كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده
كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده
اختلف الصدر الأول رضي الله عنهم في كتابة الحديث: فمنهم من كره كتابة الحديث والعلم وأمروا بحفظه.
ومنهم من أجاز ذلك.
وممن روينا عنه كراهة ذلك عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى وأبو سعيد الخدري، في جماعة آخرين من الصحابة والتابعين.
وروينا عن أبي سعيد الخدري: أن النبي قال: " لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه ". أخرجه مسلم في صحيحه.
وممن روينا عنه إباحة ذلك أو فعله علي وابنه الحسن وأنس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص، في جمع آخرين من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.
ومن صحيح حديث رسول الله الدال على جواز: ذلك حديث أبي شاه اليمني في التماسه من رسول الله أن يكتب له شيئا سمعه من خطبته عام فتح مكة وقوله : " اكتبوا لأبي شاه ".
ولعله أذن في الكتابة عنه لمن خشي عليه النسيان ونهى عن الكتابة عنه من وثق بحفظه مخافة الاتكال على الكتاب. أو نهى عن كتابة ذلك حين خاف عليهم اختلاط ذلك بصحف القرآن العظيم وأذن في كتابته حين أمن من ذلك.
وأخبرنا أبو الفتح بن عبد المنعم الفراوي - قراءة عليه بنيسابور جبرها الله - أخبرنا أبو المعالي الفارسي: أخبرنا الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن بشران: أخبرنا أبو عمرو بن السماك: حدثنا حنبل بن إسحاق: حدثنا سليمان بن أحمد: حدثنا الوليد هو ابن مسلم قال: كان الأوزاعي يقول: كان هذا العلم كريما يتلاقاه الرجال بينهم فلما دخل في الكتب دخل فيه غير أهله.
ثم إنه زال ذلك الخلاف وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة، والله أعلم.
ثم إن على كتبة الحديث وطلبته صرف الهمة إلى ضبط ما يكتبونه أو يحصلونه بخط الغير من مروياتهم على الوجه الذي رووه شكلا ونقطا يؤمن معهما الالتباس. وكثيرا ما يتهاون بذلك الواثق بذهنه وتيقظه، وذلك وخيم العاقبة، فإن الإنسان معرض للنسيان، وأول ناسٍ أول الناس وإعجام المكتوب يمنع من استعجامه وشكله يمنع من أشكاله.
ثم لا ينبغي أن يتعنى بتقييد الواضح الذي لا يكاد يلتبس. وقد أحسن من قال: إنما يُشكَل ما يُشكِل. وقرأت بخط صاحب كتاب سمات الخط ورقومه علي بن إبراهيم البغدادي فيه: أن أهل العلم يكرهون الإعجام والإعراب إلا في الملتبس. وحكى غيره عن قوم أنه ينبغي أن يشكل ما يشكل وما لا يشكل وذلك لأن المبتدئ وغير المتبحر في العلم لا يميز ما يشكل مما لا يشكل ولا صواب الإعراب من خطئه، والله أعلم.
وهذا بيان أمور مفيدة في ذلك:
إحداها: ينبغي أن يكون اعتناؤه - من بين ما يلتبس - بضبط الملتبس من أسماء الناس أكثر، فإنها لا تستدرك بالمعنى ولا يستدل عليها بما قبل وبعُد.
الثاني: يستحب في الألفاظ المشكلة أن يكرر ضبطها بأن يضبطها في متن الكتاب ثم يكتبها قبالة ذلك في الحاشية مفردة مضبوطة، فإن ذلك أبلغ في إبانتها وأبعد من التباسها، وما ضبطه في أثناء الأسطر بما داخله نقط غيره وشكله مما فوقه وتحته لاسيما عند دقة الخط وضيق الأسطر، وبهذا جرى رسم جماعة من أهل الضبط، والله أعلم.
الثالث: يكره الخط الدقيق من غير عذر يقتضيه. روينا عن حنبل بن إسحاق: قال رآني أحمد بن حنبل وأنا أكتب خطا دقيقا، فقال: لا تفعل، أحوج ما تكون إليه يخونك. وبلغنا عن بعض المشايخ أنه كان إذا رأى خطا دقيقا قال: هذا خط من لا يوقن بالخلف من الله.
والعذر في ذلك هو مثل أن لا يجد في الورق سعة أو يكون رحالا يحتاج إلى تدقيق الخط ليخف عليه محمل كتابه ونحو هذا، والله أعلم.
الرابع: يختار له في خطه التحقيق دون المشق والتعليق. بلغنا عن ابن قتيبة قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: شر الكتابة المشق وشر القراءة الهذرمة وأجود الخط أبينه، والله أعلم.
الخامس: كما تضبط الحروف المعجمة بالنقط كذلك ينبغي أن تضبط المهملات غير المعجمة بعلامة الإهمال لتدل على عدم إعجامها. وسبيل الناس في ضبطها مختلف:
فمنهم من يقلب النقط فيجعل النقط الذي فوق المعجمات تحت ما يشاكلها من المهملات، فينقط تحت الراء والصاد والطاء والعين ونحوها من المهملات.
وذكر بعض هؤلاء أن النقط التي تحت السين المهملة تكون مبسوطة صفا والتي فوق السين المعجمة تكون كالأثافي.
ومن الناس من يجعل علامة الإهمال فوق الحروف المهملة كقلامة الظفر مضطجعة على قفاها.
ومنهم من يجعل تحت الحاء المهملة حاء مفردة صغيرة، وكذا تحت الدال والطاء والصاد والسين والعين، وسائر الحروف المهملة الملتبسة مثل ذلك.
فهذه وجوه من علامات الإهمال شائعة معروفة.
وهناك من العلامات ما هو موجود في كثير من الكتب القديمة ولا يفطن له الكثيرون، كعلامة من يجعل فوق الحرف المهمل خطا صغيرا وكعلامة من يجعل تحت الحرف المهمل مثل الهمزة، والله أعلم.
السادس: لا ينبغي أن يصطلح مع نفسه في كتابه بما لا يفهمه غيره فيوقع غيره في حيرة، كفعل من يجمع في كتابه بين روايات مختلفة ويرمز إلى رواية كل راو بحرف واحد من اسمه أو حرفين وما أشبه ذلك. فإن بين - في أول كتابه أو آخره - مراده بتلك العلامات والرموز فلا بأس. ومع ذلك فالأولى أن يتجنب الرمز ويكتب عند كل رواية اسم راويها بكماله مختصرا ولا يقتصر على العلامة ببعضه، والله أعلم.
السابع: ينبغي أن يجعل بين كل حديثين دارة تفصل بينهما وتميز. وممن بلغنا عنه ذلك من الأئمة أبو الزناد وأحمد بن حنبل وإبراهيم بن إسحاق الحربي ومحمد بن جرير الطبري رضي الله عنهم.
واستحب الخطيب الحافظ أن تكون الدارات غفلا، فإذا عارض فكل حديث يفرغ من عرضه ينقط في الدارة التي تليه نقطة أو يخط في وسطها خطا. قال: وقد كان بعض أهل العلم لا يعتد من سماعه إلا بما كان كذلك أو في معناه، والله أعلم.
الثامن: يكره له في مثل عبد الله بن فلان بن فلان أن يكتب عبد في آخر سطر والباقي في أول السطر الآخر. وكذلك يكره في عبد الرحمن بن فلان وفي سائر الأسماء المشتملة على التعبيد لله تعالى أن يكتب عبدا في آخر سطر، واسم الله مع سائر النسب في أول السطر الآخر. وهكذا يكره أن يكتب قال رسول في آخر سطر، ويكتب في أول السطر الذي يليه الله وما أشبه ذلك، والله أعلم.
التاسع: ينبغي له أن يحافظ على كِتْبَة الصلاة والتسليم على رسول الله عند ذكره ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكرره، فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك حرم حظا عظيما، وقد روينا لأهل ذلك منامات صالحة.
وما يكتبه من ذلك فهو دعاء يثبته لا كلام يرويه، فلذلك لا يتقيد فيه بالرواية ولا يقتصر فيه على ما في الأصل.
وهكذا الأمر في الثناء على الله سبحانه عند ذكر اسمه، نحو عز وجل وتبارك وتعالى وما ضاهى ذلك. وإذا وجد شيء من ذلك قد جاءت به الرواية كانت العناية بإثباته وضبطه أكثر. وما وجد في خط أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه من إغفال ذلك عند ذكر اسم النبي : فلعل سببه أنه كان يرى التقيد في ذلك بالرواية، وعز عليه اتصالها في ذلك في جميع من فوقه من الرواة.
قال الخطيب أبو بكر: وبلغني أنه كان يصلي على النبي نطقا لا خطا. قال: وقد خالفه غيره من الأئمة المتقدمين في ذلك.
وروي عن علي بن المديني وعباس بن عبد العظيم العنبري قالا: ما تركنا الصلاة على رسول الله في كل حديث سمعناه، وربما عجلنا فنبيض الكتاب في كل حديث حتى نرجع إليه، والله أعلم.
ثم ليتجنب في إثباتها نقصين:
أحدهما: أن يكتبها منقوصة صورة رامزا إليها بحرفين، أو نحو ذلك.
والثاني: أن يكتبها منقوصة معنى بأن لا يكتب وسلم وإن وجد ذلك في خط بعض المتقدمين. سمعت أبا القاسم منصور بن عبد المنعم وأم المؤيد بنت أبي القاسم بقراءتي عليهما قالا: سمعنا أبا البركات عبد الله بن محمد الفراوي لفظا، قال: سمعت المقري ظريف بن محمد يقول: سمعت عبد الله بن محمد بن إسحاق الحافظ قال: سمعت أبي يقول: سمعت حمزة الكناني يقول: كنت أكتب الحديث وكنت أكتب عند ذكر النبي صلى الله عليه ولا أكتب وسلم، فرأيت النبي في المنام، فقال لي: ما لك لا تتم الصلاة علي؟ قال: فما كتبت بعد ذلك صلى الله عليه إلا كتبت وسلم.
وقع في الأصل في شيخ المقري ظريف عبد الله وإنما هو عبيد الله بالتصغير، ومحمد بن إسحاق أبوه، هو أبو عبد الله بن منده، فقوله الحافظ إذا مجرور.
قلت: ويكره أيضا الاقتصار على قوله عليه السلام، والله أعلم.
العاشر: على الطالب مقابلة كتابه بأصل سماعه وكتاب شيخه الذي يرويه عنه، وإن كان إجازة.
روينا عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما أنه قال لابنه هشام: كتبت؟ قال: نعم، قال: عرضت كتابك؟ قال: لا، قال: لم تكتب.
وروينا عن الشافعي الإمام وعن يحيى بن أبي كثير قالا: من كتب ولم يعارض كمن دخل الخلاء ولم يستنج.
وعن الأخفش قال: إذا نُسِخَ الكتاب ولم يعارض ثم نسخ ولم يعارض خرج أعجميا.
ثم إن أفضل المعارضة: أن يعارض الطالب بنفسه كتابه بكتاب الشيخ مع الشيخ في حال تحديثه إياه من كتابه، لما يجمع ذلك من وجوه الاحتياط والإتقان من الجانبين. وما لم تجتمع فيه هذه الأوصاف نقص من مرتبته بقدر ما فاته منها. وما ذكرناه أولى من إطلاق أبي الفضل الجارودي الحافظ الهروي قوله: أصدق المعارضة مع نفسك.
ويستحب أن ينظر معه في نسخته من حضر من السامعين ممن ليس معه نسخة، لاسيما إذا أراد النقل منها وقد روي عن يحيى بن معين: أنه سئل عمن لم ينظر في الكتاب والمحدث يقرأ، هل يجوز أن يحدث بذلك؟ فقال: أما عندي فلا يجوز، ولكن عامة الشيوخ هكذا سماعهم.
قلت: وهذا من مذاهب أهل التشديد في الرواية، وسيأتي ذكر مذهبهم إن شاء الله تعالى. والصحيح: أن ذلك لا يشترط، وأنه يصح السماع وإن لم ينظر أصلا في الكتاب حالة القراءة، وأنه لا يشترط أن يقابله بنفسه بل يكفيه مقابلة نسخته بأصل الراوي وإن لم يكن ذلك حالة القراءة وإن كانت المقابلة على يدي غيره إذا كان ثقة موثوقا بضبطه.
قلت: وجائز أن تكون مقابلته بفرع قد قوبل المقابلة المشروطة بأصل شيخه أصل السماع، وكذلك إذا قابل بأصل أصل الشيخ المقابل به أصل الشيخ، لأن الغرض المطلوب أن يكون كتاب الطالب مطابقا لأصل سماعه وكتاب شيخه، فسواء حصل ذلك بواسطة أو بغير واسطة.
ولا يجزي ذلك عند من قال: لا تصح مقابلته مع أحد غير نفسه، ولا يقلد غيره، ولا يكون بينه وبين كتاب الشيخ واسطة، وليقابل نسخته بالأصل بنفسه حرفا حرفا حتى يكون على ثقة ويقين من مطابقتها له. وهذا مذهب متروك، وهو من مذاهب أهل التشديد المرفوضة في أعصارنا، والله أعلم.
أما إذا لم يعارض كتابه بالأصل أصلا: فقد سئل الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني عن جواز روايته منه فأجاز ذلك. وأجازه الحافظ أبو بكر الخطيب أيضا وبين شرطه. فذكر أنه يشترط أن تكون نسخته نقلت من الأصل، وأن يبين عند الرواية أنه لم يعارض. وحكى عن شيخه أبي بكر البرقاني أنه سأل أبا بكر الإسماعيلي: هل للرجل أن يحدث بما كتب عن الشيخ ولم يعارض بأصله؟ فقال: نعم، ولكن لابدَّ أن يبين أنه لم يعارض، قال: وهذا هو مذهب أبي بكر البرقاوني، فإنه روى لنا أحاديث كثيرة قال فيها أخبرنا فلان، ولم أعارض بالأصل.
قلت: ولابد من شرط ثالث، وهو: أن يكون ناقل النسخة من الأصل غير سقيم النقل، بل صحيح النقل قليل السقط، والله أعلم.
ثم إنه ينبغي أن يراعي في كتاب شيخه بالنسبة إلي من فوقه مثل ما ذكرنا أنه يراعيه من كتابه، ولا يكونن كطائفة من الطلبة: إذا رأوا سماع شيخ لكتاب قرأوه عليه من أي نسخة اتفقت، والله أعلم.
الحادي عشر: المختار في كيفية تخريج الساقط في الحواشي - ويسمى اللحق بفتح الحاء - وهو أن يخط من موضع سقوطه من السطر خطا صاعدا إلى فوق، ثم يعطفه بين السطرين عطفه يسيرة إلى جهة الحاشية، التي يكتب فيها اللحق ويبدأ في الحاشية بكتبة اللحق مقابلا للخط المنعطف، وليكن ذلك في حاشية ذات اليمين. وإن كانت تلي وسط الورقة إن اتسعت له فليكتبه صاعدا إلى أعلى الورقة، لا نازلا به إلى أسفل.
قلت: فإذا كان اللحق سطرين أو سطورا فلا يبتدئ بسطوره من أسفل إلى أعلى، بل ويبتدئ بها من أعلى إلى أسفل، بحيث يكون منتهاها إلى جهة باطن الورقة إذا كان التخريج في جهة اليمين، وإذا كان في جهة الشمال وقع منتهاها إلى جهة طرف الورقة. ثم يكتب عند انتهاء اللحق صح. ومنهم من يكتب مع صح رجع.
ومنهم من يكتب في آخر اللحق الكلمة المتصلة به داخل الكتاب في موضع التخريج، ليؤذن باتصال الكلام، وهذا اختيار بعض أهل الصنعة من أهل المغرب، واختيار القاضي أبي محمد بن خلاد صاحب كتاب الفاصل بين الراوي والواعي من أهل المشرق مع طائفة. وليس ذلك بمرضي، إذ ربَّ كلمة تجئ في الكلام مكررة حقيقة، فهذا التكرير يوقع بعض الناس في توهم مثل ذلك في بعضه.
واختار القاضي ابن خلاد أيضا في كتابه أن يمد عطفة خط التخريج من موضعه حتى يلحقه بأول اللحق بالحاشية. وهذا أيضا غير مرضي، فإنه وإن كان فيه زيادة بيان فهو تسخيم للكتاب وتسويد له، لاسيما عند كثرة الإلحاقات، والله أعلم.
وإنما اخترنا كتبة اللحق صاعدا إلى أعلى الورقة، لئلا يخرج بعده نقص آخر فلا يجد ما يقابله من الحاشية فارغا له، لو كان كتب الأول نازلا إلى أسفل. وإذا كتب الأول صاعدا فما يجد بعد ذلك من نقص يجد ما يقابله من الحاشية فارغا له.
وقلنا أيضا يخرجه في جهة اليمين، لأنه لو خرجه إلى جهة الشمال فربما ظهر بعده في السطر نفسه نقص آخر، فإن خرجه قدامه إلى جهة الشمال أيضا وقع بين التخريجين إشكال. وإن خرج الثاني إلى جهة اليمين التقت عطفة تخريج جهة الشمال وعطفة تخريج جهة اليمين أو تقابلتا، فأشبه ذلك الضرب على ما بينهما، بخلاف ما إذا خرج الأول إلى جهة اليمين: فإنه حينئذ يخرج الثاني إلى جهة الشمال، فلا يلتقيان ولا يلزم إشكال، اللهم إلا أن يتأخر النقص إلى آخر السطر، فلا وجه حينئذ إلا تخريجه إلى جهة الشمال لقربه منها، ولانتفاء العلة المذكورة من حيث إنا لا نخشى ظهور نقص بعده.
وإذا كان النقص في أول السطر تأكد تخريجه إلى جهة اليمين، لما ذكرناه من القرب مع ما سبق.
وأما ما يخرج في الحواشي - من شرح، أو تنبيه على غلط، أو اختلاف رواية، أو نسخة أو نحو ذلك، مما ليس من الأصل - فقد ذهب القاضي الحافظ عياض رحمه الله إلى أنه لا يخرج لذلك خط تخريج، لئلا يدخل اللبس ويحسب من الأصل، وأنه لا يخرج إلا لما هو من نفس الأصل، لكن ربما جعل على الحرف المقصود بذلك التخريج علامة كالضبة أو التصحيح إيذانا به.
قلت: التخريج أولى وأدل، وفي نفس هذا المخرج ما يمنع الإلباس. ثم هذا التخريج يخالف التخريج لما هو من نفس الأصل: في أن خط ذلك التخريج يقع بين الكلمتين اللتين بينهما سقط الساقط، وخط هذا التخريج يقع على نفس الكلمة التي من أجلها خرج المخرج في الحاشية، والله أعلم.
الثاني عشر: من شأن الحذاق المتقنيين العناية بالتصحيح والتضبيب والتمريض.
أما التصحيح: فهو كتابة صح على الكلام أو عنده، ولا يفعل ذلك إلا فيما صح رواية ومعنى، غير أنه عرضة للشك أو الخلاف، فيكتب عليه صح ليعرف أنه لم يغفل عنه، وأنه قد ضبط وصح على ذلك الوجه.
وأما التضبيب، ويسمى أيضا التمريض، فيجعل على ما صح وروده كذلك من جهة النقل، غير أنه فاسد لفظا أو معنى، أو ضعيف، أو ناقص، مثل: أن يكون غير جائز من حيث العربية، أو: يكون شاذا عند أهلها يأباه أكثرهم، أو مصحفا، أو ينقص من جملة الكلام كلمة، أو أكثر وما أشبه ذلك: فيمد على ما هذا سبيله خط، أوله مثل الصاد، ولا يلزق بالكلمة المعلم عليها كيلا يظن ضربا، وكأنه صاد التصحيح بمدتها دون حائها، كتبت كذلك ليفرق بين ما صح مطلقا من جهة الرواية وغيرها، وبين ما صح من جهة الرواية دون غيرها، فلم يكمل عليه التصحيح. وكتب حرف ناقص على حرف ناقص إشعارا بنقصه ومرضه مع صحة نقله وروايته، وتنبيها بذلك لمن ينظر في كتابه على أنه قد وقف عليه ونقله على ما هو عليه، ولعل غيره قد يخرج له وجها صحيحا، أو يظهر له بعد ذلك في صحته ما لم يظهر له الآن. ولو غير ذلك وأصلحه على ما عنده لكان متعرضا لما وقع فيه غير واحد من المتجاسرين، الذين غيروا وظهر الصواب فيما أنكروه، والفساد فيما أصلحوه.
وأما تسمية ذلك ضبة: فقد بلغنا عن أبي القاسم إبراهيم بن محمد اللغوي المعروف بابن الإقليلي: أن ذلك لكون الحرف مقفلا بها، لا يتجه لقراءة كما أن الضبة مقفل بها، والله أعلم.
قلت: ولأنها لما كانت على كلام فيه خلل أشبهت الضبة التي تجعل على كسر أو خلل، فاستعير لها اسمها، ومثل ذلك غير مستنكر في باب الاستعارات.
ومن مواضع التضبيب: أن يقع في الإسناد إرسال أو انقطاع، فمن عادتهم تضبيب موضع الإرسال والانقطاع، وذلك من قبيل ما سبق ذكره من التضبيب على الكلام الناقص.
ويوجد في بعض أصول الحديث القديمة في الإسناد الذي يجتمع فيه جماعة معطوفة أسماؤهم بعضها على بعض علامة تشبه الضبة فيما بين أسمائهم، فيتوهم من لا خبرة له أنها ضبة وليست بضبة، وكأنها علامة وصل فيما بينها، أثبتت تأكيدا للعطف، خوفا من أن تجعل عن مكان الواو، والعلم عند الله تعالى.
ثم إن بعضهم ربما اختصر علامة التصحيح فجاءت صورتها تشبه صورة التضبيب، والفطنة من خير ما أوتيه الإنسان، والله أعلم.
الثالث عشر: إذا وقع في الكتاب ما ليس منه فإنه ينفي عنه بالضرب، أو الحك، أو المحو، أو غير ذلك. والضرب خير من الحك والمحو. روينا عن القاضي أبي محمد بن خلاد رحمه الله قال: قال أصحابنا الحك تهمة. وأخبرني من أخبر عن القاضي عياض قال: سمعت شيخنا أبا بحر سفيان بن العاص الأسدي يحكي عن بعض شيوخه أنه كان يقول: كان الشيوخ يكرهون حضور السكين مجلس السماع حتى لا يبشر شيء، لأن ما يبشر منه ربما يصح في رواية أخرى.
وقد يسمع الكتاب مرة أخرى على شيخ آخر يكون ما بُشر وحك من رواية هذا صحيحا في رواية الآخر، فيحتاج إلى إلحاقه بعد أن بُشر، وهو إذا خط عليه من رواية الأول، وصح عند الآخر اكتفي بعلامة الآخر عليه بصحته.
ثم إنهم اختلفوا في كيفية الضرب:
فروينا عن أبي محمد بن خلاد قال: أجود الضرب أن لا يطمس المضروب عليه، بل يخط من فوقه خطا جيدا بينا يدل على إبطاله، ويقرأ من تحته ما خط عليه.
وروينا عن القاضي عياض ما معناه: أن اختيارات الضابطين اختلفت في الضرب. فأكثرهم على مد الخط على المضروب عليه مختلطا بالكلمات المضروب عليها، ويسمى ذلك الشق أيضا.
ومنهم من لا يخلطه، ويثبته فوقه، لكنه يعطف طرفي الخط على أول المضروب عليه وآخره.
ومنهم من يستقبح هذا، ويراه تسويدا وتطليسا، بل يحوق على أول الكلام المضروب عليه بنصف دائرة، وكذلك في آخره. وإذا كثر الكلام المضروب عليه فقد يفعل ذلك في أول كل سطر منه وآخره، وقد يكتفي بالتحويق على أول الكلام وآخره أجمع.
ومن الأشياخ من يستقبح الضرب والتحويق، ويكتفي بدائرة صغيرة أول الزيادة وآخرها، ويسميها صفرا، كما يسميها أهل الحساب.
وربما كتب بعضهم عليه لا في أوله وإلى في آخره. ومثل هذا يحسن فيما صح في رواية، وسقط في رواية أخرى، والله أعلم.
وأما الضرب على الحرف المكرر: فقد تقدم بالكلام فيه القاضي أبو محمد بن خلاد الرامهرمزي رحمه الله على تقدمه. فروينا عنه قال: قال بعض أصحابنا: أولاهما بأن يبطل الثاني، لأن الأول كتب على صواب، والثاني كتب على الخطأ والخطأ أولى بالإبطال.
وقال آخرون: إنما الكتاب علامة لما يقرأ، فأولى الحرفين بالإبقاء أدلهما عليه وأجودهما صورة.
وجاء القاضي عياض آخرا ففصل تفصيلا حسنا: فرأى أن تكرر الحرف إن كان في أول سطر فليضرب على الثاني، صيانة لأول السطر عن التسويد والتشويه. وإن كان في آخر سطر فليضرب على أولهما صيانة لآخر السطر، فإن سلامة أوائل السطور وأواخرها عن ذلك أولى. فإن اتفق أحدهما في آخر سطر والآخر في أول سطر آخر فليضرب على الذي في آخر السطر، فإن أول السطر أولى بالمراعاة. فإن كان التكرر في المضاف أو المضاف إليه، أو في الصفة أو في الموصوف، أو نحو ذلك: لم نراع حينئذ أول السطر وآخره، بل نراعي الاتصال بين المضاف والمضاف إليه أو نحوهما في الخط، فلا نفصل بالضرب بينهما ونضرب على الحرف المتطرف من المتكرر دون المتوسط.
وأما المحو: فيقارب الكشط في حكمه الذي تقدم ذكره، وتتنوع طرقه. ومن أغربها - مع أنه أسلمها - ما روي عن سحنون بن سعيد التنوخي الإمام المالكي: أنه كان ربما كتب الشيء ثم لعقه. وإلى هذا يومي ما روينا عن إبراهيم النخعي رضي الله عنه أنه كان يقول: من المروءة أن يرى في ثوب الرجل وشفتيه مداد، والله أعلم.
الرابع عشر: ليكن فيما تختلف فيه الروايات قائما بضبط ما تختلف فيه في كتابه، جيد التمييز بينها، كيلا تختلط وتشتبه، فيفسد عليه أمرها. وسبيله: أن يجعل أولا متن كتابه على رواية خاصة. ثم ما كانت من زيادة لرواية أخرى ألحقها. أو من نقص أعلم عليه، أو من خلاف كتبه إما في الحاشية وإما في غيرها، معينا في كل ذلك من رواه، ذاكرا اسمه بتمامه. فإن رمز إليه بحرف أو أكثر فعليه ما قدمنا ذكره من أنه يبين المراد بذلك في أول كتابه أو آخره، كيلا يطول عهده به فينسى، أو يقع كتابه إلى غيره فيقع من رموزه في حيرة وعمى.
وقد يُدفع إلى الاقتصار على الرموز عند كثرة الروايات المختلفة.
واكتفى بعضهم في التمييز بأن خص الرواية الملحقة بالحمرة، فعل ذلك أبو ذر الهروي من المشارقة، وأبو الحسن القايسي من المغاربة، مع كثير من المشايخ وأهل التقييد.
فإذا كان في الرواية الملحقة زيادة على التي في متن الكتاب كتبها بالحمرة. وإن كان فيها نقص والزيادة في الرواية التي في متن الكتاب حوق عليها بالحمرة، ثم على فاعل ذلك تبيين من له الرواية المعلمة بالحمرة في أول الكتاب أو آخره على ما سبق، والله أعلم.
الخامس عشر: غلب على كتبة الحديث الاقتصار على الرمز في قولهم حدثنا وأخبرنا غير أنه شاع ذلك وظهر حتى لا يكاد يلتبس. وأما حدثنا فيكتب منها شطرها الأخير وهو الثاء والنون والألف. وربما اقتصر على الضمير منها وهو النون والألف. وأما أخبرنا فيكتب منها الضمير المذكور مع الألف أولا. وليس بحسن ما يفعله طائفة من كتابة أخبرنا بألف مع علامة حدثنا المذكورة أولا، وإن كان الحافظ البيهقي ممن فعله.
وقد يكتب في علامة أخبرنا راء بعد الألف، وفي علامة حدثنا دال في أولها. وممن رأيت في خطه الدال في علامة حدثنا الحافظ أبو عبد الله الحاكم، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحافظ أحمد البيهقي، رضي الله عنهم. والله أعلم.
وإذا كان للحديث إسنادان أو أكثر: فإنهم يكتبون عند الانتقال من إسناد إلى إسناد ما صورته ح وهي حاء مفردة مهملة، ولم يأتنا عن أحد ممن يعتمد بيان لأمرها، غير أني وجدت بخط الأستاذ الحافظ أبي عثمان الصابوني، والحافظ أبي مسلم عمر بن علي الليثي البخاري والفقيه المحدث أبي سعد الخليلي - رحمهم الله - في مكانها بدلا عنها صح صريحة. وهذا يشعر بكونها رمزا إلى صح. وحسن إثبات صح ههنا، لئلا يتوهم أن حديث هذا الإسناد سقط. ولئلا يركب الإسناد الثاني على الإسناد الأول، فيجعلا إسنادا واحدا.
وحكى لي بعض من جمعتني وإياه الرحلة بخراسان، عمن وصفه بالفضل من الأصبهانيين: أنها حاء مهملة من التحويل، أي من إسناد إلى إسناد آخر. وذاكرت فيها بعض أهل العلم من أهل المغرب، وحكيت له عن بعض من لقيت من أهل الحديث: أنها حاء مهملة إشارة إلى قولنا الحديث، فقال لي: أهل المغرب - وما عرفت بينهم اختلافا - يجعلونها حاء مهملة، ويقول أحدهم إذا وصل إليها الحديث.
وذكر لي: أنه سمع بعض البغداديين يذكر أيضا أنها حاء مهملة، وأن منهم من يقول إذا انتهى إليها في القراءة حا ويمر.
وسألت أنا الحافظ الرحال أبا محمد عبد القادر بن عبد الله الرهاوي رحمه الله عنها، فذكر أنها حاء من حائل أي تحول بين الإسنادين. قال: ولا يلفظ بشيء عند الانتهاء في القراءة، وأنكر كونها من الحديث وغير ذلك، ولم يعرف غير هذا عن أحد من مشايخه، وفيهم عدد كانوا حفاظ الحديث في وقته.
قال المؤلف: وأختار أنا - والله الموفق - أن يقول القارئ عند الانتهاء إليها حا ويمر، فإنه أحوط الوجوه وأعدلها، والعلم عند الله تعالى.
السادس عشر: ذكر الخطيب الحافظ: أنه ينبغي للطالب أن يكتب بعد البسملة اسم الشيخ الذي سمع الكتاب منه، وكنيته ونسبه، ثم يسوق ما سمعه منه على لفظه. قال: وإذا كتب الكتاب المسموع فينبغي أن يكتب فوق سطر التسمية أسماء من سمع معه، وتاريخ وقت السماع، وإن أحب كتب ذلك في حاشية أول ورقة من الكتاب، فكلا قد فعله شيوخنا.
قلت: كتبة التسميع جنب ذكره أحوط له، وأحرى بأن لا يخفى على من يحتاج إليه، ولا بأس بكتبته آخر الكتاب وفي ظهره، وحيث لا يخفى موضعه. وينبغي أن يكون التسميع بخط شخص موثوق به غير مجهول الخط، ولا ضير حينئذ في أن لا يكتب الشيخ المسمَّع خطه بالتصحيح، وهكذا لا بأس على صاحب الكتاب إذا كان موثوقا به أن يقتصر على إثبات سماعه بخط نفسه، فطالما فعل الثقات ذلك.
وقد حدثني بمرو الشيخ أبو المظفر ابن الحافظ أبي سعد المروزي عن أبيه عمن حدثه من الأصبهانية: أن عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن منده قرأ ببغداد جزءا على أبي أحمد الفرضي، وسأله خطه ليكون حجة له. فقال له أبو أحمد: يا بني ! عليك بالصدق، فإنك إذا عرفت به لا يكذبك أحد، وتصدق فيما تقول وتنقل، وإذا كان غير ذلك فلو قيل لك: ما هذا خط أبي أحمد الفرضي، ماذا تقول لهم؟
ثم إن على كاتب التسميع التحري والاحتياط، وبيان السامع والمسموع منه بلفظ غير محتمل، ومجانبة التساهل فيمن يثبت اسمه، والحذر من إسقاط اسم واحد منهم لغرض فاسد. فإن كان مثبت السماع غير حاضر في جميعه، لكن أثبته معتمدا على إخبار من يثق بخبره من حاضريه، فلا بأس بذلك إن شاء الله تعالى.
ثم إن من ثبت سماعه في كتابه فقبيح كتمانه إياه، ومنعه من نقل سماعه، ومن نسخ الكتاب، وإذا أعاده إياه فلا يبطئ به. وروينا عن الزهري أنه قال: إياك وغلول الكتب. قيل له: وما غلول الكتب؟ قال: حبسها عن أصحابها. وروينا عن الفضيل بن عياض رضي الله عنه أنه قال: ليس من أفعال أهل الورع ولا من أفعال الحكماء أن يأخذ سماع رجل وكتابه فيحبسه عنه، ومن فعل ذلك فقد ظلم نفسه. وفي رواية: ولا من فعال العلماء أن يأخذ سماع رجل وكتابه فيحبسه عليه. فإن منعه إياه فقد روينا: أن رجلا ادعى على رجل بالكوفة سماعا منعه إياه فتحاكما إلى قاضيها حفص بن غياث، فقال لصاحب الكتاب: اخرج إلينا كتبك، فما كان من سماع هذا الرجل بخط يدك ألزمناك، وما كان بخطه أعفيناك منه.
قال ابن خلاد: سألت أبا عبد الله الزبيري عن هذا، فقال: لا يجيء في هذا الباب حكم أحسن من هذا، لأن خط صاحب الكتاب دال على رضاه باستماع صاحبه معه. قال ابن خلاد: وقال غيره ليس بشيء.
وروى الخطيب الحافظ أبو بكر، عن إسماعيل بن إسحاق القاضي: أنه تحوكم إليه في ذلك، فأطرق مليا ثم قال للمدعى عليه: إن كان سماعه في كتابك بخطك فيلزمك أن تعيره، وإن كان سماعه في كتابك بخط غيرك فأنت أعلم.
قلت: جعفر بن غياث معدود في الطبقة الأولى من أصحاب أبي حنيفة، وأبو عبد الله الزبيري من أئمة أصحاب الشافعي، وإسماعيل بن إسحاق لسان أصحاب مالك وإمامهم، وقد تعاضدت أقوالهم في ذلك، ويرجع حاصلها إلى: أن سماع غيره إذا ثبت في كتابه برضاه فيلزمه إعارته إياه. وقد كان لا يتبين لي وجهه، ثم وجهته بأن ذلك بمنزلة شهادة له عنده، فعليه أداؤها بما حوته، وإن كان فيه بذل ماله، كما يلزم متحمل الشهادة أداؤها وإن كان فيه بذل نفسه بالسعي إلى مجلس الحكم لأدائها، والعلم عند الله تعالى.
ثم إذا نسخ الكتاب فلا ينقل سماعه إلى نسخته إلا بعد المقابلة المرضية. وهكذا لا ينبغي لأحد أن ينقل سماعا إلى شيء من النسخ، أو يثبته فيها عند السماع ابتداء، إلا بعد المقابلة المرضية بالمسموع، كيلا يغتر أحد بتلك النسخة غير المقابلة، إلا أن يبين مع النقل وعنده كون النسخة غير مقابلة، والله أعلم.
اختلف الصدر الأول رضي الله عنهم في كتابة الحديث: فمنهم من كره كتابة الحديث والعلم وأمروا بحفظه.
ومنهم من أجاز ذلك.
وممن روينا عنه كراهة ذلك عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى وأبو سعيد الخدري، في جماعة آخرين من الصحابة والتابعين.
وروينا عن أبي سعيد الخدري: أن النبي قال: " لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه ". أخرجه مسلم في صحيحه.
وممن روينا عنه إباحة ذلك أو فعله علي وابنه الحسن وأنس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص، في جمع آخرين من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.
ومن صحيح حديث رسول الله الدال على جواز: ذلك حديث أبي شاه اليمني في التماسه من رسول الله أن يكتب له شيئا سمعه من خطبته عام فتح مكة وقوله : " اكتبوا لأبي شاه ".
ولعله أذن في الكتابة عنه لمن خشي عليه النسيان ونهى عن الكتابة عنه من وثق بحفظه مخافة الاتكال على الكتاب. أو نهى عن كتابة ذلك حين خاف عليهم اختلاط ذلك بصحف القرآن العظيم وأذن في كتابته حين أمن من ذلك.
وأخبرنا أبو الفتح بن عبد المنعم الفراوي - قراءة عليه بنيسابور جبرها الله - أخبرنا أبو المعالي الفارسي: أخبرنا الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن بشران: أخبرنا أبو عمرو بن السماك: حدثنا حنبل بن إسحاق: حدثنا سليمان بن أحمد: حدثنا الوليد هو ابن مسلم قال: كان الأوزاعي يقول: كان هذا العلم كريما يتلاقاه الرجال بينهم فلما دخل في الكتب دخل فيه غير أهله.
ثم إنه زال ذلك الخلاف وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة، والله أعلم.
ثم إن على كتبة الحديث وطلبته صرف الهمة إلى ضبط ما يكتبونه أو يحصلونه بخط الغير من مروياتهم على الوجه الذي رووه شكلا ونقطا يؤمن معهما الالتباس. وكثيرا ما يتهاون بذلك الواثق بذهنه وتيقظه، وذلك وخيم العاقبة، فإن الإنسان معرض للنسيان، وأول ناسٍ أول الناس وإعجام المكتوب يمنع من استعجامه وشكله يمنع من أشكاله.
ثم لا ينبغي أن يتعنى بتقييد الواضح الذي لا يكاد يلتبس. وقد أحسن من قال: إنما يُشكَل ما يُشكِل. وقرأت بخط صاحب كتاب سمات الخط ورقومه علي بن إبراهيم البغدادي فيه: أن أهل العلم يكرهون الإعجام والإعراب إلا في الملتبس. وحكى غيره عن قوم أنه ينبغي أن يشكل ما يشكل وما لا يشكل وذلك لأن المبتدئ وغير المتبحر في العلم لا يميز ما يشكل مما لا يشكل ولا صواب الإعراب من خطئه، والله أعلم.
وهذا بيان أمور مفيدة في ذلك:
إحداها: ينبغي أن يكون اعتناؤه - من بين ما يلتبس - بضبط الملتبس من أسماء الناس أكثر، فإنها لا تستدرك بالمعنى ولا يستدل عليها بما قبل وبعُد.
الثاني: يستحب في الألفاظ المشكلة أن يكرر ضبطها بأن يضبطها في متن الكتاب ثم يكتبها قبالة ذلك في الحاشية مفردة مضبوطة، فإن ذلك أبلغ في إبانتها وأبعد من التباسها، وما ضبطه في أثناء الأسطر بما داخله نقط غيره وشكله مما فوقه وتحته لاسيما عند دقة الخط وضيق الأسطر، وبهذا جرى رسم جماعة من أهل الضبط، والله أعلم.
الثالث: يكره الخط الدقيق من غير عذر يقتضيه. روينا عن حنبل بن إسحاق: قال رآني أحمد بن حنبل وأنا أكتب خطا دقيقا، فقال: لا تفعل، أحوج ما تكون إليه يخونك. وبلغنا عن بعض المشايخ أنه كان إذا رأى خطا دقيقا قال: هذا خط من لا يوقن بالخلف من الله.
والعذر في ذلك هو مثل أن لا يجد في الورق سعة أو يكون رحالا يحتاج إلى تدقيق الخط ليخف عليه محمل كتابه ونحو هذا، والله أعلم.
الرابع: يختار له في خطه التحقيق دون المشق والتعليق. بلغنا عن ابن قتيبة قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: شر الكتابة المشق وشر القراءة الهذرمة وأجود الخط أبينه، والله أعلم.
الخامس: كما تضبط الحروف المعجمة بالنقط كذلك ينبغي أن تضبط المهملات غير المعجمة بعلامة الإهمال لتدل على عدم إعجامها. وسبيل الناس في ضبطها مختلف:
فمنهم من يقلب النقط فيجعل النقط الذي فوق المعجمات تحت ما يشاكلها من المهملات، فينقط تحت الراء والصاد والطاء والعين ونحوها من المهملات.
وذكر بعض هؤلاء أن النقط التي تحت السين المهملة تكون مبسوطة صفا والتي فوق السين المعجمة تكون كالأثافي.
ومن الناس من يجعل علامة الإهمال فوق الحروف المهملة كقلامة الظفر مضطجعة على قفاها.
ومنهم من يجعل تحت الحاء المهملة حاء مفردة صغيرة، وكذا تحت الدال والطاء والصاد والسين والعين، وسائر الحروف المهملة الملتبسة مثل ذلك.
فهذه وجوه من علامات الإهمال شائعة معروفة.
وهناك من العلامات ما هو موجود في كثير من الكتب القديمة ولا يفطن له الكثيرون، كعلامة من يجعل فوق الحرف المهمل خطا صغيرا وكعلامة من يجعل تحت الحرف المهمل مثل الهمزة، والله أعلم.
السادس: لا ينبغي أن يصطلح مع نفسه في كتابه بما لا يفهمه غيره فيوقع غيره في حيرة، كفعل من يجمع في كتابه بين روايات مختلفة ويرمز إلى رواية كل راو بحرف واحد من اسمه أو حرفين وما أشبه ذلك. فإن بين - في أول كتابه أو آخره - مراده بتلك العلامات والرموز فلا بأس. ومع ذلك فالأولى أن يتجنب الرمز ويكتب عند كل رواية اسم راويها بكماله مختصرا ولا يقتصر على العلامة ببعضه، والله أعلم.
السابع: ينبغي أن يجعل بين كل حديثين دارة تفصل بينهما وتميز. وممن بلغنا عنه ذلك من الأئمة أبو الزناد وأحمد بن حنبل وإبراهيم بن إسحاق الحربي ومحمد بن جرير الطبري رضي الله عنهم.
واستحب الخطيب الحافظ أن تكون الدارات غفلا، فإذا عارض فكل حديث يفرغ من عرضه ينقط في الدارة التي تليه نقطة أو يخط في وسطها خطا. قال: وقد كان بعض أهل العلم لا يعتد من سماعه إلا بما كان كذلك أو في معناه، والله أعلم.
الثامن: يكره له في مثل عبد الله بن فلان بن فلان أن يكتب عبد في آخر سطر والباقي في أول السطر الآخر. وكذلك يكره في عبد الرحمن بن فلان وفي سائر الأسماء المشتملة على التعبيد لله تعالى أن يكتب عبدا في آخر سطر، واسم الله مع سائر النسب في أول السطر الآخر. وهكذا يكره أن يكتب قال رسول في آخر سطر، ويكتب في أول السطر الذي يليه الله وما أشبه ذلك، والله أعلم.
التاسع: ينبغي له أن يحافظ على كِتْبَة الصلاة والتسليم على رسول الله عند ذكره ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكرره، فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك حرم حظا عظيما، وقد روينا لأهل ذلك منامات صالحة.
وما يكتبه من ذلك فهو دعاء يثبته لا كلام يرويه، فلذلك لا يتقيد فيه بالرواية ولا يقتصر فيه على ما في الأصل.
وهكذا الأمر في الثناء على الله سبحانه عند ذكر اسمه، نحو عز وجل وتبارك وتعالى وما ضاهى ذلك. وإذا وجد شيء من ذلك قد جاءت به الرواية كانت العناية بإثباته وضبطه أكثر. وما وجد في خط أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه من إغفال ذلك عند ذكر اسم النبي : فلعل سببه أنه كان يرى التقيد في ذلك بالرواية، وعز عليه اتصالها في ذلك في جميع من فوقه من الرواة.
قال الخطيب أبو بكر: وبلغني أنه كان يصلي على النبي نطقا لا خطا. قال: وقد خالفه غيره من الأئمة المتقدمين في ذلك.
وروي عن علي بن المديني وعباس بن عبد العظيم العنبري قالا: ما تركنا الصلاة على رسول الله في كل حديث سمعناه، وربما عجلنا فنبيض الكتاب في كل حديث حتى نرجع إليه، والله أعلم.
ثم ليتجنب في إثباتها نقصين:
أحدهما: أن يكتبها منقوصة صورة رامزا إليها بحرفين، أو نحو ذلك.
والثاني: أن يكتبها منقوصة معنى بأن لا يكتب وسلم وإن وجد ذلك في خط بعض المتقدمين. سمعت أبا القاسم منصور بن عبد المنعم وأم المؤيد بنت أبي القاسم بقراءتي عليهما قالا: سمعنا أبا البركات عبد الله بن محمد الفراوي لفظا، قال: سمعت المقري ظريف بن محمد يقول: سمعت عبد الله بن محمد بن إسحاق الحافظ قال: سمعت أبي يقول: سمعت حمزة الكناني يقول: كنت أكتب الحديث وكنت أكتب عند ذكر النبي صلى الله عليه ولا أكتب وسلم، فرأيت النبي في المنام، فقال لي: ما لك لا تتم الصلاة علي؟ قال: فما كتبت بعد ذلك صلى الله عليه إلا كتبت وسلم.
وقع في الأصل في شيخ المقري ظريف عبد الله وإنما هو عبيد الله بالتصغير، ومحمد بن إسحاق أبوه، هو أبو عبد الله بن منده، فقوله الحافظ إذا مجرور.
قلت: ويكره أيضا الاقتصار على قوله عليه السلام، والله أعلم.
العاشر: على الطالب مقابلة كتابه بأصل سماعه وكتاب شيخه الذي يرويه عنه، وإن كان إجازة.
روينا عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما أنه قال لابنه هشام: كتبت؟ قال: نعم، قال: عرضت كتابك؟ قال: لا، قال: لم تكتب.
وروينا عن الشافعي الإمام وعن يحيى بن أبي كثير قالا: من كتب ولم يعارض كمن دخل الخلاء ولم يستنج.
وعن الأخفش قال: إذا نُسِخَ الكتاب ولم يعارض ثم نسخ ولم يعارض خرج أعجميا.
ثم إن أفضل المعارضة: أن يعارض الطالب بنفسه كتابه بكتاب الشيخ مع الشيخ في حال تحديثه إياه من كتابه، لما يجمع ذلك من وجوه الاحتياط والإتقان من الجانبين. وما لم تجتمع فيه هذه الأوصاف نقص من مرتبته بقدر ما فاته منها. وما ذكرناه أولى من إطلاق أبي الفضل الجارودي الحافظ الهروي قوله: أصدق المعارضة مع نفسك.
ويستحب أن ينظر معه في نسخته من حضر من السامعين ممن ليس معه نسخة، لاسيما إذا أراد النقل منها وقد روي عن يحيى بن معين: أنه سئل عمن لم ينظر في الكتاب والمحدث يقرأ، هل يجوز أن يحدث بذلك؟ فقال: أما عندي فلا يجوز، ولكن عامة الشيوخ هكذا سماعهم.
قلت: وهذا من مذاهب أهل التشديد في الرواية، وسيأتي ذكر مذهبهم إن شاء الله تعالى. والصحيح: أن ذلك لا يشترط، وأنه يصح السماع وإن لم ينظر أصلا في الكتاب حالة القراءة، وأنه لا يشترط أن يقابله بنفسه بل يكفيه مقابلة نسخته بأصل الراوي وإن لم يكن ذلك حالة القراءة وإن كانت المقابلة على يدي غيره إذا كان ثقة موثوقا بضبطه.
قلت: وجائز أن تكون مقابلته بفرع قد قوبل المقابلة المشروطة بأصل شيخه أصل السماع، وكذلك إذا قابل بأصل أصل الشيخ المقابل به أصل الشيخ، لأن الغرض المطلوب أن يكون كتاب الطالب مطابقا لأصل سماعه وكتاب شيخه، فسواء حصل ذلك بواسطة أو بغير واسطة.
ولا يجزي ذلك عند من قال: لا تصح مقابلته مع أحد غير نفسه، ولا يقلد غيره، ولا يكون بينه وبين كتاب الشيخ واسطة، وليقابل نسخته بالأصل بنفسه حرفا حرفا حتى يكون على ثقة ويقين من مطابقتها له. وهذا مذهب متروك، وهو من مذاهب أهل التشديد المرفوضة في أعصارنا، والله أعلم.
أما إذا لم يعارض كتابه بالأصل أصلا: فقد سئل الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني عن جواز روايته منه فأجاز ذلك. وأجازه الحافظ أبو بكر الخطيب أيضا وبين شرطه. فذكر أنه يشترط أن تكون نسخته نقلت من الأصل، وأن يبين عند الرواية أنه لم يعارض. وحكى عن شيخه أبي بكر البرقاني أنه سأل أبا بكر الإسماعيلي: هل للرجل أن يحدث بما كتب عن الشيخ ولم يعارض بأصله؟ فقال: نعم، ولكن لابدَّ أن يبين أنه لم يعارض، قال: وهذا هو مذهب أبي بكر البرقاوني، فإنه روى لنا أحاديث كثيرة قال فيها أخبرنا فلان، ولم أعارض بالأصل.
قلت: ولابد من شرط ثالث، وهو: أن يكون ناقل النسخة من الأصل غير سقيم النقل، بل صحيح النقل قليل السقط، والله أعلم.
ثم إنه ينبغي أن يراعي في كتاب شيخه بالنسبة إلي من فوقه مثل ما ذكرنا أنه يراعيه من كتابه، ولا يكونن كطائفة من الطلبة: إذا رأوا سماع شيخ لكتاب قرأوه عليه من أي نسخة اتفقت، والله أعلم.
الحادي عشر: المختار في كيفية تخريج الساقط في الحواشي - ويسمى اللحق بفتح الحاء - وهو أن يخط من موضع سقوطه من السطر خطا صاعدا إلى فوق، ثم يعطفه بين السطرين عطفه يسيرة إلى جهة الحاشية، التي يكتب فيها اللحق ويبدأ في الحاشية بكتبة اللحق مقابلا للخط المنعطف، وليكن ذلك في حاشية ذات اليمين. وإن كانت تلي وسط الورقة إن اتسعت له فليكتبه صاعدا إلى أعلى الورقة، لا نازلا به إلى أسفل.
قلت: فإذا كان اللحق سطرين أو سطورا فلا يبتدئ بسطوره من أسفل إلى أعلى، بل ويبتدئ بها من أعلى إلى أسفل، بحيث يكون منتهاها إلى جهة باطن الورقة إذا كان التخريج في جهة اليمين، وإذا كان في جهة الشمال وقع منتهاها إلى جهة طرف الورقة. ثم يكتب عند انتهاء اللحق صح. ومنهم من يكتب مع صح رجع.
ومنهم من يكتب في آخر اللحق الكلمة المتصلة به داخل الكتاب في موضع التخريج، ليؤذن باتصال الكلام، وهذا اختيار بعض أهل الصنعة من أهل المغرب، واختيار القاضي أبي محمد بن خلاد صاحب كتاب الفاصل بين الراوي والواعي من أهل المشرق مع طائفة. وليس ذلك بمرضي، إذ ربَّ كلمة تجئ في الكلام مكررة حقيقة، فهذا التكرير يوقع بعض الناس في توهم مثل ذلك في بعضه.
واختار القاضي ابن خلاد أيضا في كتابه أن يمد عطفة خط التخريج من موضعه حتى يلحقه بأول اللحق بالحاشية. وهذا أيضا غير مرضي، فإنه وإن كان فيه زيادة بيان فهو تسخيم للكتاب وتسويد له، لاسيما عند كثرة الإلحاقات، والله أعلم.
وإنما اخترنا كتبة اللحق صاعدا إلى أعلى الورقة، لئلا يخرج بعده نقص آخر فلا يجد ما يقابله من الحاشية فارغا له، لو كان كتب الأول نازلا إلى أسفل. وإذا كتب الأول صاعدا فما يجد بعد ذلك من نقص يجد ما يقابله من الحاشية فارغا له.
وقلنا أيضا يخرجه في جهة اليمين، لأنه لو خرجه إلى جهة الشمال فربما ظهر بعده في السطر نفسه نقص آخر، فإن خرجه قدامه إلى جهة الشمال أيضا وقع بين التخريجين إشكال. وإن خرج الثاني إلى جهة اليمين التقت عطفة تخريج جهة الشمال وعطفة تخريج جهة اليمين أو تقابلتا، فأشبه ذلك الضرب على ما بينهما، بخلاف ما إذا خرج الأول إلى جهة اليمين: فإنه حينئذ يخرج الثاني إلى جهة الشمال، فلا يلتقيان ولا يلزم إشكال، اللهم إلا أن يتأخر النقص إلى آخر السطر، فلا وجه حينئذ إلا تخريجه إلى جهة الشمال لقربه منها، ولانتفاء العلة المذكورة من حيث إنا لا نخشى ظهور نقص بعده.
وإذا كان النقص في أول السطر تأكد تخريجه إلى جهة اليمين، لما ذكرناه من القرب مع ما سبق.
وأما ما يخرج في الحواشي - من شرح، أو تنبيه على غلط، أو اختلاف رواية، أو نسخة أو نحو ذلك، مما ليس من الأصل - فقد ذهب القاضي الحافظ عياض رحمه الله إلى أنه لا يخرج لذلك خط تخريج، لئلا يدخل اللبس ويحسب من الأصل، وأنه لا يخرج إلا لما هو من نفس الأصل، لكن ربما جعل على الحرف المقصود بذلك التخريج علامة كالضبة أو التصحيح إيذانا به.
قلت: التخريج أولى وأدل، وفي نفس هذا المخرج ما يمنع الإلباس. ثم هذا التخريج يخالف التخريج لما هو من نفس الأصل: في أن خط ذلك التخريج يقع بين الكلمتين اللتين بينهما سقط الساقط، وخط هذا التخريج يقع على نفس الكلمة التي من أجلها خرج المخرج في الحاشية، والله أعلم.
الثاني عشر: من شأن الحذاق المتقنيين العناية بالتصحيح والتضبيب والتمريض.
أما التصحيح: فهو كتابة صح على الكلام أو عنده، ولا يفعل ذلك إلا فيما صح رواية ومعنى، غير أنه عرضة للشك أو الخلاف، فيكتب عليه صح ليعرف أنه لم يغفل عنه، وأنه قد ضبط وصح على ذلك الوجه.
وأما التضبيب، ويسمى أيضا التمريض، فيجعل على ما صح وروده كذلك من جهة النقل، غير أنه فاسد لفظا أو معنى، أو ضعيف، أو ناقص، مثل: أن يكون غير جائز من حيث العربية، أو: يكون شاذا عند أهلها يأباه أكثرهم، أو مصحفا، أو ينقص من جملة الكلام كلمة، أو أكثر وما أشبه ذلك: فيمد على ما هذا سبيله خط، أوله مثل الصاد، ولا يلزق بالكلمة المعلم عليها كيلا يظن ضربا، وكأنه صاد التصحيح بمدتها دون حائها، كتبت كذلك ليفرق بين ما صح مطلقا من جهة الرواية وغيرها، وبين ما صح من جهة الرواية دون غيرها، فلم يكمل عليه التصحيح. وكتب حرف ناقص على حرف ناقص إشعارا بنقصه ومرضه مع صحة نقله وروايته، وتنبيها بذلك لمن ينظر في كتابه على أنه قد وقف عليه ونقله على ما هو عليه، ولعل غيره قد يخرج له وجها صحيحا، أو يظهر له بعد ذلك في صحته ما لم يظهر له الآن. ولو غير ذلك وأصلحه على ما عنده لكان متعرضا لما وقع فيه غير واحد من المتجاسرين، الذين غيروا وظهر الصواب فيما أنكروه، والفساد فيما أصلحوه.
وأما تسمية ذلك ضبة: فقد بلغنا عن أبي القاسم إبراهيم بن محمد اللغوي المعروف بابن الإقليلي: أن ذلك لكون الحرف مقفلا بها، لا يتجه لقراءة كما أن الضبة مقفل بها، والله أعلم.
قلت: ولأنها لما كانت على كلام فيه خلل أشبهت الضبة التي تجعل على كسر أو خلل، فاستعير لها اسمها، ومثل ذلك غير مستنكر في باب الاستعارات.
ومن مواضع التضبيب: أن يقع في الإسناد إرسال أو انقطاع، فمن عادتهم تضبيب موضع الإرسال والانقطاع، وذلك من قبيل ما سبق ذكره من التضبيب على الكلام الناقص.
ويوجد في بعض أصول الحديث القديمة في الإسناد الذي يجتمع فيه جماعة معطوفة أسماؤهم بعضها على بعض علامة تشبه الضبة فيما بين أسمائهم، فيتوهم من لا خبرة له أنها ضبة وليست بضبة، وكأنها علامة وصل فيما بينها، أثبتت تأكيدا للعطف، خوفا من أن تجعل عن مكان الواو، والعلم عند الله تعالى.
ثم إن بعضهم ربما اختصر علامة التصحيح فجاءت صورتها تشبه صورة التضبيب، والفطنة من خير ما أوتيه الإنسان، والله أعلم.
الثالث عشر: إذا وقع في الكتاب ما ليس منه فإنه ينفي عنه بالضرب، أو الحك، أو المحو، أو غير ذلك. والضرب خير من الحك والمحو. روينا عن القاضي أبي محمد بن خلاد رحمه الله قال: قال أصحابنا الحك تهمة. وأخبرني من أخبر عن القاضي عياض قال: سمعت شيخنا أبا بحر سفيان بن العاص الأسدي يحكي عن بعض شيوخه أنه كان يقول: كان الشيوخ يكرهون حضور السكين مجلس السماع حتى لا يبشر شيء، لأن ما يبشر منه ربما يصح في رواية أخرى.
وقد يسمع الكتاب مرة أخرى على شيخ آخر يكون ما بُشر وحك من رواية هذا صحيحا في رواية الآخر، فيحتاج إلى إلحاقه بعد أن بُشر، وهو إذا خط عليه من رواية الأول، وصح عند الآخر اكتفي بعلامة الآخر عليه بصحته.
ثم إنهم اختلفوا في كيفية الضرب:
فروينا عن أبي محمد بن خلاد قال: أجود الضرب أن لا يطمس المضروب عليه، بل يخط من فوقه خطا جيدا بينا يدل على إبطاله، ويقرأ من تحته ما خط عليه.
وروينا عن القاضي عياض ما معناه: أن اختيارات الضابطين اختلفت في الضرب. فأكثرهم على مد الخط على المضروب عليه مختلطا بالكلمات المضروب عليها، ويسمى ذلك الشق أيضا.
ومنهم من لا يخلطه، ويثبته فوقه، لكنه يعطف طرفي الخط على أول المضروب عليه وآخره.
ومنهم من يستقبح هذا، ويراه تسويدا وتطليسا، بل يحوق على أول الكلام المضروب عليه بنصف دائرة، وكذلك في آخره. وإذا كثر الكلام المضروب عليه فقد يفعل ذلك في أول كل سطر منه وآخره، وقد يكتفي بالتحويق على أول الكلام وآخره أجمع.
ومن الأشياخ من يستقبح الضرب والتحويق، ويكتفي بدائرة صغيرة أول الزيادة وآخرها، ويسميها صفرا، كما يسميها أهل الحساب.
وربما كتب بعضهم عليه لا في أوله وإلى في آخره. ومثل هذا يحسن فيما صح في رواية، وسقط في رواية أخرى، والله أعلم.
وأما الضرب على الحرف المكرر: فقد تقدم بالكلام فيه القاضي أبو محمد بن خلاد الرامهرمزي رحمه الله على تقدمه. فروينا عنه قال: قال بعض أصحابنا: أولاهما بأن يبطل الثاني، لأن الأول كتب على صواب، والثاني كتب على الخطأ والخطأ أولى بالإبطال.
وقال آخرون: إنما الكتاب علامة لما يقرأ، فأولى الحرفين بالإبقاء أدلهما عليه وأجودهما صورة.
وجاء القاضي عياض آخرا ففصل تفصيلا حسنا: فرأى أن تكرر الحرف إن كان في أول سطر فليضرب على الثاني، صيانة لأول السطر عن التسويد والتشويه. وإن كان في آخر سطر فليضرب على أولهما صيانة لآخر السطر، فإن سلامة أوائل السطور وأواخرها عن ذلك أولى. فإن اتفق أحدهما في آخر سطر والآخر في أول سطر آخر فليضرب على الذي في آخر السطر، فإن أول السطر أولى بالمراعاة. فإن كان التكرر في المضاف أو المضاف إليه، أو في الصفة أو في الموصوف، أو نحو ذلك: لم نراع حينئذ أول السطر وآخره، بل نراعي الاتصال بين المضاف والمضاف إليه أو نحوهما في الخط، فلا نفصل بالضرب بينهما ونضرب على الحرف المتطرف من المتكرر دون المتوسط.
وأما المحو: فيقارب الكشط في حكمه الذي تقدم ذكره، وتتنوع طرقه. ومن أغربها - مع أنه أسلمها - ما روي عن سحنون بن سعيد التنوخي الإمام المالكي: أنه كان ربما كتب الشيء ثم لعقه. وإلى هذا يومي ما روينا عن إبراهيم النخعي رضي الله عنه أنه كان يقول: من المروءة أن يرى في ثوب الرجل وشفتيه مداد، والله أعلم.
الرابع عشر: ليكن فيما تختلف فيه الروايات قائما بضبط ما تختلف فيه في كتابه، جيد التمييز بينها، كيلا تختلط وتشتبه، فيفسد عليه أمرها. وسبيله: أن يجعل أولا متن كتابه على رواية خاصة. ثم ما كانت من زيادة لرواية أخرى ألحقها. أو من نقص أعلم عليه، أو من خلاف كتبه إما في الحاشية وإما في غيرها، معينا في كل ذلك من رواه، ذاكرا اسمه بتمامه. فإن رمز إليه بحرف أو أكثر فعليه ما قدمنا ذكره من أنه يبين المراد بذلك في أول كتابه أو آخره، كيلا يطول عهده به فينسى، أو يقع كتابه إلى غيره فيقع من رموزه في حيرة وعمى.
وقد يُدفع إلى الاقتصار على الرموز عند كثرة الروايات المختلفة.
واكتفى بعضهم في التمييز بأن خص الرواية الملحقة بالحمرة، فعل ذلك أبو ذر الهروي من المشارقة، وأبو الحسن القايسي من المغاربة، مع كثير من المشايخ وأهل التقييد.
فإذا كان في الرواية الملحقة زيادة على التي في متن الكتاب كتبها بالحمرة. وإن كان فيها نقص والزيادة في الرواية التي في متن الكتاب حوق عليها بالحمرة، ثم على فاعل ذلك تبيين من له الرواية المعلمة بالحمرة في أول الكتاب أو آخره على ما سبق، والله أعلم.
الخامس عشر: غلب على كتبة الحديث الاقتصار على الرمز في قولهم حدثنا وأخبرنا غير أنه شاع ذلك وظهر حتى لا يكاد يلتبس. وأما حدثنا فيكتب منها شطرها الأخير وهو الثاء والنون والألف. وربما اقتصر على الضمير منها وهو النون والألف. وأما أخبرنا فيكتب منها الضمير المذكور مع الألف أولا. وليس بحسن ما يفعله طائفة من كتابة أخبرنا بألف مع علامة حدثنا المذكورة أولا، وإن كان الحافظ البيهقي ممن فعله.
وقد يكتب في علامة أخبرنا راء بعد الألف، وفي علامة حدثنا دال في أولها. وممن رأيت في خطه الدال في علامة حدثنا الحافظ أبو عبد الله الحاكم، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحافظ أحمد البيهقي، رضي الله عنهم. والله أعلم.
وإذا كان للحديث إسنادان أو أكثر: فإنهم يكتبون عند الانتقال من إسناد إلى إسناد ما صورته ح وهي حاء مفردة مهملة، ولم يأتنا عن أحد ممن يعتمد بيان لأمرها، غير أني وجدت بخط الأستاذ الحافظ أبي عثمان الصابوني، والحافظ أبي مسلم عمر بن علي الليثي البخاري والفقيه المحدث أبي سعد الخليلي - رحمهم الله - في مكانها بدلا عنها صح صريحة. وهذا يشعر بكونها رمزا إلى صح. وحسن إثبات صح ههنا، لئلا يتوهم أن حديث هذا الإسناد سقط. ولئلا يركب الإسناد الثاني على الإسناد الأول، فيجعلا إسنادا واحدا.
وحكى لي بعض من جمعتني وإياه الرحلة بخراسان، عمن وصفه بالفضل من الأصبهانيين: أنها حاء مهملة من التحويل، أي من إسناد إلى إسناد آخر. وذاكرت فيها بعض أهل العلم من أهل المغرب، وحكيت له عن بعض من لقيت من أهل الحديث: أنها حاء مهملة إشارة إلى قولنا الحديث، فقال لي: أهل المغرب - وما عرفت بينهم اختلافا - يجعلونها حاء مهملة، ويقول أحدهم إذا وصل إليها الحديث.
وذكر لي: أنه سمع بعض البغداديين يذكر أيضا أنها حاء مهملة، وأن منهم من يقول إذا انتهى إليها في القراءة حا ويمر.
وسألت أنا الحافظ الرحال أبا محمد عبد القادر بن عبد الله الرهاوي رحمه الله عنها، فذكر أنها حاء من حائل أي تحول بين الإسنادين. قال: ولا يلفظ بشيء عند الانتهاء في القراءة، وأنكر كونها من الحديث وغير ذلك، ولم يعرف غير هذا عن أحد من مشايخه، وفيهم عدد كانوا حفاظ الحديث في وقته.
قال المؤلف: وأختار أنا - والله الموفق - أن يقول القارئ عند الانتهاء إليها حا ويمر، فإنه أحوط الوجوه وأعدلها، والعلم عند الله تعالى.
السادس عشر: ذكر الخطيب الحافظ: أنه ينبغي للطالب أن يكتب بعد البسملة اسم الشيخ الذي سمع الكتاب منه، وكنيته ونسبه، ثم يسوق ما سمعه منه على لفظه. قال: وإذا كتب الكتاب المسموع فينبغي أن يكتب فوق سطر التسمية أسماء من سمع معه، وتاريخ وقت السماع، وإن أحب كتب ذلك في حاشية أول ورقة من الكتاب، فكلا قد فعله شيوخنا.
قلت: كتبة التسميع جنب ذكره أحوط له، وأحرى بأن لا يخفى على من يحتاج إليه، ولا بأس بكتبته آخر الكتاب وفي ظهره، وحيث لا يخفى موضعه. وينبغي أن يكون التسميع بخط شخص موثوق به غير مجهول الخط، ولا ضير حينئذ في أن لا يكتب الشيخ المسمَّع خطه بالتصحيح، وهكذا لا بأس على صاحب الكتاب إذا كان موثوقا به أن يقتصر على إثبات سماعه بخط نفسه، فطالما فعل الثقات ذلك.
وقد حدثني بمرو الشيخ أبو المظفر ابن الحافظ أبي سعد المروزي عن أبيه عمن حدثه من الأصبهانية: أن عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن منده قرأ ببغداد جزءا على أبي أحمد الفرضي، وسأله خطه ليكون حجة له. فقال له أبو أحمد: يا بني ! عليك بالصدق، فإنك إذا عرفت به لا يكذبك أحد، وتصدق فيما تقول وتنقل، وإذا كان غير ذلك فلو قيل لك: ما هذا خط أبي أحمد الفرضي، ماذا تقول لهم؟
ثم إن على كاتب التسميع التحري والاحتياط، وبيان السامع والمسموع منه بلفظ غير محتمل، ومجانبة التساهل فيمن يثبت اسمه، والحذر من إسقاط اسم واحد منهم لغرض فاسد. فإن كان مثبت السماع غير حاضر في جميعه، لكن أثبته معتمدا على إخبار من يثق بخبره من حاضريه، فلا بأس بذلك إن شاء الله تعالى.
ثم إن من ثبت سماعه في كتابه فقبيح كتمانه إياه، ومنعه من نقل سماعه، ومن نسخ الكتاب، وإذا أعاده إياه فلا يبطئ به. وروينا عن الزهري أنه قال: إياك وغلول الكتب. قيل له: وما غلول الكتب؟ قال: حبسها عن أصحابها. وروينا عن الفضيل بن عياض رضي الله عنه أنه قال: ليس من أفعال أهل الورع ولا من أفعال الحكماء أن يأخذ سماع رجل وكتابه فيحبسه عنه، ومن فعل ذلك فقد ظلم نفسه. وفي رواية: ولا من فعال العلماء أن يأخذ سماع رجل وكتابه فيحبسه عليه. فإن منعه إياه فقد روينا: أن رجلا ادعى على رجل بالكوفة سماعا منعه إياه فتحاكما إلى قاضيها حفص بن غياث، فقال لصاحب الكتاب: اخرج إلينا كتبك، فما كان من سماع هذا الرجل بخط يدك ألزمناك، وما كان بخطه أعفيناك منه.
قال ابن خلاد: سألت أبا عبد الله الزبيري عن هذا، فقال: لا يجيء في هذا الباب حكم أحسن من هذا، لأن خط صاحب الكتاب دال على رضاه باستماع صاحبه معه. قال ابن خلاد: وقال غيره ليس بشيء.
وروى الخطيب الحافظ أبو بكر، عن إسماعيل بن إسحاق القاضي: أنه تحوكم إليه في ذلك، فأطرق مليا ثم قال للمدعى عليه: إن كان سماعه في كتابك بخطك فيلزمك أن تعيره، وإن كان سماعه في كتابك بخط غيرك فأنت أعلم.
قلت: جعفر بن غياث معدود في الطبقة الأولى من أصحاب أبي حنيفة، وأبو عبد الله الزبيري من أئمة أصحاب الشافعي، وإسماعيل بن إسحاق لسان أصحاب مالك وإمامهم، وقد تعاضدت أقوالهم في ذلك، ويرجع حاصلها إلى: أن سماع غيره إذا ثبت في كتابه برضاه فيلزمه إعارته إياه. وقد كان لا يتبين لي وجهه، ثم وجهته بأن ذلك بمنزلة شهادة له عنده، فعليه أداؤها بما حوته، وإن كان فيه بذل ماله، كما يلزم متحمل الشهادة أداؤها وإن كان فيه بذل نفسه بالسعي إلى مجلس الحكم لأدائها، والعلم عند الله تعالى.
ثم إذا نسخ الكتاب فلا ينقل سماعه إلى نسخته إلا بعد المقابلة المرضية. وهكذا لا ينبغي لأحد أن ينقل سماعا إلى شيء من النسخ، أو يثبته فيها عند السماع ابتداء، إلا بعد المقابلة المرضية بالمسموع، كيلا يغتر أحد بتلك النسخة غير المقابلة، إلا أن يبين مع النقل وعنده كون النسخة غير مقابلة، والله أعلم.
الكلمات المفتاحية :
اعجاز الحديث النبوي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: