفاء وولي الأمر، بدعو ارجاء كبائره وذنوبه إلى يوم القيامة، والأخرة، وفيما يتعلق بالامامة وحكم ولي الامر
الإمامة عند المرجئة:
الإمامة عند المرجئة:
المرجئة قد وافقت اجماع الامة علي وجوب الخلافة، وفي ذلك يقول ابن حزم" اتفق جميع اهل السنة وجميع المرجئة وجميع لشيعة وجميع الخوارج علي وجوب الامامة، وان الامة واجب عليها الانقياد لامام عادل يقيم فيها احكام الله ويسوسهم باحكام الشريعة التي اتي بها رسول الله".
وهو أيضا ما أشار إليه الماوردي بقوله:" الإمامة موضوع لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسية الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الامة واجب بالإجماع وان شذ عنهم الاصم، واختلف في وجوبها هل وجبت بالعقل أو بالشرع.."،: ويقول في موضع اخر" فإذا ثبت وجوب الامامة ففرضها علي الكفاية كالجهاد وطلب العلم، فإذا قام بها من هو من أهلها سقط- أي سقط عن الباقين-،...وان لم يقم بها احد، فخرج من الناس فريقان: احدهما اهل الاختيار حتى يختاروا اماما للامة، والثاني اهل الامامة حتى ينتصب احدهم للإمامة".
وعموما فإن المرجئة تري أن اختيار الخليفة حقا مشروعا سبيله الشوري بين المسلمين، ويستحقها كل من كان قائما بالكتاب والسنة.
ومال اغلب المرجئة إلى أن الامامة في قريش، فيما راوا الا جائز خارج قريش، وأجازوه وجود امامان في وقت واحد من باب تعدد الائمة. وقد اجاز المرجئة امام علي بن ابي طالب، وإمامة معاوية بن اب سفيان في وقت واحد
الخروج على الإمام عند المرجئة:
الخروج على الإمام
أغلب المرجئة من أوائل الذين حرموا الخروج عن الحكام، فقد كانت تسعي إلى قبول الكل في دائرة الإسلام، وحتى أئمة الفجور، فأثرت بذلك الموادعة ولم تقل بالخروج عليهم، وأرجأت حكمهم إلى الله، ولكن هناك بعض المرجئة خروج علي الحكام وثاروا على بني أُمية ومنهم عبد الرحمن بن الاشعث ولكن السواد الاعظم من المرجئة مع إطاعة الحاكم وعدم الخروج عليه.
فقد قبلت المرجئة الحكم الأموي، وأبطلت السيف والخروج على الامام، في ذلك تري أنه ما دامت انعقدت للإمام، وإن ارتكب الكبائر، فلا يجب الخروج عليه، بل يُرجأ الحكم عليه لما اقترف من الذنوب والآثام.
ولهذا يصفهم بعض الباحثين، بأنهم مثلوا دورا مهما في التوازن والاعتدال، وقد هيأوا الجو الفكري لقبول الحكم وإشاعة الاستقرار، بعد أن نشبت الحرب أظفارها في جسد الجماعة الإسلامية، فكانوا يرون الطاعة المطلقة للحاكم، حتى أباحوا الحكم المطلق وكان المأمون يقول "الارجاء دين الملوك وذلك لإرجائهم الأحكام".
حكم الدار عند المرجئة:
المرجئة أجمعت على أن الدار دار ايمان، وحكم اهلها الايمان، الا من ظهر من خلاف الايمان، وقد بنت موقفها علي الدار نتيجة لآرائهم المسبقة على أهل الخلافة والصحابة في الفتنة، فكانوا يؤمنون بحس إسلام الفريقين ويرجون الحكم عليهم إلى يوم القيامة، كما قالت بصحة خلافة عثمان وعلي ومعاوية لقولهم بكمال إيمانهم، وان اختلفوا فيما عدا ذلك.
كما ذهبت المرجئة إلى تحريم القتال بين المؤمنين لأنهم أهل لا اله إلا الله، في ذلك يقول أحد الشعراء:
واول ما نفارق بغير شك نفارق ما تقول المرجئونا
وقالوا مؤمن دمه حرام وقد حرمت دماء المؤمنين
وان من كان في دار الإسلام من المؤمنين، فان له الولاية والنصرة، ولهذا حدد لهم الايمان بأنه عقد القلب، قرر بأن من أعلن الكفر بلسانه بلا تقية وعبد الاوثان أو لزم اليهود أو النصرانية في دار الاسلان، وعبد الصليب وأعلن التثليث في دار السلام، ومات علي ذلك فهو مؤمن كامل عند الله من أهل الجنة".
ولكا قالت المرجئة أن الدار دار ايمان اجازت البيع والشراء الا ما عرف حرامًا بعينه لأن الاشياء على ظاهرها، وان اموال المسلمين في دار الإسلام مضمونة، أما من اسلم في دار الحرب ولن يهاجر إلى دار الإسلام فان امواله غير مضمونة بالإتلاف والغصب لأن نفسه غير مضمونة بالقصاص ولا بالدية، وحرمة ماله تابعة لحرمة النفس، وذلك لانعدام الولاية عليهم في دار الحرب.
المرجئة عبر التاريخ:
ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية، ورغم تحذير من المرجئة الا أن كتب التاريخ أشارت إلى أن أفكار المرجئة اصبحت مذهبًا متكاملًا في عهد الامويين، وكان العصر الذهبي للمرجئة وعلمائها في الاموي الذي كان أيضا فيه الاِمام الباقر عليه السلام المتوفى سنة ٩٤ هجرية، أي في الجيل الاَول من التابعين بعد الصحابة مباشرة.
وبعد ثورة ابن الأشعث، وبعد مصائب الحجاج بن يوسف الثقفي وهو والي بني أمية على العراق، وبعد ظهور الخوارج وتعظيمهم لجانب العمل، وتكفيرهم المسلمين بالكبائر ونحو ذلك؛ بعد هذه الأحداث ظهرت طائفة من الفقهاء في الكوفة وأخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، كان منهم حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة وغيره من أهل الكوفة الذين قالوا: إن العمل ليس من حقيقة الإيمان.
وكان الأمر في بدايته شبهة نظرية عند هؤلاء الكوفيين، ورد عليهم السلف ردوداً قوية، ومن أراد أن يراجعها يمكن أن يراجع كتاب السنة لـعبد الله ابن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، رد عليهم السلف ردوداً قوية، لكنهم لم يكونوا يعتبرون مثلاً أن من يوالي أعداء الله عز وجل ولاء تاماً ويتولاهم ويحبهم ويعاونهم على المسلمين مسلماً، وكذلك الطواف حول القبور والذبح لها والنذر لغير الله تعالى لم يكونوا يعتبرون أن هذا إسلاماً، بل كانوا يعتبرونه كفراً مخرجاً عن الملة.
ولعبت ثورة ابن الأشعث دورا كبيرا في تطور وانتشار المرجئة في العصر الاموي، فقد كان هناك جمهرة كبيرة من فقهاء الأمة شاركوا في ثورة ابن الأشعث علي الحكم الأموي.
فقدت بدأت ثورة ابن الأشعث بدأت سنة "81 هـ"، وانتهت بالهزيمة في نهاية سنة "83 هـ"، وقد شارك في هذه الثورة أعداد كبيرة من القراء، والفقهاء، فريق مع ابن الأشعث، وفريق مع الحجاج، وكان لهذه الثورة أثر في بروز المجادلات، فيما بعد، وملخص هذه الفتنة أن عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث بعثه الحجاج لقتال "قبيل صاحب الترك"، وكان هناك نوع من الكراهية بن الحجاج، وابن الأشعث .
وبعد أن قويت شوكة ابن الأشعث، وبإزاء سيرته الحسنة في الناس، وما أفاضه عليهم من الأعطيات، وعلاقته الطيبة بالفقهاء، والقراء، فقد بايعوه على خلع الحجاج، ومن أبرزهم ذر بن عبدالله الهمذاني الذي سيصبح من أبرز شخصيات الإرجاء، وأول من تكلم فيه أبو البحتري، الذي قام يحث الناس على قتال الحجاج، فقال: "أيها الناس، قاتلوهم على دينكم، ودنياكم، فوالله، لئن ظهروا عليكم، ليفسدن عليكم دينكم، ودنياكم، وقال الإمام الشعبي: "يأهل الإسلام، قاتلوهم، ولا يأخذكم حرج من قتالهم؛ فوالله، ما أعلم قوماً على بسيط الأرض، أعمل بظلم منهم"، وقال سعيد بن جبير: "قاتلوهم، ولا تأثموا، ولا يأخذكم حرج من قتالهم، بنية، ويقين، وعلى آثامهم قاتلوهمن على جورهم في الحكم، وتجبرهم في الدين، واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة.
وقد استمرت هذه الفتنة ثلاث سنوات، وأهل العراق، وبلاد فارس، وجند الشام، بقيادة الحجاج، يصطرعون، فريق مع ابن الأشعث، وفريق مع الحجاج، وكانت الحرب جولات، مرة لابن الأشعث، ومرة للحجاج، حتى حلت الهزيمة بابن الأشعث، وكانت هزيمة مرة، وعصيبة في الأمة، وفقهائها، وقرائها الذين أملوا الناس بالتخلص من الحجاج، وعسفه، وظلمه.
فاصبح المرجئة بعد هذه الواقعة كتلة كبيرة بسبب افكارهم حو الايمان والتكفير، وإن كانوا ـ كما يرى فون كريمر أحد المستشرقين ـ قد ألانوا من شدة عقائد اهل السنة باعتقادهم ( أنه لا يخلد مسلم مؤمن في النار ) وعلى العموم.
وقد اتهم بهذا الإرجاء جملة من الفقهاء العباد من علماء ؛ ومنهم: حماد بن أبي سليمان، وطلق بن حبيب العنزي، وعمر بن ذر الهمذاني، وإبراهيم بن يزيد بن شريك التميمي، ومحمد بن خازم "أبو معاوية الضرير"، وأبو حنيفة النعمان، وخارجة بن مصعب، وعبدالعزيز بن أبي رواد، ومحمد بن السائب بن بشر، ومسعر بن كدام، ومحارب بن دثار، وعون بن عبدالله بن مسعود، وموسى بن أبي كثير، وعباد بن منصور الناجي، وعباد بن كثير، وعبدالكريم بن أبي المخارق، وأصرم بن غياث، وسعيد بن سالم، والصلت بن مهران، وسالم بن عجلان الأفطس، وقيس بن عمرو الماصر.
ويقول ابن تيمية، مفصلاً لهذه البدعة: "وحدثت المرجئة، وكان أكثرهم من أهل الكوفة، ولم يكن أصحاب عبدالله من المرجئة، ولا إبراهيم النخعي، وأمثاله، فصاروا نقيض الخوارج، والمعتزلة؛ فقالوا: إن الأعمال ليست من الإيمان، وكانت هذه البدعة أخف البدع؛ فإن كثيراً من النزاع فيها نزاع في الاسم واللفظ، دون الحكم؛ إذ كان الفقهاء الذين يضاف إليهم هذا القول؛ مثل حماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة، وغيرهما، هم، مع سائر أهل السنة".
وانتشر مذهبهم حتى شمل أكثر الرواة وعلماء الدولة، ومن أعلامهم في ذلك العصر: إبراهيم النخعي وإبراهيم بن يزيد التيمي، ومن دونهما مثل سفيان الثوري وابن المبارك ووكيع وهشام وعلي بن عاصم.
وبزوال الدولة الأموية أفل نجم طائفة المرجئة ولم تصبح بعد طئفة، لانهم سقطوا سياسياً لا ثقافياً مسقوط الامويين، إلا أن أفكارهم ورواياتهم وعقائدهم في مصادر المسلمين بقيت حتى الأن.
ويقول أحد المستشرقين " فون كريمر": ومما يؤسف له كثيراً أنه ليس لدينا غير القيل من الاَخبار الصحيحة عن هذه الطائفة، فقد استمروا طوال ذلك العصر وذاقوا حلوه ومره، وقد ضاعت جميع المصادر التاريخية العربية عن الاَمويين، حتى أن أقدم المصادر التاريخية التي وصلت إلينا إنما ترجع إلى عهد العباسيين، ومن ثَمَّ كان لزوماً علينا أن نستقي معلوماتنا عن المرجئة من تلك الشذرات المبعثرة في مؤلفات كتاب العرب في ذلك العصر الثاني.
الجهمية أبرز فرق المرجئة:
الجهمية أبرز فرق
آراء هذه الطائفة لا تزال في بعض المجتمعات، الجهمية إحدى الفرق الكلامية التي تنتسب إلى الإسلام، ولها آراء خاطئة في مفهوم الإيمان وفي صفات الله تعالى وأسمائه، وترجع في نسبتها إلى مؤسسها الجهم بن صفوان الترمذي، وهو من أهل خراسان، ظهر في المائة الثانية من الهجرة سنة 2هـ، ويكني بأبي محرز، وهو من الجبرية الخالصة، وأول من ابتدع القول بخلق القرآن وتعطيل الله عن صفاته، وكان مولى لبني راسب إحدى قبائل الأزد، وكان من أخلص أصدقاء الحارث بن سريج إلى أن قتلا سنة 128 هـ، وقيل: إن الجهم قتل سنة 130، وقيل سنة 132هـ، وكان الجهم كثير الجدال والخصومات والمناظرات، وإلا أنه لم يكن له بصر بعلم الحديث ولم يكن من المهتمين به، إذ شغله علم الكلام عن ذلك.
كانت نقطة الانتشار لهذه الطائفة بلدة ترمذ التي ينتسب إليها الجهم، ومنها انتشرت في بقية خراسان، ثم تطورت فيما بعد وانتشرت بين العامة والخاصة، وقد ذكر ابن تيمة درجات الجهمية وقسمهم إلى ثلاث درجات: الدرجة الأولي: وهم الجهمية الغالية النافون لأسماء الله وصفاته، وإن سموه بشيء من الأسماء الحسني قالوا: هو مجاز.
الدرجة الثانية من الجهمية: وهم المعتزلة ونحوهم، الذين يقرون بأسماء الله الحسني في الجملة لكن ينفون صفاته.
الدرجة الثالثة: وهم قسم من الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية، ولكن فيهم نوع من التجهم، وهم الذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة ولكنهم يريدون طائفة من الأسماء، والصفات الخبرية وغير الخبرية ويؤولونها.
ومنهم من يقر بصفاته الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث كما عليه كثير من أهل الكلام والفقه، وطائفة من أهل الحديث، ومنهم من يقر بالصفات الواردة في الأخبار أيضاً في الجملة، لكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول، وذلك كأبي محمد بن كلاب ومن اتبعه، وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلى السنة المحضة أقرب منهم إلى الجهمية والرافضة والخوارج والقدرية.
وتعد أبرز عقائد الجهمية: تنزيه الله ونفي التشبيه وتأويل الآيات التي تشعر بالتشبيه، كيد الله ووجهه سبحانه وتعالى. ومن الصفات التي أولوها صفة الكلام، فكانوا يقولون إن كلام الله إنما هو داخل نفسه – سبحانه وتعالى – وترتب على ذلك القول بخلق القرآن، كما نفوا رؤية الله في الآخرة واحتجوا بقوله تعالى: { لا تدركه الأبصار }، وقالوا بأن طبيعة الإله أعلى من أن ترى بالأبصار البشرية.
ونفي صفات الله الأزلية، كالقدرة والإرادة والعلم، وقالوا بأن هذه الصفات هي عين ذاته، وليست مستقلة عنه؛ أي أنه ليس قادراً بقدرة غير ذاته، وليس مريداً بإرادة غير ذاته، وليس عالماً بعلم غير ذاته ..
والإنسان لا يوصف بالاستطاعة على الفعل، بل هو مجبور بما يخلقه الله من الأفعال مثل ما يخلقه في سائر الجمادات، ونسبة الفعل إليه إنما هو بطريق المجاز كما يقال جرى الماء وطلعت الشمس وتغيَّمت السماء .. إلى غير ذلك، وبسبب هذه النقطة يعدون من الجبرية.
والإيمان عقدٌ بالقلب وإن تلفظ الشخص بالكفر، وأن الإيمان لا يضر معه شيء، وبسبب هذه النقطة يعدون من المرجئة.
وأن الله موجود بالأمكنة كلها، فقد أخرج ابن خزيمة في التوحيد بسنده أن الجهم بن صفوان كان يوماً على جسر ترمذ فقيل له: صف لنا ربك، فدخل البيت لا يخرج، ثم خرج بعد أيام فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء.
والقول بفناء الجنة والنار، حيث قالو أنه لا يتصور حركات لا تتناهى أولاً فكذلك لا يتصوَّر حركاتٌ لا تتناهى آخراً، وحملوا قوله تعالى: { خالدين فيها أبداً } على المبالغة، واستدل الجهم بن صفوان على الانقطاع بقوله تعالى: { إلا ما شاء ربك }، وقال: (( ولو كان مؤبداً بلا انقطاع لما استثنى )).
واستمرت الجهمية بعد مقتل الجهم بن صفوان عام 128هـ، ولكن مع بداية القرن الثالث بدأت بالانحسار. ويرى بعض العلماء والمؤرخين أن الجهمية لم تنته فعلاً، فقد جاء بعدهم من وافقهم في بعض معتقداتهم. فقد وافقهم المعتزلة في نفيهم بعض صفات الله الأزلية، وتأويلهم للصفات التي تشعر بالتشبيه، وقولهم بأن القرآن مخلوق، ونفيهم رؤية الله في الآخرة.
اهتمام العلماء بأخبارهم وبيان معتقداتهم، وهناك من دافع عن فكرهم ومعتقداتهم، وبين معجب بأدلتهم وبين داحض لها، لذلك تعتبر المرجئة من أشد الفرق التي نشأ حولها جدال كبير في التاريخ الإسلامي.
وقال ابن الأثير في (النِّهاية): المرجئة تهمز، ولا اتهمز وكلاهما بمعنى التّأخير، يقال: أرجأته وأرجيته: إذا أخّرته فنقول من الهمز رجل مرجئي، وهم المرجئة وفي النسب: مرجئي مثال مرجع ومرجعة ومرجعيّ، وإذا لم تهمز قلت: رجل مرج ومرجية ومرجيّ مثل معط ومعطية ومعطيّ.
وأخذت المرجئة من الإرجاء بمعنى التّأخير، ويحتمل أن يكون مأخوذاً من الرجاء أي الأمل والمشهور هو الأوّل. وسرّ تسميتهم بالمرجئة بمعنى المؤخِّرة أحد الوجهين: طال التشاجر في معنى الإيمان في العصر الأوّل، وحدثت آراء وأقوال حول حقيقته بين الخوارج والمعتزلة، فذهبت المرجئة إلى أنّه عبارة عن مجرّد الإقرار بالقول والّلسان وإن لم يكن مصاحباً للعمل، فأخذوا من الإيمان جانب القول، وطردوا جانب العمل، فكأنّهم قدّموا الأوّل وأخّروا الثاني واشتهروا بمقولتهم: «لا تضرّ مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة».
وعلى هذا، فهم والخوارج في هذه المسألة على جانبي نقيض، فالمرجئة لا تشترط العمل في حقيقة الإيمان، وترى العاصي ومرتكب الذُّنوب، صغيرها وكبيرها، مؤمناً حتّى تارك الصلاة والصوم، وشارب الخمر، ومقترف الفحشاء.. والخوارج يضيّقون الأمر فيرون مرتكب الكبيرة كافراً، ولأجل ذلك قاموا بتكفير عثمان للأحداث الّتي انجرّت إلى قتله وتكفير علي ـ عليه السلام ـ لقبوله التحكيم وإن كان عن اضطرار.
ويقابلهما المعتزلة أيضاً القائلون بأنّ مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا فاسق بل في منزلة بين الأمرين فزعمت أنّها أخذت بالقول الوسط بين المرجئة والخوارج.
كما رأى آخرون أن الإرجاء في الاصطلاح مأخوذ من معناه اللغوي؛ أي بمعنى التأخير والإمهال – وهو إرجاء العمل عن درجة الإيمان، وجعله في منزلة ثانية بالنسبة للإيمان لا أنه جزء منه كما أنه قد يطلق على أولئك الذين كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة.
وذهب آخرون إلى أن الأرجاء: يُراد به تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه في الدنيا حكم ما، وبعضهم ربط الإرجاء بما جرى في شأن علي- رضي الله عنه- من تأخيره في المفاضلة بين الصحابة إلى الدرجة الرابعة، أو إرجاء أمره هو وعثمان إلى الله ولا يشهدون عليهما بإيمان ولا كفر، وخلص بعضهم من هذا المفهوم إلى وصف الصحابة الذين اعتزلوا الخوض في الفتن التي وقعت بين الصحابة، وخصوصًا ما جرى بين علي ومعاوية من فتن ومعارك طاحنة، خلصوا إلى زعم أن هؤلاء هم نواة الإرجاء، حيث توقفوا عن الخوض فيها واعتصموا بالسكوت، وهذا خطأ من قائليه؛ فإن توقف بعض الصحابة إنما كان بغرض ريثما تتجلى الأمور، واستندوا إلى مفهوم قول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت-أو وقعت- فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه. قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيتَ مَن لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه، فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة".
ومن هؤلاء الصحابة الذين امتنعوا عن الخوض في تلك الأحداث المؤسفة: سعد بن أبي وقاص، وأبو بكرة راوي الحديث السابق، وعبد الله بن عمر، وعمران بن الحصين؛ حيث توقفوا ثم أرجئوا الحكم في تلك الفتن، وفوضوا أمرَ المختلفين فيها إلى الله- سبحانه وتعالى- فلم يحكموا بتخطئة أحد أو تصويبه مع اعترافهم بفضل الجميع، فكيف يعتبر هؤلاء هم أساس الإرجاء، فإن موقفهم لا يعد التوقف عن الدخول عن نصرة أحد بالسيف، وهم في توقفهم كانوا يستندون إلى النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة، والتي تحذر من الدخول في الفتن، فقد كان هؤلاء يودون لو أن الأمور تمت معالجتها بالصبر والصلح بين المتقاتلين، بدلًا عن التسرع في القتال ابتداء قبل بذل أسباب الوفاق.
واستقر المعنى الاصطلاحي للمرجئة على المعنى الثاني "إرجاء الفقهاء"، وهو القول بأن: الإيمان هو التصديق أو التصديق والقول، أو الإيمان قول بلا عمل، "أي إخراج الأعمال من مسمى الإيمان"، وعليه فإن: من قال الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأنه لا يجوز الاستثناء في الإيمان من قال بهذه الأمور أو بعضها فهو مرجئ.
ويعتبر الأساس الذي قام عليه مذهب الإرجاء هو الخلاف في حقيقة الإيمان ومم يتألف، وتحديد معناه، وما يتبع ذلك من أبحاث. وهل الإيمان فعل القلب فقط أو هو فعل القلب واللسان معاً؟ فرق المرجئة على أن الإيمان هو مجرد ما في القلب ولا يضر مع ذلك أن يظهر من عمله ما ظهر. وذهبت الكرامية إلى أن الإيمان هو القول باللسان، ولا يضر مع ذلك أن يبطن أي معتقد حتى وإن كان الكفر. وذهب أبو حنيفة رحمة الله إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، لا يغنى إحداهما عن الآخر.
النشأة:
النشأة:
عرفنا مما سبق في التعريف بالمرجئة أن الإرجاء في بدء الأمر كان يراد به في بعض إطلاقاته أولئك الذين أحبو السلامة والبعد عن الخلافات، وترك المنازعات في الأمور السياسية والدينية، وخصوصًا ما يتعلق بالأحكام الأخروية من إيمان وكفر وجنة ونار، وما يتعلق كذلك بأمر علي وعثمان وطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة وغيرهم. وما جرى بين علي ومعاوية من أحداث-كما مثله الحسن بن محمد بن الحنفية ومن جاء على طريقته- إلا أنه من الملاحظ أنه بعد قتل عثمان-رضي الله عنه- وبعد ظهور الخوارج والشيعة أخذ الإرجاء يتطور تدريجيًّا.
ويرى المؤرخون أن المرجئة طائفة ظهرت في آخر أزمنة الصحابة أو بعدهم أضعفت من منزلة العمل، وبدأت المسألة بشكل بسيط، بدأت بخلاف نظري في مفهوم العمل، هل هو داخل في حقيقة الإيمان أو غير داخل في حقيقة الإيمان؟ فإنه بعد فتنة ابن الأشعث، وبعد مصائب الحجاج بن يوسف الثقفي وهو والي بني أمية على العراق، وبعد ظهور الخوارج وتعظيمهم لجانب العمل، وتكفيرهم المسلمين بالكبائر ونحو ذلك؛ بعد هذه الأحداث ظهرت طائفة من الفقهاء في الكوفة وأخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، كان منهم حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة وغيره من أهل الكوفة الذين قالوا: إن العمل ليس من حقيقة الإيمان.
فظهر الخلافُ في حكم مرتكب الكبيرة ومنزلة العمل من الإيمان، ثم ظهر جماعة دفعوا بالإرجاء إلى الحد المذموم والغلو، فبدأ الإرجاء يتكون على صفة مذهب، فقرر هؤلاء أن مرتكب الكبيرة كامل الأيمان وأنه لا تضر مع الإيمان معصية، ولا تنفع مع الكفر طاعة، وأن الإيمان في القلب. فلا يضر الشخص أي شيء بعد ذلك ولو تلفظ بالكفر والإلحاد، فإنه يبقى إيمانه كاملًا لا يتزعزع. وهذا بلا شك غلو وتطرف مذموم.
وأهل هذه المرحلة ممقوتون ومذهبهم يفضي إلى درجة الإباحية والتكاسل، والتعويل على عفو الله وحده دون العمل لذلك. وهو أمر تأباه الشريعة الإسلامية.
ولكن ذهب البعض منهم إلى انها بأت المرجئة، في عهد الحسن بن محمد بن الحنفية (المتوفّى عام 99 هـ)، ولكنّه بعد غيرثابت، وعلى فرض ثبوته فالإرجاء الّذي قال به غير الإرجاء المعروف، فقد نقلوا عنه أنّه تكلّم في علي وعثمان وطلحة والزبير في محضره فأكثروا وهو ساكت، ثم تكلَّم فقال: قد سمعت مقالكم، أرى أن يرجأ علي وعثمان وطلحة والزبير فلا يتولّى ولا يتبرى منهم.
فقد ذكر كتب التراق أن فكر المرجئة طهر في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مع توسع الدولة الإسلامية الناشئة، مع فتح بلاد الاِمبراطورية الفارسية والرومانية، بلداً بعد آخر، فالذي وقع في حياة الاَمة، أن هذه الاَفكار بمساعدة فكرة الجبر وأن الله تعالى قد فرغ من الاَمر وكتب كل شيء وانتهى الاَمر ولا بداء.. سرعان ما أثمرت مذهبين عقائديين مواليين للسلطة هما: المرجئة والقدرية، وقد تبنتهما السلطة وأيدت علماءهما وهيأت لهم الظروف لنشر أفكارهم في الاَمة.
ويتلخص مذهب المرجئة بمقولتهم المشهورة (الاِيمان لا تضر معه معصية) فالاِيمان عندهم مجرد القول بالشهادتين، وبذلك يضمن الإنسان دخول الجنة مهما كان عمله.
ويقول ابن عساكر في تاريخه: «قال عثمان بن إبراهيم بن حاطب: أوّل من تكلّم في الإرجاء هو الحسن بن محمّد. كنت حاضراً يوم تكلّم، وكنت مع عمّي في حلقته، وكان في الحلقة جحدب وقوم معه. فتكلّموا في عليّ وعثمان وطلحة والزبير، فأكثروا، والحسن ساكت، ثمّ تكلّم فقال: قد سمعت مقالكم. أرى أن يرجأ عليّ وعثمان وطلحة والزبير فلا يتولّى ولا يتبرّأ منهم. ثمّ قال: فقمنا، فقال لي عمر: يا بنيّ ليتخذنّ هؤلاء هذا الكلام إماماً. فبلغ أباه محمّد بن الحنفيّة ما قال، فضربه بعصا فشجّه وقال: ألاّ تتولّى أباك عليّاً. ودخل ميسرة عليه فلامه على الكتاب الّذي وضعه في الإرجاء، فقال: لوددت أنّي كنت مِتّ ولم أكتبه».
ولعل الإرجاء بالمعنى الأوّل الّذي صدر عن ابن الحنفية عن غاية صحيحة، صار أساساً للمعنى الثاني، أمّا تقديم الإيمان وتأخير العمل فقد استعمله الأُمويّون لتبرئتهم حيث كانوا غارقين في العصيان والفساد.
فيما ذهب أخرون إلى أبعد من هذا الكلام، وقالوا إلى أن نواة هذه المرجئة كانت موجودة في الصحابة في الصدر الأوّل، بحجّة أنّنا نرى أنّ جماعة من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم امتنعوا أن يدخلوا في النزاع الذي كان في آخر عهد عثمان مثل «أبي بكرة» و«عبدالله بن عمر» و«عمران بن حصين» وروى أبو بكرة أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي».
المرجئة.. فقه طاعة
ويرجع فكر المرجئة إلى الفتن التي اجتاحت ديار المسلمين منذ مقتل عثمان بن عفان، وما تلاه من حرب صفين بين علي ومعاوية. لقد فجرت هذه الفتن كثيرًا من المواقف والآراء وردود الأفعال بين الصحابة أنفسهم:
- فبعض كبار الصحابة وأجلائهم مثل سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد وغيرهم رأوا موقفَ الحياد، مع إجلالهم لكبار الصحابة كعلي وعثمان ومعاوية.
- وبعض سكان الأطراف والمرابطين على ثغور الجهاد فوجئوا بمقتل أمير المؤمنين عثمان؟ ثم فوجئوا بما تلا ذلك من أحداث، وما استطاعوا أن يستبينوا رأيًا فيتبعوه أو يرجحوا طرفًا فيوالوه، فآثروا مسألة الفريقين المتقاتلين والركون إلى حياد ولا حيلة لهم في قبوله، وهؤلاء هم الشكاك من أهل الحيرة والتردد. كانوا يقولون: كلهم عندنا ثقة، ونحن لا نتبرأ منهما ولا نلعنهما، ولا نشهد عليهما، ونرجئ أمرهما إلى الله حتى يكون هو الذي يحكم بينهما.
ويمكن اعتبار وقعة صِفين هي المنطلق التاريخي لهذه الفتنة، بل إن حادثة التحكيم هي الشرارة التي فجرت بركانها.
لقد أنتجت هذه الحادثة وذيولها فرقتين كبيرتين، أو منهجين كبيرين، ما يزال لهما وجود ملموس وانحراف بعيد حتى الآن.
هذان المنهجان هما: التشيع والخروج، وكلاهما ناشئ عن علة واحدة، هي الغلو ولكنه غلو متضاد. وكان من آثار هذه الفتنة أن أصبحت المعسكرات المتحاربة ثلاثة: أهل العراق-أهل الشام- الخوارج، وأصبحت المناهج الاعتقادية ثلاثة: السنة، والخروج، والتشيع.
ومن كلام الإمام ابن عينية وشرح الطبري له، ما يدل على أن المرجئة الأولى هي طائفة من الناس كانت ترجئ أمر عثمان وعلي إلى الله، فلا تتولاهما ولا تتبرأ منهما، فهي مضادة لمن يكفرهما أو يغلو فيهما-أو بأحدهما- وكذلك فهي مضادة لمن يرى تقديمهما وفضلهما ووجوب موالاتهما.
ومع تطور الأمر احتدم النزاع بين أهل السنة والخوارج والمعتزلة من جانب، وبين المرجئة من جانب آخر في دخول الأعمال في مسمى الإيمان، ويظهر أثر ذلك في مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وأمره في الآخرة إلى الله وإلى مشيئته-كما يقول السلف- أم هو كافر في الدنيا ومخلد في الآخرة في النار-كما تقول الخوارج- لأنه أخل بالعمل، فكفر؟ أم هو في منزلة بين المنزلتين في الدنيا لا مؤمن ولا كافر، وفي الآخرة هو مخلد في النار-كما تقول المعتزلة-؟ أم هو مؤمن كامل الإيمان لم يتأثر إيمانه بالكبيرة مطلقًا-كما تقول المرجئة- لأنه مصدق بقلبه فلا مجال لأن يتأثر إيمانه، لأن الإيمان عندهم-على هذا المفهوم- لا يزيد ولا ينقص بل يبقى إيمانه كاملًا إذا كان التصديق موجودًا في قلبه؟
وفي الحقيقة أن مذهب المرجئة تطور على هذا المفهوم حتى صار من أوسع المذاهب وأكثرها تساهلًا. فبينما الخوارج يرون أن مرتكبَ الذنب كافر مخلد في النار، والمعتزلة تراه في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، وفي الآخرة مصيره النار، ثم تزعم هاتان الطائفتان أن الناس كلهم كفار إلا من كان خارجيًّا، وتزعم المعتزلة أن الناس كلهم كفار إلا من كان معتزليًّا، فضاقت نظرتهم إلى غيرهم، فإذا بالمرجئة توسع المجال، فزعمت أن كل طائفة تنسب نفسها إلى الإسلام، وتصدق به تعد من المؤمنين الخلّص بغض النظر عن عملها بعد ذلك، بالخوارج والشيعة والمعتزلة وسائر الطوائف في نظر المرجئة هم مِن أهل الإيمان الكامل.
وهناك أقوال أخرى في أول من دعا إلى الإرجاء: فقيل: إن أول مَن أحدثه رجل بالعراق اسمه قيس بن عمرو الماضري. وقيل: إن أول من أحدثه حماد بن أبي سليمان وهو شيخ أبي حنيفة وتلميذ إبراهيم النخعي، ثم انتشر في أهل الكوفة، وقد عاصر حماد بن ذر بن عبد الله. ويذكر شيخ الإسلام عن نشأة الإرجاء بالكوفة أن أول من قال فيهم حماد بن أبي سليمان.
وقيل: إن أول من قال به رجل اسمه سالم الأفطس، ويطلق على إرجاء هؤلاء أنه إرجاء الفقهاء، ويظهر أن تلك الأقوال لا تباعد بينها؛ لأن هؤلاء كانوا في عصر واحد، وكانوا أيضًا على اتفاق في إرجائهم.
ومن كِبار المرجئة ومشاهيرهم: الجهم بن صفوان، وأبو الحسين الصالحي، ويونس السمري، وأبو ثوبان، والحسين بن محمد النجار، وغيلان، ومحمد بن شبيب، وأبو معاذ التومني، وبشر المريسي، ومحمد بن كرام، ومقاتل بن سليمان المشبه لله-عز وجل- بخلقه ومثله الجواربي، وهما من غلاة المشبهة.
تطور الإرجاء:
ومع حركة الفكر التي كانت دائرة في عهد الدولة الاموية والعباسية تحوّل الفكر الإرجائي العام من بدعة نظرية، يدين بها أفراد معدودون إلى ظاهرة عامة تسيطر على الفكر الإسلامي، بل والحياة الإسلامية عامة، في سنوات قليلة جدا مع يدلل علي أن المرجئة لاقت قبولا ورواجا كبيرة في أيام الدولة الأموية والعباسية.
وقد مر هذا الفكر بمراحل متعددة، وتباين من طائفة إلى أخرى، إلا أن أهم مرحلتين مرّ بهما:
- إرجاء الفقهاء والعبّاد من جهة.
- وإرجاء المتكلمين، أو ما يسمى بإرجاء الجهمية من جهة ثانية.
إرجاء الفقهاء:
ويقصد به: أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والإقرار باللسان. أو "المعرفة بالله، والإقرار بالله، والمعرفة بالرسول والإقرار بما جاء به من عند الله في الجملة دون التفسير".
وهو شبهة نظرية أخطأ فيها بعض العلماء نتيجة ردود فعل خاصة، ورأي غير مجرد، مثله في ذلك مثل زلة العالم، أو خطأ المجتهد، في أي مسألة نظرية. وقد كان لثورة ابن الأشعث، وظهور الحجاج عليه، ثم ملاحقة العلماء والبطش بهم، أسوأ الأثر في بروز قرن الإرجاء هذا بين صفوف هؤلاء البائسين، المستسلمين للأمر الواقع، كما تجرأ الذين كانوا مرجئة من قبل فأعلنوا مذهبهم واستغلوا آثار الهزيمة لنشره، كما نشط الخوارج وخلت لهم الساحة أكثر من ذي قبل...
وقد قام أئمة أهل السنة والجماعة بجهد مشكور لمقاومة هذه الفكرة ومحاصرتها في مهدها... إذ لاحظ العلماء أن مذهب هؤلاء المرجئة الفقهاء يتضمن أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان.
فهذا الأوزاعي-رحمه الله- يقول: "كان يحيى بن أبي كثير، وقتادة، يقولان ليس من أهل الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء".
ويقول إبراهيم النخعي التابعي المشهور، وقد عاصر أحداث الحجاج: "الإرجاء بدعة، إياكم وهذا الرأي المحدث" وقال عن المرجئة: "تركوا هذا الدين أرق من الثوب السابري" ومن أقواله أيضًا فيهم: "لفتنتهم عندي أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة".
ورغم أن القائلين بالإرجاء كانوا عبادًا زهادًا في الغالب، إلا أن أهل السنة والجماعة لم يألوا جهدًا في مقاومة فكرهم، ولذلك فلا غرابة إذا تشدد ورثة هؤلاء التابعين من أئمة السنة على المرجئة مثل: وكيع، وابن المبارك، وابن معين، والإمام أحمد والبخاري، وأبي داود ونحوهم، وذلك أن الإرجاء الغالي قد ظهر في زمنهم.
فهذا هو الخط الأول الذي سار عليه الإرجاء وهو ما سُمي بإرجاء الفقهاء، وهو الاكتفاء بالقول دون العمل في مسمى الإيمان، وهذا الإرجاء هو الذي ذمه علماء السلف.
"ولا يفوتنا هنا أن كلمة المرجئة في اصطلاح هؤلاء العلماء-علماء السلف- إنما تعني هذا الإرجاء، أي: إرجاء الفقهاء، وظل هذا قائمًا حتى بعد ظهور الجهمية، فكل ذم أو عيب قيل في المرجئة فهو منصرف لهم وحدهم حتى منتصف القرن الثاني تقريبًا، بل هو الأغلب إلى القرن الثالث". فهؤلاء الفقهاء عندما جعلوا الأعمال خارجة عن مسمى الإيمان، لم يعارضوا وجوبها والمعاقبة عليها، مع وجوب ترك المحظورات، ولهذا عدّ بعض العلماء أن الخلاف كله لفظيّ.
أصول وعقائد المرجـئة:
تكاد فرق المرجئة تتفق في أصولها على مسائل هامة هي: تعريف الإيمان بأنه التصديق بالقول أو المعرفة أو الإقرار، وأن العمل ليس داخلاً في حقيقة الإيمان- مع أنهم لا يغفلون منزلة العمل من الإيمان تماماً إلا عند الجهم ومن تبعه، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن أصحاب المعاصي مؤمنون كاملو الإيمان بكمال تصديقهم، ولهم اعتقادات أخرى: كالقول بأن الإنسان يخلق فعله، وأن الله لا يرى في الآخرة، وقد تأثروا في هذه الآراء بالمعتزلة، وكذا رأيهم في أن الإمامة ليست واجبة، فإن كان ولا بد فمن أي جنس كان ولو كان غير قرشي، وقد تأثروا بهذا الرأي من الخوارج.
وتدور عقائد المرجئة وأُسّ نظريّتهم أنّ الايمان هو التصديق بالقلب، أو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، أو ما يقرب من ذلك، فأخرجوا العمل من حقيقة الايمان، واكتفوا بالتصديق القلبي ونحوه ويترتّب على ذلك الأصل اُمور:
١ ـ إنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأنّ أمر التصديق دائر بين الوجود والعدم، ومثله تفسير الإيمان بالإقرار باللسان، فهو أيضاً كذلك وليس العمل داخلاً في حقيقته حتّى يقال: إنّ العمل يكثر ويقلّ وسيوافيك نظرنا فيه.
٢ ـ إنّ مرتكب الكبيرة مؤمن حقيقة، لكفاية التصديق القلبي أو الإقرار باللسان في الاتصاف بالإيمان، وهؤلاء في هذه العقيدة يخالفون الخوارج والمعتزلة. أمّا الاُولى: فلأنّهم يعدّون العمل عنصراً مؤثراً في الايمان بحيث يكون تارك العمل كافراً، وقد اشتهر عنهم بأنّ مرتكب الكبائر كافر، وليس المؤمن إلاّ من تحرّز من الكبائر.
وأماّ الثانية: فلأنهّم يعتقدون أنّ مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر. والمعتزلة أخفّ وطأة من الخوارج، وإن كانت الطائفتان مشتركتين في إدخال العمل في حقيقة الايمان.
٣ ـ إنّ مرتكب الكبيرة لا يخلّد في النار وإن لم يتب، ولا يحكم عليه بالوعيد والعذاب قطعاً لاحتمال شمول عفوه سبحانه له، خلافاً للمعتزلة الّذين يرون أنّ صاحب الكبيرة يستحقّ العقوبة إذا لم يتب وإنّ من مات بلا توبة يدخل النّار، وقد كتبه الله على نفسه فلا يعفو .
ومن عقائد المرجئة الجهمية أن الكفر بالله هو الجهل به- وهو قول جَهم- وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط وأنه لا يتبعض، ومنها أن الجنة والنار تفنيان وتبيدان ويفنى أهلهما ولا خلود لأحد فيهما.
- وبعضهم ذهب إلى أن كل معصية فهي كبيرة، وبعضهم يذهب إلى أن غفران الله الذنوب بالتوبة تفضل من الله، وبعضهم إلى أنه باستحقاق، وبعضهم جوز على الأنبياء فعل الكبائر، وبعضهم ذهب في إثبات التوحيد إلى قول المعتزلة، وبعضهم إلى قول المشبهة، ومنهم من أثبت رؤية الله تعالى في الآخرة، ومنهم من نفاها كالمعتزلة، واختلفوا في القول بخلق القرآن، فمنهم من قال: إنه مخلوق. ومنهم من قال: غير مخلوق. ومنهم من توقف.
- واختلفوا في القول بالقدر فبعضهم نفى القدر وقال بأقوال المعتزلة، وبعضهم أثبته، واختلفوا في أسماء الله وصفاته، فبعضهم قال بأقوال عبد الله ابن كلاب، ومنهم من قال بأقوال المعتزلة.
ومن عقائد المرجئة الجهمية أن الكفر بالله هو الجهل به- وهو قول جهم-، وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط وأنه لا يتبعض، ومنها أن الجنة والنار تفنيان وتبيدان ويفنى أهلهما ولا خلود لأحد فيهما، وبعضهم ذهب إلى أن كل معصية فهي كبيرة، وبعضهم يذهب إلى أن غفران الله الذنوب بالتوبة تفضل من الله، وبعضهم إلى أنه باستحقاق، وبعضهم جوز على الأنبياء فعل الكبائر، وبعضهم ذهب في إثبات التوحيد إلى قول المعتزلة، وبعضهم إلى قول المشبهة، واختلفوا في القول بخلق القرآن، فمنهم من قال: إنه مخلوق. ومنهم من قال: غير مخلوق. ومنهم من توقف.
وذكر كتاب فجر الإسلام الذي يمثل خلاصة آراء المستشرقين، والذي نقل عنه أكثر من بعده، ومنهم أبو زهرة:' إن الشيعة والخوارج كانا أول أمرهما حزبين سياسيين، تكونا حول الخلافة، وإن رأي الخوارج فيها رأي ديمقراطي، ورأي الشيعة رأي ثيوقراطي، أما المرجئة فكانت.. حزباً سياسياً محايداً.
فرق المرجئة:
المرجئة مثله مثل أي مذهب إسلامي ينقسم إلى فرق وجماعات، ترى مرجئياً يتّبع منهج الخوارج، ومرجئياً آخر يقتفي أثر القدريّة، وثالثاً يشايع الجبريّة. وما هذا إلاّ لأنّ الإرجاء قام على أصل واحد وهو تحديد الايمان بالإقرار أو باللسان أو المعرفة القلبية. وأمّا الاُصول الاُخرى فليس لهم فيها رأي خاصّ قطّ. وصار هذا سبباً لذوبانهم في الفرق الاخرى وتفرّقوا على الفرق التالية:
١ ـ مرجئة الخوارج، ٢ ـ مرجئة القدرية، ٣ ـ مرجئة الجبرية، ٤ ـ المرجئة الخالصة.
وهذه الطّوائف بعضها بالنسبة إلى بعض على نقيض، فمرجئة القدريّة تقول بالاختيار والحريّة للإنسان، ومرجئة الجبريّة تنكره. ومع ذلك كلّه فالطائفتان تستظلاّن تحت سقف واحد، وهو الإرجاء، وإن اختلفوا في سائر المسائل. نعم يوجد هناك مرجئة خالصة لم يتكلّموا بشيء في بقيّة المسائل وذكر الشهرستاني لهم طوائف ستّ وهي:
١ ـ اليونسيّة ٢ ـ العبيديّة ٣ ـ الغسّانيّة ٤ ـ الشعبانيّة ٥ ـ التومينية ٦ ـ الصالحيّة.
وهؤلاء لم يتكلّموا إلاّ في الارجاء واختلفوا في تحديد الايمان بعد إخراج العمل منه، وتركوا البحث عن سائر الموضوعات، بخلاف الطّوائف الثلاث المتقدّمة. فإنّهم اشتركوا في الإرجاء واختلفوا في سائر الموضوعات. فمن مرجئيّ سلك مسلك الخوارج، يبغض عثماناً وعليّاً، ويناضل ضدّ الحكّام، إلى آخر يتفيّأ بفيء القدريّة يحترم الخلفاء الأربع، ويرى الإنسان فاعلاً مختاراً وفعله متعلّقاً بنفسه. إلى ثالث يركب مطيّة الجبر ويرى الإنسان أداة طيّعة للقضاء والقدر.
وقد صنف أبو الحسن الأشعري بفرق المرجئة إلى :
1- الجهميَّة: أتباع الجهم بن صفوان، وهم يزعمون أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما والخوف منهما والعمل بالجوارح فليس بإيمان، وزعموا أن الكفر بالله هو الجهل به. كما زعمت الجهميّة أن الإنسان إذا أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه أنه لا يكفر بجحده، وأن الإيمان لا يتبعَّض ولا يتفاضل أهله فيه، وأن الإيمان والكفر لا يكونان إلا في القلب دون غيره من الجوارح.
2- الصالحيَّة: أتباع أبي الحسين الصالحي، وهم يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل به فقط؛ فلا إيمان بالله إلا المعرفة به، ولا كفر بالله إلا الجهل به، وأن قول القائل: إن الله ثالث ثلاثة ليس بكفرٍ، ولكنه لا يظهر إلا من كافر، وذلك أن الله سبحانه أَكْفَرَ من قال ذلك، وأجمع المسلمون أنه لا يقوله إلا كافر. وزعموا أن معرفة الله هي المحبة له وهي الخضوع لله، وأصحاب هذا القول لا يزعمون أن الإيمان بالله إيمان بالرسول، وأنه لا يؤمن بالله إذا جاء الرسول إلا من آمن بالرسول، ليس لأن ذلك يستحيل، ولكن لأن الرسول قال: ومن لا يؤمن بي فليس بمؤمن بالله. وزعموا أيضًا أن الصلاة ليست بعبادة لله، وأنه لا عبادة إلا الإيمان به وهو معرفته، والإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص وهو خصلة واحدة، وكذلك الكفر.
3- اليونسيَّة: أتباع يونس السمري، يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع له وهو ترك الاستكبار عليه والمحبة له، فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن. وزعموا أن إبليس كان عارفًا بالله غير أنه كَفَر باستكباره على الله، وهذا قول قوم من أصحاب يونس السمري. وزعموا أن الإنسان-وإن كان لا يكون مؤمنًا إلا بجميع الخِلال التي ذكرناها- قد يكون كافرًا بترك خَلَّة منها، ولم يكن يونس يقول بهذا.
4- النجاريَّة: أتباع الحسين بن محمد النجار، وهم يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله، وفرائضه المجتمَع عليها، والخضوع له بجميع ذلك، والإقرار باللسان، فمن جهل شيئًا من ذلك فقامت به عليه حُجَّة أو عَرَفه ولم يُقِرّ به كَفَر، ولم تسمِّ كل خصلة من ذلك إيمانًا كما حكينا عن أبي شمر. وزعموا أن الخصال التي هي إيمان إذا وقعت فكل خصلة منها طاعة، فإن فعلت خصلة منها ولم تفعل الأخرى لم تكن طاعةً كالمعرفة بالله إذا انفردت من الإقرار لم تكن طاعة؛ لأن الله أمرنا بالإيمان جملة أمرًا واحدًا، ومن لم يفعل ما أُمر به لم يطع.
وزعموا أن ترك كل خصلة من ذلك معصية، وأن الإنسان لا يكفر بترك خصلة واحدة، وأن الناس يتفاضلون في إيمانهم ويكون بعضهم أعلم بالله وأكثر تصديقًا له من بعض، وأن الإيمان يزيد ولا ينقص، وأن من كان مؤمنًا لا يزول عنه اسم الإيمان إلا بالكفر.
5- الغيلانيَّة: أصحاب أبي مروان غيلان بن مروان الدمشقي، وهم يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله الثانية، والمحبة والخضوع، والإقرار بما جاء به الرسول، وبما جاء من عند الله سبحانه، وذلك أن المعرفة الأولى عنده اضطرار؛ فلذلك لم يجعلها من الإيمان.
وذكر محمد بن شبيب عن الغيلانية أنهم يوافقون الشِّمْرية في الخصلة من الإيمان أنه لا يقال لها إيمان إذا انفردت، ولا يقال لها بعض إيمان إذا انفردت، وأن الإيمان لا يحتمل الزيادة والنقصان، وأنهم خالفوهم في العلم فزعموا أن العلم بأن الأشياء مُحْدَثةٌ مدبَّرة ضرورة، والعلم بأن مُحْدِثها ومدبِّرها ليس باثنين ولا أكثر من ذلك اكتساب، وجعلوا العلم بالنبي وبما جاء من عند الله اكتسابًا، وزعموا أنه من الإيمان إذا كان الذي جاء من عند الله منصوصًا بإجماع المسلمين، ولم يجعلوا شيئًا من الدين مستخرجًا إيمانًا.
6- الشبيبيَّة: أصحاب محمد بن شبيب، وهم يزعمون أن الإيمان الإقرار بالله، والمعرفة بأنه واحد ليس كمثله شيء، والإقرار والمعرفة بأنبياء الله وبرسله، وبجميع ما جاءت به من عند الله مما نصَّ عليه المسلمون ونقلوه عن رسول الله من الصلاة والصيام، وأشباه ذلك مما لا اختلاف فيه بينهم ولا تنازع. وأما ما كان من الدين نحو اختلاف الناس في الأشياء فإن الرادَّ للحق لا يكفر، وذلك أنه إيمان واستخراج ليس يردّ على رسول الله ما جاء به من عند الله سبحانه، ولا على المسلمين ما نقلوه عن نبيهم ونصوا عليه، والخضوع لله هو ترك الاستكبار.
7- التُّومنيَّة: أتباع أبي معاذ التومني، يزعمون أن الإيمان ما عصم من الكفر، وهو اسم لخصال إذا تركها التارك أو ترك خصلة منها كان كافرًا، فتلك الخصال التي يكفر بتركها وبترك خصلة منها إيمان، ولا يقال للخصلة منها إيمانٌ ولا بعض إيمان. وكل طاعة إذا تركها التارك لم يُجمِع المسلمون على كفره، فتلك الطاعة شريعة من شرائع الإيمان، تاركُها إن كانت فريضة يوصف بالفسق، فيقال له إنه فَسَق، ولا يسمَّى بالفسق ولا يقال فاسقٌ، وليس تُخرِج الكبائر من الإيمان إذا لم يكن كفرٌ.
8- الشِّمْريَّة: أصحاب أبي شمر ويونس، يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله والخضوع له والمحبة له بالقلب والإقرار به أنه واحد ليس كمثله شيء ما لم تقم عليه حجة الأنبياء، وإن كانت قامت عليه حجة الأنبياء فالإيمان الإقرار بهم والتصديق لهم، والمعرفة بما جاء من عند الله غير داخل في الإيمان، ولا يسمون كل خصلة من هذه الخصال إيمانًا ولا بعض إيمان حتى تجتمع هذه الخصال، فإذا اجتمعت سموها إيمانًا لاجتماعها، وشبَّهوا ذلك بالبياض إذا كان في دابة لم يسموها بَلْقاء ولا بعض أبلق حتى يجتمع السواد والبياض، فإذا اجتمعا في الدابة سمِّي ذلك بَلَقًا إذا كان بفرسٍ، فإن كان في جمل أو كلب سمِّي بَقَعًا، وجعلوا ترك الخصال كلها وترك كل خصلة منها كفرًا، ولم يجعلوا الإيمان متبعِّضًا ولا محتملاً للزيادة والنقصان.
9- الثوبانيَّة: أصحاب أبي ثَوبان، يزعمون أن الإيمان هو الإقرار بالله وبرسله، وما كان لا يجوز في العقل إلا أن يفعله، وما كان جائزًا في العقل أن لا يفعله فليس ذلك من الإيمان.
10- المريسيَّة: أتباع بشر المريسي، يقولون: إن الإيمان هو التصديق؛ لأن الإيمان في اللغة هو التصديق، وما ليس بتصديق فليس بإيمان. ويزعم أن التصديق يكون بالقلب وباللسان جميعًا، وإلى هذا القول كان يذهب ابن الرَّاوندِيِّ. وكان ابن الراوندي يزعم أن الكفر هو الجحد والإنكار والستر والتغطية، وليس يجوز أن يكون الكفر إلا ما كان في اللغة كفرًا، ولا يجوز أن يكون إيمانًا إلا ما كان في اللغة إيمانًا. وكان يزعم أن السجود للشمس ليس بكفر، ولكنه علامة على الكفر، لأن الله بيَّن لنا أنه لا يسجد للشمس إلا كافر.
11- الكَرَّاميَّة: أصحاب محمد بن كَرَّام السجستاني، يزعمون أن الإيمان هو الإقرار والتصديق باللسان دون القلب، وأنكروا أن يكون معرفة القلب أو شيءٌ غير التصديق باللسان إيمانًا. وزعموا أن المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله كانوا مؤمنين على الحقيقة، وزعموا أن الكفر بالله هو الجحود والإنكار له باللسان.
أراء المرجئة:
أراء المرجئة:
1- التوحيد والايمان عند المرجئة:
اختلف المرجئة في التوحيد وذلك تبعا لتباين اراء الفرق التي نسبت إلى الارجاء، فإذا كان ما يجمعها الإقرار بوحدانية الله، وانه أحمد صمد، وليس له شريك ولا ولد، نجدها اختلفت فيما عدا ذلك.
فمن المرجئة من قال بالتوحيد علي راي الجهمية" (المرجئة الجهمية) والمعتزلة بنفي الصفات وتأويلها، والقول بالقدر، بينما ذهب آخرون إلى التشبيه.
ويمكن أن نلاحظ اراء جهم من خلال المحاورة التي جرت بينه وبين أحد الفلاسفة يسأل فيها جهما عن ربه، فقال واصفا له الله عز وجل "لايري له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الابصار ولا يكون مكان دون مكان،.. وتبعه علي قوله رجال من ابي رجال من ابي حنيفة، واصحاب عمرو بين عبيد البصيرة.
2- الإيمان:
اختلف المرجئة في تعريف الايمان، فمنهم من يقول أن الايمان محله القلب، ومنهم من يضيف إقرار اللسان، مع اتفاقها علي إخراج العمل من الايمان.
3- أهل الذنوب عند المرجئة:
اجمعت المرجئة علي أن الايمان شيء واحد، لا يتبعض، وهو لا يزيد ولا ينقص، وانه لا يجتمعه في قلب واحد ايمان ونفاق، ولا يكون في اعمال العبد الواحد شعبة من الشرك وشعبة من الايمان، وقالوا من المحال أن يكون إنسان واحدا محمودا مذموما محسنا مسيئا عدو لله وليا لهمعا، لهذا قالت بإخراج الاعمال من مسمي الايمان، واخرجت العمل عن النية والعقد.
وكانت المرجئة قد اعترضت علي حكم الخوارج في مرتكب الكبيرة، وكان لهم في ذلك رايا معتبره بمثابة الرد علي الخوارج فقالوا: نظر الآن الايمان هو عمود الدين وليس العمل داخل في الايمان، وانه لا يضر مع الايمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فقد قرروا أن مرتكب الكيرة، مؤمن، وارجئوا امر معصيته إلى الله تعالى يوم القيامة ليحكم فيه ما يشاء، وجعلوا للعصاة اسم الايمان علي الكمال وانه لا حذر من المعاصي مع حصول الايمان.
والرجئة وافقت الفرق الاخري في سمية اهل الكبائر بالفستق، وذكر الملطي"... وكذلك المرجئة انما سموا اهل الكبائر مؤمنين بعدما سموهم فاسقين لأن الله سماهم فاسقين".
واختلف المرجئة في غفران اله الكبائر بالتوبة، فمنهم من قال أن غفرات الله الكبائر بالتوبة من باب التفضل، بينما ذهب آخرون انه استحقاق وليس بتفضل، ووافقوا المعتزلة بذلك.
4- الوعد والوعيد :
وقفت المرجئة موقف التضاد من الخوارج والمعتولة (الوعيدية)، فألقت بإيمان اصحاب الكبائر في الدنيا، وارجأت أمرهم إلى الله في الاخرة، ولهذا جاء تعريف الإرجاء بأنه: تأخير حكم صاحب الكبيرة من غير توبة إلى يوم القيامة، فلا يقضي عليه بحكم ما في الدنيا، فعلي هذا المرجئة والوعيدية فرقتان متقابلتان.
5-الولاء والبراء:
المرجئة لم تخرج عن الاجماع العام حول الولاية والبراءة، فقال بوجوب الولاية والبراء، فقالت بوجوب الولاية والبراءة، واثبتت ولاية المؤمنين الطائعين وان له في ذلك الطاعة والنصرة، اما البراءة فان المرجئة لم تقل بالبراءة إلا من الكافرين، أما العصاة من اهل القبلة فان المرجئة تساهلت في البراءة منهم لما معهم من الايمان.
اما صورة الولاية والعدواة، فان المرجئة لما قالت بالايمان، وانه لا ابعاض له ولايزيد ولا ينقص، لم تخرج صاحب الذنب الكبير من الايمان ولم تقل بخلده في النار، ولم تتبرا منه كما هو الحال عند الخوارج والمعتزلة، وقد أورد ابن حزمم"..وان المدح والاوية تكون للمرء في إتيانه صفة الايمان، سواء كانت بالقلب أو بالسان أو جميعها، وجعلت بعض فرق المرجئة الخالصة المحبة والايمان والاخلاص خصلة من الايمان، وان تاركها كافر.
أراء المرجئة في السياسية:
فيما يتعلق بالمرجئة من الناحية السياسية فقد كان موقفهم من الحكام والامامة هو الحجر الأساسي التي يرجع اليها الفقهاء والعلماء في العصر الحديث حول عدم شرعية الخروج علي الحكام، فقد اجاز علماء المرجئة وجود إمامين للمسلمين، فأجازوا امامة علي بن ابي طالب، وامة معاوية بن ابي سيفا، كما كانو من الذين يحرمون الخورج علي الخلفاء وولي الأمر، بدعو ارجاء كبائره وذنوبه إلى يوم القيامة، والأخرة، وفيما يتعلق بالامامة وحكم ولي الامر
الإمامة عند المرجئة:
الإمامة عند المرجئة:
المرجئة قد وافقت اجماع الامة علي وجوب الخلافة، وفي ذلك يقول ابن حزم" اتفق جميع اهل السنة وجميع المرجئة وجميع لشيعة وجميع الخوارج علي وجوب الامامة، وان الامة واجب عليها الانقياد لامام عادل يقيم فيها احكام الله ويسوسهم باحكام الشريعة التي اتي بها رسول الله".
وهو أيضا ما أشار إليه الماوردي بقوله:" الإمامة موضوع لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسية الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الامة واجب بالإجماع وان شذ عنهم الاصم، واختلف في وجوبها هل وجبت بالعقل أو بالشرع.."،: ويقول في موضع اخر" فإذا ثبت وجوب الامامة ففرضها علي الكفاية كالجهاد وطلب العلم، فإذا قام بها من هو من أهلها سقط- أي سقط عن الباقين-،...وان لم يقم بها احد، فخرج من الناس فريقان: احدهما اهل الاختيار حتى يختاروا اماما للامة، والثاني اهل الامامة حتى ينتصب احدهم للإمامة".
وعموما فإن المرجئة تري أن اختيار الخليفة حقا مشروعا سبيله الشوري بين المسلمين، ويستحقها كل من كان قائما بالكتاب والسنة.
ومال اغلب المرجئة إلى أن الامامة في قريش، فيما راوا الا جائز خارج قريش، وأجازوه وجود امامان في وقت واحد من باب تعدد الائمة. وقد اجاز المرجئة امام علي بن ابي طالب، وإمامة معاوية بن اب سفيان في وقت واحد
الخروج على الإمام عند المرجئة:
الخروج على الإمام
أغلب المرجئة من أوائل الذين حرموا الخروج عن الحكام، فقد كانت تسعي إلى قبول الكل في دائرة الإسلام، وحتى أئمة الفجور، فأثرت بذلك الموادعة ولم تقل بالخروج عليهم، وأرجأت حكمهم إلى الله، ولكن هناك بعض المرجئة خروج علي الحكام وثاروا على بني أُمية ومنهم عبد الرحمن بن الاشعث ولكن السواد الاعظم من المرجئة مع إطاعة الحاكم وعدم الخروج عليه.
فقد قبلت المرجئة الحكم الأموي، وأبطلت السيف والخروج على الامام، في ذلك تري أنه ما دامت انعقدت للإمام، وإن ارتكب الكبائر، فلا يجب الخروج عليه، بل يُرجأ الحكم عليه لما اقترف من الذنوب والآثام.
ولهذا يصفهم بعض الباحثين، بأنهم مثلوا دورا مهما في التوازن والاعتدال، وقد هيأوا الجو الفكري لقبول الحكم وإشاعة الاستقرار، بعد أن نشبت الحرب أظفارها في جسد الجماعة الإسلامية، فكانوا يرون الطاعة المطلقة للحاكم، حتى أباحوا الحكم المطلق وكان المأمون يقول "الارجاء دين الملوك وذلك لإرجائهم الأحكام".
حكم الدار عند المرجئة:
المرجئة أجمعت على أن الدار دار ايمان، وحكم اهلها الايمان، الا من ظهر من خلاف الايمان، وقد بنت موقفها علي الدار نتيجة لآرائهم المسبقة على أهل الخلافة والصحابة في الفتنة، فكانوا يؤمنون بحس إسلام الفريقين ويرجون الحكم عليهم إلى يوم القيامة، كما قالت بصحة خلافة عثمان وعلي ومعاوية لقولهم بكمال إيمانهم، وان اختلفوا فيما عدا ذلك.
كما ذهبت المرجئة إلى تحريم القتال بين المؤمنين لأنهم أهل لا اله إلا الله، في ذلك يقول أحد الشعراء:
واول ما نفارق بغير شك نفارق ما تقول المرجئونا
وقالوا مؤمن دمه حرام وقد حرمت دماء المؤمنين
وان من كان في دار الإسلام من المؤمنين، فان له الولاية والنصرة، ولهذا حدد لهم الايمان بأنه عقد القلب، قرر بأن من أعلن الكفر بلسانه بلا تقية وعبد الاوثان أو لزم اليهود أو النصرانية في دار الاسلان، وعبد الصليب وأعلن التثليث في دار السلام، ومات علي ذلك فهو مؤمن كامل عند الله من أهل الجنة".
ولكا قالت المرجئة أن الدار دار ايمان اجازت البيع والشراء الا ما عرف حرامًا بعينه لأن الاشياء على ظاهرها، وان اموال المسلمين في دار الإسلام مضمونة، أما من اسلم في دار الحرب ولن يهاجر إلى دار الإسلام فان امواله غير مضمونة بالإتلاف والغصب لأن نفسه غير مضمونة بالقصاص ولا بالدية، وحرمة ماله تابعة لحرمة النفس، وذلك لانعدام الولاية عليهم في دار الحرب.
المرجئة عبر التاريخ:
ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية، ورغم تحذير من المرجئة الا أن كتب التاريخ أشارت إلى أن أفكار المرجئة اصبحت مذهبًا متكاملًا في عهد الامويين، وكان العصر الذهبي للمرجئة وعلمائها في الاموي الذي كان أيضا فيه الاِمام الباقر عليه السلام المتوفى سنة ٩٤ هجرية، أي في الجيل الاَول من التابعين بعد الصحابة مباشرة.
وبعد ثورة ابن الأشعث، وبعد مصائب الحجاج بن يوسف الثقفي وهو والي بني أمية على العراق، وبعد ظهور الخوارج وتعظيمهم لجانب العمل، وتكفيرهم المسلمين بالكبائر ونحو ذلك؛ بعد هذه الأحداث ظهرت طائفة من الفقهاء في الكوفة وأخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، كان منهم حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة وغيره من أهل الكوفة الذين قالوا: إن العمل ليس من حقيقة الإيمان.
وكان الأمر في بدايته شبهة نظرية عند هؤلاء الكوفيين، ورد عليهم السلف ردوداً قوية، ومن أراد أن يراجعها يمكن أن يراجع كتاب السنة لـعبد الله ابن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، رد عليهم السلف ردوداً قوية، لكنهم لم يكونوا يعتبرون مثلاً أن من يوالي أعداء الله عز وجل ولاء تاماً ويتولاهم ويحبهم ويعاونهم على المسلمين مسلماً، وكذلك الطواف حول القبور والذبح لها والنذر لغير الله تعالى لم يكونوا يعتبرون أن هذا إسلاماً، بل كانوا يعتبرونه كفراً مخرجاً عن الملة.
ولعبت ثورة ابن الأشعث دورا كبيرا في تطور وانتشار المرجئة في العصر الاموي، فقد كان هناك جمهرة كبيرة من فقهاء الأمة شاركوا في ثورة ابن الأشعث علي الحكم الأموي.
فقدت بدأت ثورة ابن الأشعث بدأت سنة "81 هـ"، وانتهت بالهزيمة في نهاية سنة "83 هـ"، وقد شارك في هذه الثورة أعداد كبيرة من القراء، والفقهاء، فريق مع ابن الأشعث، وفريق مع الحجاج، وكان لهذه الثورة أثر في بروز المجادلات، فيما بعد، وملخص هذه الفتنة أن عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث بعثه الحجاج لقتال "قبيل صاحب الترك"، وكان هناك نوع من الكراهية بن الحجاج، وابن الأشعث .
وبعد أن قويت شوكة ابن الأشعث، وبإزاء سيرته الحسنة في الناس، وما أفاضه عليهم من الأعطيات، وعلاقته الطيبة بالفقهاء، والقراء، فقد بايعوه على خلع الحجاج، ومن أبرزهم ذر بن عبدالله الهمذاني الذي سيصبح من أبرز شخصيات الإرجاء، وأول من تكلم فيه أبو البحتري، الذي قام يحث الناس على قتال الحجاج، فقال: "أيها الناس، قاتلوهم على دينكم، ودنياكم، فوالله، لئن ظهروا عليكم، ليفسدن عليكم دينكم، ودنياكم، وقال الإمام الشعبي: "يأهل الإسلام، قاتلوهم، ولا يأخذكم حرج من قتالهم؛ فوالله، ما أعلم قوماً على بسيط الأرض، أعمل بظلم منهم"، وقال سعيد بن جبير: "قاتلوهم، ولا تأثموا، ولا يأخذكم حرج من قتالهم، بنية، ويقين، وعلى آثامهم قاتلوهمن على جورهم في الحكم، وتجبرهم في الدين، واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة.
وقد استمرت هذه الفتنة ثلاث سنوات، وأهل العراق، وبلاد فارس، وجند الشام، بقيادة الحجاج، يصطرعون، فريق مع ابن الأشعث، وفريق مع الحجاج، وكانت الحرب جولات، مرة لابن الأشعث، ومرة للحجاج، حتى حلت الهزيمة بابن الأشعث، وكانت هزيمة مرة، وعصيبة في الأمة، وفقهائها، وقرائها الذين أملوا الناس بالتخلص من الحجاج، وعسفه، وظلمه.
فاصبح المرجئة بعد هذه الواقعة كتلة كبيرة بسبب افكارهم حو الايمان والتكفير، وإن كانوا ـ كما يرى فون كريمر أحد المستشرقين ـ قد ألانوا من شدة عقائد اهل السنة باعتقادهم ( أنه لا يخلد مسلم مؤمن في النار ) وعلى العموم.
وقد اتهم بهذا الإرجاء جملة من الفقهاء العباد من علماء ؛ ومنهم: حماد بن أبي سليمان، وطلق بن حبيب العنزي، وعمر بن ذر الهمذاني، وإبراهيم بن يزيد بن شريك التميمي، ومحمد بن خازم "أبو معاوية الضرير"، وأبو حنيفة النعمان، وخارجة بن مصعب، وعبدالعزيز بن أبي رواد، ومحمد بن السائب بن بشر، ومسعر بن كدام، ومحارب بن دثار، وعون بن عبدالله بن مسعود، وموسى بن أبي كثير، وعباد بن منصور الناجي، وعباد بن كثير، وعبدالكريم بن أبي المخارق، وأصرم بن غياث، وسعيد بن سالم، والصلت بن مهران، وسالم بن عجلان الأفطس، وقيس بن عمرو الماصر.
ويقول ابن تيمية، مفصلاً لهذه البدعة: "وحدثت المرجئة، وكان أكثرهم من أهل الكوفة، ولم يكن أصحاب عبدالله من المرجئة، ولا إبراهيم النخعي، وأمثاله، فصاروا نقيض الخوارج، والمعتزلة؛ فقالوا: إن الأعمال ليست من الإيمان، وكانت هذه البدعة أخف البدع؛ فإن كثيراً من النزاع فيها نزاع في الاسم واللفظ، دون الحكم؛ إذ كان الفقهاء الذين يضاف إليهم هذا القول؛ مثل حماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة، وغيرهما، هم، مع سائر أهل السنة".
وانتشر مذهبهم حتى شمل أكثر الرواة وعلماء الدولة، ومن أعلامهم في ذلك العصر: إبراهيم النخعي وإبراهيم بن يزيد التيمي، ومن دونهما مثل سفيان الثوري وابن المبارك ووكيع وهشام وعلي بن عاصم.
وبزوال الدولة الأموية أفل نجم طائفة المرجئة ولم تصبح بعد طئفة، لانهم سقطوا سياسياً لا ثقافياً مسقوط الامويين، إلا أن أفكارهم ورواياتهم وعقائدهم في مصادر المسلمين بقيت حتى الأن.
ويقول أحد المستشرقين " فون كريمر": ومما يؤسف له كثيراً أنه ليس لدينا غير القيل من الاَخبار الصحيحة عن هذه الطائفة، فقد استمروا طوال ذلك العصر وذاقوا حلوه ومره، وقد ضاعت جميع المصادر التاريخية العربية عن الاَمويين، حتى أن أقدم المصادر التاريخية التي وصلت إلينا إنما ترجع إلى عهد العباسيين، ومن ثَمَّ كان لزوماً علينا أن نستقي معلوماتنا عن المرجئة من تلك الشذرات المبعثرة في مؤلفات كتاب العرب في ذلك العصر الثاني.
الجهمية أبرز فرق المرجئة:
الجهمية أبرز فرق
آراء هذه الطائفة لا تزال في بعض المجتمعات، الجهمية إحدى الفرق الكلامية التي تنتسب إلى الإسلام، ولها آراء خاطئة في مفهوم الإيمان وفي صفات الله تعالى وأسمائه، وترجع في نسبتها إلى مؤسسها الجهم بن صفوان الترمذي، وهو من أهل خراسان، ظهر في المائة الثانية من الهجرة سنة 2هـ، ويكني بأبي محرز، وهو من الجبرية الخالصة، وأول من ابتدع القول بخلق القرآن وتعطيل الله عن صفاته، وكان مولى لبني راسب إحدى قبائل الأزد، وكان من أخلص أصدقاء الحارث بن سريج إلى أن قتلا سنة 128 هـ، وقيل: إن الجهم قتل سنة 130، وقيل سنة 132هـ، وكان الجهم كثير الجدال والخصومات والمناظرات، وإلا أنه لم يكن له بصر بعلم الحديث ولم يكن من المهتمين به، إذ شغله علم الكلام عن ذلك.
كانت نقطة الانتشار لهذه الطائفة بلدة ترمذ التي ينتسب إليها الجهم، ومنها انتشرت في بقية خراسان، ثم تطورت فيما بعد وانتشرت بين العامة والخاصة، وقد ذكر ابن تيمة درجات الجهمية وقسمهم إلى ثلاث درجات: الدرجة الأولي: وهم الجهمية الغالية النافون لأسماء الله وصفاته، وإن سموه بشيء من الأسماء الحسني قالوا: هو مجاز.
الدرجة الثانية من الجهمية: وهم المعتزلة ونحوهم، الذين يقرون بأسماء الله الحسني في الجملة لكن ينفون صفاته.
الدرجة الثالثة: وهم قسم من الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية، ولكن فيهم نوع من التجهم، وهم الذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة ولكنهم يريدون طائفة من الأسماء، والصفات الخبرية وغير الخبرية ويؤولونها.
ومنهم من يقر بصفاته الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث كما عليه كثير من أهل الكلام والفقه، وطائفة من أهل الحديث، ومنهم من يقر بالصفات الواردة في الأخبار أيضاً في الجملة، لكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول، وذلك كأبي محمد بن كلاب ومن اتبعه، وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلى السنة المحضة أقرب منهم إلى الجهمية والرافضة والخوارج والقدرية.
وتعد أبرز عقائد الجهمية: تنزيه الله ونفي التشبيه وتأويل الآيات التي تشعر بالتشبيه، كيد الله ووجهه سبحانه وتعالى. ومن الصفات التي أولوها صفة الكلام، فكانوا يقولون إن كلام الله إنما هو داخل نفسه – سبحانه وتعالى – وترتب على ذلك القول بخلق القرآن، كما نفوا رؤية الله في الآخرة واحتجوا بقوله تعالى: { لا تدركه الأبصار }، وقالوا بأن طبيعة الإله أعلى من أن ترى بالأبصار البشرية.
ونفي صفات الله الأزلية، كالقدرة والإرادة والعلم، وقالوا بأن هذه الصفات هي عين ذاته، وليست مستقلة عنه؛ أي أنه ليس قادراً بقدرة غير ذاته، وليس مريداً بإرادة غير ذاته، وليس عالماً بعلم غير ذاته ..
والإنسان لا يوصف بالاستطاعة على الفعل، بل هو مجبور بما يخلقه الله من الأفعال مثل ما يخلقه في سائر الجمادات، ونسبة الفعل إليه إنما هو بطريق المجاز كما يقال جرى الماء وطلعت الشمس وتغيَّمت السماء .. إلى غير ذلك، وبسبب هذه النقطة يعدون من الجبرية.
والإيمان عقدٌ بالقلب وإن تلفظ الشخص بالكفر، وأن الإيمان لا يضر معه شيء، وبسبب هذه النقطة يعدون من المرجئة.
وأن الله موجود بالأمكنة كلها، فقد أخرج ابن خزيمة في التوحيد بسنده أن الجهم بن صفوان كان يوماً على جسر ترمذ فقيل له: صف لنا ربك، فدخل البيت لا يخرج، ثم خرج بعد أيام فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء.
والقول بفناء الجنة والنار، حيث قالو أنه لا يتصور حركات لا تتناهى أولاً فكذلك لا يتصوَّر حركاتٌ لا تتناهى آخراً، وحملوا قوله تعالى: { خالدين فيها أبداً } على المبالغة، واستدل الجهم بن صفوان على الانقطاع بقوله تعالى: { إلا ما شاء ربك }، وقال: (( ولو كان مؤبداً بلا انقطاع لما استثنى )).
واستمرت الجهمية بعد مقتل الجهم بن صفوان عام 128هـ، ولكن مع بداية القرن الثالث بدأت بالانحسار. ويرى بعض العلماء والمؤرخين أن الجهمية لم تنته فعلاً، فقد جاء بعدهم من وافقهم في بعض معتقداتهم. فقد وافقهم المعتزلة في نفيهم بعض صفات الله الأزلية، وتأويلهم للصفات التي تشعر بالتشبيه، وقولهم بأن القرآن مخلوق، ونفيهم رؤية الله في الآخرة.
الكلمات المفتاحية :
عقائد الفرق
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: