بَاب كرامات الأولياء 1
قَالَ
الأستاذ أَبُو القاسم: ظهور الكرامات عَلَى الأولياء جائز والدليل عَلَى جوازه
أَنَّهُ أمر موهوم حدوثه فِي العقل لا يؤدي حصوله إِلَى رفع أصل من الأصول فواجب
وصفه سبحانه بالقدرة عَلَى إيجاده
وإذا وجب كونه مقدورا لِلَّهِ سبحانه فلا شَيْء
يمنع جواز حصوله وظهور الكرامات علامة صدق من ظهرت عَلَيْهِ فِي أحواله، فمن لَمْ
يكن صادقا فظهور مثلها عَلَيْهِ لا يَجُوز، والذي يدل عَلَيْهِ أَن تعريف القديم
سبحانه إبانا حَتَّى تفرق بَيْنَ من كَانَ صادقا فِي أحواله وبين من هُوَ مبطل من
طريق الاستدلال أمر موهوم، ولا يَكُون ذَلِكَ إلا باختصاص الولي بِمَا لا يوجد
مَعَ المفتري فِي دعواه، وَذَلِكَ الأمر هُوَ الكرامة الَّتِي أشرنا إِلَيْهَا ولا
بد أَن تكون هذه الكرامة فعلا ناقضا للعادة فِي أَيَّام التكليف ظاهرا عَلَى موصوف
بالولاية فِي معنى تصديقه فِي حاله وتكلم النَّاس فِي الفرق بَيْنَ الكرامات وبين
المعجزات من أهل الحق فكان الإِمَام أَبُو إسحاق الإسفرايِيني رَحِمَهُ اللَّهُ
يَقُول: المعجزات دلالات صدق الأنبياء ودليل النبوة لا يوجد مَعَ غَيْر النَّبِي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أَن العقل المحكم لما كَانَ دليلا
للعالم فِي كونه عالما لَمْ يوجد إلا مِمَّن يَكُون عالما وَكَانَ يَقُول:
الأولياء لَهُمْ كرامات شبه إجابة الدعاء فأما جنس مَا هُوَ معجزة للأنبياء فلا،
وَأَمَّا الإِمَام أَبُو بَكْر بْن فورك رَحِمَهُ اللَّهُ فكان يَقُول: المعجزات
دلالات الصدق ثُمَّ إِن ادعى صاحبها النبوة فالمعجزات تَدُل عَلَى صدقه فِي
مقالته، وإن أشار صاحبها إِلَى الولاية المعجزة عَلَى صدقه فِي حاله، فتسمى كرامة
ولا تسمى معجزة، وإن كانت من جنس المعجزات دلت للفرق
وَكَانَ
رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: من الفرق بَيْنَ المعجزات والكرامات أَن الأنبياء
عَلَيْهِم السَّلام مأمورون بإظهارها والولي يجب عَلَيْهِ سترها وإخفاؤها والنبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعي ذَلِكَ ويقطع القول بِهِ والولي لا يدعيها
ولا يقطع بكرامته لجواز أَن يَكُون ذَلِكَ مكرا.
وَقَالَ:
أوحد فنه فِي وقته الْقَاضِي أَبُو بَكْر الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِن
المعجزات تختص بالأنبياء، والكرامات تكون للأولياء كَمَا تكون للأنبياء، ولا تكون
للأولياء معجزة، لأن من شرط المعجزة اقتران دعوى النبوة بِهَا والمعجزة لَمْ تكن
معجزة لعينها وإنما كانت معجزة لحصولها عَلَى أوصاف كثيرة، فَمَتَى اختل شرط من
تلك الشرائط لا تكون معجزة، وأحد تلك الشرائط دعوى النبوة، والولي لا يدعي النبوة،
والذي يظهر عَلَيْهِ لا يَكُون معجزة، وَهَذَا القول الَّذِي نعتمده ونقول بِهِ،
بَل ندين بِهِ فشرائط المعجزات كلها أَوْ أكثرها توجد فِي الكرامة إلا هَذَا الشرط
الْوَاحِد والكرامة فعل لا محالة محدث، لأن مَا كَانَ قديما لَمْ يكن لَهُ اختصاص
بأحد وَهُوَ ناقض للعادة وتحصل فِي زمان التكليف وتظهر عَلَى عَبْد تخصيصا لَهُ
وتفضيلا وَقَدْ تحصل باختياره ودعائه وَقَدْ لا تحصل، وَقَدْ تكون بغير اختياره
فِي بَعْض الأوقات، وَلَمْ يأمر الولي بدعاء الخلق إِلَى نَفْسه ولو أظهر شَيْئًا
من ذَلِكَ عَلَى من يَكُون أهلا لَهُ لجاز.
واختلف أهل
الحق فِي الولي هل يَجُوز أَن يعلم أَنَّهُ ولى أم لا، فكان الإِمَام أَبُو بَكْر
بْن فورك رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: لا يَجُوز ذَلِكَ لأنه يسلبه الخوف ويوجب لَهُ
الأمن وَكَانَ الأستاذ أَبُو عَلِي الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول بجوازه وَهُوَ
الَّذِي نؤثره ونقول بِهِ وليس ذَلِكَ بواجب فِي جَمِيع الأولياء حَتَّى يَكُون
كُل ولي يعلم أَنَّهُ ولي واجبا ولكن يَجُوز أَن يعلم بَعْضهم كَمَا يَجُوز أَن لا
يعلم بَعْضهم فَإِذَا علم بَعْضهم أَنَّهُ ولي كانت معرفته تلك كرامة لَهُ انفرد
بِهَا
وليس كُل
كرامة لولي يجب أَن تكون تلك بعينها لجميع الأولياء، بَل لو لَمْ يكن للولي كرامة
ظاهرة عَلَيْهِ فِي الدنيا لَمْ يقدح عدمها فِي كونه وليا بخلاف الأنبياء
فَإِنَّهُ يجب أَن تكون لَهُمْ معجزات، لأن النَّبِي مبعوث إِلَى الخلق فبالناس
حاجة إِلَى معرفة صدقة ولا يعرف إلا بالمعجزة وبعكس ذَلِكَ حال الولي لأنه لَيْسَ
بواجب عَلَى الخلق ولا عَلَى الولي أَيْضًا العلم بأنه ولى والشعرة من الصَّحَابَة
صدقوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخبرهم بِهِ أنهم من أهل
الْجَنَّة.
وقول من
قَالَ لا يَجُوز ذَلِكَ لأنه يخرجهم من الخوف فلا بأس أَن يخافوا تغيير العاقبة
والذي يجدونه فِي قلوبهم من الهيبة لا يَجُوز ذَلِكَ لأنه يخرجهم من الخوف فلا بأس
أَن يخافوا تغيير العاقبة والذي يجدونه فِي قلوبهم من الهيبة والتعظيم والإجلال
للحق سبحانه يَزِيد ويربو عَلَى كثير من الخوف.
واعلم
أَنَّهُ لَيْسَ للولي مساكنة إِلَى الكرامة الَّتِي تظهر عَلَيْهِ ولا لَهُ ملاحظة
فربما يَكُون لَهُمْ فِي ظهور جنسها قوة يقين وزيادة بصيرة لتحققهم أَن ذَلِكَ فعل
اللَّه فيستدلون بِهَا عَلَى صحة مَا هُمْ عَلَيْهِ من العقائد وبالجملة فالقول
بجواز ظهورها عَلَى الأولياء واجب وعليه جمهور أهل المعرفة، ولكثرة مَا تواتر
بأجناسها الأخبار والحكايات صار العلم بكونها وظهورها عَلَى الأولياء فِي الجملة
علما قويا انتفى عَنْهُ الشكوك، ومن توسط هذه الطائفة وتواتر عَلَيْهِ حكاياتهم
وأخبارهم لَمْ تبق لَهُ شبهة فِي ذَلِكَ عَلَى الجملة.
ومن دلائل
هذه الجملة نص الْقُرْآن فِي قصة سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلام حيث قَالَ: {أَنَا
آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] وَلَمْ يكن
نبيا والأثر عَن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
صحيح أَنَّهُ.
قَالَ: يا
سارية الجبل فِي حال خطبته يَوْم الجمعة وتبليغ صوت عُمَر إِلَى سارية فِي ذَلِكَ
الوقت حَتَّى تحرزوا من مكامن العدو من الجبل فِي تلك الساعة.
فَإِن قيل:
كَيْفَ يَجُوز إظهار هذه الكرامات الزائدة فِي المعاني عَلَى معجزات الرسل، وهل
يَجُوز تفضيل الأولياء عَلَى الأنبياء عَلَيْهِم السَّلام.
قيل: هذه
الكرامات لاحقة بمعجزات نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن كُل من
لَيْسَ بصادق فِي الإِسْلام
لا تظهر
عَلَيْهِ الكرامة، وكل نبي ظهرت كرامته عَلَى واحد من أمته فَهِيَ معدومة من جملة
معجزاته، إذ لو لَمْ يكن ذَلِكَ الرسول صادقا لَمْ تظهر عَلَى يد من قَالَ: تابعه
الكرامة، فأما رتبة الأولياء فلا تبلغ رتبة الأنبياء عَلَيْهِم السَّلام للإجماع
المنعقد عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا أَبُو يَزِيد البسطامي سئل عَن هذه المسألة.
فَقَالَ:
مثل مَا حصل للأنبياء عَلَيْهِم السَّلام كمثل زق فِيهِ عسل ترشح منه قطرة فتلك
القطرة مثل مَا لجميع الأولياء وَمَا فِي الظرف مثل لنبينا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فصل ثُمَّ
هذه الكرامات قَدْ تكون إجابة دعوة وَقَدْ تكون إظهار طَعَام فِي أوان فاقة من
غَيْر سبب ظاهر أَوْ حصول ماء فِي زمان عطش، أَوْ تسهيل قطع مسافة فِي مدة قريبة،
أَوْ تخليص من عدم، أَوْ سماع خطاب من هاتف أَوْ غَيْر ذَلِكَ من فنون الأفعال
الناقضة للعادة.
واعلم أَن
كثيرا من المقدورات يعلم اليوم قطعا أَنَّهُ لا يَجُوز أَن يظهر كرامة للأولياء
وبضرورة أَوْ شبه ضرورة يعلم ذَلِكَ، فمنها حصول إِنْسَان لا من أبوين وقلب جماد
بهيمة أَوْ حيوان وأمثال هَذَا كثير.
فصل فَإِن
قيل: فَمَا معنى الولي؟ قيل: يحتمل أمرين أحدهما: أَن يَكُون فعيلا مبالغة من
الفاعل كالعليم والقدير وغيره، ويكون معناه من توالت طاعته من غَيْر تخلل معصية،
ويجوز أَن يَكُون فعيلا بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول وجريح بمعنى مجروح، وَهُوَ
الَّذِي يتولى الحق سبحانه حفظه وحراسته عَلَى الإدامة والتوالي فلا يخلق لَهُ
الخذلان الَّذِي هُوَ قدر العصيان وإنما يديم توفيقه الَّذِي هُوَ قدرة الطاعة.
قَالَ
اللَّه تَعَالَى: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] .
فصل فَإِن
قيل: فهل يَكُون الولي معصوما؟ قيل: إِمَّا وجوبا كَمَا يقال فِي الأنبياء فلا،
وإما أَن يَكُون محفوظا حَتَّى لا يصر عَلَى الذنوب إِن حصلت هنات أَوْ آفات أَوْ
زلات فلا يمتنع ذَلِكَ فِي وصفهم، ولقد قيل للجنيد: العارف يزنى يا أبا القاسم
فأطرق مليا ثُمَّ رفع رأسه وَقَالَ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}
[الأحزاب: 38] .
فصل فَإِن
قيل: فهل يسقط الخوف عَنِ الأولياء؟ قيل: أما الغالب عَلَى الأكابر فكان الخوف
وَذَلِكَ الَّذِي قُلْنَا فيما تقدم عَلَى جهة الندرة غَيْر ممتنع، وَهَذَا السري
السقطي يَقُول: لو أَن واحدا دَخَلَ بستانا فِيهِ أشجار كثيرة وعلى كُل شجرة طير
يَقُول لَهُ بلسان فصيح: السَّلام عليك يا ولي اللَّه فلو لَمْ يخف أَنَّهُ مكر
لكان ممكورا وأمثال هذه من حكاياتهم كثيرة.
فصل فَإِن
قيل: فهل تجوز رؤية اللَّه بالأبصار اليوم فِي الدنيا عَلَى جهة الكرامة.
فالجواب
عَنْهُ أَن الأقوى فِيهِ أَنَّهُ لا يَجُوز لحصول الإجماع عَلَيْهِ ولقد سمعت
الإِمَام أبا بَكْر بْن فورك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يحكي عَن أَبِي الْحَسَن
الأشعري أَنَّهُ قَالَ: فِي ذَلِكَ قولين فِي كتاب الرؤية الكبير.
فصل فَإِن
قيل: فهل يَجُوز أَن يَكُون وليا فِي الحال ثُمَّ تتغير عاقبته.
قيل: من جعل
من شرط الولاية حسن الموافاة لا يَجُوز ذَلِكَ، ومن قَالَ: إنه فِي الحال مؤمن
عَلَى الحقيقة وإن جاز أَن يتغير حاله بَعْد لا يبعد أَن يَكُون وليا فِي الحال
صديقا ثُمَّ يتغير وَهَذَا الَّذِي نختاره نحن، ويجوز أَن يَكُون من جملة كرامات
ولي أَن يعلم أَنَّهُ مأمون العاقبة، وأنه لا نتغير عاقبته فلتلتحق هذه المسألة بِمَا
ذَكَرْنَا أَن المولى يَجُوز أَن يعلم أَنَّهُ ولى.
فصل فَإِن
قيل: فهل يزايل الولي خوف المكر قيل: إِن كَانَ مصطلما عَن شاهده مختطفا عَن
إحساسه بحاله فَهُوَ مستهلك عَن فيما استولى عَلَيْهِ، والخوف من صفات الحاضرين
بِهِمْ.
فصل فَإِن
قيل: فَمَا الغالب عَلَى الولي فِي حال صحوه؟ قيل صدقه فِي أداء حقوقه سبحانه
ثُمَّ رفقه وشفقته عَلَى الخلق فِي جَمِيع أحواله، ثُمَّ انبساط رحمته لكافة
الخلق، ثُمَّ دوام تحمله عَنْهُم بجميل الخلق وابتدائه لطلب الإحسان من اللَّه
عَزَّ وَجَلَّ إليهم من غَيْر التماس مِنْهُم وتعليق الهمة بنجاة الخلق وترك
الانتقام مِنْهُم والتوقي عَنِ استشعار حقد عَلَيْهِم مَعَ قصر اليد عَن أموالهم
وترك الطمع بكل وجه، وقبض اللسان عَن بسطه بالسوء فيهم، والتصاون عَن شهود مساويهم
ولا يَكُون خصما لأحد فِي الدنيا ولا فِي الآخرة.
واعلم أَن،
أجل الكرامات الَّتِي تكون للأولياء: دوام التوفيق للطاعات، والعصمة عَنِ المعاصي
والمخالفات، ومما يشهد من الْقُرْآن عَلَى إظهار الكرامات عَلَى الأولياء قَوْله
سبحانه فِي صفة مريم عَلَيْهَا السَّلام وَلَمْ تكن نبيا ولا رسولا: {كُلَّمَا
دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران:
37] وَكَانَ يَقُول: {أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37] فتقول مريم: {هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 37] وقوله سبحانه: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ
النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25] وَكَانَ فِي غَيْر
أوان الرطب، وَكَذَلِكَ قصة أَصْحَاب الكهف والأعاجيب الَّتِي ظهرت عَلَيْهِم من
كَلام الكلب معهم وغير ذَلِكَ، ومن ذَلِكَ قصة ذي القرنين وتمكينه سبحانه لَهُ
مِمَّا لَمْ يمكن لغيره، ومن ذَلِكَ: مَا أظهر عَلَى يد الخضر عَلَيْهِ السَّلام
من إقامة الجدار وغيره من الأعاجيب وَمَا كَانَ يعرفه مِمَّا خفى عَلَى مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلام كُل ذَلِكَ أمور ناقضة للعادة اختص الخضر عَلَيْهِ السَّلام
بِهَا وَلَمْ يكن نبيا، وإنما كَانَ وليا.
الكلمات المفتاحية :
التربية و السلوك
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: