الفقه الحنبلي - اللحد - البكاء -

ومعنى اللحد انه إذا بلغ أرض القبر حفر فيه
مما يلي القبلة مكانا يوضع فيه الميت، فان كانت الارض رخوة جعل له شبه اللحد من الحجارة.
قال أحمد ولا أحب الشق لما روى ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " اللحد لنا والشق لغيرنا " رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال غريب، فان عجز عن اللحد شق له في الارض، ومعنى الشق أن يحفر في أرض القبر شقا يضع الميت فيه ويسقفه عليه بشئ
* (مسألة) * (ولا يدخل القبر خشبا ولا شيئا مسته النار) قال ابراهيم كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الخشب، ولا يستحب الدفن في تابوت لانه خشب ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وفيه تشبه بأهل الدنيا والارض أنشف لفضلاته، ويكره الآجر وسائر ما مسته النار تفاؤلا أن لا تمسه النار * (مسألة) * (ويقول الذي يدخله بسم الله وعلى ملة رسول الله) لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أدخل الميت القبر قال " بسم الله وعلى ملة رسول الله " وروي " في سبيل الله وعلى سنة رسول الله " قال الترمذي هذا حديث حسن غريب.
وروى ابن ماجه عن سعيد بن المسيب قال: حضرت ابن عمر في جنازة فلما وضعها في اللحد قال " بسم الله وعلى ملة رسول الله " فلما أخذ في تسوية اللبن على اللحد قال " اللهم أجرها من الشيطان ومن عذاب القبر، اللهم جافي الارض عن جنبيها، وصعد روحها، ولقها منك رضوانا " قلت يا ابن عمر أشئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قلته برأيك؟ قال اني إذا لقادر على القول بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم روي عن عمر انه كان إذا سوى على الميت قال: الله أسلمه إليك الاهل والمال والعشيرة وذنبه عظيم وفاغفر له.
رواه ابن المنذر
* (فصل) * وإذا مات في سفينة في البحر فقال أحمد ينتظر به إن كانوا يرجون أن يجدوا له موضعا يدفنونه حبسوه يوما أو يومين ما لم يخافوا عليه، فان لم يجدوا غسل وكفن وحنط ويصلى عليه ويثقل بشئ ويلقى في الماء.
وهذا قول عطاء.
قال الحسن: يترك في زنبيل ويلقى في البحر.
وقال الشافعي يربط بين لوحين ليحمله البحر إلى الساحل فربما وقع إلى قوم يدفنونه، وإن ألقوه في البحر لم يأثموا، والاول أولى لانه يحصل به الستر المقصود من دفنه، وإلقاؤه بين لوحين يعرض له التغير والهتك وربما بقى على الساحل مهتوكا عريانا وربما وقع إلى قوم من المشريكين فكان ما ذكرنا أولى * (مسألة) * (ويضعه في لحده وعلى جنبه الايمن مستقبل القبلة بوجهه) لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا نام أحدكم فليتوسد يمينه " ويستحب أن يضع تحت رأسه لبنة أو حجرا أو شيئا مرتفعا كما يصنع الحي وإن تركه فلا بأس لان عمر رضي الله عنه قال: إذا جعلتموني في اللحد فافضوا بخدي إلى الارض.
ويدنى من الحائط لئلا ينكب على وجهه، ويسند من ورائه بتراب لئلا ينقلب.
قال أحمد ما أحب أن يجعل في القبر مضربة ولا مخدة وقد جعل في قبر النبي صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء فان جعلوا قطيفة فلعلة، فإذا فرغوا نصبوا عليه للبن نصبا لما ذكرنا من حديث سعد ويسد عليه بالطين لئلا يصل إليه التراب وإن جعل مكان اللبن قصبا فحسن لان الشعبي قال جعل على لحد النبي صلى الله عليه وسلم طن قصب.
قال الخلال
كان أبو عبد الله يميل إلى اللبن ويختاره على القصب ثم ترك ذلك ومال إلى استحباب القصب على اللبن وأما الخشب فكرهه على كل حال ورخص فيه الضرورة قال شيخنا: وأكثر الروايات عن أحمد استحباب اللبن وتقديمه على القصب لحديث سعد وقوله أولى من قول الشعبي لان الشعبي لم ير ولم يحضر وكلاهما حسن.
قال حنبل: قلت لاحمد فان لم يكن لبن قال ينصب عليه القصب والحشيش وما أمكن من ذلك * (مسألة) * (ويحثو (1) التراب في القبر ثلاث حثيات ويهال عليه التراب) روي عن أبي عبد الله انه حضر جنازة فلما ألقي عليها التراب قام إلى القبر فحثى عليه ثلاث حثيات
ثم رجع إلى مكانه وقال: قد جاء عن علي وصح انه حثى على قبر ابن المكفف وروي عنه انه قال: إن فعل فحسن وإن لم يفعل فلا بأس، ووجه استحبابه ما روي ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت من قبل رأسه فحثى عليه ثلاثا أخرجه ابن ماجه.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه ان النبي صلى الله عليه وسلم حثى على الميت ثلاث حثيات بيديه جميعا رواه الشافعي.
وعن ابن عباس انه لما
__________
(1) ورد حثا يحثوا حثوا وحثى يحثي حثيا وهو أن ياخذه بيده ويرميه في القبر
دفن زيد بن ثابت حثى في قبره ثلاثا وقال هكذا يذهب العلم، فإذا فرغ من لحده أهال عليه التراب لان دفنه واجب وذلك يحصل باهالة التراب عليه * (فصل) ويرفع القبر عن الارض قدر شبر مسنما.
ويستحب رفع القبر عن الارض ليعرف انه قبر فيتوفى ويترحم على صاحبه.
وقد روى الساجي عن جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره عن الارض قدر شبر، وروى القاسم بن محمد قال: قلت لعائشة يا أمه اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء رواه أبو داود.
ولا يستحب رفعه أكثر من ذلك لما ذكرنا ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي " لا تدع تمالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته " رواه مسلم وغيره، والمشرف ما رفع كثيرا بدليل قول القاسم في صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه لا مشرفة ولا لاطئة.
ولا يستحب
رفع القبر بأكثر من ترابه نص عليه أحمد ورواه عن عقبة بن عامر.
وروى الحلال باسناده عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزاد على القبر على حفرته (فصل) وتسنيم القبر أفضل من تسطيحه وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري، وقال الشافعي تسطيحه أفضل، قال: وبلغنا ان النبي صلى الله عليه وسلم سطح قبر ابنه ابراهيم.
وعن القاسم قال: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر مسطح ولنا ما روى سفيان التمار قال: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما رواه البخاري، وعن الحسن مثله ولان التسطيح أشبه بأبنية أهل الدنيا وهو أشبه بشعار أ؟ ل البدع فكان مكروها وحديثنا أثبت
من حديثهم وأصح فكان أولى * (مسألة) * (ويرش عليه الماء ليتلبد ترابه) قال أبو رافع: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعدا ورش على قبر: ماء رواه ابن ماجه، وعن جابر: إن النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبره ماء رواه الخلال
(فصل) ولا بأس بتعليم القبر بحجر أو خشبة يعرفه بها نص عليه أحمد لما روى أبو داود باسناده عن عبد المطلب قال: لما مات عثمان بن مظعون أخرج بجنازة فدفن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه بحجر فلم يستطع حمله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسر عن ذراعيه ثم حملها فوضعها عند رأسه وقال " أعلم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهله " ورواه ابن ماجه عنه عليه السلام من رواية أنس (فصل) فأما التلقين بعد الدفن فقال شيخنا: فلم نسمع فيه عن أحمد شيئا، ولا أعلم فيه للائمة قولا سوى ما رواه الاثرم قال: قلت لابي عبد الله فهذا الذي يصنعون إذا دفن الميت يقف الرجل فيقول يا فلان ابن فلان اذكر ما فارقت عليه: شهادة أن لا إله إلا الله؟ فقال ما رأيت أحدا فعل هذا إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة جاء انسان فقال ذلك.
قال وكان أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبى مريم عن أشياخهم انهم كانوا يفعلونه.
وقال القاضي وأبو الخطاب يستحب ذلك ورويا فيه عن أبي امامة الباهلي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم
عند رأس قبره ثم ليقل يا فلان بن فلانة؟ فانه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل يا فلان بن فلانة الثانية، فيستوي قاعدا، ثم ليقل يا فلان بن فلانة؟ فانه يقول: أرشدنا يرحمك الله، ولكن لا تسمعون.
فيقول اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وانك رضيت بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن اماما.
فان منكرا ونكيرا يتأخر كل واحد منهما فيقول: انطلق فما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته.
ويكون الله تعالى حجته دونهما " فقال رجل يا رسول الله فان لم يعرف اسم أمه؟ قال " فلينسبه إلى حواء " رواه ابن شاهين باسناده في كتاب ذكر الموت
* (مسألة) * (ولا بأس بتطيينه) وممن رخص في ذلك الحسن والشافعي، وروى أحمد باسناده عن نافع قال: توفي ابن لعبد الله ابن عمر وهو غائب فقدم فسألنا عنه فدللناه عليه فكان يتعاهد القبر ويأمر باصلاحه.
وقال ابن عقيل روي عن جعفر بن محمد عن أبيه ان النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره من الارض شبرا، وطين بطين أحمر من العرصة، وجعل عليه من الحصباء.
وان تركه كان حسنا لما روى الحسن عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يزال الميت يسمع الاذان ما لم يطين قبره " أو قال " ما لم يطو قبره "
* (مسألة) * (ويكره تجصيصه والبناء عليه والجلوس والوطئ عليه والاتكاء إليه والكتابة عليه) لما روى جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجصص القبر وأن نبنى عليه وأن نقعد عليه رواه مسلم والترمذي، وزاد وأن يكتب عليها وقال حديث حسن صحيح، ولان ذلك من زينة الدنيا فلا حاجة بالميت إليه، وكره أحمد أن يضرب على القبر فسطاط لان أبا هريرة أوصى حين حضره الموت أن لا تضربوا علي فسطاطا، وروي أبو مرثد الغنوي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها " رواه مسلم.
وقال الخطابي ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن توطأ القبور.
قال: وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد اتكأ على قبر فقال " لا تؤذ صاحب القبر " وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لان يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس عى قبر مسلم " رواه مسلم.
ويكره التغوط بين القبور لما روى عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لان أطأ على جمرة أو سيف أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم، ولا أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق " رواه الخلال وابن ماجه (فصل) ولا يجوز اتخاذ السرج على القبور لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لعن الله زوارات القبور والمتخذات عليها المساجد والسرج " رواه أبو داود والنسائي بمعناه، ولو أبيح لم يلعن النبي صلى الله عليه وسلم
من فعله، ولان فيه تضييعا للمال في غير فائدة، ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر ولان
النبي صلى الله عليه وسلم قال " لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر مثل ما صنعوا متفق عليه ولان تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الاصنام بالسجود لها.
وقد روي ان ابتداء عبادة الاصنام تعظيم الاموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها (فصل) ويستحب خلع النعال لمن دخل المقابر لما روى بشير بن الخصاصية قال: بينا أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان فقال له " يا صاحب السبتيتين ألق سبتيتك " فنظر الرجل فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خلعها فرمى بهما رواه أبو داود.
قال أحمد اسناده جيد اذهب الامر عليه!! واكثر أهل العلم لا يرون بذلك بأسا.
قال جرير بن حازم: رأيت الحسن وابن سيرين يمشيان بين القبور بنعالهما.
ومنهم من احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الميت إذا دفن وتولى عنه أصحابه انه يسمع قرع نعالهم رواه البخاري.
وقال الخطابي: يشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم انما كره للرجل المشي في نعليه لما فيه من الخيلاء فان نعال السبت من لباس أهل التنعم، قال عنترة * يحذى نعال السبت ليس بتوأم * ولنا أمره عليه السلام في الحديث المتقدم، وأدنى أحوال الامر الندب، ولان خلع النعلين أقرب إلى الخشوع وزي أهل التواضع واحترام أموات المسلمين.
وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن الميت يسمع قرع نعالهم لا ينفي الكراهة انما يدل على وقوع هذا منهم ولا نزاع فيه.
فأما إن كان للماشي عذر يمنعه من الخلع من شوك يخاف منه على قدميه، أو نجاسة تمسهما لم يكره المشى فيهما لان العذر يمنع الوجوب في بعض الاحوال فالاستحباب أولى، ولا يدخل في الاستحباب نزع الخفاف لانه يشق
وقد روي عن أحمد انه كان إذا أراد أن يخرج إلى الجنازة لبس خفيه مع أمره بخلع النعال، فأما غير النعال مما يلبس كالتمشكات وغيرها ففيه وجهان: أحدهما يخلع قياسا على النعال، والثاني ان الكراهة لا تتعدى النعال ذكره القاضي لان النهي غير معلل فلا يتعدى محله (فصل) والدفن في مقابر المسلمين أعجب إلى أبي عبد الله من الدفن في البيوت لانه أقل ضررا على الاحياء من الورثة، وأشبه بمساكن الآخرة، وأكثر للدعاء له والترحم عليه، ولم يزل الصحابة
والتابعون ومن بعدهم يقبرون في الصحاري.
فأما النبي صلى الله عليه وسلم فانما قبر في بيته قالت عائشة: لئلا يتخذ قبره مسجدا رواه البخاري ولانه صلى الله عليه وسلم كان يدفن أصحابه بالبقيع وفعله أولى من فعل غيره وانما أصحابه رأوا تخصيصه بذلك، ولانه روي يدفن الانبياء حيث يموتون، وصيانة له عن كثرة الطراق، وتمييزا له عن غيره صلى الله عليه وسلم (فصل) ويستحب الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون لتناله بركتهم، وكذلك في البقاع الشريفة فقد روي في البخاري ومسلم أن موسى عليه السلام لما حضره الموت سأل الله تعالى أن يدنيه إلى الارض المقدسة رمية بحجر (فصل) وجمع الاقارب في الدفن حسن لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين حضر عثمان بن مظعون " ادفن إليه من مات من أهله " ولانه أسهل لزيارتهم وأكثر للترحم عليهم، ويسن تقديم الاب ثم من يليه في السن والفضيلة إذا أمكن (فصل) ويستحب دفن الشهيد حيث قتل.
قال أحمد: أما القتلى فعلى حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ادفنوا القتلى في مصارعهم " وروى ابن ماجه ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم ولا ينقل الميت من بلد إلى آخر إلا لغرض صحيح وهذا قول الاوزاعي وابن المنذر.
قال عبد الله بن أبي مليكة: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبشة فحمل إلى مكة فدفن، فلما قدمت عائشة أتت قبره ثم قالت: والله لو حضرتك ما دفنت الا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك، ولان ذلك أخف لمؤنته وأسلم له من التغيير، فأما ان كان فيه غرض صحيح جاز.
قال أحمد: ما أعلم بنقل الرجل يموت في بلدة إلى بلدة أخرى باسا.
وسئل الزهري عن ذلك فقال: قد حمل سعد ابن أبي وقاص وسعيد بن زيد من العقيق إلى المدينة.
وقال ابن عيينة: مات ابن عمر هاهنا فأوصى أن لا يدفن هاهنا وأن يدفن بسرف (فصل) وإذا تنازع اثنان من الورثة فقال أحدهما يدفن في المقبرة المسبلة وقال الآخر يدفن في ملكه دفن في المسبلة لانه لامنة فيها وهو أقل ضررا على الورثة، فان تشاحا في الكفن قدم
قول من قال نكفنه من ملكه لان ضرره على الوارث بلحوق المنة وتكفينه من ماله قليل الضرر: وسئل أحمد عن الرجل يوصي أن يدفن في داره؟ قال: يدفن في المقابر مع المسلمين وان دفن بداره أضر بالورثة، وقال لا بأس أن يشتري الرجل موضع قبره ويوصي أن يدفن فيه، فعل ذلك عثمان وعائشة وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم، وإذا تشاح اثنان في الدفن في المقبرة المسبلة قدم أسبقهما كما لو تنازعا في مقاعد الاسواق ورحاب المساجد، فان تساويا اقرع بينهما
(فصل) وإذا تيقن ان الميت قد بلي وصار رميما جاز نبش قبره ودفن غيره فيه، وان شك في
ذلك رجع إلى قول أهل الخبرة، فان حفر فوجد فيها عظاما دفنها وحفر في مكان آخر نص عليه،
واستدل بأن كسر عظم الميت ككسره وهو حي.
وسئل أحمد عن الميت يخرج من قبره إلى غيره؟ فقال:
إذا كان شئ يؤذيه، قد حول طلحة وحولت عائشة.
وسئل عن قوم دفنوا في بساتين ومواضع رديئة؟
فقال: قد نبش معاذ امرأته وقد كانت كفنت في خلقان فكفنها، ولم ير أبو عبد الله بأسا أن يحولوا
* (مسألة) * (ولا يدفن فيه اثنان إلا لضرورة ويقدم الافضل إلى القبلة ويجعل بين كل اثنين حاجز من التراب)
لا يدفن في القبر أكثر من واحد إلا لضرورة.
وسئل احمد عن الاثنين والثلاثة يدفنون في
قبر واحد؟ قال أما في مصر فلا.
ولكن في بلاد الروم تكثر القتلى وهذا قول الشافعي ولان النبي
صلى الله عليه وسلم كان يدفن كل ميت في قبر ولانه لا يتعذر في الغالب أفراد كل واحد بقبر في المصر ويتعذر
ذلك غالبا في دار الحرب وفي موضع المعترك، فان وجدت الضرورة جاز دفن الاثنين والثلاثة سواء
كان في مصر أو غيره للحاجة، ومتى دفنوا في قبر واحد قدم الافضل إلى القبلة ثم الذي يليه على
حسب تقديمهم الي الامام في الصلاة عليهم على ما ذكرنا لما روى هشام بن عامر قال: شكي إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم الجراحات يوم أحد فقال " احفروا واوسعوا واحسنوا وادفنوا الاثنين والثلاثة
في قبر واحد وقدموا أكثرهم قرآنا " رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وينبغي أن يجعل
بين كل اثنين حاجز من تراب لان الكفن حائل غير حصين، قال أحمد: ولو حفر لهم شبه النهر
وجعل رأس أحدهم عند رجل الآخر وجعل بينهما حاجزا من تراب لم يكن به بأس
(فصل) فان مات له أقارب بدأ بمن يخاف تغيره، فان استووا في ذلك بدأ بأقربهم إليه على
ترتيب النفقات، فان استووا في القرب قدم أسنهم وأفضلهم.
.
.
.
.
.
* (مسألة) * (وإن وقع في القبر ماله قيمة نبش وأخذ) قال أحمد إذا الحفار مسحاته في القبر جاز أن ينبش عنها.
قيل فان أعطاه أولياء الميت؟ قال: إن أعطوه حقه أي شئ يريد؟ وقد روي ان المغيرة بن شعبة طرح خاتمة في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال خاتمي.
ففتح موضع منه فأخذ المغيرة خاتمة، وكان يقول أنا أقربكم عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم ولانه أمكن رده إلى صاحبه من غير ضرر فوجب * (مسألة) * (وإن كفن بثوب غصب أو بلع مال غيره غرم ذلك من تركته، وقيل ينبش ويؤخذ الكفن ويشق جوفه فيخرج) إذا بلع الميت ما لا يخل من أن يكون له أو لغيره، فان كان له لم يشق بطنه لانه استهلكه في حياته، ويحتمل انه إن كان كثير القبمة شق بطنه وأخرج لان فيه حفظ المال عن الضياع ونفع الورثة الذين تعلق حقهم بماله في مرضه، وإن كان المال لغيره وابتلعه بأذنه فهو كماله لان صاحبه
أذن في اتلافه، وإن ابتلعه غصبا ففيه وجهان: أحدهما لا يشق بطنه ويغرم من تركته لما في ذلك من المثلة ولانه إذا لم يشق بطن الحامل من أجل الولد المرجو حياته فمن أجل المال أولى.
والثاني
يشق ان كثرت قيمته لان فيه دفع الضرر عن المالك برد ماله إليه، وعن الميت بابراء ذمته، وعن الورثة بحفظ التركة لهم.
ويفارق الجنين من وجهين: أحدهما انه لا يتحقق حياته، والثاني انه ما حصل بجنايته، فان لم يكن له تركة ولم يتبرع انسان بتخليص ذمته شق بطنه على كلا الوجهين.
وعلى الوجه الاول إذا بلي جسده وغلب على الظن ظهور المال وتخليصه من أعضاء الميت جاز نبشه وإخراجه، لما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " هذا قبر أبي رغال، وآية ذلك أن معه غصنا من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه " فابتدره الناس فاستخرجوا الغصن: ولو كان في أذن الميت حلق أو في أصبعه خاتم أخذ، فان صعب أخذه برد وأخذ لان تركه تضييع للمال، وإن كفن بثوب مغصوب غرم قيمته من تركته ولا ينبش ذكره القاضي لما فيه من هتك حرمته مع إمكان دفع الضرر بدونها، ويحتمل أن ينبش إن كان الكفن باقيا بحاله ليرد إلى مالكه عين ماله، وإن كان باليا فقيمته في تركته، وان دفن في أرض غصب أو أرض مشتركة بينه وبين غيره بغير إذن الشريك نبش وأخرج لان القبر في الارض يدوم ضرره ويكثر بخلاف الكفن، وإن أذن المالك في الدفن في أرضه ثم أراد إخراجه لم يملك ذلك لان في ذلك ضررا، وإن بلي الميت وعاد ترابا فلصاحب الارض أخذها، وكل موضع أخزنا نبشه لحرمة ملك الآدمي فالافضل تركه (فصل) وإن دفن من غير غسل أو إلى غير القبلة نبش وغسل ووجه إلا أن يخاف عليه أن يتفسخ فيترك، وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور.
وقال أبو حنيفة لا ينبش لان النبش مثلة وقد نهي عنها ولنا ان هذا واجب فلا يسقط بذلك كاخراج ماله قيمة وقولهم ان النبش مثلة قلنا انما هو مثلة في حق من تغير وهو لا ينبش (فصل) وإن دفن قبل الصلاة عليه، فروي عن أحمد انه ينبش ويصلى عليه، وعنه إن صلي على القبر
جاز.
واختار القاضي انه يصلى على القبر ولا ينبش وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر المسكينة ولم ينبشها ولنا انه دفن قبل واجب أشبه ما لو دفن من غير غسل، وانما يصلى على القبر عند الضرورة.
وأما
المسكينة فقد كان صلي عليها فلم تبق الصلاة عليها واجبة فلذلك لم تنبش، فان تغير الميت لم ينبش بحال (فصل) وان دفن بغير كفن ففيه وجهان: أحدهما يترك لان القصد بالكفن ستره وقد حصل بالتراب، والثاني ينبش ويكفن لان التكفين واجب فأشبه الغسل والله أعلم (فصل) ولا يجوز الدفن في الساعات التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدفن فيها في حديث عقبة بن
عامر وهو قوله: ثلاث ساعات كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهانا عن الصلاة فيهن وأن نقبر فيهن موتانا " حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب " رواه مسلم، ومعنى تتضيف أي تجنح وتميل للغروب، من قولك تصيفت فلانا إذا ملت إليه.
فأما في غير هذه الاوقات فيجوز الدفن ليلا ونهارا.
قال أحمد في الدفن بالليل وما بأس بذلك، أبو بكر
دفن ليلا، وعلي دفن فاطمة ليلا.
وحديث عائشة: كنا سمعنا صوت المساحي من آخر الليل في دفن النبي صلى الله عليه وسلم، ودفن عثمان وعائشة ليلا وهذا قول عقبه بن عامر وسعيد بن المسبب وعطاء والثوري والشافعي وإسحق، وعنه انه يكره وهو قول الحسن لما روى ملسم ان النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل ودفن ليلا فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل الا أن يضطر انسان إلى ذلك.
ووجه الاول ما ذكرنا من فعل الصحابة، وروى ابن مسعود قال: والله لكأني أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبر ذي البجادين وأبو بكر وعمر وهو يقول
" ادنيا مني أخاكما حتى أسنده في لحده " ثم قال لما فرغ من دفنه وقام على قبره مستقبل القبلة " اللهم اني أمسيت عنه راضيا فارض عنه " وكان ذلك ليلا قال: فوالله لقد رأيتني ولوددت اني مكانه، ولقد أسلمت قبله بخمس عشرة سنة، وأخذه من قبل القبلة، رواه الخلال في جامعه.
وعن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج فأخذ من قبل القبلة وقال " رحمك الله ان كنت لاواها تلاء للقرآن " قال الترمذي حديث حسن ولانه أحد الزمانين فجاز الدفن فيه كالنهار.
وحديثهم محمول على التأديب، والدفن بالنهار أولى لانه أسهل على متبعها وأكثر للمصلين عليها وأمكن لاتباع السنة في دفنه وإلجاده * (مسألة) * (وان ماتت حامل لم يشق بطنها وتسطو عليه القوابل فيخرجنه) إذا ماتت حامل وفي بطنها ولد يتحرك وترجي حياته لم يشق بطنها مسلمة كانت أو ذمية، ويدخل القوابل أيدبهن في فرجها فيخرجن الولد من مخرجه، فان لم يوجد نساء لم يسطوا الرجال
عليه لما فيه من هتك الميتة وتترك حتى يتيقن موته، ومذهب مالك وأسحق نحو هذا، ويحتمل أن يشق بطنها إذا غلب على الظن انه يحيا وهو مذهب الشافعي لانه اتلاف جزء من الميت لابقاء حي فجاز كما لو خرج بعضه حيا ولم يمكن خروج باقيه الا بالشق ولانه يشق لاخراج المال فابقاء الحى أولى ولنا ان هذا الولد لا يعيش عادة ولا يتحقق انه يحيا فلا يجوز هتك حرمة متيقنة لامر موهوم وقد قال عليه السلام " كسر عظم الميت ككسر عظم الحي " رواه أبو داود، وفيه مثلة وقد نهى
النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وفارق الاصل فان حياته متيقنة وبقاؤه مظنون.
فعلى هذا ان خرج بعض الولد حيا ولم يمكن اخراجه الا بالشق شق المحل وأخرج لما ذكرنا، وان مات على حاله فأمكن اخراجه أخرج وغسل، وان تعذر خروجه غسل ما ظهر من الولد وما بقى ففي حكم الباطن لا يحتاج
إلى تيمم لان الجميع كان في حكم الباطن وظهر البعض فتعلق الحكم به وما بقي فهو على ما كان عليه، ذكره ابن عقيل وقال: هي حادثة سئلت عنها (فصل) وان ماتت ذمية حامل من مسلم دفنت وحدها وتجعل ظهرها إلى القبلة.
وانما اختار أحمد ذلك لانها كافرة فلا تدفن في مقبرة المسلمين وولدها محكوم باسلامه فلا يدفن بين الكفار مع
ان؟ لك روي عن واثلة بن الاسقع وعن عمر انها تدفن في مقابر المسلمين.
قال ابن المنذر: لا يثبت ذلك، قال أصحابنا ويجعل ظهرها إلى القبلة على جانبها الايسر ليكون وجه الجنين إلى القبلة على جانبه الايمن لان وجه الجنين إلى ظهرها * (مسألة) * (ولا تكره القراءة على القبر في أصح الروايتين) هذا هو المشهور عن أحمد فانه روي عنه انه قال: إذا دخلتم المقابر اقرأ آية الكرسي وثلاث مرار قل هو الله أحد ثم قل اللهم ان فضله لاهل المقابر، وروي عنه انه قال: القراءة عند القبر بدعة، وروي ذلك عن هشيم.
قال أبو بكر نقل ذلك عن أحمد جماعة ثم رجع رجوعا أبان به عن نفسه.
فروى جماعة ان أحمد نهى ضريرا يقرأ عند القبر وقال له: القراءة عند القبر بدعة.
فقال له محمد
ابن قدامة الجوهري: يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي؟ قال ثقة.
قال فأخبرني مبشر عن أبيه انه أوصى إذا دفن أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها.
وقال سمعت ابن عمر يوصي بذلك؟ فقال أحمد بن حنبل: فارجع فقل للرجل يقرأ.
وقال الخلال: حدثني أبو علي الحسن بن الهيثم البزار شيخنا الثقة المأمون قال: رأيت أحمد بن جنبل يصلي خلف ضريرا يقرأ على القبور، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " من زار قبر والديه أو أحدهما فقرأ عنده أو عندهما (يس) غفر له " وروي عنه عليه السلام انه قال " من دخل المقابر فقرأ سورة (يس) خفف عنهم يومئذ وكان له بعدد من فيها حسنات * (مسألة) * (وأي قربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك) أما الدعاء والاستغفار والصدقة وقضاء الدين وأداء الواجبات فلا نعلم فيه خلافا إذا كانت الواجبات مما يدخله النيابة قال الله تعالى (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان) وقال سبحانه (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابي سلمة حين مات وللميت الذي صلى عليه ولذي النجادين حين دفنه، وشرع الله تعالى ذلك لكل من صلى على ميت.
وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، ان أمي ماتت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال " نعم " رواه أبو داود.
وجاءت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت
يا رسول الله ان فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال " أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته " قالت نعم.
قال " فدين الله أحق أن تقضي " وقال في الذي سأله ان أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال " نعم " وكلها أحاديث صحاح وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القرب لان الصوم والحج والدعاء والاستغفار كلها عبادات بدنية وقد أوصل الله نفعها إلى الميت فكذلك ما سواها مع ما ذكرنا من الحديث في ثواب من قرأ (يس) وتخفيف الله عزوجل عن أهل المقابر بقراءته، ولانه عمل بر وطاعة فوصل نفعه وثوابه كالصدقة والصيام والحج الواجب.
وقال الشافعي ما عدا الواجبات والصدقة والدعاء والاستغفار لا يفعل عن
الميت ولا يصل ثوابه إليه لقول الله تعالى (وأن ليس للانسان الا ما سعى) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له " ولان نفعه لا يتعدى فاعله يتعداه فلا ثوابه.
وقال بعضهم إذا قرئ القرآن عند الميت أو اهدي إليه ثوابه كان الثواب لقارئه ويكون الميت كأنه حاضرها فترجى له الرحمة ولنا ما ذكرناه وانه اجماع المسلمين فانهم في كل عصر ومصر يجتمعون ويقرأون القرآن ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير، ولان الحديث صح عن النبي صلى الله عليه وسلم " ان الميت يعذب ببكاء أهله عليه " والله أكرم من أن يوصل عقوبة المعصية إليه ويحجب عنه المثوبة، والآية مخصوصة بما سلموه فيقاس عليه ما اختلفنا فيه لكونه في معناه ولا حجة لهم في الخبر الذي احتجوا به لانه انما دل على انقطاع عمله، وليس هذا من عمله فلا دلالة عليه فيه، ولو دل عليه كان مخصوصا بما سلموه فيتعدى إلى ما منعوه، وما ذكروه من المعنى غير صحيح، فان تعدي الثواب ليس بفرع لتعدي النفع ثم هو باطل بالصوم والدعاء والحج وليس له أصل يعتبر به والله أعلم (1) * (مسألة) * (ويستحب أن يصلح لاهل الميت طعاما يبعث إليهم ولا يصلحون هم طعاما للناس) لما روى عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد جاءهم أمر شغلهم " رواه أبو داود.
ويروى عن عبد الله بن أبي بكر انه قال: فما زالت
السنة فينا حتى تركها، من تركها ولان أهل الميت ربما اشتغلوا بمصيبتهم وبمن يأتي إليهم عن اصلاح طعام لهم ولان فيه جبرا لقلوبهم.
فأما لصلاح أهل الميت طعاما للناس فمكروه لانه زيادة على مصيبتهم وشغلا لهم إلى شغلهم، وتشبيها بصنيع أهل الجاهلية، وقد روي ان جريرا وفد على عمر فقال: هل يناح على ميتكم قال لا.
قال فهل يجتمعون عند أهل الميت ويجعلون الطعام؟ قال نعم.
قال ذلك النوح.
وإن دعت الحالة إلى ذلك جاز فانه ربما جاءهم من يحضر ميتهم من أهل القرى البعيدة ويبيت عندهم فلا يمكنهم إلا أن يطعموه (فصل) (ويستحب للرجال زيارة القبور، وهل يكره للنساء على روايتين) لا نعلم خلافا بين أهل العلم في استحباب زياره الرجال القبور.
قال علي بن سعيد قلت لاحمد
زيارة القبور أفضل أم تركها؟ قال: زيارتها.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فانها تذكر الموت " وللترمذي " فانها تذكر الآخرة " فأما زيارة القبور للنساء ففيها روايتان (إحداهما) الكراهة لما روت أم عطية قالت: نهينا عن زيارة القبور ولم يعزم علينا.
متفق عليه، ولقول النبي صلى الله عيله وسلم " لعن الله زائرات القبور " قال الترمذي حديث صحيح.
وهذا خاص في النساء، والنهي المنسوخ كان عاما للرجال والنساء، ويحتمل انه كان خاصا للرجال.
ويحتمل كون الخبر في لعن زوارات القبور بعد أمر الرجال بزيارتها فقد دار بين الحظر والاباحة فأقل أحواله الكراهة، ولان المرأة قليلة الصبر كثيرة الجزع وفي زيارتها للقبر تهييج للحزن وتجديد لذكر مصابها فلا يؤمن أن يفضي بها ذلك إلى فعل ما لا يحل - بخلاف الرجل - ولهذا اختصصن بالنوح والتعديد وخصصن بالنهي عن الحلق والصلق ونحوهما.
(والرواية الثانية) لا يكره لعموم قوله عليه السلام " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها " وهو يدل على سبق النهي ونسخه فيدخل فيها الرجال والنساء، وروى ابن أبي مليكة عن عائشة انها زارت قبر أخيها فقال لها قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور، قالت نعم قد نهى ثم أمر بزيارتها، وروى الترمذي ان عائشة زارت قبر أخيها، وروي عنها انها قالت لو شهدته ما زرته
(مسألة) ويقول إذا زارها أو مر بها ما روى مسلم عن بريدة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا ان شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية.
وفي حديث عائشة: ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين.
وفي حديث آخر: اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم - وان زاد - اللهم اغفر لنا ولهم - كان حسنا.
(مسألة) (ويستحب تعزية أهل الميت) لا نعلم فيه خلافا، وسواء في ذلك قبل الدفن وبعده الا أن الثوري قال: لا يستحب بعد الدفن لانه خاتمة أمره ولنا قوله عليه السلام " من عزى مصابا فله مثل أجره " قال الترمذي حديث غريب وروى ابن ماجه باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " ما من مؤمن يعزي اخاه بمصيبة الا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة، والمقصود بالتعزية تسلية أهل المصيبة وقضاء حقوقهم وسواء في ذلك
قبل الدفن وبعده، ويستحب تعزية كل أهل المصيبة كبارهم وصغارهم ويبدأ بخيارهم والمنظور إليه منهم ليستن به غيره، وذا الضعف منهم عن تحمل المصيبة لحاجته إليها، ولا يعزى الرجل الاجنبي شواب النساء مخافة الفتنة (فصل) ويكره الجلوس لها، وذكره أبو الخطاب لانه محدث، وقال ابن عقيل: يكره الاجتماع بعد خروج الروح لان فيه تهييجا للحزن، وقال احمد اكره التعزية عند القبر الا لمن لم يعز فيعزي إذا دفن الميت أو قبله، وقال: ان شئت أخذت بيد الرجل في التعزية وان شئت فلا.
وإذا رأى الرجل قد شق ثوبه على المصيبة عزا ولم يترك حقا لباطل وان نهاه فحسن ويقول في تعزية المسلم بالمسلم: عظم الله أجرك، وأحسن عزاءك ورحم ميتك.
هكذا ذكره بعض أصحابنا، قال شيخنا ولا أعلم في التعزية شيئا محدودا إلا انه يروى ان النبي صلى الله عليه وسلم عزى رجلا فقال " رحمك الله وآجرك " رواه الامام أحمد، وعزى أحمد أبا طالب فوقف على باب المسجد فقال: أعظم الله أجركم وأحسن عزاءكم.
واستحب بعض أهل العلم أن يقول ما روى جعفر بن محمد عن أبيه
عن جده قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول: ان في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل ما فات فبالله فثقوا، وإياه فارجو فان المصاب من حرم الثواب.
رواه الشافعي في مسنده.
وان عزى مسلما بكافر قال أعظم الله اجرك وأحسن عزاءك (مسألة) ويقول في تعزية الكافر بالمسلم أحسن الله عزاك، وغفر لميتك، وفي تعزيته عن كافر: أخلف الله عليك ولا نقص عددك.
توقف أحمد عن تعزية أهل الذمة وهي تخرج على عيادتهم وفيها روايتان (احداهما) لا نعودهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تبدؤوهم بالسلام " وهذا في معناه (والثانية) نعودهم لان النبي صلى الله عليه وسلم أتى غلاما من اليهود كان مرض يعوده فقعد عند رأسه فقال له " اسلم " فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال أطع أبا القاسم فأسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول " الحمد لله الذي انقذه بي من النار " رواه البخاري، فعلى هذا يعزيهم ويقول ما ذكرنا، ويقصد بقوله لا نقص عددك زيادة عددهم لتكثر جزيتهم، وقال أبو عبد الله بن بطة: يقول أعطاك الله على مصيبتك أفضل ما أعطى احدا من اهل دينك
(فصل) فأما الرد من المعزي فروي عن أحمد بن الحسن قال سمعت ابا عبد الله وهو يعزي في عبثر بن عمه وهو يقول استجاب الله دعاك ورحمنا وإياك (مسألة) ويجوز البكاء على الميت وان يجعل المصاب على رأسه ثوبا ليعرف به ليعزى، البكاء بمجرده لا يكره في حال، وقال الشافعي يباح قبل الموت ويكره بعده لما روى عبد الله بن عتيك قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن ثابت يعوده فوجده قد غلب فصاح به فلم بجبه فاسترجع وقال " غلبنا عليك يا أبا الربيع " فصاح النسوة وبكين فجعل ابن عتيك يسكتهن فقال النبي صلى الله عليه وسلم " دعهن فإذا وجب فلا تبكين باكية " يعني إذا مات ولنا ما روى انس قال شهدنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر فرأيت عينيه تدمعان، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت وعيناه تهراقان، وقالت عائشة دخل أبو بكر فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله ثم بكى، وكلها احاديث صحاح
وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل على سعد بن عبادة وهو في غاشيته فبكى وبكى اصحابه وقال " ألا تسمعون ان الله لا يعذب بدمع العين ولا يحزن القلب ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم " متفق عليه، وحديثهم محمول على رفع الصوت والندب وشبهها بدليل ما روى جابر أن النبي اخذ ابنه فوضعه في حجره فبكى فقال له عبد الرحمن بن عوف أتبكي؟ أو لم تكن نهيت عن البكاء؟ قال " لا ولكن نهيت عن صوتين احمقين فاجرين، صوت عند مصيبة وخمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان " حديث حسن وهذا يدل على انه لم ينه عن مطلق البكاء انما نهى عنه موصوفا بهذه الصفات.
وقال: عمر ما على نساء بني المغيرة أن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقه اللقلقة رفع الصوت والنقع التراب
(مسألة) ولا يجوز الندب ولا النياحة ولا شق الثياب ولطم الخدود وما أشبه ذلك الندب هو تعداد محاسن الميت وما يلقون بعده بلفظ الندبة كقولهم وارجلاه واجبلاه وانقطاع ظهراه، فهذا وأشباهه من النوح وشق الجيوب ولطم الخدود والدعاء بالويل والثبور ونحوه لا يجوز، وقال بعض أصحابنا هو مكروه، ونقل حرب عن أحمد كلاما يحتمل إباحة النوح والندب، واختاره الخلال وصاحبه لان واثلة بن الاسقع وأبا وائل كانا يستمعان النوح ويبكيان، وقال احمد: إذا ذكرت المرأة مثل ما حكي عن فاطمة في مثل الدعاء لا يكون مثل النوح، يعني لا بأس به، وروي عن فاطمة انها قالت: يا أبتاه، من ربه ما ادناه، إلى جبريل انعاه، يا أبتاه، أجاب ربا دعاه، وروي عن علي عن فاطمة رضي الله عنهما انها أخذت قبضة من تراب قبر النبي صلى الله عليه وسلم فوضعتها على عينها ثم قالت ماذا على مشتم تربة أحمد * أن لا يشم مدى الزمان غواليا صبت علي مصائب لو انها * صبت على الايام عدن لياليا ووجه الاولى ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها في حديث جابر الذي ذكرناه، وقال الله تعالى (ولا يعصينك في معروف) قال احمد هو النوح، ولعن رسول الله صلى اله عليه وسلم النائحة والمستمعة وقالت ام
عطية: اخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة ان لا ننوح.
متفق عليه وعن أبي موسى ان النبي صلى الله عليه وسلم برئ من الحالقة والصالقة والشاقة.
الصالقة التي ترفع صوتها، وعن ابن مسعود ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب ودعى بدعوى الجاهلية " متفق عليهما.
ولان ذلك يشبه التظلم والاستغاثة والتسخط بقضاء الله، ولان شق الجيوب افساد المال بغير الحاجة (فصل) وينبغي للمصاب أن يستعين بالله، ويتعزى بعزائه، ويمتثل أمره في الاستعانة بالصبر والصلاة، ويستنجز ما وعد الله الصابرين، قال الله تعالى (وبشر الصابرين) الآيتين ويسترجع
ويقول اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرا منها.
لقول أم سلمة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرا منها " قلت: فلما مات أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لي خيرا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم.
وليحذر أن يتكلم بشئ يحبط أجره، ويسخط ربه مما يشبه التظلم والاستغاثة فان الله عدل لا يجور، له ما أخذ وله ما أعطى، ولا يدعو على نفسه فان النبي صلى الله عليه وسلم قال لما مات أبو سلمة " لا تدعو على أنفسكم فان الملائكة يؤمنون على ما تقولون " ويحتسب ثواب الله تعالى وبحمده، لما روى أبو موسى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته قبضتم ولد عبدى؟ فيقولون نعم.
فيقولون: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون نعم.
فيقول.
ماذا قال عبدي؟ فيقولون حمدك واسترجع.
فيقول: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد " حديث حسن غريب (فصل) وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " ان الميت يعذب في قبره بما يناح عليه " وفي لفظ إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه " متفق عليهما.
واختلف أهل العلم في معنى الحديث فحمله قوم على ظاهره وقالوا.
ينصرف الله سبحانه في خلقه بما يشاء، وأيدوا ذلك بما روى أبو موسى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول: واجبلاه، واسيداه،
ونحو ذلك إلا وكل الله به ملكين يلهزانه أهكذا كنت؟ " حديث حسن.
وروى النعمان بن بشير قال: أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي واجبلاه، واكذا واكذا تعدد عليه.
فقال حين أفاق ما قلت شيئا إلا قيل أنت كذاك.
فلما مات لم تبك عليه أخرجه البخاري.
وأنكرت عائشة رضي الله عنها حمله على ظاهره ووافقها ابن عباس فقالت: يرحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه " ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ان الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه " وقالت: حسبكم القرآن ولا تزر وازرة وزر أخرى.
وذكر ذلك ابن عباس لابن عمر حين روى حديثه فما قال شيئا رواه مسلم، وحمله قوم
على من كان النوح سنته ولم ينه عنه أهله لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " وحمله آخرون على من أوصى بذلك في حياته كقول طرفة: إذا مت فانعيني بما أنا أهله * وشقي علي الجيب يا بنت معبد وقال آخر: من كان من أمهاتي باكيا أيدا * فاليوم إني أراني اليوم مقبوضا ولا بد من حمل البكاء في هذا الحديث على البكاء الذي معه ندب ونياحة ونحو هذا بدليل ما قدمنا من الاحاديث (فصل) ويكره النعي، وهو أن يبعث مناديا ينادي في الناس إن فلانا مات لتشهد جنازته، لما روى حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي.
قال الترمذي هذا حديث حسن، واستحب جماعة من أهل العلم أن لا يعلم الناس بجنائزهم منهم ابن مسعود وعلقمة والربيع بن خيثم وعمرو بن شرجبيل قال: إذا أنا مت فلا أنعى.
وقال كثير من أهل العلم لا بأس من أن يعلم بالرجل اخوانه ومعارفه وذوو الفضل من غير نداء.
قال ابراهيم النخعي لا بأس أن يعلم الرجل اخوانه وأصحابه انما كانوا يكرهون أن يطاف في المجالس: أنعي فلانا كفعل أهل الجاهلية، وممن رخص في هذا أبو هريرة وابن عمر وابن سيرين، فروي عن ابن عمر انه لما نعي له رافع بن خديج
قال: كيف تريدون أن تصنعوا به؟ قالوا: نحبسه حتى نرسل إلى قباء والى من قد بات حول المدينة ليشهدوا جنازته.
قال: نعم ما رأيتم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الذي دفن ليلا " ألا أذنتموني " وقد صح ان النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه متفق عليه، ولان في كثرة المصلين عليه أجرا لهم ونفعا للميت، فانه يحصل لكل مصل منهم قيراط من الاجر.
وروى الامام أحمد باسناده عن أبي المليح انه صلى على جنازة فالتفت فقال: استووا ولتحسن شفاعتكم، ألا وانه حدثني عبد الله بن سليط عن إحدى أمهات المؤمنين وهي ميمونة وكان أخاها من الرضاعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من مسلم يصلي عليه أمة من الناس إلا شفعوا فيه " فسألت أبا المليح عن الامة؟ فقال أربعون.
آخر الصلاة والحمد لله رب العالمين كتاب الزكاة قال ابن قتيبة: الزكاة من الزكاء والنماء والزيادة سميت بذلك لانها تثمر المال وتنميه، يقال زكا الزرع إذا كثر ريعه، وزكت النفقة إذا بورك فيها، وهي في الشريعة: حق يجب في المال، فعند اطلاق لفظها في الشرع تنصرف إلى ذلك.
والزكاة أحد أركان الاسلام وهي واجبة بالكتاب والسنة والاجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى (وآتوا الزكاة) وأما السنة فان النبي صلى الله عليه وسلم
بعث معاذا إلى اليمن فقال " اعلمهم ان الله قد افترض عليهم صدقه تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم " متفق عليه.
وأجمع المسلمون في جميع الاعصار على وجوبها، واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتال مانعي الزكاة، فروى البخاري باسناده عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب وكفر من كفر من العرب فقال عمر لابي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلا الا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه الا بحقه، وحسابه على الله " فقال أبو بكر: والله لاقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فان الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على
منعها.
قال عمر: فو الله ما هو الا اني رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت انه الحق رواه أبو داود وقال: لو منعوني عقالا قال أبو عبيد: العقال صدقة العام قال الشاعر: سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا * فكيف لو قد سعى عمر وعقالين وقيل: كانوا إذا أخذوا الفريضة أخذوا معها عقالها، ومن روى عناقا ففي روايته دليل على جواز أخذ الصغيرة من الصغار * (مسألة) * (وتجب الزكاة في أربعة أصناف من المال: السائمة من بهيمة الانعام، والخارج من الارض، والاثمان، وعروض التجارة.
وسيأتي شرح ذلك في مواضعه ان شاء الله) ولا تجب في غير ذلك لان الاصل عدم الوجوب وهذا قول أكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة في الخيل الزكاة إذا كانت ذكورا وإناثا، فان كانت ذكورا أو إناثا مفردة ففيها روايتان.
وزكاتها دينار عن كل فرس، أو ربع عشر قيمتها، والخيرة في ذلك إلى صاحبها، لما روى جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال في الخيل السائمة " في كل فرس دينار " وعن عمر انه كان يأخذ من الرأس عشرة، ومن الفرس
عشرة، ومن البر دون خمسة، ولانه حيوان يطلب نماؤه لجهة السوم أشبه النعم ولنا قوله عليه السلام " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة " متفق عليه.
وقوله عليه السلام " عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق " حديث صحيح، ولان ما لا تخرج زكاته من جنسه لا تجب فيه الزكاة كسائر الدواب، وحديثهم برويه غورل السعدي وهو ضعيف.
وأما عمر فانما أخذ منهم شيئا تبرعوا به وعوضهم عنه رزق عبيدهم.
كذلك رواه أحمد، والزكاة لا يؤخذ عنها عوض ولان عمر حين عرضوا عليه ذلك شاور الصحابة فيه.
فقال علي: هو حسن إن لم يكن جزية يؤخذون بها من بعدك، فدل على أن أخذهم بذلك غير جائز، وقياسها على النعم لا يصح لكمال نفعها بدرها ولحمها ويضحى بجنسها وتكون هديا، وتجب الزكاة من عينها ويعتبر كمال نصابها، والخيل بخلاف ذلك والله أعلم * (مسألة) * (وقال أصحابنا تجب في المتولد بين الوحشي والاهلي) وسواء كانت الوحشية الفحول أو الامهات.
وقال أبو حنيفة ومالك: إن كانت الامهات أهلية
وجبت الزكاة فيها وإلا فلا، لان ولد البهيمة يتبع أمه.
وقال الشافعي: لا زكاة فيها لانها متولدة من وحشي أشبه المتولد من وحشيين، وحجة أصحابنا انها متولدة بين ما تجب فيه الزكاة وما لا تجب فوجب فيها الزكاة كالمتولد بين سائمة ومعلوقة، وزعم بعضهم ان غنم مكة متولدة بين الظباء والغنم وفيها الزكاة بالاتفاق.
فعلى هذا القول تضم إلى جنسها من الاهلي في وجوب الزكاة وتكون كأحد أنواعه قال شيخنا والقول بانتفاء الزكاة فيها أصح لان الاصل انتفاء الوجوب وانما يثبت بنص أو اجماع أو قياس ولا نص فيها ولا إجماع ولا قياس، لان النص انما هو في بهيمة الانعام من الازواج الثمانية وليس هذا منها ولا داخلة في اسمها ولا حكمها ولا حقيقتها، فان المتولد بين شيئين منفرد باسمه وجنسه كالبغل، والسمع المتولد بين الضبع والذئب، فكذلك المتولد بين الظبي والمعز في كونه لا يجزي في
هدي ولا أضحية ولا دية، ولو وكل وكيلا في شراء شاة لم يدخل في الوكالة ولا يحصل منه ما يحصل من الشاة من الدر وكثرة النسل.
بل الظاهر انه لا نسل له كالبغل فامتنع القياس، فاذن ايجاب الزكاة فيه تحكم بغير دليل، فان قيل تجب الزكاة فيه احتياطا وتغليبا للايجاب كما أثبتنا التحريم فيها في الحرم والاحرام احتياطا لم يصح لان الواجبات لا تثبت احتياطا بالشك، ولهذا لا تجب الطهارة على من تيقنها وشك في الحدث.
وأما السوم والعلف فالاعتبار فيه بما تجب فيه الزكاة لا بأصله الذي تولد منه، بدليل انها تجب في أولاد المعلوفة إذا أسامها، ولا تجب في أولاد السائمة إذا علفها، وقول من زعم ان غنم مكة متولدة من الظباء والغنم لا يصح وإلا لحرمت في الحرم والاحرام كسائر المتولد بين الوحشي والاهلي ولما كان لها نسل كالبغل والسمع * (مسألة) * (وفي بقر الوحش روايتان) إحداهما فيها الزكاة اختارها أبو بكر لان اسم البقر يشملها فتدخل في مطلق الخبر.
والثانية لا زكاة فيها وهي أصح وهو قول أكثر أهل العلم لان اسم البقر عند الاطلاق لا ينصرف إليها، ولا تسمى بقرا إلا بالاضافة إلى الوحش ولانها حيوان لا يجزي نوعه في الاضحية والهدي فلم تجب فيه الزكاة كالظباء، وليست من بهيمة الانعام فلم تجب فيها الزكاة كسائر الوحش.
يحقق ذلك أن الزكاة
انما وجبت في بهيمة الانعام دون غيرها لكثرة النماء فيها من درها ونسلها وكثرة الانتفاع بها وخفة مؤنتها، وهذا المعنى مختص بها فاختصت الزكاة بها، ولا تجب الزكاة في الظباء لا نعلم فيه خلافا لعدم تناول اسم الغنم لها والله أعلم * (مسألة) * (ولا تجب إلا بشروط خمسة: الاسلام والحرية فلا تجب على كافر ولا عبد ولا مكاتب) لا تجب الزكاة على كافر لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن " انك تأتي قوما أهل كتاب
فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله - إلى قوله - فان هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله تعالى قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم " متفق عليه.
فجعل الاسلام شرطا لوجوب الزكاة، ولانها أحد أركان الاسلام فلم تجب على كافر كالصيام، وذهب بعض العلماء إلى أنها تجب عليه في حال كفره بمعنى أنه يعاقب عليها إذا مات على كفره وهذا لا يتعلق به حكم فلا حاجة إلى ذكره.
هذا حكم الكافر الاصلي، فأما المرتد فلنا فيه وجه أنه يجب عليه قضاء الزكاة في حال ردته إذا أسلم.
ولاصحاب الشافعي فيه قولان مبنيان على زوال ملكه بالردة، فان قلنا يزول فلا زكاة عليه، وإن قلنا لا يزول ملكه أو هو موقوف وجبت عليه لانه حق التزمه بالاسلام فلم يسقط بالردة كحقوق الآدميين والاول ظاهر المذهب.
ولا تجب على عبد وهذا قول أكثر أهل العلم وروي عن عطاء وأبي ثور أنه يجب على العبد زكاة ماله ولنا أن العبد ليس بتام الملك فلم يلزمه زكاة كالمكاتب، ولان الزكاة انما وجبت على سبيل المواساة وملك العبد ناقص لا يحتمل المواساة بدليل أنه لا تجب عليه نفقة أقاربه لكونها وجبت مواساة ولا يعتقون عليه، ولا تجب على مكاتب لانه عبد لقوله عليه السلام " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم " رواه أبو داود.
ولان ملكه غير تام فهو كالعبد ولا نعلم أحدا قال بوجوب الزكاة على المكاتب الا أبا ثور ذكره عنه ابن المنذر، واحتج أبو ثور بأن الحجر من السيد لا يمنع وجوب الزكاة كالحجر على الصبي والمجنون والمرهون، وحكي عن أبي حنيفة أنه أوجب العشر في الخارج من أرضه بناء على أصله في أن العشر مؤونة الارض وليس بزكاة
ولنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا زكاة في مال المكاتب " رواه الفقهاء في كتبهم، ولان الزكاة تجب على طريق المواساة فلم تجب في مال المكابت كنفقة الاقارب وفارق المحجور عليه فانه منع التصرف لنقص تصرفه لا لنقص ملكه، والمرهون منع من التصرف فيه بعقده فلم يسقط حق
الله تعالى، ومتى كان منع التصرف فيه لدين لا يمكنه وفاؤه من غيره فلا زكاة عليه وسيأتي ذلك ان شاء الله تعالى، فان عجز المكاتب ورد في الرق صار ما في يده لسيده فاستقبل به حولا إن كان نصابا وإلا ضمه إلى ما في يده كالمستفاد، وإن أدى المكاتب ما عليه وبقي في يده نصاب فقد صار حرا تام الملك فيستأنف الحول من حين عتقه ويزكي كسائر الاحرار *
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: